الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموقع العتيق

إبراهيم رمزي

2016 / 5 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


منذ زمان بعيد، كان رجل يتحدث إلى عشيرته بطريقة مُطرِفة، فيتحلقون حوله للاستمتاع بكلامه وطرائفه، ويتندرون بغرابة الأخبار التي يسردها بسذاجةٍ وصدقِ عفويةٍ وكأنها حقائق ثابتة. ويوما قال - بلا مبالاة -: النحس الذي كان يلازمني، زال، وأظن أن ذلك حدث عندما ألقيتُ حَجرا فوق "الموقع العتيق". حاولوا استفزازه. فأخرج من جيبه صرة صغيرة، انتقى منها حصاة، وقال: هذه حصاة السعد التي لا تفارقني منذ أن استبدلتها بحجر عادي.

وتندّر الناس بالخبر، واستعادوه في أسمارهم ومنتدياتهم وأسواقهم. ثم تفاجؤوا - بعد حين - بمن يتسلل إلى الموقع العتيق ليلقي بعض الحجارة. ثم نشأ تدريجيا اعتقاد يمجّد المكان. يَقْوَى بتوالي الأيام وتناسُلِ قصصٍ عن "قدرته" على دفع النحس. فصار مقصِد كل منحوس يلتمس السعد، يأتي حاملا معه حجرا، يلقيه، ثم ينتقي حصاة، ويغادر. ظانّاً أنه تخلص من نحسه وخلّفه هناك.

يتناقل الناس أن "الموقع العتيق" الموجود بالجبل المطل على البحر، كان به جيش غزاة، استوطن مغارات الجبل وسراديبه، وجعله حمىً ومخازن للمؤونة والذخيرة. وأوّل بعضُ الناس تواجُدَ الغزاة باستغلال معدن نفيس. ولذلك كان المحتلون ينكِّلون بكل من يقترب من المكان. ولذلك - أيضا - لم يأنس أحد في نفسه الجرأة على اقتحام مجال "الموقع العتيق" خوفا ورهبة. باستثناء عبث بعض الرعاة - في الأماكن العالية المطلة على الموقع - بزحزحة بعض الصخور من أماكنها، لتهوي نحو الأسفل حيث يوجد الغزاة.

وتوالت الحقب، وتكاثرت الحجارة بالموقع، حتى أصبحت تشكل ركاما بارزا. وتفننت المخيّلات في تلوين الأحاديث والقصص والخرافات المضفاة عليه، وتشعّبت الأقوال حوله، فمنهم من حدسوا رحيل الغزاة، وحلول حيوانات أسطورية مهْوِلة مكانهم. ومنهم من توهموا استقرار الجن وسكناهم هناك - بعد طرد الغزاة -. بينما تحرج الكثيرون من الخوض في حديث الموقع، حتى لا تلحقهم لعنته، واكتفوا بتسميته - تيمّناً -: جبلَ السعد.

وجاءت فترة من الزمن، اشتكى فيها بعض الأهالي من تعرض ممتلكاتهم ومواشيهم وغلالهم للنهب. فقيل لهم: إن سبب ذلك عدم تقديمكم نذورا للموقع العتيق.
بعضهم سخر من الفكرة، وبعضهم سعى لتقديم النذور، ومنهم من تعرّض - حين إقباله على الموقع - لوابل من الحجارة دون أن يعرف مصدرها.
وآنذاك تطوع بعض شبان القرية لإيصال النذور - نيابة عن المنذِرِين - إلى وجهتها. فصاروا - بذلك - رُسُل القوم إلى الموقع العتيق، والمنظِّمِين لـ "طقوس الزيارة المأمونة" لمن يرغب في الوصول بنفسه إلى هناك.

وظهر فريق أكثر مكرا وإمعانا في تحويل الخيال إلى أوهام رائجة، ففتحوا باب الاسترزاق باستحداث زريبة، سموها: "مزار صاحب الموقع العتيق". وصار للمزار "زبناء" موسميون يأتون إليه حينما تيْنع أشجار اللوز وتتفتح أزهارها، فتكسو منحدرات الجبال رشاقة وفتنة. ونسجوا حول هذا "الصاحب" الخرافات والأساطير، مدّعِين له "بركات" مضمونة، و"شفاعات" فعّالة في جميع الأحوال والحالات.
وأشاعوا قولهم: هو جدّنا، الذي كان - في الزمن الغابر - لا يكلّم الناس إلا من وراء حجاب، وكان ينغص عيش جيش الغزاة، ويحرّض الأهالي على قذفهم بالحجارة من المرتفعات المجاورة، لطردهم.
وبذلك أسكتوا كل متسائل أو باحث - عن "حقيقة هويته"-. وأخرسوا كل مستقْصٍ، بتحذيره من تعريض نفسه لِلَعْنة "الصاحب"، والتي تتجلى في الإصابة بعاهة مزمنة لا شفاء منها، بفضل ما له من المعجزات والخوارق التي تلاحق المتشككين.

وتفتقت "عبقرية" ذوي الحس التجاري عن فكرة لتعبيد مسافة الخرافة. إذ بثمنٍ مُجْزٍ كانوا يبيعون للغرباء أشياء، يوهمونهم أن مصدرها الموقع العتيق، كبعض التحف والقلادات والسبحات والأحجار المنقوشة، و"صكوك" بعض الوصفات الخاصة ..
كانت الأرض والأغراس تتعرض للإهمال، وتقل العناية بالأنعام، حين يحل موسم "صاحب الموقع". فالجميع يهرعون إلى الموسم - وفي جعبتهم عدة أسالبب و حيل - أملا في خداع الزوار وإغرائهم بإنفاق ما في جيوبهم. حتى في التفاهات التي يَسِمونها بـ"التقديس".
هؤلاء "التجار" كانوا يفركون أياديهم عقب كل صفقة، هي مساهمة منهم في "تجميلٍ" بشعٍ للخَواء العقلي المتبادَل، .. فيشيّعون من وقع في شراكهم بابتسامة عريضة، هي في جوهرها سخرية من سذاجتهم التي تُلحِقهم بالأغبياء.

في يوم من الأيام تفاجأ شيوخ القرية بشخص يقتحم عليهم مجلسهم، وبعدما استقر، سألهم عن أسماء. فاستغربوا ذلك. وأجابوا: الذين تسأل عنهم هم أجدادنا، وأغلبهم في عداد الأموات، أتكون من الاستغواريين الذين غابوا في أخاديد جبل السعد منذ سنين ولم يظهر لهم أثر؟
ابتسم، وقال: الاستغواريون لا يُفقَدون إلا نادرا لاعتمادهم على آلات وخرائط، وليس مستبعَدا أن يكتشفوا منفذا أو منافذ أخرى للموقع، ربما تكون بعيدة، ..
قاطعه أحدهم: فمن أنت؟

قال: جدّي، من أبناء هذه القرية، وكان يحدثني عنها، وكنت أكتب بعض ما يقول، فلذلك أعرف أسماء عدد من أهاليها.
قال أحدهم: سمعنا عن جدك وزوجته، وهجرتهما من المنطقة في ظروف غامضة.
قال: الحقيقة أنه هاجر مضطرا، فخلال ممارسته رَعْي ماشيته قرب الموقع العتيق، اكتشف بعض أسرار المكان.
قالوا: وما ذاك؟
قال: اكتشف أن الموقع صار مأوى لهاربين من العدالة، يؤازرهم بعض شبّان القرية، وكلهم يستفيدون من النذور. فخُيِّر بين: الصمت والهجرة، أو التصفية.
حلّقت فوق رؤوسهم علامات الاستنكار، واحتقنت وجوه البعض غضبا. تحولت الوشوشات والغمغمات إلى احتجاجات مبهمة.

فقال واحد منهم:
الرجل صادق فيما يقول، وجدّي من شبان ذلك الوقت، ووالدي رافقه - في إحدى المرات - إلى هناك، حيث يوجد "نُسّاك" منقطعون عن البشر، يستولون على النذور ليستعينوا بها في عيشهم. ورغم صغره، وعدم فهمه، فقد بقيت الصور عالقة بذاكرته، وقد حكى لي - قبل موته - عن الأشخاص المقيمين هناك، وتحذيراتهم لاجتناب الحديث عنهم وإلا ...
علق أحدهم: خرِف عقلُك، وكثُر توهّمك.
رد بحدة: لطالما استغربتم من معسرين تحوّلوا إلى موسرين، ومن راغبات في النسل لم يحبِلن، ومن نذور لم تَعُد تختفي - دون ترْك أثر أو مخلفات، كما كان الأمر سابقا -، هل من تفسير لذلك إلا "رحيل" من كانوا هناك؟

وقف "الغريب" مودعا، فقال له أحدهم: لمْ تبيّن لنا لِمَ جئتَ؟
ردّ - وابتسامته تملأ محياه -: استنتجتُ ما جئتُ أسأل عنه.
قال آخر - بخبث -: ألا تزور جبل السعد، حتى لا يتبعك نحس؟
قال بنبرة الواثق المشفق على محدِّثه: السعد سيتحقق في المستقبل، فكلما زاد انتشار العلم، زاد انتصار العقل، واندحر شبح الوهم.
تبادلوا نظرات حيرى بينهم. ومنهم الذين فغروا أفواههم دهِشين، مستوضِحين، ..
ابتسم، وانسحب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah