الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنغافورة ... لماذا نجحت وفشل العرب؟

خالد الحروب

2016 / 6 / 4
مواضيع وابحاث سياسية



زيارة هذا البلد الجميل الذي قدم لدول العالم النامية نموذجا مُعجزا في التقدم والقيادة الرشيدة تولد في الحلق مرارة إن كان الزائر عربياً وتأمل في قصة النجاح بعض الشيء. هنا تكاتف الاصرار على الاستقلال والاعتماد على النفس مع روح جماعية مُدهشة وقيادات سياسية مخلصة لوطنها قدمت مصلحته على اية انانيات فردية، فأخرج هذه المدينة التي كانت مجرد ميناء خدمات استعمارية طيلة ثلاثة قرون من قيود التبعية، وحولها إلى شعلة من الوهج المُبهر. لم يدر بخلد السير ستامفورد رافلز الذي بنا معبر السفن سنة 1826 كجزء من النشاط الاستعماري لشركة الهند الشرقية ان تتحول هذه النقطة القصية إلى دولة ناجزة كما هي عليه الآن. ولم يتوقع احد ان يطوي ذلك الميناء الرث، ليفربول الشرق كما كان يُسمى، ماضياً مر به البرتغاليون والهولنديون واحتله البريطانيون واليابانيون واشتغل فيه السكان الاصليون المختلفون إثنيا ودينيا عمالاً سخرة للاجانب، ثم يتحول إلى طاقة جماعية مُذهلة من العمل والانجاز.
عندما استقلت سنغافورة عن بريطانيا عام 1963 كان العديد من الاستقلالات العربية قد أُنجزت ومضى عليها بضعة عقود. بل إن دولا مثل مصر والعراق وسورية والمغرب والاردن كانت قد ترسخت انظمتها واقتصاداتها، ومصر تحديدا من بينها كانت تقوم فيها جوانب نهضة واعدة من الصناعات الثقيلة إلى صناعة السينما. اليوم يصل الناتج القومي العام لهذا البلد الصغير بملايينه الخمسة والنصف (ومنهم 40% اجانب) الى 308 بليون دولار متجاوزا نظيره المصري حيث عدد السكان يفوق سنغافوره ب 15 ضعفاً. وتتقدم دول العالم في معايير التنمية الانسانية سواء في التعليم او الصحة الاولية او انخفاض نسبة البطالة. كما تتصدر المدن الاكثر جذبا للاستثمار والكفاءات، والمستقبلة للتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى امتلاك الغالبية الكاسحة من السكان بيوتهم. الكفاءة والنظام والنشاط هي بعض من العناوين التي يراها الزائر، مُضاف إليها لطف الناس وتواضعهم وترحابهم. لا تتوقف قصة النجاح السنغافوري عند الاقتصاد وإن كان هو عنوانها. فهناك ايضا عبقرية السيطرة على التنوع الإثني والديني الذي كان يحبل بكل انواع الانفجارات عشية الاستقلال، ويهدد بمواصلة انفجاراته ليشل البلد وسكانه عقودا طويلة. عوض ذلك تحول هذا التنوع الى مصدر قوة وقُلمت اظافر الشوفينيات القومية والدينية وصهرت في مشروع المواطنة السنغافورية. يتوزع الناس هنا إلى من هم من أصول صينية 74% من السكان، ومالاوية (مسلمة) 14% وهندية 9% اضافة الى مجموعات اخرى اقل عدداً. في وسط المدينة القديمة تتجاور الجوامع والمعابد الهندوسية والبوذية بشكل أخاذ. قائد الاستقلال وباني نهضتها لي كوان يو كان من الاغلبية الصينية لكنه رفض سيطرة الاغلبية على الاقليات وصمم على تأسيس مواطنة سنغافورية تساوي بين الافراد. نحى ايضا إغراء التبعية والولاء للصين الكبرى الوطن الاصلي له ولغالبيته. رفض منطق الغالبية والأقلية وانهمك مع حكوماته في محاربة ذلك المنطق، بل وفي الانخراط في شكل من اشكال "الهندسة الاجتماعية" التي استهدفت تأسيس هوية سنغافورية وطنية جامعة. لم يكن ذلك من دون اكلاف طبعا، ذلك ان الالتزام المتشدد ولد اتهامات بالدكتاتورية والسلطوية الابوية. لكن الماضي الطويل للسيطرة الكولونيالية البريطانية على جنوب شرق آسيا والتي كان من ضمنها ثلاث سنوات ماحقة من الاحتلال الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، من 1942 إلى 1945، عزز في توليد نزعة استقلالية عميقة وراديكالية عند نخبة الاستقلال، وعلى رأسها كوان يو نفسه، في الاصرار على تخليق ولاء وطني يهمش كل الولاءات الاخرى.
الترسخ التدريجي للمواطنة والإيمان الجمعي بالولاء للدولة الناشئة ودحر الولاءات المنافسة، إثنية كانت ام دينية ام اممية بعيدا عن المقدمة هو الاساس المتين الذي وفر لقصة النجاح السنغافوري ان تستمر. وفي الآن ذاته اشتغل التقدم الاقتصادي والوفرة المالية، التي لم تستند إلى موارد طبيعية بل إلى نشاط الافراد ويقظة الحكومات وتشجيعها للإستثمار واتباع سياسات منصفة وغير محابية لأية شريحة في المجتمع، على تعميق الإنتماء عند الناس واحساسهم بالمساواة. اعتماد الكفاءة والمساواة في الفرص meritocracy خلق مناخاً تنافسيا قاعدته الاهلية والتحصيل، وليس الزبائنية والقرابة او الانتماء الطائفي او الاثني. ليست الصورة مثالية بطبيعة الحال وكان ثمة دوماً احتقانات هنا او هناك، وفشل نسبي في قطاع ما او مرحلة معينة، لكن الصورة العامة للنجاح المتواصل هي التي تشد المرء، خاصة عندما يقارنها بصور الفشل المرير الذي تقلبت فيه دولنا ومجتمعاتنا العربية.
ربما لم يكن لسنغافورة ان تنجح لو لم تمنحها الاقدار قيادة فريدة ممثلة ب لي كوان يو ورفاقه. كوان يو الذي كان رئيس وزرائها الاول واستمر في المنصب خلال عقود التأسيس الحساسة والهامة، من اواخر خمسينيات القرن الماضي (اي خلال السيطرة البريطانية) إلى اواخر تسعينياته، يُعتبر الاب الروحي لسنغافورة الحديثة. هو من اسس وقاد حزب العمل الشعبي الذي قاد الاستقلال، ووقف في وجه الصين واندونيسيا، ثم قاد تنمية البلد. بعد تخليه عن رئاسة الوزراء سنة 1990 اشتغل كوزير ومستشار للحكومات التالية حتى وفاته سنة 2015. قراءة إرثه السياسي والفكري الذي سجله في عدة كتب اهمها مذكراته: "من العالم الثالث إلى الاول: قصة سنغافورة 1965ـ2000" (From Third World to First: The Singapore Story 1965 2000) يجب ان يكون واجباً مدرسيا على كل مسؤول عربي يريد ان يتلمس مدارك القيادة الرشيدة والناحجة. يحتاج الكتاب إلى اكثر من مراجعة مطولة لكن ربما يكفي هنا الإشارة إلى بعض الإطلالات السريعة الدالة. اولها ان مذكراته التي كتبها على مدار عدة سنوات اشاد بها اكثر من 28 رئيس دولة او وزير او سياسي من العالم، كما هو مدرج في الصفحات الاولى من الكتاب، ليس منهم اي مسؤول عربي! الثانية هي ان صفحة الشكر التي تصدرت الكتاب تضمنت 32 اسماً امتدت من اصغر باحث او سكرتيرة ساهمت في تقديم اي معلومة للمؤلف وصولا إلى اكبر واهم الارشيفات العالمية. ومن ضمن المشكورين عدة اشخاص قرأوا المسودة الاولى للمذكرات وعلقوا عليها اما اضافة او اقتراحاً بتعديل او شطب، ومنهم عدة مالاويين ثقات اراد منهم ان يراجعوا ما كتبه عن ماليزيا نظرا لحساسية الموضوع خاصة خلال فترة الاندماج مع ماليزيا في الستينات ثم الانفصال عنها. ثم هناك الاقرار المتواضع بأن كوان نفسه ما كان بإمكانه انجاز ما انجز لولا العمل الجماعي والعمل مع رفاق الدرب، وهم الذين يصفهم ب "الرفاق القدامى الذين من دونهم ما كان بالإمكان ان نصنع قصة سنغافورة" وإليهم اهدى الكتاب وهم: غو كينغ سوي، س. راجاراتنام، هون سوي سن، ليم كيم سان، ايدي باركر، تو شن شي، اونغ بانغ بون وعثمان ووك. في مكان ما في الكتاب يقول كوان: لم اكن يوما ما حبيس اي نظرية من النظريات. النظرية التي كنت اتبناها هي التي تخدم سنغافورة وتساهم في بنائها. هوسه في التعليم جعل سنغافورة في مقدمة البلدان في التحصيل المدرسي والجامعي والعملي.
كيف نتعلم من القصة السنغافورية إذن؟ هناك بدايات عديدة، ومنها ربما قد تكون استعادة قصة التاجر اليمني الناجح والشهير سيد عمر الجنيد ابن حضرموت الذي وصل إلى سنغافورة سنة 1816. قصة الجنيد، وكما تعرضها جداريات المتحف الوطني هنا، تقول بأن كان واحدا من اهم التجار الذي جابوا البحر الاحمر والمحيط الهندي وصولا إلى ارخبيل الجزر المالاوية، وممن تتمتعوا بثقة الجميع استناداً إلى نسبة النبوي وحمله لقب "سيد". استقر الجنيد في سنغافورة وهناك ازدهرت تجارته الامينة وعلاقاته الجيدة واحبه الناس، وبنى اول جامع في سنغافورة "مسجد عمر كامبونغ ملكا" سنة 1820. الى جانب ذلك تبرع بالأرض التي بُنيت عليها كاثدرائية سانت اندروز ومستشفى شهير إلى جوارها. الجنيد ساهم في تأسيس التعايش والمواطنة السنغافورية التي خلقت تاريخاً من الوئام ووفرت جزءا من الارضية التي تقوم عليها سنغافورة اليوم. عندما يتبرع احد اغنياء المسلمين اليوم لبناء كنيسة نكون قد بدأنا المشوار الحقيقي في المواطنة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير