الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع عشر

فرات المحسن

2016 / 6 / 15
الادب والفن







تقدم أحدهم وأخذ بفك الحبل الذي كان يحيط بمعصمي ماركس. ثم سمعهم يتبادلون جمل التحايا والتوديع بعد أن أخذه أحدهم وأدخله بناية مركز الشرطة.


ــ تعال خالي يم العقيد.. أنته صدك ألماني.. صحيح أحمر أبرص بس ما مبين عليك من ذيج الديره.
صمت ماركس وكأنه لم يكن يسمع الحديث وتقدم جوار الشرطي ليجتازا الممر الطويل ثم توقفا عن باب خشبي مطلي بلون رمادي مائل للزرقة علقت في أعلاه قطعة خشب صغيرة خط عليها باللون الأبيض دلالة تعريفية، مدير المركز. طرق الشرطي الباب فسمع صوت من الداخل يأمره بالدخول. دفع الشرطي ماركس من كتفه وأدخله معه إلى الغرفة. كانت الغرفة ضيقة بعض الشيء مع كثرة في الأثاث وسرير نوم تتبعثر فوقه كومة ملابس وغطاء غير مرتب، وجواره على الأرض قدح ماء ونعلان ومجلة وصحن فيه بقايا قليلة من طعام.
دوى صوت قوي جراء ارتطام حذاء العسكري بالأرض وهو يأخذ تحية للعقيد الجالس خلف المنضدة، أرتعب ماركس واهتز جسده لسماع ذلك الصوت المدوي والمفاجئ.
ــ لك هاي شنو.. خطية هذوله شمسوين بيك. بابا ليش انته بهذا الوضع.. جانو يعذبوك.
ــ نعم أستاذ كانوا يتلذذون بذلك.
ــ لعنة الله عليهم.. هذولة مو بشر؟ شوف أبني، أنته صدك ألماني؟
ــ نعم..
بدا ماركس في هذه اللحظة وكأنه أخذ يعتاد على اللغة الدارجة للعراقيين ويستطيع فك رموز أغلب ما يسمعه.
ــ عندك ما يثبت هذا؟
ــ كانت لدي وثائق في حقيبتي الصغيرة التي أمامك، ولكن الظاهر أن أبو بشير وجماعته قد أتلفوها أو وضعوها في مكان ما.
ــ وكيف تستطيع أثبات ذلك؟
ــ لا أدري.
ــ أبني عريف أحمد.. دخذه هسه وعدل حاله.. خطيه ساويله شعر رأسه وخلي يغسل.. ريحته تكتل.. وبلكي تنطو ملابس بدل هاي ملابسه المزكه والمطينه.. وأنطو أكل وخلي يبات عدنه جم ليلة، وكول للضابط أبو تغريد خلي يسويله محضر تحقيق ويقدمه أليه باجر بخفارتي.. حتى بعدين نشوفله صرفه وأنسفره.. ابني أنشاء الله فرجت كلشي يتعدل لتخاف.. أنت صرت بيد الشرطة العراقية وبعد لتخاف. دتفتهمني لو لا؟
ــ أفتهم أغلب الحديث.. شكرا لك أستاذ.
ــ شنو أستاذ .. كول سيدي قشمر.
ــ عريف أحمد على كيفك.. هسه مو وكته خل شيكول يكول.. هو مدني، ويجوز صدك ألماني وتزعل علينه خالتنه ميركل حفظها الله ورعاها.
قالها العقيد ضاحكا وأشار لعريف أحمد بالانسحاب فدفع بدوره ماركس وسحبه خارج الغرفة .

***

مسد ماركس فروة رأسه فشعر ببعض الارتياح، فقد باتت خالية من الشعر لا بل ملساء تماما كراحة اليد، بعد أن ساواها موس الحلاق ببراعة دون أن يهدر قطرة دم واحدة مثلما فعل به أبو بشير ورجاله. فتح صنبور الماء وراح يرمي الماء على وجهه ويتذوقه بنشوة رغم حرارته التي سببها شمس الصيف اللاهبة الساقطة على خزان الماء فوق البناية.
لعدم وجود رتاج لم يستطع ماركس إغلاق باب غرفة الحمام الصغيرة ذات النور الكابي. تلفت قليلا ثم راح يخلع ملابسه قطعة بعد أخرى فلم يبق على جسده ما يستر حتى العورة. حاول أن يقف تحت الدوش ولكنه وجد أن الماء لا يصل إلى هناك. تحت صنبور الماء كانت هناك صفيحة كبيرة سبق أن كانت حافظة لدهن الطعام، هذا ما كتب على جدارها، وفي وسطها وضع قدح بلاستك كبير. راح ماركس يراقب الماء وهو يملأ الصفيحة، أنتظر قليلا ولكنه لم يحتمل المطاولة مع بطء جريانه، فأخذ قدح البلاستك وبدأ يصب الماء فوق جسده. شعر بنشوة غريبة وبانت على شفتيه ابتسامة رضا أفتقدها طويلا، راح يتلذذ بسكب الماء فوق رأسه وأخذ يداعبه وهو ينساب فوق شفتيه، فيصدر صوت فرقعات خفيفة استطابها، فاستمر يمارس هذا الطقس بفرح طفولي.
فجأة دفع الباب ودخل أحدهم دون سابق إنذار.
ــ لك هاي شنو.. شدتسوي.. ليش مصلخ ربي ما خلقتني وبحمام مركز الشرطة.. أنته مو الألماني لو أني متوهم؟
ــ نعم أنا الألماني..
ــ أكول.. لعد منهيج يكولون الأجانب ما عدهم مستحه.. يله دكمل حتى أني أغسل وراك.
ــ عريف أحمد قال بأنه سوف يجلب لي ملابس أخرى.
ــ أوكي.. لعد راح أروح أخبره، وأني أرجع بعد شويه أريد أغسل لتتأخر..
عاد كارل ماركس للاغتسال، حاول بقوة وإلحاح أخراج رغوة من قطعة الصابون الصغيرة دون جدوى، ففكر بأن السبب ربما يكون عسر المياه، ولكونه قد خبر ماء لندن فقد أستبعد هذا عن الماء الذي يسبح فيه الآن بعد أن تذوقه. ثم وضع في باله الفترة الطويلة التي قضاها دون اغتسال منذ وصولهم الناصرية ولحد الآن. فقد صنعت فوق جسده طبقة من الدهون تمنع الصابون من أخراج رغوته، هكذا شعر ماركس مع استمرار محاولاته لدعك جلده، أصر أن يزيل عن جسده تلك الطبقة من الأوساخ فراح يفرك جلده بصبر وأناة. بعد عملية طويلة أحس ماركس بأنه أنجز الكثير في هذا الآمر، لذا أسند ظهره إلى الحائط وراح يسكب الماء على رأسه وجسده متلذذ بسماع صوت ارتطامه برأسه ثم جريانه على صدره وجسده، وأحس برغوة الصابون وكأنها يد سحرية تمسد جسده وترطبه، وكأنه في حفل موسيقي يستمع للسيمفونية الأربعين لفولفغانغ موتسارت فأغمض عينيه وراح بعيدًا في عالم مريح يسترخي فيه ولو للحظات دون خوف أو وجل. فجأة سمع صوت عريف أحمد.
ــ ها يول بشر أغسلت زين..؟
كور ماركس جسده أول الأمر ثم نهض وغطى عورته وذهب ليقف خلف الباب، عندما دخل عريف أحمد.
ــ هاي وينك؟
ــ هل جلبت لي ملابسي؟
ــ هاي أنته خاتل وره الباب.. هاك هاي دشداشة وستره ولباس طويل.. همزين الشرطي محمد بن شكرية، جان هذني الهدوم زايدات عنده.. يله ألبسهن بسرعة وتعال.
بعجالة أكمل ماركس ارتداء الملابس وخرج من غرفة الحمام يتعثر وهو يسير بالثوب الفضفاض.
ــ لك هاي شنو طلعت جنك راعي غنم.. وجماله يمشي جنه مطهر.
قال ذلك عريف أحمد وهو يطلق ضحكة تنبه لها جميع رجال الشرطة في الممر الطويل. ثم طلب من ماركس أن يسير أمامه لحين وصولهم غرفة الموقف ذي الباب الصغير المغلق الكالح اللون بفتحة كبيرة تبدأ من منتصفه ليظهر خلالها جوف غرفة حبس واسعة يجلس فيها بضع أفراد. أخذ عريف أحمد المفتاح من الحرس وأدار قفل الباب ودخل مع كارل ماركس. طالع ماركس وجوه الأنفار العشرة الذي سيكون الآن شريكهم في هذا المكان، وأبتسم ابتسامة بلهاء وهو ينظر نحوهم بفضول، لم يجد بد من أن يحيهم بانحناءة رأس، ولم يكن يعرف السبب لفعلته هذه. لم يجد من أي واحد من السجناء ردة فعل سوى نظرات مستفزة باحثة ومستفسرة عن نوع هذا الجديد الذي جاء به عريف أحمد.
ــ أبو جعفر أنطي بطانية من يطغك للأخ أبين ما ندبرله فراش.. هذا خطار عدكم يوم يومين .. خطية جان مخطوف وهو تعبان.
ــ تدلل أبو شهاب ويدلل خطارنا.. تعال عمي تعال هنا يمي هاك هاي البطانية أفرشها.
قال السجين أبو جعفر ذلك ورفع الغطاء الصوفي ومده جواره فتقدم ماركس وجلس هناك.
ــ أبني شنو أسمك؟
ــ ماركس.. كارل ماركس؟
ــ هاي شنو أسمك أجنبي؟
ــ أي أبو جعفر هذا ألماني.
قال ذلك عريف أحمد وهو يخرج من الغرفة ويغلق خلفه الباب.
ــ شعدك بالعراق؟
ــ أبحث عن الآثار.
ــ آثار شنو؟
ــ نعم!
ــ يا آثار؟
ــ آثار سومر وبابل وغيرها.
ــ على الخير والبركة.. جا هيه بقت عليك؟ ذاك اليوم جان خطارنا تركي أيكول هو أبن عم أردوغان تالي طلع حشاش مضبوط معطب من كاعه.
أحد السجناء، الجالس قبالة أبو جعفر وكان يسند ظهره للحائط ويلف بكوفيته كامل رأسه ولا يظهر منه سوى العينين قال وبنبرة عدائية.
ــ هسه أنته ألماني ولابس دشداشه وستره وأكرع وأحمراني.. همزين ألماني مو كرايب عزت الدوري وتشتغل عليك رحمة الله بالجلاليق..
ــ نعم ؟
ــ أشوفك تعبان وراح الأيام أتطول عليك مثل حالي، صارلي تسع تشهر خايس هنا ويكولون أوراق التحقيق بعد ما رجعت من المحكمة.. تكدر تنام وترتاح بعدين نسولف، كل الليل عشه وسوالف.
هكذا بادر أبو جعفر طالبًا من ماركس أن لا يهتم للأحاديث وعليه الراحة في الوقت الراهن.
مدد ماركس جسده المتعب فوق الفراش الصوفي ووضع كفيه تحت رأسه وسرح بعيدًا متذكرًا وضعه في زريبة بيت أبو بشير وكيف كانت توجه له التهديدات اليومية بالقتل والمعاملة القاسية التي كان آخرها حفلة التعذيب التي شاركت فيها البقرة. لقد كان قاب قوسين وأدنى من الموت. ليس أمامه من مخرج بعد كل ذلك العذاب غير البحث عن الذي يخلصه من ورطته ويرجعه إلى بيته في لندن، ليس له حاجة بالمعرفة عن وضع العراق الاقتصادي والسياسي، بعد أن تيقن بشكل كامل بأن ليس هناك نظرية يمكن لها أن تتعرف على طبيعة صيرورته ومسيره ومآلاته. في نفس الوقت لم يعد يملك أوراقًا ثبوتية ليقدمها كدليل على مواطنيته الألمانية وسكنه الانكليزي، وتلك تكفي لوضعه في مأزق خانق لا يستطيع الخلاص منه، والطامة الأخرى أن ملامحه قد تغيرت كليا، كذلك لا يعرف بالضبط مكان الرفيق جبار وفي أي ناحية من نواحي بغداد يقع الفندق الذي يملكه، ويا ترى كيف يصل أليه، وقبل كل ذلك تساءل ماركس عن نفسه، أين هو بالضبط الآن؟ هل حقيقة أنه في أمان؟ بدا النعاس يطرق عينيه ولكن الأحاديث المختلطة بين السجناء ومثلها ما يسمعه من أصوات عالية تأتي من خارج غرفة السجن كانت تضفي صعوبة على محاولاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع