الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [28]

محمد عبد المنعم عرفة

2016 / 6 / 17
الادب والفن


موقف الإمام من إلغاء الخلافة الإسلامية
إن الإمام كان ينظر إلى الخلافة الإسلامية بصفة عامة كرمز ديني لـه قداسته، وهو أمر لا غنى عنه، إذ المفروض في الخلافة الإسلامية أنها مسألة دينية نصت عليها الشريعة المحمدية، وقد عاش المسلون على مر القرون منذ كانت الخلافة الراشدة حتى الخلافة العثمانية في ظل خلافة- أيا كانت هذه الخلافة- يدينون لها بالولاء والطاعة، وكان الملوك الأقوياء في مصر أو غيرها يرون أنه لابد من قيام نظام الخلافة بجانبهم ليستمدوا منه قوة النفوذ على الشعب المسلم، فسعوا بقوتهم ونفوذهم إلى أن يأخذوا موافقة الخليفة ضعف السلطة على تنصيبهم ملوكا حتى تكون لـهم الصبغة الشرعية في حكم المسلمين، على أن هؤلاء لم تكن لهم أية سلطة زمنية وكانوا يعيشون في حماية هؤلاء الملوك الأقوياء، ولا شك في أن سعي هؤلاء الملوك الأقوياء استرضاء الخلفاء وإعلان حكمهم للشعب باسم الخليفة كان راجعا لما لهؤلاء الخلفاء- على ضعفهم- من سلطة روحية على المسلمين، وكانت السلطة الروحية لهؤلاء الخلفاء تمتد إلى قلب كل مسلم في أي وجهة كانت، ولهذا كان للخلافة العثمانية نفوذ روحي على المسلمين سواء كانوا يعيشون في ظل دولة الخلافة أم يعيشون في دولة أخرى، ولعل أبرز مثل لهذا في عصرنا الحديث ما رأيناه من تعلق المسلمين في مصر والهند وغيرها من البلدان الإسلامية بالخليفة العثماني ودفاعهم عن هذه الخلافة بكل ما في وسعهم.

ومن هنا كان الإمام ينظر إلى الخلافة العثمانية على أنها مركز لتجميع المسلمين، وأنها في ذلك الحين هي التي يمكنها صد التيار الغربي الزاحف عليهم وإنقاذ مجد الإسلام وتراثه من عبث الغرب به، هذا إلى أن المسلمين كانوا يتطلعون إليه كحامية بعد أن فقدوا ملكهم في أوطانهم ، والى أنهم كانوا يعتبرون تألب الغرب على الـأتراك حركة صليبية حديثة، ومن أجل ذلك رأينا المسلمين في كل قطر يهبون لمساعدتها في حربها مع الدول البلقانية، وفي حربها مع روسيا، وفي حربها مع إيطاليا في طرابلس، ويعبثون إليها بالمساعدات تلو المساعدات، وكان للإمام أياد كبيرة في تنظيم هذه المعونات وجمعها وتجميع المتطوعين لقتال أعداء الخلافة مما يذكر لـه بالفخار والشرف.
ولقد فزع الإمام فزعا عظيما لدخول انجلترا الحرب ضد تركيا، فأعلن أنه يقف في صف الـأتراك، وقد انتشرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي مما جعل الإنجليز يصانعون المسلمين ويلتمسون لأنفسهم المعاذير الحرب ضد دولة الخلافة، ووعدهم أنه سوف لا تمس دولة الخلافة بسوء.

وعندما هزمت تركيا وبدأت إنجلترا تنكث عهودها ثار الإمام، وثار لثورته مسلمو الهند وغيرها من البلاد الإسلامية خصوصا العراق والشام والمغرب وجاوه، وعمت هذه البلاد ثورات جارفة سقط فيها بالهند خاصة مئات الضحايا.
لقد اضعف التعصب عاطفة العرب نحو تركيا حتى جعلهم أحيانا يسعون للتخلص منها، عكس مصر خاصة والهند التي لم يمسها هذا الظلم بل مسها ظلم الاستعمار الإنجليز وطغيانه وعدوانه الآثم الشنيع، ولو أن المسلمين العرب نسوا أو تناسوا مؤقتا ما كان لدولة الخلافة من مظالم ووقفوا بجانبها ضد الغرب لأمكنهم الاحتفاظ بوحدتهم الإسلامية الجامعة، ولما استطاع المستعمر أن يثبت قدمه في بلادهم، ولا أمكن لليهود انتزاع فلسطين من أهلها وطردهم منها، ولكان من الممكن للمسلمين بعد ذلك أن يصفوا حسابهم مع دولة الخلافة ويأخذوا حقوقهم منها، كان ذلك هو رأي الإمام ، ومع هذا فقد كان شديد الأسف مع كثير من المرارة لما أصاب المسلمين بسبب تفككهم وتخيلهم عن دولة الخلافة.

واستمر الحال على ذلك حتى دهم المسلمين أمر الخلافة، فقد كان لإلغائها في 2 مارس 1924م- وعلى غرة- دوي شديد في مصر والعالم الإسلامي، وخصوصا وأن المسلمين لم يعرفوا السبب الذي دعى إليه ولا الموجب لـه، وقد كانت الخلافة وإن كانت في آخر أمرها مظهرا من مظاهر التقليد، إلا أن عقلاء الأمة كانوا يحسبونها رمزا يجمع حواليه شتات هذا الجسد الإسلامي بعد أن قطع الاستعمار أوصاله وسلب منه أكبر مزية: الاتحاد والرابطة بالخلافة العظمى والإفاقة الكبرى.
ولم يغمض للإمام جفن طوال الأيام الأولى من تلك الفتنة العمياء: خليفة المسلمين يطرد من بلاد إسلامية وعلى يد فئة مسلمة، والناس مختلفون في تكفير هؤلاء أو نسبتهم إلى الإلحاد والزندقة، وقد ألهمه سبحانه وتعالى في هذا الموقف أن أبصر بها الداعي إلى هذا الأمر، والواجب على المسلمين تجاه هذا الخطر، فقام أول الأمر محذرا المسلمين عن الخوض في تكفير إخوانهم من بني عثمان، ثم استعلم مستفسرا.

الاتصالات التمهيدية:
لقد كان رد الفعل للسماع عن إلغاء منصب خليفة المسلمين بتركيا سريعا جدا على الإمام.. بل وفوريا. وقد شهدت الساعات الأولى إنجازين على درجة كبيرة من الأهمية:
1- تكوين جمعية (إحياء الأخلاق المحمدية) ومقرها المركز الرئيس قصر الحنفي (سكن الإمام) وفروعها في بلاد مصر، وإعلام الجميع عن استنكارها لقرار الإلاء على المستوى الشعبي.
2- القيام باتصالات هاتفية وكتابة خطابات شخصية وإرسال برقيات لجميع رؤساء بلدان العالم الإسلامي لتكوين جماعات عمل لمؤتمر الخلافة الإسلامي وإخطار المقر الرئيسي بالقاهرة بذلك

وكان أول المستجيبين في ذلك أخوة الهند وعلى رأسهم الأميران شوكت على ومحمد على، والدكتور أجمل خان والدكتور محمد إقبال والشيخ كفاية الله وغيرهم وإعلانهم الفوي عن تأسيس جماعة (الخلافة الإسلامية) بالهند مع إعلان اتحادها قلبا وقالبا مع الإمام، وكذلك بعض الزعماء الإسلاميين الآخرين.

وقد اتفق مع جماعة الهند منذ الساعات الأولى لسماع نبأ بإلغاء على إعلان الرأي التالي:
لقد اتفق الرأي علي إبقاء الخلافة الإسلامية في تركيا وتقويتها، وإن لم يمكن الإبقاء على أسرة آل عثمان فإنه يمكن انتخاب خليفة يقيم في إحدى الدول الإسلامية التي لا تخضع للاحتلال أو النفوذ الأجنبي، مع إبعاد التفكير في تنصيب فؤاد الأول ملك مصر خليفة على المسلمين، وإنه إلى أن يتم انتخاب خليفة المسلمين، فإن خلافة عبد المجيد خان تظل قائمة لأن بيعته لا زالت ملزمة للمسلمين.

وهذا الرأي هو ما أرسل به الإمام إلى سائر الجماعات في البلاد الإسلامية، وقد وردت إليه الردود التي لا يتسع المقام هنا لذكرها منها:
رسالة من الأمير فيصل بن عبد العزيز بمكة، ورسالة من مشايخ إمارة الخليج العربي وهم: محمد بن عبد اللطيف، وسليمان سهمان، وعبد الله بن سالم، ورسالة من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، ومن جمعية الشبان الفلسطينين بحيفا، ومن جزيرة سنغافورة من السيد محمد عقيل بن يحيي، ومن ديون المحكمة الشرعية بولاية البوسنة بيوغسلافيا موقع عليه من كل من محمد موباغنيك، ومحمد جمال الدين ومحمد القاضي، وكتاب من الشيخ حافظ وهبه وزير المملكة السعودية، وكتاب من السيد أحمد الشريف السنوسي المقيم بالأستانة، ورسالة مطولة من الأمير شكيب أرسلان تتضمن رأيه في انتخاب الخليفة والقطر الذي يقيم فيه واستبعاد أتاتورك، ورسالة من السيد محمد البطاح قاضي عدن، وكتاب من لجنة العمل على إحباء الخلافة بمدينة الكاب بجنوب أفريقيا، ورسالة من رئيس جمعية حزب المرشدين الدينيين في سومطرة، وكتاب من بولونيا من رئيس الجمعية الإسلامية، ورسالة من الاتحاد الصيني للجمعيات الإسلامية بشنغهاي، ورسائل عديدة من الشيخ كفاية الله والدكتور محمد إقبال ومحمد على جناح وشوكت على وأجمل خان والشيخ قرشي بالهند، وكتاب من إندونسيا بتوقيع سوكارنو وآخرين، وكتاب من حميد الدين إمام اليمن... الخ.

وما أن انتهى الإمام من اتصالاته إلا وظهر أول رد فعل تنفيذي بعد أسبوعين من نبأ الإعلان، وبالتحديد يوم 15 مارس 1924م.. وهو خطاب موجه من الإمام إلى مصطفى كمال أتاتورك هذا جزء منه:
"... فإذا كان الخليفة هي راس الجمهورية، سار على مقتضى قوانينها وزاد عليه مجلسا محليا للخلافة بجانب المجلس الوطني الكبير منتخبا من جميع الأمم الإسلامية يقوم بالأعمال الدينية والاجتماعية الخاصة بالأمم من تعيين القضاة وأئمة المساجد وعمارة معاهد العلوم الدينية وبعث الوعاظ والمرشدين لبث الدعوة الإسلامية، وتكون إدارة الأمم الإسلامية المستقلة بأمر الخليفة في شئونها الدينية والاجتماعية بقدر ما تسع الشريعة، ويكون المجلس الوطني الكبير عاملا للجمهورية التركية، وقد يأتي الوقت الذي تكون فيه الجمهورية التركية جمهورية إسلامية كما كان عهد الخلفاء الراشدين، فإن الخليفة في عهد السلف كان رئيسا للجمهورية الإسلامية بمعناها الحقيقي.
وإني بصفتي عاملا على تشكيل المؤتمر الإسلامي ببلد حر مستقل كنت أحب أن يكون المؤتمر في بلد من بلادكم لولا ما أشرتم إليه من الظروف التي أنتهجها طمع المستعمر الأوربي، والإسلام وسع لنا في رعاية واجب الوقت، وقد استحسنت ما استحسن رجال جماعة الخلافة بالهند من اجتماع المؤتمر الإسلامي الكبير في مكة المكرمة بعد قهر حسين بن علي منعا للفتن الأوربية التي أشرتم إليها إذا عقد بالبلاد التركية ...."
15 مارس 1924 م
محمد ماضي أبو العزائم

الاجتماع الأول بمنزل الإمام:
وقد تم أول اجتماع لجمعية (إحياء الأخلاق المحمدية) بمنزله في 23 مارس 1924م، وكان قد دعا رجال الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية لحضور هذا الاجتماع، وتم فيه جمع الأمة المصرية في صعيد واحد في يوم واحد بدعوة إلى عظمائها ونوابها وأهل الرأي فيها ليستشيرهم في هذا الأمر، وقد كانت همة الجالس على العرش متحفزة إلى بلوغ هذا القصد والبلاد ما زالت في ذلك الوقت مستعمرة إنجليزية لا أقل ولا أكثر لم تنعم بالاستقلال وإن كانت تداوم من أجله الجهاد والقتال، فرغب عن حضور هذا الاجتماع أهل النفوذ خيفة غضب الملك، وجاءه أهل الإخلاص الذين باعوا أنفسهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى فشاورهم في الأمر جميعا، وخرج من هذا الاجتماع بفائدة هي تكوين قيادة لهذه الهيئة أسماها (اللجنة التنفيذية لجماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل) كان أحد أقطابها المرحوم على بك فهمي كامل شقيق فقيد مصر العظيم وزعيمها الفتى الكريم المرحوم مصطفى باشا كامل ، فأصدرت في ذلك عدة قرارات حكيمة كان أكثرها من بنات أفكار الإمام النيرة السليمة، وفيه قرر الأعضاء العمل على الدعوة لإقامة مؤتمر إسلامي عالمي يشارك فيه جميع زعماء وملوك الهيئات والدول الإسلامية.

بدأ هذا الاجتماع بكلمة ألقاها الإمام قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا نستزيد به عناية الله بنا، حتى نعيد مجد سلفنا ونبقيه لأبنائنا ولأبنائهم، قال سبحانه وتعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: من الآية2)، والصلاة والسلام على من قام يدعو إلى الحق منفردا في ظلمات الجهالة فأيده الله بنصره، وكذلك كل داع إلى الحق ينصره الله، أما بعد:
فيا أيها الشبان الناهضون المتفوقون على الشيوخ في اقتحام العظائم: أخصكم بالذكر لأنكم الأيدي العاملة في وقت الشدائد، أخصكم بالذكر لأننا جماعة الشيوخ مللنا الدهر وملنا، ولأننا نعمل لكم لا لنا، إن كان لنا الآن فالمستقبل لكم، وأي عاقل يرضى أن يهمل أمرا يصبح الأخ بإهماله حربا على أخيه؟
أيها الشبان العامل: كنت كسلانا فنشطني الله بكم، جبانا فشجعني الله بإقدامكم، كنت أخاف أن أقول كلمة فأطلق سبحانه لساني بقوة إيمانكم، ذكرتموني عهد سلفنا الصالح حين كان المسلم لا يرى فوقه إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه، وي!! كأني أعدت إلى أيام مجدنا حيث الحياة في ظلال الحرية، فأشكر الله على ما تفضل به علينا من غيرة لوطنا تغير كل شيء أتت عليه، وحمية لدينا تمحو البدع المضلة والأهواء المذلة.
أنتم أيها النشء: أقمتم الحجة بما قمتم به للأمة على أنكم شيوخ في شبابكم، وأنكم ستجدون ما كان لسلفكم، فأديموا هذا الجهاد حتى نبلغ المراد.. أدام الله لنا عنايته.
أيها الشيوخ الذين أكسبتهم التجارب عقولا تدرك غيب الحوادث وتكشف الستار عن أسباب الفتن ، أنتم الأنجم المضيئة للعمال، والأئمة عند السعي لنيل الآمال، قد آن لنا أن نتدارك الأمر في أوله، فقد كفانا ما توالي علينا من البلايا التي مكنت للأعداء فينا وجعلتنا مستعبدين لهم.
أيها السادة: الوقت يوجب علينا النظر في أحداثه بعين البصيرة والمسارعة إلى معالجة المرضى منا بالحكمة لنكون جسدا واحدا قويا ندفع بقوة الاتحاد شرا أوجدته التفرقة وسوء ظن بعضنا ببعض، قال صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي لـه سائر الجسد بالسهر والحمى)، وفي رواية "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله).
لابد لكل عامل غرض يدعو إليه وباعث يدفعه للعمل، وبقدر المقصد يكون بذل الجهد، والغرض من اجتماعنا هذا هو:
أولا : السعي في تكوين مؤتمر إسلامي عام تمثل فيه الشعوب الإسلامية كافة، يعقد في المكان والزمان اللذان يقرران بعد.
ثانيا: السعي في تشكيل لجان فرعية في البلاد المصرية على أن يؤلف من مندوبي هذه اللجان جمعية عامة رئيسية تنظر في جمع المؤتمر وإجراء كل ما يلزم لانعقاده.
ثالثا: تشرح اللجنة مع الثقة العظمى "حضرة صاحب السمو الأمير الجليل" عمر باشا طوسون لرياسة اللجنة العامة.
رابعا: انتخبت اللجنة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد ماضي أبا العزائم رئيسا، وحضرة صاحب السعادة على بك فهمي كامل نائب رئيس، وحضرة الشيخ مفتاح زيدان سكرتيرا، أما الأعضاء الذين انتخبوا فهم حضرات الآتية أسماؤهم بعد : (يرجع لقرار اللجنة التحضيرية).
خامسا: تبليغ قرارات اللجنة إلى حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، والى الصحف.

• ومنذ الساعات الأولى من تكوين هذه اللجنة التحضيرية، قام الأعضاء بإخطار الهيئات الرسمية في البلاد الإسلامية بتكوين (جماعة الخلافة الإسلامية) لتعمل على عودة الخلافة الإسلامية، وقد خاطب الإمام القادة والزعماء ومن بينهم زعماء الهند محمد على جناح، وأبو المكارم آزاد، والأخوان الأميران شوكت على ومحمد على، كما اتصل بالشاعر محمد إقبال، وتوثقت بينهم وبينهم روابط الخدمة لإعلاء كلمة الدين وتوحيد صفوف المسلمين ، كما اتصل بكمال أتاتورك نفسه، وأرسل الإمام نداء إلى العالم الإسلامي ممثلا في دولة يبين فيه مقاصد المستعمرين في الخلافة، وموقف الدول الغربية من مسألة الخلافة وغرضهم من تعددها، وسعيهم إلى تفرقة كلمة المسلمين، لم يترك الإمام بلدا أو قطرا فيه مسلمون إلا اتصل بها مبينا أهمية مقام الخلافة الإسلامية بالنسبة للإسلام والمسلمين، ودعا إلى عقد المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة هذا الغرض، وظل التجهيز لانعقاده حتى تم ذلك في مكة المكرمة بتاريخ 9يونيو1926م برئاسة عبد العزيز آل سعود عاهل الحجاز.
• وكان الخلاف الذي قام عام 1924م في المؤتمرين: مؤتمر الخلافة لجماعة الأزهر، التي تكونت بأمر من الملك فؤاد بعد فترة صمت طويلة دامت ستة أشهر، ومؤتمر جماعة الخلافة بوادي النيل رئاسة السيد أبي العزائم، يحوم فقط حول إيجاد بلد مستقل لا سيطرة لأجنبي عليه ليكون مركزا للخلافة ومقرا للخليفة محفوظا من الأهواء السياسية ومن سيطرة الأجنبي وعدوانه، حتى تنفذ الأوامر الدينية والزمانية بغير تدخل الدولة المحتلة، وقد كان لجماعة الأزهر فكرة مخصوصة في الخلافة والخليفة، ولم تترك للعالم الإسلامي اختيار من يختاره والبلد الصالحة لمقر الخلافة، باعتبار أن لكل مسلم بيعة في عنقه يجب أن يؤديها حسب اختياره، وقد أقنعت جماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل الرأي العام الإسلامي بأن مصر وقتها لم تكن صالحة أن تكون مقرا للخلافة، وحبذ هذا الرأي سمو الأمير عمر باشا طوسون.

الملك فؤاد والخلافة الإسلامية:
فوجئت الحكومة بما نشرته الصحف في اليوم التالي عن الاجتماع الذي تم في دار الإمام، وعما تمخض عنه من لجان تحضيرية وتنفيذية، وسرعة تكوين لجان فرعية بالأقاليم بين عشية وضحاها، فبدأت تولي الموضوع عناية خاصة، وشرعت بعد ستة أشهر من تكوين جماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل، في تكوين مؤتمر من علماء الأزهر برئاسة الشيخ الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر، ولم ينعقد هذا المؤتمر بادئ ذي بدء لأنه كان يعمل على تزكية الملك فؤاد خليفة على المسلمين، وكان يعتقد أن الأمر لا يستلزم عقد مؤتمرات أو ما يماثلها أو تنصيب فؤاد خليفة لمن يجد أدنى صعوبة، وما دامت إنجلترا راغبة في ذلك فإنها ستحمل غيرها من الدول على الاعتراف بالأمر الواقع، ولذا فإن اول اجتماع عقد للتشاور في هذا الموضوع كان بمنزل المندوب السامي البريطاني وفي ليلة القدر من رمضان عام 1342هـ وعلى مائدة الإفطار!! .

وقد أملى الإمام قصيدة بهذه المناسبة جاء فيها:
أظلم الكون بالضلال احفظني
أفسد الطامعون كل مكان

زار أهل الضلال من لم يزاروا
عظموا الكفر في ليالي القرآن

أيقظ المسلمين من نومة الجهل
أجمعنهم بالنور والتبيان

وأنصر السنة العلية وأرفع
دينك الحق بانمحا الطغيان

قد أضل الإفرنج قوما لئاما
فاستطابوا الضلال من شيطان

صار النضال قويا بين الملك فؤاد والإمام ، فالملك كان يطمع أن يكون خليفة للمسلمين، وجند جنوده لتحقيق هذه الرغبة فأنشأ جماعة أخرى للخلافة الإسلامية ، وبذلك أصبحت هناك هيئتان للخلافة الإسلامية إحداهما رسمية يرعاها الملك فؤاد والأخرى شعبية برئاسة الإمام أبي العزائم، عندئذ جاهر الإمام بأن مصر دولة محتلة وحكامها قد تربوا في أحضان الأجانب ودانوا بفكرهم على آثارهم يهرعون وفي مرضاتهم يتنافسون، وكان طبيعيا أن لا يكون لهذا البلد في ظل الاستعمار وفي ظل هذه الشرذمة من الحكام أية قيمة وأي وجود.

وحاول الملك فؤاد استمالة الإمام فأرسل إليه رئيس الديوان الملكي "حسن باشا نشأت" ليقول لـه: إن الملك فؤاد يحب أن يراك، ولو حضرت إليه سيعطيك أكبر وظيفة دينية في الدولة وأموالا طائلة، فربت الإمام بيده على وجه حسن باشا نشأت لما بينهما من مودة وقال لـه: "أنت يا حسن تريد أن تغرر أباك الشيخ بالدنيا، وهل ملك مصر يتمنى أن يراني؟" قال حسن باشا: نعم . فقال الإمام: "يا حسن.. قل لفؤاد: إن أبا العزائم لا يحب أن يراك، ولو أحببت أن يأتي فؤاد إلى هنا لجاءني حبوا، إذا وقف رجل على باب السلطان حرم عطاء الحنان، ورجل الحق تخضع لـه التيجان، وخادم الحق لـه الخلق خدم أينما كان، والخير الإلهي لمن صدق وثبت، ثم قال لـه الإمام كلمته الخالدة عن فؤاد وأمثاله من أمراء السوء: إن قوما فقدوا الإسلام في أنفسهم وبيوتهم وشئونهم الخاصة والعامة لا عجز أن يفيضوه على غيرهم ودعوة سواهم إليه، وفاقد الشيء لا يعطيه". وأبلغه سعد زغلول يوما أن الملك فؤاد يتهدد الإمام ويتوعده إن لم يساير الملك في سياسته، فأمسك الإمام بأذن سعد زغلول قائلا لـه "قل لـه: أبو العزائم يقول لك: دولة تدول وملك يزول، وجانب الله يبقى ولا يزول".

• وعندما بدأت الحكومة والسراي في محاربة الإمام بشتى الطرق العلنية والسرية، فقبض على أعضاء اللجان الفرعية في الأقاليم، وصودرت محاضر الجلسات، وأعدمت أعداد من مجلة (المدينة المنورة) وفتشت سراي آل العزائم مرارا وتكرارا، واتخذت العداوة بين الملك والإمام مظهرا علنيا، ومنع الإمام من السفر لتأدية الحج في ذات العام، وقدمه لمحكمة الجنايات بسبب كاب للإمام بتهمة سب الذات الملكية ولكن برأته المحكمة، وقدمه للمحاكمة متهما إياه بالكفر زورا وافتراء وبرأته المحكمة أيضا.
• ولما مات ملك إنجلترا قال الإمام أبو العزائم على الملأ: ملك أخذ عز قومه وولى، ولما مات الملك فؤاد قال الإمام: ملك أخذ ذل قومه وولي.

الدرع الواقي بين جماعة الخلافة الإسلامية وبين الملك فؤاد والاستعمار:
كان الملك فؤاد لا يستطيع أن يقف في وجه الأمير عمر طوسون، فقد كان يعمل لـه ألف حساب، كما كانت إنجلترا نفسها تتحاشى الاصطدام به، فسخره الله للإمام أبي العزائم ليكون درعا واقيا لجماعة الخلافة من بطش هاتين القوتين.
وقد أثارت الصحف ضجة مفتعلة ضد جماعة الخلافة التي يرأسها الإمام، وهاجمه بعض الكتاب، ولفتوا نظر الحكومة إلى أن موضوع الخلافة يعتبر من النظام العام للدولة فلا يجوز أن يتولى الاتصال فيه والعمل لـه شخص معين أو جماعة بعينها، وحرضوا السلطات على الوقوف ضد جماعة الخلافة.

وقد نشرت جمعية "تضامن العلماء بمصر" مقالا بجريدة الأهرام بعددها الصادر في 16 إبريل سنة 1924م يتضمن هذا المعنى الذي أشار إليه أحد كبار الكتاب من قبل تحت عنوان "الدين والخلافة والسياسة" فما كان من الأمير عمر طوسون إلا أن بادر بالرد على مقال الجمعية وذلك بجريدة الأهرام 21 إبريل سنة 1924م وجاء فيه: "إن مسألة الخلافة لا تخص بلدا إسلاميا دون بلد آخر، ولا هيئة رسمية أو غير رسمية، وخصوصا وأن جماعة الخلافة بوادي النيل أهابت منذ نشأتها بالحكومة التي تتولى هذا الموضوع الخطير على الصعيد الرسمي، ولكنها تقاعست لحاجة في نفسها لتعمل لها بطرق أخرى، ولم تولي الموضوع أي اهتمام إلا عندما وجدت أن الدعوة على الصعيد الأهلي ستؤثر في اتجاهاتها الخاصة، ومن ثم فإذا كل مسلم يعتبر واقفا على ثغر من ثغور الإسلام ومسئول عنه"
وإزاء هذا الحرج الذي وضع الأمير فيه جميع الهيئات الرسمية المسئولة، بعثت جمعية تضامن العلماء مندوبها إلى الأمير للاعتذار.
وقد أرسلت هذه الجمعية هذا الرد الغامض إلى جريدة النظام بعددها رقم 1325م الصادر بتاريخ 22 إبريل 1924م تحت عنوان : مسألة الخلافة ورأي سمو الأمير طوسون:
"قرأت بأهرام يوم الاثنين 21 إبريل سنة 1924م خطابا موجها إلى جمعية تضامن العلماء على لسان صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون متضمنا رأي سموه حول مقالنا الذي نشرناه بأهرام الأربعاء 16 إبريل 1924م بعنوان : (الدين والسياسة والخلافة). وإذا كان سماه يرى أن الخلافة كما قال لا تخص بلدا إسلاميا دون بلد، ولا هيئة رسمية أو غير رسمية، فإني مع سموه أرى هذا الرأي، وهو لا يتنافى مع العرف والمألوف من أن الرسميات في الأمم والحكومات قد اعتبروها من النظام العام حواجز وفوارق بين الفوضى وحرمة القانون لهذه الحرمة وذلك النظام، ولو تريث سموه ووقف مستطلعا رأي الحكومة في عقد مؤتمر الخلافة. أما مشيخة الأزهر أصدرت قرارها في شأن الخلافة منفردة عن العالم الإسلامي فلها في ذلك شفيع من أنواع ثلاث:
أولا: ما وجهه الناس على سكونها من العتب والنقد.
ثانيا: ما ورد على المشيخة من العالم الإسلامي طبقا للاستفتاء.
ثالثا: ما جرت عليه السنة في جميع المناسبات.

وفي حوار صحفي أجراه محرر جريدة الوطنية مع الإمام السيد محمد ماضي أبي العزائم رئيس لجنة الخلافة المركزية الكبرى في مصر، وذلك بعددها رقم 246 الصـادر فـي يوم الاثنين 10 جمادى الآخرة 1343هـ الموافق 5يناير 1925م، كان الحوار الذي يخص موضوع الخلافة الإسلامية من هذه المقالة ما يلي:
سؤال : هل لمولاي الأستاذ غرض خاص في عمله للخلافة؟
جواب: لابد بكل عامل غرض يبعثه على العمل وإلا كان عابثا، والغرض من تلك النهضة يقظة المجتمع الإسلامي لتشكيل لجان تمهد السبل لتكوين مؤتمر إسلامي عام يكون لـه الكلمة في اختيار الخليفة والقيام بما يلزم الخلافة، لأن الخلافة منصب نبوي، لا دين ولا دنيا إلا به، وكل مسلم متعين عليه المسارعة إلى هذا العمل، وحضرتكم تعلمون أن الأمة تنال بالخليفة الممثل لمقام النبوة مجدها الذي كان لسلفنا الصالح من التمكن في الأرض بالحق، ومن نيل الحرية والاستقلال، والسلامة من التفرقة وإهراق الدم، ومن تسليط العدو علينا.
سؤال: هل للأستاذ نظر خاص في تعيين شخص معين؟
جواب: إن العامل لله ولخير الأمة يجب أن تضمحل في نظره أغراضه الشخصية، وأن تتضاءل أمامه العواطف مهما اقتضته الشئون، وينبغي أن يكون الحق أحب إليه من كل ما سواه، والحق الذي لا مراء فيه أن تكون الكلمة العليا للمجتمع الإسلامي الذي يمثله المؤتمر. ومثلي بعد هذا السن وبعد تلك المصائب التي أصابت المجتمع الإسلامي ينبغي أن يكون فرحة بالحق ورغبته في الخير العام، على أني لا أبرئ نفسي من أن أتمنى أن يقيم الله للأمة خليفة مجملا بجمال النبوة علما وخلقا في أمة حرة مستقلة ذات طول وحول يهابها الأعداء ويرجوها الأدواء.
سؤال: ما رأي الأستاذ في نتيجة النهضة للخلافة؟
جواب: (هنا سكنت حتى ظننت أنه لا يتكلم، ثم التفت إلى مبتسما وقال) المسلون لا غنى لهم عن خليفة يلم شعثهم ، ويقيم لهم حدود دينهم ، وينقذ أحكام ربهم ، ويدفع عنهم ظلم المستعمرين وسلطة المستعبدين، وإن ما ألم بالشرق وحل به أعراض مرض فقد الخليفة بمعناه، وإن ما أجده في نفسي في هذا الشأن يجده كل مسلم بل ويجده أهل الذمة في الشرق، والذي اعتقده أن الغاء دولة الترك الخلافة خير عظيم للمسلمين، فقد أيقظتهم تلك الحادثة خصوصا وقد اشتد ظلم المستعمرين، وقد أبى خيرة الصحابة أن يشتغلوا بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعينوا الخليفة. ويظهر لي أن الله تعالى يريد أن يعيد الخلافة وليس أهلا لها، وأعان سبحانه الترك على إلغائها، وسيكون للخلافة شأن عظيم إن شاء الله.
سؤال: ما حكم المسلمين الذين يبايعون الخليفة على الطاعة ويعجزون- لسبب وجود بلادهم تحت حكم دولة أجنبية- عن طاعته والإذعان لأمره ونهيه، ويعجز هو عن إرغامهم على الطاعة أو على تحريرهم من السلطة الأجنبية المتغلبة عليهم ليكونوا تحت طاعته ؟ وما فائدة مبايعتهم لـه والحالة كما ترون حقيقتها؟
جواب: إن الله تعالى يقول (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)، وقد تفضل سبحانه فجعل في كل زمان رجالا يستنبطون الحكم من الشريعة على كل حدث لم يسبق لـه نظير فتقضي فيه أئمة السلف الصالح، قال تعالى(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء: من الآية83)، وأولى الأمر هم العلماء ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وسع الله لنا عند الضرورة.
وإني قد بينت في تقريري الذي سيرفع للمؤتمر البيان الذي يلزم للأمم الإسلامية المحتلة من جهة ما يتعلق بشئونهم الدينية، وإني على يقين أن الدول المتسلطة لا تقوى على رد الفعل إذا هي صادمتنا في ديننا، وحرية الأديان مقدسة، فإقامة شعائر الدين وتولية الأئمة والقضاة الشرعيين والتعليم الديني في المعاهد منوط بالخليفة أين كان.
وحضرتكم تعملون أن دول أوربا لم تتدخل في الشئون الدينية بصفة رسمية، وإن كنا لا نجهل تدخلها بانتشار البعثات الدينية في الشرق تحت ستار حرية الأديان، والأمم المتسلط عليها الأجنبي لا تحتاج إلى قوة تقهرها على طاعة الخليفة لأن روح الدين والعقيدة يجعلان الأمة مطيعة للخليفة فيما ينفذه عليها من أحكام الدين بواسطة الأئمة والقضاة والعلماء، والخليفة إنما ينفذ أحكام الدين فقط، والأمم المتغلبة يسرها جدا محو الفتن والهرج والمرج حتى تنال بغيتها من نشر تجارتها وصناعاتها، وإذا كان الخليفة المنتخب يعجز الآن عن تحرير الأمم الإسلامية من سلطة الأجانب والإنسان ديني بالطبع، فقريبا يصبح أهل أوروبا وأمريكا مسلمين لأن الإسلام دين العلم والعمل.
سؤال: إذا تعذر وجود الملك المسلم الذي يستطيع أن يبسط ظل سلطانه على كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى يبايعه المسلمون وتجب عليهم طاعته، ألا ترى أن يسعى مسلمو كل مملكة محكومة بدولة أجنبية للاستقلال بأوقافهم وقضائهم الشرعي ومساجدهم وكل أمورهم الدينية وأن يجعلوها جميعها تحت سلطة الخليفة الذي يتولى تنصيب القضاة الشرعيين والمفتيين وأئمة المساجد ونظار الأوقاف وإدارة المعاهد الدينية الإسلامية، فيكون لـه على كافة المسلمين السلطة الروحية إذا تعذر عليه نيل السلطتين الدينية والدنيوية عليهم بسب وجودهم تحت حكم دولة أجنبية؟
جواب: الجواب على هذا السؤال يؤخذ ضمنا من الإجابة السابقة، ولما كان المؤتمر هم رجال منتخبون من جميع الدول الإسلامية فسيكون بحثه في جميع الشئون المتعلقة بالأمم الإسلامية من جهة الخلافة التي تمثل النبوة وبها قوام الدنيا والدين، وسيكون للحكم الوجودي قسط عظيم من قراراته.
واعتقادي أن المجتمع الإسلامي يحترم وينفذ قرار المؤتمر بكل الوسائل المشروعة، وكل الدول المتغلبة على الدول الإسلامية تكره أن تقف أمام أربعمائة مليون مسلم ومثلهم من الشرقيين يتحدون بإخوانهم المسلمين، لأن الإسلام أنزل غير المسلم من أهل الذمة منزلة المسلمين احتراما ومعاملة وحقوقا، فلا ترى شرقيا في أي أمة من الأمم الإسلامية إلا ويرى المسلم أخاه في المعاملة والمساواة والحرية، ويرى الأجنبي عن الشرق يحتقر الشرق وأهله ويسلب منه مرافق الحياة. والشرق كله تجمعه قومية واحدة والإسلام يؤيد تلك الجامعة، ولولا ذلك لما وجد بين المسلمين أقلية من النصارى واليهود متمتعين بكل الحقوق: يقف اليهودي مع الخليفة الأعظم- سيدنا على بن أبي طالب- أمام القاضي، وقد وقف هارون الرشيد أمام القاضي أبي يوسف يخاصمه يهودي فحكم بالعدل، ووقف رجال من الأنصار يخاصمون يهوديا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأ القرآن اليهودي وحكم على المسلم الأنصاري ومعه عصبة من الأنصار، وأمر أمير المؤمنين عمر رجلا قبطيا فقيرا أن يلطم أمير مصر وفاتحها- عمرو بن العاص- على وجهه يوم الحج الأكبر- والحجة قائمة والحق أبلج والباطل لجلج.
أما تعيين مكان المؤتمر فإنه سيكون بقرار من جميع اللجان التي شكلت في مصر والهند ونجد وتونس وغيرها من البلدان الإسلامية، وهذا المكان الذي لم يعين بعد يجب أن يكون في أرض حرة مستقلة تضمن حكومتها حفظ كرامة المؤتمر وإطلاق الحرية لـه في تقرير ما لابد منه، ولابد أن يكون في المؤتمر ممثلون لكل أمة من الأمم الإسلامية، لا فرق بين الأمم المستضعفة والمستقلة، وقد ورد الينا من أكثر اللجان قرارات استحسان عقد المؤتمر في مكة إجابة لدعوة عبد العزيز آل سعود سلطان نجد وملحقاتها، وكلفوني بأن أنوب عنهم في عمل ما يلزم من إعداد الوفد الممثل لهم ووضع ما لابد من وضعه ليعرض على المؤتمر، فشكرا لله على حسن ثقتهم بي، وسألت الله تعالى أن يعيننا جميعا بعنايته الصمدانية على العمل بمحابه ومراضيه إنه مجيب الدعاء.
وأخبرني صديق لي من أمراء الأسرة المالكة المحبوبين لجلالة الملك المقربين منه أن جلالة ملك مصر لا يرغب في الخلافة ولا يسعى لها، وعدم رغبة جلالته في الخلافة في نظري كعدم رغبة دولة الغازي رئيس الجمهورية التركية، وامتناعها عن قبول الخلافة لا يمنع المؤتمر أن ينتخب من يراه أولى بالخلافة وينفذ قراره بالوسائل المشروعة.

ونشرت للإمام جريدة الوطن في عددها رقم 9055 والصادر بتاريخ 24 شعبان 1343هـ الموافق 9 مارس 1925م مقالة للإمام بعنوان:
الخلافة والحرمان الشريفان- ما يخص موضوع الخلافة ما يلي:
"مضى على المسلمين زمن احتجبت فيه عنهم أنوار الخلافة العظمى حتى اكنت لا تذكر إلا على المنابر يوم الجمعة فيسمعها المصلون سماع معتاد لا يحس بقوة تأثيرها، وبلغ التساهل بهذا المنصب النبوي أن صار الخليفة يسمى سلطان آل عثمان تهاونا بحقوقها وجهلا بتفسيرها، أنتج هذا التهاون ضعفا في قوة الرابطة أدى إلى أن صار المسلمون يعينون الأجانب على الخليفة وأنصاره نسيانا لحقوق هذا المقام النبوي أو تناسيا، فلما أيد الله رجال الترك ونصرهم بنصره على أعدائهم، أدركوا أن هذا الاسم هو على غير مسمى ويتعين أن يعاد إلى ما كان عليه أو يلغي، وإعادته إلى ما كان عليه لا يكون بأمة واحدة بل بالمجتمع الإسلامي، فألغوا الخلافة حكما منهم على أنفسهم، وخلعوا الخليفة من بينهم، وكأنهم يقولون للمجتمع الإسلامي هذه بضاعتكم ردت إليكم فاعملوا إنا معكم عاملون.
قدر سبحانه هذا الأمر ليظهر شأنا من شئونه هو إعادة الخلافة إلى ما كانت عليه، دليل ذلك يقظة المسلمين في جميع أقطار الأرض وقيام أهل التقوى والعقل منهم للعمل في شأن الخلافة والحرمين الشريفين ، أما الخلافة فإن المسلمين جميعا يرونها المثل الأعلى للنبوة وأنه لا دين ولا دنيا إلا بها خصوصا في هذا العصر الذي تفرقت فيه الأمة أيدي سبأ بفتن أوربا وتدخلها في الشئون الدينية، عرقلة لمساعي العاملين للخلافة ومساعدة للمبشرين، وذلك مقرر لدينا جميعا، واعتقادنا أن ما نشره المقطم عن منع الإنجليز مؤتمر الخلافة ببنغال وملبار عن مواصلة العمل من هذا القبيل، مع أن تعيين الخليفة بمعناه خير عام للشرق والغرب كما قررنا في مقالاتنا السابقة، والمسلمون جميعا يرون أن تعيين الخليفة واجب ديني بالإجماع لإقامة الشعائر والحدود ودفع المتلصصة والمتغلبة والظلم عن الشرق بأجمعه".

وكان الإمام قد أرسل خطابا إلى الملك عبد العزيز آل سعود "1925م-1343هـ" يشير إلى موضوع الخلافة الإسلامية والى أعمال الملك فؤاد لترشيح نفسه خليفة عن المسلمين وهذا جزء منه:
".... ولولا وجود المنافقين بيننا لما أصبح في الشرق مستعمر، هذا وإني منذ ألغى الترك الخلافة وخلعوا الخليفة وأنا والحمد لله أعمل لتقوية روابط الإخاء بين الدول الإسلامية مع ما ألاقيه من حرب المنافقين، وكنت أحب أن يكون المؤتمر الإسلامي في أنقرة، حتى أظهركم الله وأكرم بكم مكة وأعزها وطهرها من أهل الإلحاد والظلم في الحرم..
... وقد كان بعض العمال والموظفين في مصر يعملون في الخلافة لشخص معين حتى أفسدوا على الأمم عقائدها، فاتحدت بهم جمعية الخلافة في الهند، فأسرعت وبينت لإخواني في الله: شوكت على والدكتور أجمل خان والأستاذ الأنصاري وكفاية الله وغيرهم حقيقة الأمر، فرفضوا اتحادهم بعلماء الأزهر الذين توجهوا إلى الحجاز، فكتبت لأخي الشيخ عبد الله بن سالم كبير علماء نجد، فشرح الله صدره وكتب لي بما طمأن قلبي، وإني الآن مع أهل الإيمان والتقوى من المصريين والهنود وأنصار الحق بنجد وجاوا والبوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا وسومطرة وغيرهم، بل وجميع الأمم يرون العمل معنا ليكون المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة".

وقد تلقى الإمام الرد التالي من الملك عبد العزيز 1925- 1343هـ هذا نصه:
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى جناب الأجل المكرم فضيلة السيد محمد ماضي أبو العزائم سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله على الدوام..
ثم ورد الينا كتابكم المؤرخ في 15 يناير الماضي، وأسرتنا أخباركم، وما ذكرتم صار عندنا معلوما خصوصا ما ذكرتم من نصائحكم الثمينة الخالصة جعلناها على الخاطر كذلك دفاعا على الحق وأهله، هذا أقل ما نؤمله من أمثال فضيلتكم لازلتم موفقين لكل خير، وأني أحفظ لكم هذا العمل الطيب مع الشكر الخالص، وستحفظ لكم عندنا أجمل ذكرى، وبحول الله إن الأمور ستكون وفق ما يرضاه كل مخلص لله ورسوله، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه وكتابه ويعلي كلمته ويجعلنا من أنصاره، والأمل ألا تنقطع عنا كتبكم المفيدة والحاوية لهذه المعاني الطيبة.. هذا ما لزم بيانه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

انعقاد المؤتمر العام بمكة المكرمة:
ومنذ الإعلان عن إلغاء الخلافة الإسلامية، وبعد ذلك بعامين من العمل المضنى، أعلن الإمام عن موعد انعقاد مؤتمر الخلافة الإسلامية بمكة المكرمة في موسم حج عام 1344هـ وبالتحديد يوم 9 يونيو 1926بمكة المكرمة برئاسة الملك عبد العزيز آل سعود.
وكانت جماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل قد أعلنت قبل السفر إلى مكة المكرمة- وكما ذكر ذلك مرارا من قبل- عدم صلاحية مصر لانعقاد المؤتمر العام للخلافة بها للأسباب التي بينها سماحة السيد محمد ماضي أبو العزائم رئيس جماعة الخلافة الإسلامية بوادي النيل في قرارات اللجنة التنفيذية ومقالاته المنشورة في الصحف وأقره عليها العالم الإسلامي بأسره.
وكان عبد العزيز آل سعود ممن فكر أن يكون خليفة للمسلمين هو ملك مكة والمدينة الحجاز فهو في نظر نفسه أولى بها، ويؤيده في ذلك بعض قادة العرب وكذلك بريطانيا، والملك فؤاد يريدها أيضا لنفسه فهو ملك أقوى دولة عربية إسلامية وفيها الأزهر الشريف وفيها العلماء وتؤيده في ذلك بريطانيا أيضا، فهي تؤيد هذا وذاك كل على حده، تريد من ذلك الوقيعة بين الدول الإسلامية، وكان هناك مرشحين من المغرب وسوريا والعراق وغيرهم كل منهم يريد أن يكون الخليفة.
وبمجرد صدور هذا الإعلان أعلن الملك فؤاد عن مقاطعته للمؤتمر منذ بدء انعقاده، ظنا منه أنه هذا يعرقل سيره ويعرضه للفشل، ولكن الصحافة المصرية بعثت بمندوبيها لحضور المؤتمر، وخاصة جريدتي الأهرام والأخبار التي مثلها الأستاذ الكبير أمين الرافعي. حضر الإمام هذا المؤتمر بصفة شعبية لا بصفة رسمية، فقد أقامه الإخوان في البلاد وآلاف مؤلفة من الناس، وكان معه توقيعات من العمد والمشايخ والأعيان والموظفين تفيد بتوكيل الإمام أبي العزائم أن يكون ممثلا للشعب المصري في مؤتمر الخلافة الإسلامية، وكانت هذه الخلافة مقامة في مصر ولكن على المؤتمر العام وشعبية وليست رسمية.

خرج الإمام محرما بالحج من داره، ومن ورائه خمسمائة من خاصة أتباعه ومن يتقلدون مناصب عليا في مؤتمر الخلافة، فقد كانت مهمة دينية وسياسية.
وفي يوم 5 يونيو 1926م تم الاجتماع لأعضاء الوفود بمقر إقامة الإمام بمكة المكرمة للتعارف، وقد قام الإمام بذلك بنفسه، وفي يوم 6 يونيو كان الاجتماع أيضا بدار الإمام بعد صلاة العصر حيث افتتحت الجلسة بآيات من الذكر الحكيم. بعدها فسر الإمام للحاضرين ما قرأه القارئ، وكان المترجمون يترجمون إلى الإنجليزية هذا التفسير لعلماء الهند وجاوا، ونترك المجال لما ذكره محرر جريدة الأهرام:
ثم انتقل الشيخ إلى التكلم في مسألة المؤتمر، وأدلى بآدابه الواجب اتباعها في أداء هذه المهمة الإسلامية باتحاد وتضامن، وأثنى كثيرا على ملك الحجاز، ثم تناقش الأعضاء اقتراحاته، وكان رد الشيخ بأنه يجب التكاتف لرفعة الإسلام والمسلمين وحفظ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغرض الأسمي.

وفي يوم 9 يونيو وهو يوم افتتاح أولى جلسات المؤتمر،وبعد أن قرأ ملك الحجاز خطابه، قال محرر الأهرام في مقالته: "وتم في الحال انتخاب الرئيس ونائبين للرئيس ، فأسفر ذلك عن انتخاب شريف باشا عدنان ونائبيه سليمان العدوي الهندي، وصفاء الدين أفندي من مسلمي روسيا، وقد قرأ الشيخ حافظ وهبة أهم الأعمال المعروضة وأخذ الرأي عليها باسم الملك عبد العزيز آل سعود وغايته:
1- تعارف المسلمين بعضهم مع بعض وتوحيد كلمتهم تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات: من الآية10).
2- النظر والسعي في ترقية شئون المسلمين اجتماعيا وأدبيا واقتصاديا.
3- النظر والسعي في توطيد الأمن في الأراضي المقدسة والعمل على تعميم الوسائل الصحية وتسهيل المواصلات وتسهيل أمور الحج وإزالة كل عقبة في سبيل أداء الفريضة وضمان سلامة الحجاز وحفظ حقوقه.
4- يكون انعقاد المؤتمر في مكة كل عام في موسم الحج، فإذا تعذر ذلك فيكون في بلد مستقل، وإذا تعذر ذلك فيكون كما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: من الآية16).
ولم يشر الملك عبد العزيز لا من قريب ولا من بعيد عن الهدف الذي انعقد من أجله هذا المؤتمر، كذلك الشيخ حافظ وهبة وزيره تلا النقاط الأربعة السابقة التي ليس فيها أي إشارة إلى موضوع البحث، ألا وهو إلغاء الخلافة الإسلامية وضرورة إعادتها!!.

وبعد الاستراحة أحيط المجلس علما بأن مصر ليست ممثلة تمثيلا رسميا، ولكن المؤتمر اعتبر الشيخ محمد ماضي أبو العزائم رئيس جماعة الخلافة بوادي النيل حاضرا عنها.
وقد قدم الإمام للمؤتمر أربعة عشر اقتراحا لصالح الإسلام والمسلمين، وانتهت جلسات المؤتمر بالفشل رغم الجهود التي بذلها الإمام لإحياء الخلافة وإعادة منصبها لأن السياسة الاستعمارية كانت من وراء القصد.

والملاحظ أن المؤتمر الذي ظل المسلمون يعملون لـه لمدة عامين بهمة ونشاط لا تعرفان الكلل، ورغم ما تعرض لـه زعماؤهم وقادتهم من كيد المتجبرين وعسف المحتلين، والذي كان الغرض الأساسي من انعقاده النظر في موضوع الخلافة وتعيين الخليفة.. قد انصرف منذ اللحظة الأولى التى ألقى فيها الملك عبد العزيز خطابه عن الهدف الأسمى إلى مسائل فرعية بحتة تاركة مسألة الخلافة!! وقد بدأ الانقسام في صفوفه منذ الجلسة الأولى عندما تغيب رئيسه عن الحضور ثم فترت جلساته شيئا فشيئا، وما هي إلا بفعل القوى المعادية لائتلاف الشعوب الإسلامية.
ولم يبت في شأنه الخلافة ومقرها ولا الخليفة والصفات الدينية والزمانية التي يجب أن تتوفر فيه، ولم يصدر أي قرار يتعلق بهذا الشأن حتى الآن.
الشيخ "محمد رشيد رضا" صاحب "المنار" في مؤتمر الخلافة:
وقد ذكر شهود العيان لهذا المؤتمر أنه قد قام كل إنسان يشيد بما يراه في إمامه أو زعيمه الذي يرشحه لهذا المنصب، إلى أن جاء دور الإمام فقام ليشرح موقف الخلافة وصفات الخليفة وابتدأ خطبته بمقدمة، وكان إذا تكلم يجعل بين المقدمة والخطبة لحظة سكون اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجعل بين الآية والآية سكتة، وفي هذه اللحظة قام السيد محمد رشيد رضا- صاحب تفسير المنار- وكان من المؤيدين للملك عبد العزيز وقال: بسم الله.. وتحدث عن الملك بدون أن يقدمه أحد، يقول الشيخ "أحمد سعد العقاد" وكان من الملازمين للإمام: ما رفعت صوتي قط في حضرة إمامي ولكنه هذه هي المرة الأولى التي رفعت فيها صوتي في حضرته ولكن في الله ورسوله فقلت: يا سيد محمد رشيد رضا: إن الإمام لم يكمل كلمته وأنت الآن عارضته وأظن أن أي إنسان لـه كلمته والرجل لم يقل إلا المقدمة وتعتبر هذه مغالطة، فأومأ الإمام للشيخ العقاد بالسكوت فأكمل السيد محمد رشيد رضا كلامه، ثم بعد ذلك قام الإمام، وبنظرته الثاقبة أكمل بكلمات معدودة فقال: "لا أريد خليفة للمسلمين يضع الجندي البريطاني حذاءه فوق رقبته" إشارة إلى أن أي بلد مستعمر أو يوالي المستعمرين لا يصح أن تكون الخلافة منها وفيها.

وجاء يوم عرفة واجتمعت الوفود في مسجد نمرة واتفقوا على أن يلقى خطبة الجمعة الإمام أبو العزائم ، والتمسوا ذلك من الملك عبد العزيز فأجاب ملتمسهم، فقال لهم الإمام: "هذا مقام لا ينبغي إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لخليفته" فارتفعت أصواتهم جميعا بقولهم: "قد أقمناك ورضيناك خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فخطب الإمام خطبة تفوق وصف الواصف، وصلوا خلفه الظهر والعصر جمع تقديم كما هي السنة.

موقف مشرف للإمام أبو العزائم مع الملك عبد العزيز آل سعود حول مقامات أهل البيت:
ولقد كانت هناك بعض المضايقات والاستفزازات من الملك عبد العزيز آل سعود بسبب أفكاره الوهابية، دعا الملك عبد العزيز الوفود والحاضرين إلى مأدبة الغذاء، وكان الطباخ قد وضع الأزر على هيئة قباب كبيرة، وكان الإمام يجلس قريبا من الملك عبد العزيز ففهم هذه الإشارة، فأراد الإمام أن يملح للملك، فضرب يده في القبة وقال هذه القباب هي التي يجب أن تهدم وليست قباب سيدنا مالك والسيدة خديجة وأولاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فغضب الملك عبد العزيز وقال: أعجب لكم أيها المصريون، تقدسون الطين وتكفرون برب العالمين، فكبر من مع الملك تكبيرة ظنا بأن ملكهم قد انتصر بكلمته هذه، فقال الإمام في هدوء: ألم تكن الصفا والمروة من شعائر الله وهي من الطين؟ فألجم الرجل.

وحدث أن أرسل الملك عبد العزيز آل سعود إلى الإمام أحد كبار علمائه الموثوق بهم عنده- وكان اسمه مدثر- وقال لـه: اذهب إلى هذا الرجل "وجدد لـه إيمانه" لأنه صوفي، وكان الإمام مضجعا على أريكة فقرب الشيخ العقاد الشيخ مدثر من الإمام، فرحب به وطلب لـه كرسيا وقال لـه: مرحبا بكبير العلماء مرحبا بمفتي البلاد مرحبا بالشيخ مدثر، إني أشعر بألم في قلبي فأرجو أن تضع يدك على قلبي وتقول لا إله إلا الله، لعل الله يخفف ألمي، فجلس الرجل ووضع يده فوق قلب الإمام وأراد النطق بالشهادة فلم يقل إلا : لا لا لا لا لا .. والتجم لسانه ولم ينطق بالكلمة، ثم بكى وقال: سامحني أيها الشيخ ، جئتك مغترا، وأرجو يا إمام أن تدعو الله لي أن يثبت إيماني وأن يثبتني على هذه الكلمة، فدعا لـه الإمام "وجدد لـه إيمانه"، وجرى ونسى حذاءه وصار يتخبط في مشيه وجعل يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

العمل على انعقاد مؤتمر آخر للخلافة الإسلامية بالقدس:
وبعد عودة الإمام من المؤتمر إلى مصر جدد الاتصال بزعماء وملوك البلاد الإسلامية وخصوصا رجال الهند، كما جدد الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي آخر بمدينة القدس وحددوا لذلك يوم 31 ديسمبر 1931م، وحاولت السلطات البريطانية إفساد هذا المؤتمر ومنعت الحكومة المصرية إعطاء تأشيرة خروج للإمام، كما رفضت سلطات الانتداب في فلسطين المساح لـه بالدخول، وأراد أن يحصل على ترخيص بمقابلة زعماء الهند في ميناء السويس بسبب وجودهم على الباخرة المتجهة إلى لندن لحضورهم مؤتمرا مع الحكومة البريطانية ثم توجههم بعد ذلك إلى حيفا، فمنعت الحكومة الباخرة من الوقوف في ميناء بور توفيق وجعلت تموين الباخرة بالفحم من ميناء بورسعيد ، وإزاء ذلك لجأ إلى حيلة نجح من خلالها في مقابلة الوفود المشاركة وكان على رأسها أمين الحسين مفتي فلسطين والأمير شوكت على ، والأمير محمد على، والدكتور محمد إقبال، فقد أوفد ولده السيد محمد الحسن بسيارة الإمام الخاصة في اتجاه السويس تضليلا للسلطات التي ظنت أن الإمام هو الذي بالسيارة، ثم استقل الإمام سيارة أجرة ذهبت به ليلا إلى بورسعيد حيث قضى الليل في ضيافة نقيب الإشراف الشيخ محمد الصياد متعهد تموين السفينة بالفحومات الذي عمل لـه ترتيبا خاصا تمكن الإمام به من دخول الميناء والصعود على السفينة والاجتماع بزعماء الهند والتشار معهم في شئون المسلمين وعقد مؤتمر القدس، ولم تعرف السلطات ذلك إلا بعد رجوع الإمام للقاهرة.

وانعقد المؤتمر الإسلامي بالقدس، ولم تمثل فيه كل الوفود التي سبق أن مثلت في مؤتمر يونيو 1926م، فكان على رأسه الحاج أمين الحسيني مفتى فلسطين والأميران شوكت على ومحمد على والدكتور محمد إقبال، وحددت أهدافه منذ اليوم الأول للانعقاد فكانت:
أولا: التعاون الإسلامي في مختلف ميادين التعاون.
ثانيا: نشر الثقافة الإسلامية لتنوير المسلمين بما يجب عليهم نحو الأخذ بالعلوم الحديثة والمحافظة على تراثهم.
ثالثا: الدفاع عن الأماكن المقدسة بما فيها القدس الشريف.
رابعا: إنشاء جامعة إسلامية في القدس.
ولم يكن نصيب مؤتمر القدس في ديسمبر 1931م من النجاح أو الفشل بأقل من نصيب المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة في يونيو 1926م فكلا المؤتمرين أثرت فيه عوامل ذاتية نابعة من واقع العالم الإسلامي وحاضره من وجهة، ومن ألاعيب وكيد الاستعمار والصهيونية العالمية من جهة أخرى، فاصبحا بذلك حدثين تاريخيين من حيث أنهما أول المؤتمرات الإسلامية في العصر الحديث.

ولنا أن نبلور نتائج هذين المؤتمرين فيما يلي:
1- إن موضوع الخلافة كان من الأهمية بمكان، ويتضح من ذلك اهتمام الرأي العام الإسلامي به فترة تزيد على نصف القر،ز
2- إن جهودا فردية من رجال مؤمنين بربهم مع قلة عددهم وعددهم استطاعت أن توقف أطماع ملك مصر وأن تشل حركة المؤتمر المأجور ومن ورائه الاستعمار والحكومة، فلقد استطاع الإمام أن يكتل الزعماء المسلمين في آسيا وأفريقيا ضد أطماع فؤاد، وأن يكشف حقيقة نواياه، وأن يشككهم في مخططاته.
3- إن تفرق أمراء وقادة المسلمين كان السبب الأساسي في تأثير المستعمرين عليهم وفي حملهم على عدم التعرض لمسألة الخلافة، لأنهم يرون فيها القوة المعنوية لاتحاد الأمم الإسلامية ضد مصالحهم التي تتلخص في إبقاء الشعوب الإسلامية في حالة جهل وتخلف لضمان تبعيتهم ولكونهم قوة بشرية واقتصادية هامة لهم.
4- إنه لو كتب لـهذه المؤتمرات النجاح لتغير وجه التاريخ ولكان للمسلمين اليوم قوة وتأثير في الموازين الدولة وهم ثلث سكان العالم حتى منتصف هذا القرن.
5- على أن هذين المؤتمرين كان لهما دوي هائل وأهمية تاريخية إذا قيسا بأحوال العالم الإسلامي في الربع الأول من القرن العشرين حيث كانت البلاد الإسلامية جميعها تحت الاحتلال الأوربي.
وسوف يذكر التاريخ للإمام المجدد السيد محمد ماضي أبي العزائم خطواته البناءة نحو جمع الأمة الإسلامية والعمل على اتحادها ووحدتها في صعيد واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا