الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولة لفك إشتباك.. مشهد برجوازي يريد التعقيد!

محمد البسفي

2016 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


في البداية.. يعلن النظام الحاكم عن توقيع إتفاقية "دولية" تتنازل بموجبها الدولة المصرية عن أحقيتها في إمتلاكها لجزيرتين حدوديتين لصالح المملكة السعودية، خلال إحتفاء شبه "إسطوري" بزيارة عاهل الأخيرة للقاهرة!
أو لإنشاد الدقة.. نرصد بأسلوب الخبريات الصحافية.. صباح السابع من إبريل تعلننا "المانشيتات" وصول "خادم الحرمين الشريفين" مصر ظهر نفس اليوم في زيارة رسمية تستغرق 5 أيام. بعد الظهر بدقائق تعلن إدارة جامعة القاهرة بأنها سوف تمنحه الدكتوراة الفخرية خلال زيارته لمصر. في اليوم التالي 8 إبريل ننشغل طوال اليوم بفعاليات توقيع رئيس الجمهورية المصري والعاهل السعودي 16 إتفاقية بعدة مجالات، يتخللها منح الرئيس المصري "قلادة النيل" للعاهل السعودي، والذي يعلن عن الإتفاق علي إنشاء جسر بري يربط بين مصر والسعودية، ليلتقي بعد ذلك بالبابا تواضروس آنبا الكرازة المرقسية في لقاء – وصفته جميع وسائل الإعلام بأنه – الأول من نوعه. بعد أقل من 20 ساعة تبادر الحكومة المصرية بإعلان وقوع جزيرتي "صنافير وتيران" داخل السعودية بعد الرسم الفني للحدود علي الرأي العام. في اليوم التالي 10 إبريل يصل العاهل السعودي لمقر البرلمان المصري لإلقاء كلمة موجهة لـ"الشعب المصري" و"يبشره" بإنشاء منطقة تجارية حرة بشمال سيناء، ثم يضع حجر الأساس لمشروع تطوير مستشفي قصر العيني بقرض سعودي أعلن بأنه يقدر بـ120 مليون دولار.
وبعد عودة العاهل السعودي لبلاده، يجتمع الرئيس المصري مع أبرز عناصر "نخبته" بهدف إعلامهم أن جميع وثائق أجهزة النظام السيادية "الخارجية والدفاع والمخابرات" أكدت علي تبعية الجزر إلي السعودية، ملوحاً بإبهام التحذير من "فتح هذا الموضوع مرة آخري"!
ولكن.. كان من المؤكد تصعيد الموقف لأكثر من مجرد أصداء علي الزيارة "الميمونة" وما تمخض عنها، علي الجبهة "المقابلة" من الشارع السياسي. فسرعان ما أنتقل غليان قوي و"نخب" ذلك الشارع المعارض من الحسابات الشخصية والتجمعات الإفتراضية للفيس بوك إلي الأرض، مستغلة بالطبع "القواعد" الثورية وقواها الفاعلة مستندة لعدالة القضية وبداهية تجريم التفريط في الأرض كمكون أساسي من ركائز مفاهيم "الوطنية". وكانت النتيجة خروج الآلاف من الجماهير المتظاهرة يوم 15 إبريل في أكثر من ستة محافظات متفرقة إعتراضاً ورفضاً لإتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية/السعودية وتسليم الجزيريتين صنافير وتيران للجانب السعودي.
وبالطبع قمعها النظام الحاكم بالسلاح والإعتقال – ولكن بحذر من يحرص علي إبعاد الشارع "الشعبي" عن نظيره "السياسي" – برغم أن تلك الآلاف كانت كفيلة بكسر الحاجز المعنوي المرجو من قوانين التظاهر ومكافحة الإرهاب، ولكن ربما القصور "العقلي" لجهاز القمع المباشر ألجأ الشرطة لإنتهاج مبدأ مصري قديم "أضرب المربوط، يخشاك السائب"، فكانت النية إخلاء سبيل المعتقلين صبيحة اليوم التالي، لولا أجهزة آخري "خلقت" مواطنة شريفة – شابة صغيرة من بنات الطبقة العليا "إبنة الناس" – سرعان ما تقدمت ببلاغ رسمي لجهات التحقيق يثبت تخريب المتظاهرين لممتلكات عامة وخاصة، فأصبحوا "رسمياً" مثيري شغب ومخربين.
وتمر أيام غليان الشارع السياسي، محملة بأجواء التفاؤل بعودة "الثورة" وأجوائها المخملية من جديد، فوق صفحات وتجمعات المجتمعات "الإفتراضية"، للدرجة التي سولت لبعض الحسابات الشخصية والمجموعات المعبرة عن قوي سياسية أن "تغازل" القوات المسلحة وترسل لها الرسائل "المزهرة" بسؤال واحد: "هل ترضي المؤسسة العسكرية عن أفعال القيادة السياسية الحالية؟" (!)، بالإضافة – طبعاً – إلي قيام "بعض" الحسابات والمجموعات الإفتراضية أيضاً بالرد علي "تحية" جماعة الإخوان المسلمين – للهوجة الإعتراضية – بأحسن منها بإعادة تبني مبدأ "عدم الإقصاء للقوي الثورية" (!).
ويأتي يوم 20 إبريل عادياً.. إلا من تقرير خبري "هام" زفته إلينا أحد الصحف المستقلة يقر بعقد رئيس الجمهورية لإجتماع طارئ مع قيادات الملف الأمني أصدر خلاله قرار بمنع تكرار المشهد "الحاشد" الذي شهدته المحافظات منذ أيام سابقة، والمعني التطبيقي الوحيد لهذا القرار هو "ضرب المنبع".
وما هي إلا ساعات قليلة إلا وأختفي هذا التقرير الصحفي تماماً – في الطبعات اللاحقة من الصحيفة سواء إلكترونية أو ورقية – وظهر مكانه بيان المؤسسة الرئاسية الرسمي الذي أكد علي: "لا صحة لعقد الرئيس سلسلة لقاءات مع معاونيه ومسئولي الملف الأمني". والذي كان بمثابة صفير البدأ في تنفيذ خطة التجريف الحشدي من المنابع، فهبطت أفواج قوات الأمن مساء يوم الخميس 21 إبريل علي مقاهي وسط القاهرة وكافة التجمعات الشبابية للقبض علي جميع العناصر القاعدية الجاذبة للقوي السياسية والحركية المعارضة، دون القيادات – حتي أنه تم الإفراج عن أثنين من الصحافيين يعمل الأول منهم لحساب التليفزيون المصري الحكومي والآخر لحساب أحدي الفضائيات الكبري بعد دقائق من القبض عليهم بالخطأ ضمن أول مجموعة إعتقالات من مقهي "غزال" – وإمتدت موجة "السُعار" الأمني ليس للتوقيف وإعتقال الأفراد من الشوارع للإشتباه السياسي – التعبير المستحدث علي الرأي العام – فحسب، بل إمتدت إلي إعتقال جميع من يذكر مصرية الجزيرتين علي صفحات شبكة التواصل الإجتماعي وإقتحام المنازل لضبطهم!.. وتُصّاعد – بالتالي – الجبهة الآخري من رد فعلها.. دشن أكثر من 15 حزباً وحركة سياسية – خليطاً من اليسارية والليبرالية كالعادة – بالإضافة إلي 150 شخصية سياسية وعامة حملة "شعبية" تحت شعار "مصر مش للبيع"، جاءت بأبرز ثلاث مطالب سجلها بيانها الأول: "أولاً: رفض إتفاقية ترسيم الحدود والتنازل عن جزيرتين تيران وصنافير للملكة العربية السعودية، ثانياً: إدانة منطق التعتيم الذي أحاط بأمر يتعلق بجغرافيا البلاد وحدود الإقليم ومباغتة الشعب المصري بالقرار المنعدم، ثالثاً: رفض إمتداد منطق بيع الأصول العامة وإهدار الموارد إلي بيع أراضي الوطن..".
وأمام الصلف الغبائي – المعتاد – لنظام حكم الجنرالات.. من الطبيعي أن يشتعل الموقف أكثر خاصة أمام القمع الأمني الذي لم يقتصر علي ضرب جميع التظاهرات التي خرجت بالآلاف في أنحاء متفرقة من العاصمة والأقاليم، بالأسلحة والمطاردات الأمنية، ليس بغرض "فضها" ولكن بهدف "الترويع" بواسطة القبض علي جميع من بالشوارع التي تشهدها، بل إمتد إلي "إستئجار" بعض المواطنين – الذين تعمد إنتقائهم من "المسحوقين" – ليتحرشوا بالمتظاهرين/ات الذين إنتفضوا في وسط القاهرة يوم 25 إبريل، بكافة أنواع ومستويات التحرش، لدرجة التهليل بأعلام الدولة السعودية – التي تم توزيعها عليهم – والرقص بالأحذية العسكرية مربوطة فوق رؤوسهم في طقوس "كيدية" للمعارضين (!)، وفي جزء آخر من المشهد إخترقت أحدي المواطنات بسيارتها الخاصة صفوف المتظاهرين/ات في شارع المساحة بالدقي بقصد دهسهم(!).
وبمرور الوقت يبرز ويتكرر مشهد تحرش "المسحوقين" بجمهور المعترضين، خاصة علي سلالم نقابة الصحافيين "الحكومية"، بعد لجوء أثنين من الصحافيين إليها وإقتحام أفراد الأمن لها للقبض عليهم، لتثور أزمة جديدة، طرفيها النقابة بمواجهة وزارة الداخلية، بجوار الأزمة العامة للجزيرتين المصريتين، وعلي هامشهما تتجلي أزمة "الثوار" مع المسحوقين!

في سيناريوهات "خلق الفوضي".. وبرجوازية "ثوار"!

وكعادة أي حراك إحتجاجي – ولا أقول ثوري - ، تتضافر الأزمات مع المشاهد المتداخلة لتتشابك مع أسبابها وتتعقد خيوط النتائج الظاهرية بما يعيق الفهم.
في أحد مشاهد مسرحية الشاعر الفلسطيني الموهوب "معين بسيسو"، يصرخ قائد "ثورة الزنج" واصفاً الثورة في صيحة دالة: "ليست أبداً تلك الثمرة...
تتدلي من فرع الشجرة
تقطفها قبل يد السلطان الجائر...
يد الثائر.. يحلم أن يصبح سلطاناً آخر." (!)
وبإستدلال آخر، نجد الدكتور "غالي شكري" يحاول وصف ظاهرة مثل ظاهرتنا – الإعتراضية وليست الثورية - الآنية، في مؤلفه الذي أنتجه في بدايات تسعينيات القرن الماضي بعنوان موحي "ثقافة النظام العشوائي.. تكفير العقل وعقل التكفير"، قائلاً: "... إن التوجه العام للتعددية الفكرية والسياسية هو ترسيخ هذه الدجيموقراطية بما يرسخ آليات المجتمع المدني والدولة الوطنية المراد تحديثها بإتجاه التقدم والنهضة. بينما الذي حدث ويحدث أننا إنتقلنا من نظام الحزب الواحد إلي النظام العشوائي, فالمناطق السكانية الموصوفة بالعشوائية ليست أكثر من رمز متواضع لنظام إجتماعي وإقتصادي وثقافي كامل. في ظل هذا النظام ليس هناك إختراق من أحد لأحد, وإنما هناك بنية عشوائية لا تعرف الحدود بين الداخل والخارج ولا بين داخل وداخل أو بين خارج وخارج. ومن ثم فالجميع شركة قابضة علي خناق المجتمع دون ضوابط أو قيود علي حركة رأس المال الإقتصادي والثقافي والإجتماعي. ولأنه لابد من حراسة الكعكة المتعددة مصادر التمويل – النفطي أساساً – كانت المليشيات الخاصة ظاهرة طبيعية أياً كانت اللافتات: فبدءاً من حراسة الراقصة في "كباريه" إلي حراسة الباشا الجديد في شركة إلي حراسات التهريب والإختلاس والرشوة والمخدرات وتجارة السلاح وسرقة أموال البنوك وأراضي الدولة والإرهاب بأسم الدين, هناك مليشيات تُسقط الحواجز بين الشرعية واللاشرعية, لأنك تستطيع زيارة السجون لتعرف أن هناك عنبراً للقضاة وآخر لمدراء المصارف وثالث لبعض العاملين في أجهزة الشرطة ورابع لبعض نواب مجلس الشعب وخامس لبعض رؤساء الأحياء أو المدن, وهكذا تستطيع أيضاً زيارة بعض عواصم العالم لتصافح "كبار القوم" من الذين هربوا بأموالهم أو الذين يهربون الأموال والسلاح والرجال إلي الداخل. ليست هناك دولة داخل الدولة – كما يطلق علي جماعات الإرهاب – بل عدة دول داخل الدولة الواحدة. وهذا هو النظام العشوائي شركة واحدة من أطراف متعددة لكل منها مليشيا مالية وثقافية وعسكرية, فكان لابد من أن يكون العنف هو الطابع السائد لمثل هذا المجتمع, مجتمع الجريمة الشاذة من قبل الإرهاب وبعده, مجتمع الإدمان, مجتمع الإنفجار السكاني, مجتمع ما دون مستوي الفقر."(1).
وبرغم هذا التعقيد – النظري – الحادث في المشهد السياسي الراهن، تظل حكمة "الشيطان يسكن التفاصيل" هي سيدة موقف القياس لتحليل ورصد تلك الهوة العميقة بين التحرك الإحتجاجي السياسي والمسألة الإجتماعية المصرية الراهنة.
فعلي هامش أزمتي "تيران وصنافير" ونقابة الصحافيين اللاتي أثارتهما "النخب" الإحتجاجية، تتداعي مواقف وآراء تلك النخب البرجوازية حول "مجتمعهم" التي بلورتها أزمتهم الهامشية مع من أسموهم بـ"المواطنين الشرفاء".. تلك النخب، والتي وإن تبادلت مواقفها داخل لعبة الكراسي الموسيقية بين تياري "الليبرالي واليساري" ولكنها توحدت في تعاطيها البرجوازي الطبقي نحو مجتمعها..
تفور ثائرة إحتجاجاتهم "الوطنية" حول قضية الجزيرتين – التي لا شك في عدالتها بالطبع – مطالبين بإلغاء الإتفاقية الرسمية وتتحول إلي معركة "وثائقية" مع النظام، دون أن تلتفت وطنيتهم المزعومة تلك إلي كافة المعاهدات والإتفاقيات الدولية المهدرة للسيادة والكيان الوطني الحقيقي بدءاً من إتفاقيات "كامب ديفيد" والسلام والتعاهدات الإقتصادية والثقافية مع الكيان الصهيوني مثل "الكويز" وغيرها، وقريناتها الإقتصادية مع الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي لا تمثل إتفاقية الجزيتين إلا "واحدة" وأمتداد فرعي "طبيعي" لتلك المعاهدات التي كان مراجعتها وإلغائها من أهم مطالب وأهداف ثورة 25 يناير!
وبالطبع.. المطالبة بـ"إصلاح" فرع واحد من "كُلٍ" مهدر، لا يرتقي لمستوي "ثورة"(!)
وتأتي أزمة نقابة الصحافيين "الحكومية" علي نفس المستوي النخبوي.. والتي تمخضت كافة تفاصيلها وتداعياتها عن مطالب يمكن إيجازها في: "إقالة وزير الداخلية، والإفراج عن الصحافيين المسجونين في قضايا نشر، وأعتذار رئيس الجمهورية" دون أن تنسي النقابة تأكيدها علي أحترام "الكيان" الأمني للدولة وحرصها علي كافة قوانينها(2). ورغم تخلخل جبهة أعضاء تلك النقابة بسبب المطلب الأخير مما زاد من مدة "الشو" وأضفي التشويق علي "العرض" العام، إلا وقد أرادت – بفضل موقعها الوظيفي المهيمن علي إعلام المجتمع – تصدير أزمتها للرأي العام كمعركة نقابية دفاعاً عن إستقلاليتها وكرامة وحرية العاملين بالمهنة، غير ملتفتة إلي كينونتها كأحدي "مؤسسات" الدولة التي تُشّرع لها جميع سلطاتها – القضائية والتشريعية والتنفيذية – قوانين النقابة المنظمة وتحصنها دستورياً وتدعمها مادياً ولوجستياً، ويفتخر بهذه الكينونة "المميزة" جميع أعضائها. بل وتتناسي نقابة الصحافيين دورها شديد الأهمية في "تمرير" كافة القوانين الإستبدادية السالبة لأدني الحريات والحقوق، قانوني "تنظيم التظاهر ومكافحة الإرهاب" نموذجاً، سواء بالصمت النقابي المتواطؤ أو بحشد التأييد المجتمعي لها عن طريق التغييب والمغالطة عبر أعضائها في وسائل الإعلام، وكذا موقفها من النقابات الصحافية والإعلامية "المستقلة" الناشئة والتي تحاربها من منطلق كيانات "موازية" تنافسها علي مميزات تستقطعها من الدولة!.. بما يتعارض مع ما تصدره "دعائياً" من موقفها المدافع عن "الإستقلال" النقابي و"الحريات" العامة!
وبالطبع.. لا تلتفت نقابة الصحافيين "الحكومية" أيضاً، إلي حقيقة موقفها "النخبوي" العام في معركتها الأخيرة، والذي يتجلي في خوض "مؤسسة" داخلية لمعركة مع "دولة المؤسسات" الأم للحصول علي بعض المميزات الإضافية التي تُحصن أعضائها وتخلق لهم "مكانة إجتماعية" أعلي، تناقض – أيضاً – أهم مبادئ وأهداف ثورة 25 يناير في "المساواة" المجتمعية، وخلق كيانات نقابية حقيقية "مستقلة" عن مؤسسات الدولة تضمن سلامة العمل وحقوق العمالة والحفاظ علي المهنة وعدالة إجتماعية سوق العمل(!).
وسرعان ما صبت عناصر تلك المعارضة ومؤيديهم، سواء عبر تجمعاتهم الإفتراضية علي مواقع التواصل الإجتماعي أو في جلساتهم الواقعية، جام غضبهم علي رأس هؤلاء المأجورين الذين رقصوا بأعلام السعودية بالميادين وأعتدوا علي الصحافيين علي أبواب النقابة الحكومية، وأخذت ألسنة نير غضبهم تصيب هؤلاء دون تمييز "المسجل خطر" منهم أو الفقير المسحوق، بل طالت نيرانهم كافة أبناء "الطبقة الدنيا" التي صكوها بالخاتم البرجوازي "المزمن" بأنها أصل الشرور الإنسانية تاريخياً.
ومن العجيب أن تصدرت جبهة "ثوار الغضب" علي المسحوقين عناصر اليسار من الداعمين للقضيتين، وأنبري أغلبهم باكياً علي المشاعر "الوطنية" السامية التي لا تعرفها تلك الكائنات ومُنظّراً علي دنائة أخلاقهم العشوائية بالأصول النظرية العلمية الكلاسيكية.. فقد طالب أستاذاً جامعيٍ يساري – في مقالة قصيرة له – بتناول مسألة "المتظاهرين المصريين بالعلم السعودي" بالدرس والتحليل العلمي من متخصصين في علم الإجتماع متساءلاً: "إذ كيف يمكن لتزييف الوعي أن يخلق وطناً بديلاً داخل العقل الجمعي، حتي لو كان حجم هذا العقل محدوداً؟". كما قال صحفي يساري مخضرم آخر: "لفت انتباهي عددا من البوستات التي تحاول تبرير وضع بعض النسوة والفتيات والشباب لحذاء عسكري فوق رؤوسهم يوم 25 ابريل،.... اتركوا الشهداء أيها المفرطون في تراب الوطن، كفاكم ما فعلتم وتفعلون للحط من شأنه، باحتفالكم القبيح برفع العلم السعودي نكاية في مصر والمصريين، واحتفالا بالتنازل عن جزء عزيز منه، يا من جعلتم الحذاء العسكري فوق الرؤوس رمزا لكم.". بينما أنطلق "مثقف" يساري أيضاً باكياً الإحساس الوطني "الراقي" قائلاً: "... الاهانة والاحساس بيها ناتجة ان فريق من شعبنا استسهل فكرة التخلي عن وطنه وترابه وهتف ضد اهدافه الوطنية وضد الحرية ..لحظات صعبة وحالكة ومهددة للتماسك واللُحمة الوطنية اتمني ان نتجاوزها بأقل قدر من الخسائر.".
علي خلفية غبار هذه الأحداث، ينشب أكثر من 40 حريقاً بمناطق وسط القاهرة في أقل من ساعات معدودة، إستهدفت مساكن ومتاجر صغار التجار والحرفيين، بالإضافة إلي عدة قرارات – قضائية ورئاسية – تُقسّم وتعيد توزيع "أنصبة" الدولة وأجهزتها السيادية لمساحات الأراضي الواقعة تحت "الملكية العامة"، وكذلك تنفيذ "مخطط" إخلاء مجمع المصالح الحكومية بميدان التحرير قبل أيام من تنفيذ إخلاء وزارة الداخلية لمقرها القديم بنفس المنطقة التي يجري العمل – بسرعة شديدة – في إخلائها وهي "منطقة وسط العاصمة"، مواكباً لحركة "محمومة" ومتسارعة لشراء عقارات وأراضي ذات المنطقة من شركات عالمية أو محلية وكيلة لشركات متعددة الجنسيات، في سباق "مارثوني" من الواضح أنه تكملة لنفس سباقات الأعوام التي سبقت تفجر ثورة يناير بسنوات قلائل ولكن مع إختلاف أوجه ومواقع أطرافه، وبالتالي وبنفس السرعة تم تسريع مشروعات تهجير أهالي المناطق الفقيرة التي تحتل مواضع القلب من بعض هذه المناطق "الإستراتيجية" سواء داخل القاهرة أو الجيزة.. كل تلك الأحداث التي لا يتلفت إليها هؤلاء المحتجين، إلا فيما سمحت لهم نظرتهم "البرجوازية" الذاتية الضيقة، فظن أغلبهم بأنها مجرد أحداث "إستعراضية" تختلقها الأجهزة السيادية للتغطية والتعمية الجماهيرية عن ضياع الجزيرتين، متغافلين عن ضياع كامل الأراضي الوطنية "الحيوية" والإستراتيجية بأموال "الإستثمار الأجنبي"(!).. بل وأنبرت ألسنة وأقلام الصحافيين – من أصحاب ومؤيدي قضايا النقابة والجزيرتين – في التعريض بأبناء منطقة "تل العقارب" العشوائية المهجرين قسرياً في شماتة فجة.
في تدوينة له علي حسابه الشخصي علي موقع التواصل الإجتماعي، يقول صحفي يزعم اليسارية الليبرالية(!!): "فاكرين اهالي تل العقارب دول اللي راحوا حدفوا طوب على نقابة الصحفيين ورقصوا للسيسي؟ النهارده الامن المركزي بيخرجهم من بيوتهم بالقوة". بينما تقول صحفية أخري في وصلة أقرب "للردح" الشعبي: "اﻻمن بأمر مباشر من السيسي حاصر #‏عشوائيات تل العقارب، قطع عنهم المية والنور لايام وطالب اﻻهالي بالرحيل واخلاء المنازل تمهيدا لهدمها .. اﻻهالي مسمعوش الكلام ومعرفوش انهم نور عينين اللي رقصوله في الميدان الا لما كلو قفا محترم.. يلا بقى هنقول ايه.. من اعان ظالما سلطه الله عليه انتو متعرفوش انكو نور عينين السيسي وﻻ ايه… الشعب لم يجد من يحنو عليه... معلومة ليك يامواتن.. معظم اللي رقصو ادام النقابة في 25 ابريل عالسلم واللي اعتدوا عالمتظاهرين كانو من المناطق دي.. ماتنساش ترفع صور السيسي وترقص على تسلم اﻻيادي.. تستاهلو يامعفنين البسوا بقى".
كما ساق الصحافي إسلام أسامة شهادته عن – تلك الكائنات - على صفحته بالفيسبوك قائلاً: "امبارح لفت أنظارنا كلنا واحدة ست باين عليها التعب والفقر والجهل من ملامحها وهدومها وأسلوبها. أوّل ما شفتها كان شكلها مش غريب عليّا بس ماكنتش متذكر شفتها فين، لحد ما لقيت زميل مشير صورة ليها فافتكرت. الست دي من سكان منطقه تل العقارب بالسيدة زينب، والمنطقه دي صدَر قرار من محافظة القاهرة بإزالتها، وتوفير سكن تاني للسكان في "مدينة 6 اكتوبر". إحنا بدورنا كصحافيين كنا في موقع الحدث عشان ننقل الحقيقة، وكان من السهل بكل بساطة أننا نصوّر الإزالات ونصور المسؤولين، وناخد منهم كلمتين حلوين وشكراً، بس الضمير والمهنية تحتّم علينا نقل وجهة النظر الأخرى. الصدفة البحتة خلتنا نقابل الست دي، واتكلّمت وقالت إنها ضد الإزالة واعترضت وشتمت المسؤولين. المهم يعني لفّت الأيام والست دي قررت تيجي قدام النقابة تشتم الصحافيين اللي وصّلوا صوتها. طبعاً حبايبنا وعدوها بقرشين عشان تيجي، أو يمكن وعدوها إنهم ما يزيلوش بيتها. الفقر والجهل يعملوا أكتر من كده! #الصحافه_مش_جريمة".(3).
وبالطبع لم تمتاز مثل هذه الشهادات أو بالأحري "الشماتات"، بعكس مدي الإستعلاء والفوقية الطبقية التي تميز أخلاقيات البرجوازية السحيقة فحسب، ولكنها عكست مدي "جهل" قائليها بالوظيفة المهنية لـ"الصحافة" داخل المجتمع ومسئوليتها عن تنويره وتوعيته وتقدمه، وذلك بكلماتهم المُحملة بـ"المّن" ومعايرة أبناء منطقة تل العقارب لأن الصحافة أذاعت آنباء تهجيرهم – تلك المنطقة التي كانت لي واقعة شخصية معها حينما فاجأني أحد قاطنيها من العجائز بإتصال يستغيث فيه من أفراد الأمن والإدارة التابعين للمحافظة بالضغط عليهم بسرعة التهجير إلي أحدي المناطق النائية بالسادس من أكتوبر بدون أوراق ثبوتية أو رسمية تثبت سواء حقهم في المسكن المهجرين منه أو حتي المهجرين إليه، وكانت الإستغاثة الموجهة إليّ تطالبني بتصوير ورصد ما يحدث بتل العقارب وأهاليها وطرحه علي الرأي العام، ولأني كنت أعمل – وقتها – بأحدي الصحف الغير مهتمة سياستها التحريرية بمثل هذه القضايا، قمت بعشرات الإتصالات مع زملاء يعملون في كبريات الصحف القومية والمستقلة بالإضافة إلي معدي البرامج الحوارية والسياسية بالفضائيات المتعددة، وكانت جميع ردود هذه الإتصالات هو التجاهل التام والذي أستمر لأكثر من خمسة عشر يوماً كاملة حتي أهتمت أحدي المواقع الإلكترونية الخبرية التابعة لمؤسسة صحفية ذات توجه إسلامي مناهض مباشر للنظام! – كما عكست هذه الأقاويل خلطاً مريب، وربما متواطؤ، بين المسحوقين من أبناء مثل هذه المناطق العشوائية والبلطجية و"تنظيمات المواطنين الشرفاء"، وتمييع وتسطيح المفهوم الأخير لدي الرأي العام بأنه مجرد "المسجلين خطر من أبناء المناطق العشوائية مدمني المخدرات الرخيصة والمسلحين غالباً بأسلحة بدائية وبيضاء وليس لهم أعمال محددة"، بما يُبعد كل البعد عن حقيقة تلك "التنظيمات" أو المليشيات التي لا تعتمد علي المسجلين خطر في القضايا الجنائية غير في قواعدها فقط، والذي يذكر "المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية" في أحدث تقاريره عن عددهم بأنه تجاوز نصف المليون مجرم "يرتكبون أكثر من خمسين ألف جناية وجنحة لا تتم معاقبة سوي أقل من ربع مرتكبيها فقط"، بينما تتزعم تلك التنظيمات شخصيات "كبري" منتشرة وموزعة بعناية داخل أحزاب وجمعيات أهلية ومراكز بحثية ومجالس إدارات وعموميات نقابات مهنية وعمالية ومؤسسات إعلامية وفنية وغيرها، علي طراز شخصية "صبري نخنوخ" الذي كشفت عنه تمخضات ثورة يناير، لا يظهرون علي سطح الرأي العام إلا في حالات "نقاط ضعف" النظام الأمني المشكلون لصالحه. ويعترف أحدي عناصر جهاز سيادي حساس – ممن يختصون بتشويه وخلط الحقائق التاريخية إعلامياً – في أحدي لحظاته "الفضائحية" للنظام الذي كان تابعاً له بأحدي مؤلفاته قائلاً بأن هذه التنظيمات كانت مسئولة عن "إرتفاع حصيلة الضحايا المصريين منذ يوم 25 يناير عام 2011 حتي اليوم لتزيد علي عشرة آلاف قتيل ومفقود وخمسين ألف معتقل تحت التعذيب البدني والتحطيم المعنوي والإنتهاك الجنسي ومائة ألف مصاب بإعاقات جسمانية مستديمة...".
في مقال موضوعي تشهد الدكتورة "أمنية خليل" باحثة الأنثروبولوجيا في شؤون العمران، تحاول خلاله رصد هذا الخلط بشكل علمي، قائلة في شهادتها ومشاهداتها: "وَجدت بنفسي، ولمست، كل تلك المعاني للسياسة الحيوية وتداخل القوى مع الجسد في عملي مع سكان المناطق الشعبية ومناطق بُنى الأهالي، حيث يتعامل السكان مع تلك السياسات المرتبطة بالقوة والجسد بشكل يومي، وتتشكل حركة جسدهم ومفاوضاتهم مع المجال العام داخل تلك المنظومة. حكت لي سيدة من إحدى المناطق أن النساء في المنطقة (وهي منهن) يضطررن لإذلال أنفسهن وأجسادهن لضباط الشرطة وأمنائها حتى يطلقوا سراح أولادهن أو أزواجهن من الحبس. وأثناء تواجدي في المنطقة، هجم عدد من العساكر والضباط على أحد البيوت وقبضوا على شخصين بدون أي تهم، وأثناء توقيفهما نظر الضابط بشكل وقح وذو مغزى إلى إحدى السيدات قائلاً: "ابقي تعالي بقه عشان ابنك يطلع". ...
"تمّ التشهير بصور أولئك النساء ومقارنتها بصور المتظاهِرات بعبارات تبرز تناقضاً في التحليل الثوري للموقف. ما فائدة أن نضع صورة إحداهن بجانب صورة لإحدى الناشطات المعروفات، ونقول "هذه مصرهم وهذه مصرنا"؟ أو "هذه سيدة معها جيشها وأخرى سيدة فقدت جيشها"؟ جزء من استخدام صور السيدات لطالما كان عادة، عنصراً جاذباً للإعلام الرسمي وغير الرسمي والشعبي..
"قابلت في منطقة شعبية تراثية أخرى شاباً فقد إحدى عينيه في جمعة الغضب (28 كانون الثاني/ يناير 2011). بعدها بَنا على جانب الطريق كشكاً خشبيّاً صغيراً بمساعدة من عائلته ليبيع فيه الحلويات والسجائر، وعندما جاء وقت شهادته في القضية المرفوعة على الدولة لفقده عينيه، جاءت حملة من قسم الشرطة وقبضوا عليه وساوموه لكيّ يتخلى عن المحضر، الذي يتهمهم فيه الشاب بإطلاق النّار عليه والتسبب بفقدان عينه، وإلا سيغلقون الكشك. وبالفعل بعد أيام، هُدم الكشك!
وبعضهم مُهدَّد من قسم الشرطة التابع لمنطقة سكنه بالحبس أو بفتح قضايا ملفقة لهم ولهن، أو بحبس أزواجهن أو أولادهن. تلك الأسر التي توصف بأنّ "دائماً ظهرهم للحائط"، ولا يملكون أي قوة للدفاع عن أنفسهم، يبذلون قصارى جهدهم حتى لا يُجرح وجه أولادهم ويترك علامة، فيصبح شكله بلطجي أو بلطجية بنظر المجتمع. ألم نحتفي بهؤلاء حين تم حرق الأقسام في جمعة الغضب؟ ألم نمجّدهم حين ساعدونا في الصفوف الأولى في الاشتباكات مع قوات الأمن؟ ألا نستوعب أنّ النظام والدولة والمجتمع قد ساهم في جعلهم ما أصبحوا عليه.. سواء المنظومة المجتمعية أو الاقتصادية أو السياسية التي تخلق منهم كائنات مختلفة حسب الموقف وحسب المصلحة؟"(4).
# # #
هؤلاء "النخب" الثقافية اليسارية، التي تُصر في جميع تحليلاتها ودراساتها وآرائها، علي سلب حق إنتماء ثورة "25 يناير 2011" إلي الطبقات الكادحة والمسحوقة التي قادتها وقامت بجميع أحداثها، لصالح الطبقات البرجوازية المتوسطة والصغري، زاعمين – ليل نهار – بأنها ثورة "الطبقة المتوسطة" التي خلعوا عليها "قداسة" إجتماعية وأدبية ليست من الواقع أو العلم في شئ، يتمادوا في زعمهم بأن الشعار الثوري الذي فرضته ثورة الكادحين – بجميع الدول التي إنتفضت ومازالت في ثوراتها – "عيش، حرية، عدالة إجتماعية، كرامة إنسانية" ما هي إلا شعارات عامة فرضتها الحالة الإحتجاجية وقتها(!)
وتتناسي تلك النخب اليسارية، مستغلة مرور الوقت، ليس دور العمال وصغار الموظفين وجموع العاطلين في "صنع" الثورة فحسب، بل وتناسوا أن جميع تلك النخب و"الشخصيات العامة" السياسية والإجتماعية البرجوازية – علي إختلاف مشاربها وإنتماءاتها – قد أعترفت في جميع وسائل الإعلام ورصدها التسجيلي بمدي مفاجأتهم بإشتعال الثورة وإتساع نطاقها.
كما تتناسي تلك النخب اليسارية أيضاً، في "حُمي" معركتها مع الطبقات الدنيا أو "المواطنين الشرفاء"، الطبيعة "التركيبية" للمجتمع المصري، والذي شهدت رقعته تنقلات وتقلبات هائلة وشديدة الحركة والجذرية خلال العقود السبعة الأخيرة – خاصة –، تنقلات "شطرنجية" لم تغير من طبيعة أو شكل الرقعة الطبقية للمجتمع وإنما أحدثت تنقلات جذرية داخل الطبقات ذاتها، خلال عقود ستينيات عبد الناصر التي "صّعدت" من عناصر طبقة لخلق "طبقة متوسطة" أرادتها القيادة السياسية، سرعان ما إنقلبت في حركات حادة صعوداً وإرتفاعاً في عقدي السبعينيات والثمانينيات، وخاصة في حقبة إنتهاء الحرب الباردة، لتنشغل طوال التسعينيات وحتي اليوم في إستقرار وضعها وتحصينه رغم محاولات القيادة السياسية الحالية في وضع "بصمتها" الخاصة علي التركيبة المجتمعية المصرية. تلك التنقلات والإنقلابات التي من الضروري أن تُرسب مكون "مختلف" للطبقة الدنيا عنما كانت عليه منذ 60 عاماً مثلاً، فتواجد عامل المقهي الحاصل علي أعلي المؤهلات الجامعية وزميله ماسح الأحذية وزميلهم العاطل عن أي عمل منتظم أو محدد الملامح وكذا الحرفي أو المهني العاطل ناهيك عن التنقلات والإنقلابات التي شهدتها القري المصرية وتركيبة المجتمع الريفي ككل، بالتوازي لبرجوازية صغري ومتوسطة أختارت حذو سلوك الطبقات الأعلي منها – كالعادة وبالضرورة – في "توريث" وظائفها ومهنها بل ومهاراتها أيضاً لأبنائها العرقيين تحصناً وخوفاً من مغبة تلك التقلبات الحادة.
ومن الطريف أن لا تكتفي "النخب اليسارية" بتغافل دورها "التاريخي" والطبيعي في نشر الوعي الطبقي والعلمي بين أبناء الطبقات الكادحة والمسحوقة – الممثلة للأغلبية العددية والنوعية للشعب – لطبيعة الصراع المجتمعي محلياً ودولياً، بإعتبارهم أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير.. بل تنساق تلك النخب "الفوقية" في الإدعاءات الليبرالية الزائفة، بدءاً من إصباغ هالة التقديس علي "فئة الشباب" كقائد للثورة بإدعاء أنها القوة المحركة للمجتمع صاحبة المصلحة في التغيير، بهدف حصر جميع المسألة الوطنية وقضاياها الإجتماعية في مجرد "صراع بيولوجي بين الأجيال" دون الإلتفات للوضع الإقتصادي المحلي "التابع" لآليات العولمة الرأسمالية العالمية المستغلة للوطن بجميع أركانه بداية من وضع قوة عمله المزرية وحتي أخلاقياته "المعولمة في كافة سلوكياته"، مروراً بإبعاد المجتمع عن تنميته الذاتية بواسطة رفع إنتاجيته وإستغلال موارده الطبيعية والبشرية إلي مجتمع إستهلاكي يتوائم مع ما خطط له وبالطبع ما يصب في مصلحة "مستعمريه" – غير المباشرين – يستوعب بضائعهم التجارية ويمدهم بقواه البشرية كقوي عاملة رخصية بالإضافة إلي موارده الطبيعية والذاتية ويصبح المجتمع المصري بمثابة مجتمع "السوبر ماركت" للشركات متعددة الجنسيات وتجارة دول الرأسمالية العالمية بجميع أسواقه المباح منها دولياً أو غير الشرعية، علي غرار المجتمع البيروتي أثناء وقبل الحرب الأهلية وحتي اليوم وكذا مجتمع "دبي" و"أبوظبي" بالإمارات العربية الآن!
فليس من العجيب إذاً علي تلك النخب البرجوازية المتصدرة المشهد "الإحتجاجي" اليوم – سواء ليبرالية كانت أو يسارية – التعامل مع القضايا المجتمعية الهامة مثل الإستقلال الوطني أو حرية الفكر والتعبير أو غيرها من القضايا المتمخضة من الحراك الثوري، تعامل "مبتور" يتسم بالفوقية المجتمعية حُمل بعنصرية البرجوازية التاريخي لا يصل بالتالي إلي إي نتائج حقيقية إلا مصالح شخصية ذاتية تصب في مصلحة من يتزعمون المطالبة بها في أغلب الأحيان. فنجد مثلاً قضية تقدمية شديدة الحساسية مثل "التحرش الجنسي" يتم تناولها من جميع الأطراف في منظورها "الأخلاقي" شديد الرجعية والتخلف فقط، دون إرجاعها – كحال كافة قضايا المرأة المصرية والعربية عموماً – إلي أصولها الطبقية والتقدمية العلمية الحقيقية، ولنا في قضية "الغاز المصّدر إلي الكيان الصهيوني" مثالاً آخر، حينما فتحت ثورة يناير ملفها عالجتها البرجوازية التي تصدرت مناص الثورة – حينها – وتهدأ عن القضية فجأة بعد تعديل سعر بيع وحدة الصفقة دون التمسك بالمبدأ العام في مد كيان معادي بمواد إستراتيجية وطبيعية للوطن وتحصين التطبيع الإقتصادي معه.
تلك "نخب" إحتجاجات اليوم، التي وضعت دستور 2014 – المعدل عن دستور الإخوان المسلمين السابق له – وقد أقرت دباجته: "ثورة 25 يناير, 30 يونيو, فريدة بين الثورات الكبري في تاريخ الإنسانية,... وبتجاوز الجماهير للطبقات والإيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة, وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها, وهي أيضاً فريدة بسلميتها وبطموحها أن تحقق الحرية والعدالة الإجتماعية معاً.". وكأن "الحرية" مرادف عكسي للعدالة الإجتماعية، فمن الطبيعي أن تقوم مثل هذه الوثيقة الدستورية شديدة الرجعية والتخلف – والطبقية أيضاً – بـ"تقسيم" المجتمع إلي فئات تمييزية "شباب ومرأة وأقباط ... وغيرها" لمواصلة وتحصين دور "الثورة المضادة" في إبعاد المجتمع عن الحلول العلمية التقدمية الحقيقية لكافة مشاكله الطبقية، في الوقت الذي يتسارع فيه "التمييز" الطبقي بكل أوجهه الحادة من قبل جبهة الثورة المضادة – بجميع أجنحتها الشاملة المحتجين علي خلافات ليبرالية أمريكية النزعة – في جميع قراراته السيادية والتنفيذية ووسائل إعلامه وعناصره الدعائية التي لا تكف عن سب جميع الإيديولوجيات والخلط بينها في فجاجة مقززة ليل نهار، والذي يعكس نضج رؤية وقراءة أجنحة الثورة المضادة لوضعها الطبقي الحقيقي والتناقضات الإجتماعية المحلية والعالمية جيداً، وبالقدر نفسه الذي عكس طفولية قراءة وآليات "النخب" المناهضة لها.
يذكر اليساري المخضرم الدكتور "شريف حتاتة"، في معرض رده علي مذكرات د. عصام الدين جلال – أحد شباب حركة الأربعينيات الوطنية والتي أصدرها في عام 2010 بعنوان "الشارع الوطني" – متسائلاً: "... فتري ما هو هذا الكائن الهلامي الذي أطلق عليه الدكتور عصام الدين جلال وصف الشارع الوطني؟ هل هو شئ متجنس، موحد يتحرك في ذات الإتجاه، كتلة منسجمة ليست مقسمة إلي طبقات، وفئات وأحزاب، وتنظيمات لها مصالح متباينة؟ ألا يستلزم هذا أن يوجد تحليل لها يسمح بتحديد السياسات الملائمة لكل عنصر من هذا الكائن المسمي "الشارع الوطني" بحيث يكون من المقدور معرفة القوة التي يمكن أن تتعاون في المعارك المختلفة، وتحديد أهداف كل معركة، وكل مرحلة يخوضها الشعب في نضاله ضد الإستعمار وأعوانه؟ أليس الكلام عن الشارع الوطني هو تشجيع لعدم الوضوح السائد حالياً في أغلب التحركات التي تسعي إلي التغيير، إستمرار للبلبلة الموجودة في قوي الشباب التي تسعي إلي الإصلاح والتي لا تكف عن الحديث حول ضرورة تحريك "الشارع" دون أن يكون هناك تحليل لمكونات هذا الشارع؟ هل يمكن أن تتحدد سياسة للإصلاح واقعية، ممكنة التنفيذ دون تحديد للقوة المختلفة التي ستشارك في هذا الإصلاح، للمصالح التي تحركها، للخلافات التي تفصل بينها، ولأشكال التنظيم والتحرك التي تتلاءم مع ظروف كل منها، إن الحديث عن "الشارع الوطني" علي هذا النحو هو مساهمة في حالة عدم الوضوح التي تشارك في صناعتها أغلب القوي السياسية الموجودة في المجتمع بما فيها القوي التي تطلق علي نفسها المعارضة"(5).
فنظرة واحدة لا تستغرق من التركيز والتفرغ أكثر من خمسة عشر دقيقة، أمام أحدي الفضائيات المصرية خلال يوم رمضاني، كافية جداً لإبهارك بمستوي الرفاهية عالي الحداثة والتقنية الذي تلمسه في أحدي إعلانات المنتجعات والمدن السكنية التي تنتجها كبري الشركات العالمية داخل مصر والتي تعلن أنه تم تصميمها بمعزل عن "زحام" و"غبار" المناطق السكنية القديمة، أي تم إنشاؤها بمنطق "الجيتو" داخل المجتمع المصري، في حين يغرق الإعلان التالي له مشاهديه في بحر من الدموع المُستدرجة علي فقراء مصر – بكافة محافظاتها - الذين تستعرض أحدي "الجمعيات الخيرية" أدق خصوصيات وتفاصيل حياتهم في "شو" تسولي شديد الوضوح والبجاحة، من أجل جلب إعانات لكافة مناحي حياتهم من مسكن آدمي ومرافق سكنية وعلاج لأمراضهم المزمنة ورعاية طبية وأكل وعمل زهيد الأجر وتعليم و..و.. إلي أخر مناحي حياة الكائن الحي - ولا أقول "المواطن" – بما يتوافق مع ما نصت عليه المادة رقم (8) من باب "المقومات الأساسية للمجتمع" من الدستور المصري الحالي: "يقوم المجتمع علي التضامن الإجتماعي, وتلتزم الدولة بتحقيق العدالة الإجتماعية وتوفير سبل التكافل الإجتماعي, بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين, علي النحو الذي ينظمه القانون.". وبالتالي ليس من التناقض أن نجد مثلاً مستشفي "خيري" لعلاج مرض مزمن لدي الأطفال يتحول إلي مشروع "ضخم" عبر عشرات السنوات – والذي يمثل كبري المشروعات الممولة بالتبرعات عالمياً حتي اليوم – في نسب الشفاء والتقدم العلمي والبحثي والتقني تحت إشراف كبري المنظمات الصحية والمعملية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي، نفس التجربة التي نشط، بعد ثورة يناير تحديداً، في تكرارها لتغطي مساحة أكبر من الأمراض المزمنة والتخصصات الطبية الحساسة مثل السرطان والإيدز والفيروس الكبدي الوبائي وغيره، في الوقت الذي ينعدم فيه أي دور حقيقي وفعال للتأمين الصحي الذي تكفله وتدعمه الحكومة – والذي تسارع الآن في تقليص عدد المنتفعين به يوماً عن يوم – بل يتم تخريب وتفكيك المستشفيات والكيانات الصحية والطبية التابعة للدولة والممولة منها في منهج سافر لخصخصتها(6).
وما يتم في "قطاع الصحة" يتم بنفس المنهجية وربما بنفس آليات التخريب والإفساد لقطاع "التعليم الحكومي"، في سعي دائب ومتسارع لتحويل دور الدولة كداعم أو ممول للبيئة المجتمعية إلي مستثمر في مجتمع إستهلاكي له حق الإدارة بين شركائه المساهمين.
ومن المؤسف حقاً، أن تلك النخب التي تنتهج "المعارضة" مصدرة "ثورية" لا تتقن آلياتها أو تعترف بمبادئها، تمتلك من القواعد الجماهيرية – التي تتألف بطبيعة الحال من أغلبية شبابية عمرياً – تصدق تلك الأسطورة التي أنتجتها نخبتهم القائلة "أن الجماهير الشعبية ليست جاهزة للتحرك في حركاتنا وهباتنا الإحتجاجية إما نتيجة جُبنها أو جهلها"(!).. غير مدركين حقيقية بديهية أن حركتهم هم التي دائماً عكس "بوصلة" إحتياجات الطبقة الغالبة من أبناء الشعب الكادحة والمسحوقة.. وأن حركتهم المناهضة دائماً تخدم النظام الحاكم – سواء بتواطؤ أو بحسن طوية – من حيث:
*إرهاق الشارع الشعبي في قضايا لا تمس الإحتياجات الحقيقية والمباشرة له، وبالتالي ليس من مصلحته دعم حشدها، بآليات مكررة لحد الملل، إما بالتظاهر أو الإعتصام في أماكن تعيق رزق يومه الزهيد أو يصعب عليه الإلتحام بها.
*حجب الصراعات والتناقضات الحادة التي تعتمل داخل الطبقة الحاكمة الآن عن الشارع الشعبي.
*تكوين معارضة للنظام الحاكم، هو أحوج إليها في تصدير ديمقراطيته الزائفة أمام العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كمكون أساسي من شرعيته السياسية والإجتماعية أمامهم.

....................................................................................
1 - (ثقافة النظام العشوائي: تكفير العقل وعقل التكفير) – د. غالي شكري – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015 - صـ16-17.
2 – راجع نص المذكرة القانونية التي أصدرتها نقابة الصحافيين المصرية، عن أزمتها مع وزارة الداخلية، منشورة بالكامل تحت عنوان: "بالوقائع ونصوص القانون.. «الصحفيين» تكشف الحقائق الكاملة لأزمة النقابة" – جريدة "البداية" القاهرية – الموقع الإلكتروني – الصادرة بتاريخ 11 مايو 2016.
3 – أنظر مقال "من هم البلطجية؟" – الدكتورة أمنية خليل – نشر بجريدة السفير البيروتية – الموقع الإلكتروني في 19 مايو 2016.
4 – أمنية خليل – مصدر سابق.
5 – د. شريف حتاتة – (النضال علي طريقة "الشارع الوطني") – المنشور بجريدة "القاهرة" في 2 نوفمبر 2010.
6 – طالع التقرير التحليلي "العدالة الإجتماعية في مصر 2015"، الذي أصدره مركز هردو لدعم التعبير الرقمي في عام 2016، وقد أوصي في نهايته: "تطوير المنظومة الصحية وتوفرها للجميع ونقل مسئولية تطويرها لشركات أجنبية"(!!).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة