الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لَيْلَةُ القَدْر هيَ... أم ليلة الميلاد؟ (7/7)

ناصر بن رجب

2016 / 6 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لَيْلَةُ القَدْر هيَ... أم ليلة الميلاد؟ (7/7)

ترجمة:
بشير ماشطة وعلي بن رجب

مراجعة وإعداد:
ناصر بن رجب


سورة الطارق 86: 1-3
إنّ تحليل سورة القَدْر الذي قدّمناه هنا يمكن أن يُنيرَ لنا مقطعًا آخر من القرآن والمتمثل في الآيات الاولى من سورة الطارق:

(1) وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (3) النَّجْمُ الثَّاقِبُ.

ماذا ينبغي علينا فهمه من لفظ "الطَّارق"؟ المعنى الأكثر تداوُلا للفعل "طَرَقَ" هو "الآتي ليْلًا، وكلُّ آتٍ باللّيل طارِقٌ، وهجم وأَغار ليْلًا". وقد اقترح المفسرون، إذًا، شروحًا عديدة لكلمة "طارق" الواردة في القرآن مُتماشية مع معنى الجذر "ط/ر/ق": فقد قال بعضهم أنّ المقصود به هو "كوكب الزهرة"، الذي يُقال له "كوْكَب الصُّبْح" (لأنّه آخِر نجم يختفي في الصّباح عند طلوع الشّمس) و "كوكب المساء" (لأنّه أوّل نجم يظهر في المساء). وبعض آخر أكَّد أن الأمر قد يتعلَّق بمُذَنَّبٍ والبعض الآخر يرى أنَه زُحَلْ (لأنه يظهر في الليل ولكنه يختفي في النهار)، وقد قيل أيضا أنّ المقصود هو أنّ كلَّ نجْمٍ طارِقٌ لأن طلوعه باللَّيل [وكلّ ما أتى ليلًا فهو طارق]. والمترجمون العصريون منقسمون هم أيضًا في هذا الشأن، فتارةً يترجمون العبارة بـ «L’astre nocturne» (بلاشير، أبو ساحليّة)، «L’étoile du soir» (فخري)، «La pulsatrice» (عبد العزيز)، «Le visiteur nocturne» (خوّام)، أو «L’arrivant du soir» (بارك).

البعض من هذه الفرضيات تبدو لي في الواقع قريبة جدّا ممّا يبدو لي حلًّا للُّغْز ـ رغم كونها، بمعنى أو بآخر، تُجانِب ما هو جوهَري. ولِنَعُد بالفعل إلى نصّ السورة نفسِه وبالخصوص إلى الآية 2، "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ".

نحن نعلم أن الصيغة "وما أدراك ما" تهدف أوَّلا إلى جلب اهتمام مُتقبِّل الرسالة (وهو الدور الذي يلعبه القَسَمْ في الآية 1). ثُمّ تُسْتخدَم، عن طريق الجواب المتعلق بالسؤال الذي تطرحه، لوصف أو شرح مفهومٍ يعتبره باعث الرسالة مِحوريًّا. في القرآن يخص هذا التعبير إحدى عشرة كلمة: "الحاقّة" (س69: 3)، وهي العقاب المحتوم الذي يُسلَّط على الكفّار، "سَقَرْ" (س74: 27)، و"الحُطَمة" (س104:5)، وهي نار جهنّم، و"يوم الفصل" (س77: 14)، و"يوم الدّين" (س82: 17ـ18)، وهو يوم الحساب، و"سِجِّين" و"عِلِّيُون" (س83: 8،19)، اللّذان يشيران إلى الكتابين أين تحفظ أعمال المُذنبين والصّالحين، "القارِعَة" (س101: 3)، الفزع والهَوْل، "العَقَبَة" (س90: 12)، وهي الطريق التي فيها النَّجاة والخير، وأخيرًا "ليلة القَدْر" (س97: 2) و"الطارق" (س86: 2).

العبارات الثمانية الأولى ترتبط ارتباطا وثيقا بالأُخْرويَّة، في حين أنّ كلمتَيْ "العقبة" و"ليلة القَدْر" ترتبطان بالأحرى بالسُوتْرِيُولوجيا (= علم الخَلاص في المسيحيّة). مع أنّه في كل حالة يتعلق الأمر بفكرة أساسية بالنسبة لرسالة القرآن الدينية. في حين أنه إذا ما اتبعنا الشروح التي قدّمها المفسرون فإنّنا لا نعي جيِّدًا لماذا يلجأ القرآن لاستخدام عبارة "وَمَا أَدْرَاكَ مَا" لتقديم مفهومٍ كان من المُفتَرض أن "الطارق" يشير له.

بالفعل، يبدو أن أهمّ آلهة في الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت "بَنَات الله"، وهُنَّ اللاَّت، والعُزَّة ومَناة. ومن الممكن أنّ عبادة العُزَّة كانت مُقتَرِنة بكوكب الزُهْرة، وأنّ الحَرَم المَكِّي كان في فترة من فترات تاريخه مُقتَرِنًا بعبادة الكواكب السبعة الآلهة (عطارد، الزهرة، المرّيخ، المشتري، زُحل، أبّولون، ديانا). ولكن هل من الممكن أن نتخيّلَ أنّ القرآن يستعمل عبار "وَمَا أَدْرَاكَ مَا" بخصوص لفظ يُشير إلى نجمة الصُّبْح؟ ولكنّ هذا يُبدو بعيد الاحتمال. وأيضا فرضيات المفسرين لا تتمتّع بدورها بمصداقيّة أكبر، فليس هناك أيّ مبرِّر لكي يستعمل القرآن "وَمَا أَدْرَاكَ مَا" لكي يتحدّث عن كوكب أوعن حدث فلكي عاديّ نسبيًّا.

يجب علينا بالأحرى أن نرى في "الطارق" مفهومًا محوريًّا في رسالة القرآن الدينيّة، والتي قد ترتبط بالأخرويّة والسُوتْرِيُولوجيا. ولا داعي للذّهاب إلى أبعد من ذلك.

يجب العودة بالفعل إلى سفر العدد 24: 17 وإلى نجم المجوس. ولنتذكّر نبوءة بلعام التي يشير إليها نجم الميلاد: "(...) يخْرُجُ كَوْكَبٌ مِن يَعْقوب، وَيَقُومُ رَجُلٌ مِن إسْرائيل" (العدد 24: 17). هذا والحال أنّه توجد إشارتان تتعلقان بنبوءة بلعام في العهد الجديد وبشكل أدق في سفر الرُّؤْيا:

"وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَاناً عَلَى الأُمَمِ، فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضاً مِنْ عِنْدِ أَبِي، وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ" (الرؤيا 2: 26-28).

"أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهَذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ. أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ" (الرؤيا 22: 16).

يسوع هو المُتَكلِّم في هذين النصين. فالنّص الأول يبدأ باستشهاد مأخوذ من المَزْمور 2: 8ـ9: "سَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مِلْكًا. تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ"، قبل أن يشير ضِمنيًّا إلى سفر العدد 24: 17، أين يقع الربط بين الصولجان والنَّجم. أمّا النص الثاني فهو يستشهد بسفر إِشْعَياء 11: 1 ("وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ")، وهي آية سيربطها المؤرِّخ جوستينوس فيما بعد بسفر العدد 24: 17 في قائمة تستعرض الأسماء التقليدية للمسيح: "وَدَعاهُ موسى نَجْمًا، ودعاه زكريا الشَّرْق، ودعاه إشْعيا أيضًا المُتألِّم ويعقوب وإسرائيل والعَصا، والزَّهْرة، وحجر الزاوية"(الحوار مع تريفون اليهودي 126: 1). هناك إذن أسباب قويّة، في هذين المقطعين، تدفعنا للاعتقاد أنّ نجمة الصُّبح تشير إلى نجمة يعقوب.

وعليه فإنّه من البديهي أن نربط بين هذا النجم ونجم الميلاد أو نجم المَجوس. إذن فإنّ "نجمة الصبح" لا تشير إلى كوكب الزُهرة، ولكن هذا التعبير هو بالأحرى طريقة للتأكيد على الطابع المُنير والسّاطع لنجم المجوس:

"إنّ نَجْمًا يشِعُّ في السّماء أكثر من كلّ النجوم. وكان نوره لا يُعبَّر عنه، ووقف النّاس مدهوشين منه" (رسالة القدّيس اغناطيوس الأنطاكي إلى أفَسُس 19: 1).

من جهته، فإنّ أوريجين يقرّب هذا النجم من الشُّهب:
"لقد لوحِظ خلال الأحداث الكبرى والتغيُّرات العُظمى التي تقع في الأرض، أنَّ مثل هذه الكواكب تطلع مشيرة إلى تغييرات في العروش، وإلى حروب، وإلى كل ما يمكن أن يحصل للعباد ويتسبب في اهتزازات في العالم الأرضي. كنت قد قرأت في الرسالة "في الشّهب" لكايريمون الرِّواقي كيف أنّ شُهُبًا ظهرت أحيانا عند اقتراب أحداث سعيدة، مع ذكر بعض الأمثلة على ذلك. فإذا طلع شهاب أو كواكب مماثلة بمناسبة اعتلاء أحدهم عرشا جديدا أو أحداث هامّة على الأرض، فكيف نندهِش لظهور كوكب عند ميلاد ذاك الذي سيفتح طُرُقًا جديدة للجنس البشري ويُشِيع مذهبه، ليس فقط بين اليهود، ولكن أيضا بين الإغريق والأمم الأخرى؟ أمّا أنا، أستطيع أن أقول: فيما يخص الشُّهُب، ليست لدينا أيّة نبوءة تقول لنا أنّه تحت مُلك فلان في فترة كذا سوف يَطلَع شهاب اسمه كذا؛ غير أنّه بخصوص الكوكب الذي طلع عند مولد اليسوع، فقد تنبأ به بلعام (ضدّ كلسوس 1: 59).

لكن كيف يتحدث إفرآم عن نجم الميلاد في أناشيده وخاصة في النشيد 24؟ نجده يستعمل العبارتين "كُكْبْ نُورَا" (النجم النوراني) (أنشودة الميلاد. 24: 5، 7، 8، 13، 25)، و"نَصِيحَا" (النجم النّاصِع) (أنشودة الميلاد 24: 13، 25)، هذه العبارة الأخيرة يمكن أن تؤدّيها بالعربية عبارة "النَّجْم الثَّاقِب".

والطّريف في الأمر أنّ المفسرين عندما يقترحون أن لفظ "الطارق" يشير إلى نجمة الصبح أو إلى نيْزَك، فهم في نفس الوقت قريبون جدّا وبعيدون جدّا ممّا يبدو لي التفسير الأكثر إقناعا لهذه الآيات، أي فكرة أنّ "الثّاقب" يشير إلى نجم الميلاد. فقد زاغت عن أبصارهم فقط رمزية النجوم المسيحية، تلك التي تربط بين نجمة الصبح والمسيح.

خاتمة
إنّ التحليلات المقدَّمة في هذا العمل، إنْ كانت صحيحة، فليس من المستبعَد أن تكون لها تداعيات. وسأكتفي فقط بالإشارة لبعض الاعتبارات العامة.

يظهر إذن أنّ شخصيّة يسوع كانت حاضرة ضمنيا في سورةٍ كان يُعتقَد، تقليديَّا، أنها مُخصَّصة لمحمّد وللقرآن. إنّ افتراض أن تكون شخصيّة المسيح شخصيّة محورية بصورة مُطلقة في القرآن وأنّ التفاسير التقليدية عمدت، عن قصد أو بحسن نيّة، إلى تعويض شخصيّة المسيح، في بعض الحالات، بالقرآن أو بشخصيّة محمّد، فهي فرضيّة قد تبدو جريئة، ولكنّها جديرة بأن تأخذ حظّها من النقاش (1). لا أدعي بالتأكيد أن الاعتبارات التي تم تقديمها خلال هذا العمل تكفي لإثبات هذه الفرضيّة (فهي تُشكِّل عند الاقتضاء مرحلة في هذا الاتجاه). وبالمقابل، فإنّها تثير صعوبة لبعض المقاربات في القرآن والتي تبقى من دون شك متوقِّفة بشدّة على المأثور الإسلامي.

وهذا، بالخصوص، شأن بعض الأطروحات التي تُدافِع عنها أنجيليكا نويرث (Angelika Neuwirth). فهي تدعم فكرة مفادها أنّه في أقدم السّور (أي سُور الفترة المكية الأولى حسب ترتيب نولدكه)، "يجب علينا أن نرى في الأشخاص الذين يخاطِبهم النّص ويتحدّث عنهم، على أنّهم يمثلون جماعة من المستمِعين، كما يجب أن نرى في مُنتدى النقاش العام، الذي تشهد عليه السُّور، الفضاء نفسه الذي تتمّ فيه القراءة الليتورجيّة لهذه السُّور. والسؤال الذي يطرح نفسه عندئذ هو معرفة ما إذا كان هناك وَعيٌ جَمْعيٌّ يمكن أن يتعرَّف داخِله المُتَكلِّم ومستمِعُوه على حدٍّ سواء والذي يمنحهم هُويّة جماعيّة" (2). وبناء على ذلك، وحسب ما تعتقد نويرث، فإن مكّة (والحرم)، مَسْرح التّفاعل الاجتماعي والطقوس التي كانت تُقام فيها، هي أساسُ مثل هذا الوعي الجَمْعي.

حسب ترتيب نولدكه هناك ثماني وأربعون سورة نزلت في الفترة المكية الأولى: 96، 74، 111، 106، 108، 104، 107، 102، 105 ،92، 90، 94، 93، 97، 86، 91، 80، 68، 87، 95، 103، 85، 73، 101، 99، 82، 81، 53، 84، 100، 79، 77، 78، 88، 89، 75، 83، 69، 51، 52، 56، 70، 55، 112، 109، 113، 114، 1. ترى نويرث داخل هذه النصوص عديد الإشارات إلى مكّة. لكن لا يسعني إلا أن أعترف بأنّ عديد النصوص التي تستشهِد بها نويرث كثير منها يبدو غير مقنع بالمرّة (3). فالتأويل الذي تقدّمه نويرث لهذه النصوص يتّكِل شديد الإتّكال على السيرة النّبويّة وعلى قصص المأثور الإسلامي بالرّغم من أنّ الباحثة تبدو غير معترِفة بذلك: فلكلّ آيةٍ تقريبا من الآيات المذكورة وقع اقتراح تفسير مختلف أو بالإمكان اقتراحه بدون أدنى عناء. غايتي في هذا العمل ليست مناقشة أطروحات نويرث مناقشة دقيقة، بل سأقتصر فقط على إبداء ملاحظة واحدة: في حالة ما إذا اعتبرنا أنّ الحَرم المكّي يرتبط بديانة وثنيّة صرفه (4)، فإنّ سُورتَي القدر والطارق ليست لهما أية علاقة مباشرة مع مكّة. إذن، يجب تقريب هاتين السورتين من نصوص ليتورجيّة أو خُطب وعظيّة مسيحية كما هو الحال مع إمكانيّة وحتّى وجوب فعل ذلك مع سور أخرى تنتمي إلى الفترة المكية الأولى.

هذا مع أنّ نويرث كانت صائبة عندما اعتبرت أن قضيّة الشعائر هي قضيّة مركزية. لكن المُحرِج في الموضوع هو أنّ أصل وتاريخ الطقوس الإسلامية بقيا إلى اليوم من المسائل التي يكسوها غموض شديد (ناهيك إذا ما كان تفسير الآيات القرآنية موضِع رهان). وهذا هو السّبب الذي جعلني لا أتعرض لهذا الموضوع هنا، معتبرا أن روايات المأثور الإسلامي المتعلِّقة بليلة القَدْر (وحول مسائل أخرى تتعلق بالعبادة والطقوس) هي روايات مرتبكة شديد الارتباك إلى درجة تصبح معها غير قادرة على إلقاء بعض الضّوء، ولوفي مرحلة أولى، على محتوى سورة القَدْر نفسه. وبالرّغم من كلّ هذا فإنّ الرّبط الذي يعقِده لوكسنبيرغ بين اللّفظ الليتورجي السرياني "تَحْنَانْثَا"، "التضرّع"، واللفظ العربي "تَحَنُّثْ" يبدو لي صائبًا وله ما يُبرِّره (5).

الكثير من كبار العلماء تناولوا بكل تأكيد أصل وتاريخ الطقوس الإسلامية (6). في حين أنّ المقاربات المثمرة أكثر ليست على الأرجح تلك التي تحاول شرح أصل هذه الممارسة أو تلك وهذه الشعيرة أو تلك بالاعتماد الحصريّ أو شبه الحصري على معطيات المأثور الإسلامي (التي يجب بكل تأكيد أخذها بعين الاعتبار، ولكن يظلّ تأويلها صعبا)، ولكن تلك الدراسات التي تقرِّبها وتقارنها بالممارسات والشّعائر التي كانت معروفة بدون أدنى شكّ وبوضوح تامّ في الشرق الأوسط قبل مجيء الإسلام بقليل أو بعده بقليل. في بداية القرن السابع ميلادي كانت عديد الحركات الدينية، اليهودية والمسيحية وأيضا تيارات أخرى مثل المانوية، منغرسة منذ زمن طويل في الجزيرة العربية إلى جانب العديد من الجماعات "الوثنية": ونحن هنا بكلّ وضوح أمام حالة "تَثَاقُف" يتّضِح لنا أنّ نطاقها كان واسعا وأكيدا عندما نكتشف وجود عدّة أسماء بيبليّة في نقوش ما قبل لإسلام.

نختم بكلمة أخيرة. إنّ المشروع الطموح "المُدوّنة القرآنيّة" (Corpus Coranicum) والحريص على وضع القرآن في محيطه التاريخي، يقترح على نفسه أن يعمل على تطوير قاعدة معطيات من الوثائق والنّصوص التي من شأنها أن تشكّل محيط النص القرآني:

"تتكوّن الوِحدة الثّانية لهذا المشروع من قاعدة معطيات تقوم بجرد لغة ومحتوى تقاطعات الآيات القرآنيّة مع مأثورات ما قبل القرآن (وبالخصوص مع الأدب اليهودي-المسيحي البَيْبلي وما بعد بيبلي وكذلك مع الشعر الجاهلي" (7).

وهذا المشروع يمثل في حد ذاته مشروعا مفيدا جدّا. كلّ الإشكالية تتمثل في معرفة من أين ينطلق هذا البحث على المقاطع قبل-قرآنيّة. فإذا كان الانطلاق يبدأ من النّص القانوني (الرّسمي) أو من بعض القراءات ذات الاختلافات الطفيفة، فإنّه من المحتمل أن نَمرَّ مرَّ الكرام بجانب المعطيات الحاسمة. وبناءً على ذلك، فإنّ أقرب قراءة موازية للآية 3 من سورة القدر (97: 3)، مقروءة حسب القراءة القانونيّة، هي دون شك قراءة المزمور 84 (83): 11 "لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ كما أَشَاء. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ" ـ غير أنّ هذين النَّصيْن لا يتشابهان في النهاية إلاّ تشابُها سطحيّا. وفي المقابل، إذا ما انطلقنا من رَسْم كلمات الآيات وحاولنا قصارى جهدنا تفسير النص بشكل منهجي ما استطعنا إلى ذلك سبيلا فإنّه بمقدورنا أن نجد عندئذ توازي أكثر إقناعا مع أناشيد الميلاد لإفرآم السرياني.

ولذا من الأجدى أن نُذَكِّرَ بتحذير مانفريد كروب (Manfred Kropp):
"إنّه أمر بديهيّ تقريبا، ولكن يجب طرحه كمبدأ من مبادئ النقد النصي في الدراسات القرآنية: فبالرّغم من أنّ التّنقيط في رسم النّص القرآني القانوني يكون في آلاف المرات صائبا، فإنّه ينبغي مع ذلك وضعه موضع تساؤل، من وجهة النّظر المنهجية، خاصة بالنسبة للألفاظ والعبارات التي تطرح صعوبات حتى بالنسبة للتقليد الإسلامي نفسه، فأقدم المخطوطات لم تكن تعرف لا التنقيط ولا أي من علامات القراءة (الحركات، إلخ...). وقد كان هناك غموض وعدم يقين عند القُرّاء والمفسّرين المسلمين منذ بدايات وجود النص القرآني، وهذا دليل على أنّه كانت بحوزتهم مخطوطات مكتوبة، ولا يوجد تقليد شفوي أصلي ومتواتر" (8).

وبعبارات أخرى، فإذا كان العمل الفيلولوجي، انطلاقا من الرَّسْم، غير كافٍ ويجب اثراؤه بتأطيره من خلال وضعه في سياقه التاريخي، فإنّه يبقى ضروريّا ومشروعا ـ ويجب حتّى وضعه، في الغالب الأعم، كشرط مُسبَق للبحث عن التوازيّات النصيّة.

وهذا لا يدل بالتأكيد على أننا سنكون دائما منساقين إلى تغيير القراءة الرّسميّة للنّص القرآني. على سبيل المثال هناك مقطع قرآنيّ يرتبط ارتباطا مباشرا بنصٍّ سرياني: الأمر يتعلق بقصّة ذو القرنين (س18: 83ـ102)، التي مصدرها نصّ سرياني "أسطورة الإسكندر" كُتِب عامَيْ 629-630 (9). إلاّ أن هذا المقطع القرآني لا يحتوي على ما يبدو على أية كلمة سريانية، ولهذا فليست لدينا أية حاجة لتغيير مواضع التنقيط. ففي هذه الحالة يكفي أن نضع الأشياء في سياقها التاريخي. ولكن كلّ ما ينطبق على بعض الآيات القرآنيّة لا ينطبق بالضرورة على آيات أخرى الشيء الذي يتطلّب أن ننطلق من الرَّسْم، وهوما يقودنا إلى قراءة المأثور الإسلامي قراءة مغايرة. ومثل هذه المقاربة هي التي أراد هذا العمل أن يُقدِّم نموذجا عنها.

(انتهى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش

* نُشِر هذا المقال بالفرنسية تحت عنوان:
Guillaume DYE, « La nuit du Destin et la nuit de la Nativité »
ضمن كتاب:
Guillaume Dye & Fabien Nobilio, Figures bibliques en islam, Bruxelles-Fernelmont, EME, 2011

(1) هذه الفكرة ليست جديدة بالرّغم من أنه يتمّ الدفاع عنها بدون شكّ بمزيج من البراهين الجيّدة والفرضيّات الإيحائيّة ولكنّها تأمُّليّة، وكذلك المُسلَّمات أو تخمينات قابلة للنّقاش. أنظر بالخصوص بحوث فريق "إنارة" Inârah المتمركز في برلين بألمانيا.
(2) Neuwith A., 2000, « Du texte de récitation au canon en passant par la liturgie. À propos de la genèse de la composition des sourates et de sa redissolution au cours du développement du culte islamique » (trad. Fr. par T. HERZOG), Arabica n° 47, 2 , p. 208.
(3) يبدو على سبيل المثال أنّ نيويرث تعتبر أنّه من المُسلَّم به أنّ سورة الفيل تتحدّث عن الحملة المزعومة على الكعبة قامت بها جيوش أبرهة الاشرم. هذا بالرّغم من أنّ مصداقيّة هذه الحادثة ليست مؤكَّدة وأنّ النّص القرآني غير صريح. للتّعرّف على تفسير آخر، أنظر:
DE PREMARE A.-L. 2000 « Il voulut détruire le Temple. L’attaque de la Ka’ba par les rois yéminites avant l’islam. Akhbâr et histoire », Journal asiatique n° 288, 2, pp. 261-367.
(4) الأشياء تكون طبعا مختلفة إذا افترضنا أنّه في فترة من الفترات قبل مجيء النّبي (مثلا في عهد جدّه عبد المطّلب وحتّى إعادة بناء الكعبة من طرف قريش عام 608 م)، كانت تُقام شعائر مسيحيّة هجينة، بدون شكّ مصبوغة بصبغة مانويّة، داخل الحرم المكّي. وهي شعائر قد يكون محمّد قد أراد العودة إليها ولو بشكل جزئي.
(5) تقول السيرة النبويّة أنّ محمّد كان يتعاطى التّحنُّث مدّة شهر في السّنة في غار حراء. وهذه المُفردة حيّرت عقول العلماء المسلمين. لمزيد من الاطّلاع أنظر الدراسات المتبحِّرة جدّا والتي تُهمِل مع ذلك الفرضيّة السريانيّة لأصل الكلمة:
KISTER M. J., « Al-tahannuth an inquiry into the meaning of a term », Bulletin of the School of Oriental and African studies n° 31, 2, pp. 233-268 CALDER N. 1988, “Hinth, birr, tabarrur, tahannuth An Inquiry into the Arabic Vocabulary of Vows”, Bulletin of the School of Oriental and African studies n° 51, 2, pp. 214-239.
(6) أنظر على سبيل المثال الدراسات التي جمعها هاوتينغ:
HAWTIHNG G. (éd), 2006, The Development of Islamic Ritual, Aldershot Ashgate Publishing-limit-ed.
(7) أنظر الموقع التالي الذي زرته في 22 أفريل 2011:
www.bbaw.de/forschung/projektdarstellung
(8) أنظر:
KROPP M., 2008, art. cit., p. 787.
(9) أنظر:
VAN BLADEL K., 2008 « The Alexander Legend in the Qur’an 18M83-102 », in REYNOLDS G. S. (éd), 2008, op. cit., pp. 175-203.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليلة القدر في الأدبيات الاسلامية معروفة
عبد الله اغونان ( 2016 / 6 / 20 - 04:54 )

هل من الممكن تغيير فهمنا لها؟
هي في العشر الأواخر أو في السابع والعشرين
وكل تحريف وتأويل فهو خارج السياااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااق
هل تحاولون أن تفهمونا ديننا ؟
نص على ذلك القران المقدس
وصحيح الحديث النبوي الشريف
فلا ااااااااااااااااااااااااااااااااااااا مزايدة


2 - شكر وتقدير
شاكر شكور ( 2016 / 6 / 20 - 06:51 )
تحياتنا استاذ ناصر وتحية لجهودك الكبيرة والقيّمة في اعداد هذه الحلقات الشيقة عن موضوع ليلة القدر ، الحقيقة استاذ ناصر كل ما تقدمه للقارئ يشير الى الأبداع في اختيار المواضيع فنحن القراء مدينين لك وللسادة المترجمين ولا يسعنا في ختام هذه الحلقات إلا ان نقدم لك وللسادة المترجمين الشكر الجزيل متمنين لكم دوام الصحة والموفقية


3 - لنكن في خدمة العلم والمعرفة
ناصر بن رجب ( 2016 / 6 / 20 - 19:40 )
ألف تحيّة لك أستاذ شاكر
شكرا على تشجيعك. نعم إنّنا نحاول أن نخرج من دائرة الإعادة والتكرار لنفس الأفكار والمناهج التي تمتلئ بها صفحات وسائل الإعلام العربيّة الإسلامية من ترديد ما قاله الأسلاف (الطبري، والبخاري، وابن حنبل وابن تيميّة... إلى آخر السلسلة التي يُقدّسها -علماء- المسلمين المعاصرين ويُغذّون بها عقول الناشئة صباح مساء). نعم نريد أن ننفض الغبار على هذا التراث الذي قضّت أجيال من الفقهاء والمؤرّخين والمفسّرين والمحدّثين المسلمين كل أعمارهم لإهالة التراب عليه وإخفاء محيطه التاريخي والجغرافي وتقديم الإسلام عامّة والقرآن خاصّة على أنّه نصّ خارج الزمان والمكان


4 - لنكن في خدمة العلم والمعرفة2
ناصر بن رجب ( 2016 / 6 / 20 - 19:41 )
إنّ الدراسات التي نترجمها نريد من خلالها تقديم قيمة إضافيّة للقارئ العربي من حيث أنها تمثّل مجهودا فكريّا مُبتكرا بابتعادها عن الاجترار المُمل ومحاولة الكشف عن الخلفية الثقافية التي نشأ فيها القرآن وترعرع والبرهنة على أن ذلك كان أمرا طبيعيّا وهو شأن كلّ الثقافات التي تعايشت وأخذت من بعضها البعض دون أن تخجل من ذلك أو تشعر بمركّب نقص. مع الأسف المسلمون بصورة عامة وعلماؤهم بصورة خاصة هم الوحيدون في العالم الذين يرفضون ذلك بكل ما أوتوا من قوّة. ولكن التاريخ لا يرحم. والحقائق طال الزمن أو قصر سوف تطفو إلى السطح بفضل الدراسات العلمية الموضوعيّة.
ودمت


5 - هل العفيف الأخضر رمز وطني؟
أمازيغي تونسي ( 2016 / 7 / 1 - 16:51 )
من محمد الإيمان إلى العفيف العربي الجاهل بأصله أو الناكر له:هو كتابه الأخير الذي قدم فيه زبدة -ثقافته العربية- الواسعة،جيد له أنه فهم حقيقة الوهم الأول أقصد الدين وهذا ليس إكتشاف كوبرنيكي أو دارويني أحيطك علما أن تلاميذالمعاهد اليوم عبر النات يكتشفون نفس الحقيقة،لكن ماذا عن الوهم الثاني وهو أن تونس عربية وشعبها عربي؟ للأسف الأخضر لم يعرف حقيقته فهومن رواد الفكر -العربي- ومن مريدي الخونة أمثال بن بلة العروبي ومن المدافعين عن فلسطين(التي يمكن إعتبارها وهما ثالثا) التي دمرت وجهلت شعبه إلى آخر إنجازاته العظيمة.الحقيقة التي يستطيع تلميذ ثانوية اليوم إكتشافها هي أن الإسلام والعروبة وجهان لنفس العملة:الإستعمار، تونس كما شمال أفريكا أمازيغية أرضا وشعبا:إستيقض عزيزي ناصر ولا تعش خائنا لوطنك المحتل كما عاش أستاذك.


6 - بقية ...
أمازيغي تونسي ( 2016 / 7 / 2 - 16:12 )
نسيت أن أثني عليك بخصوص الترجمات لكن للأسف لا أثر لوطني المحتل فيها؛لا تاريخه الحقيقي الذي زيفه الخونة ولا تشخيصا مباشرا لمرضه الحقيقي الذي ينهش جسمه المهترئ منذ بداية الإحتلال العربوإسلامي إلى اليوم ولا كلاما عن هويته الحقيقية وأظن كل هذا لا يهمك فأنت وكما كتبت تكتب للقارئ -العربي- ليس للقارئ السوري أو المصري أو٠-;-٠-;-٠-;-أو مايهمني شخصيا القارئ الأمازيغي الشمال أفريقي. تحياتي

اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك