الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيامٌ في الناصرة

سميح مسعود

2016 / 6 / 21
الادب والفن


فارقت أحبتي في الناصرة , ولم أعد بالقرب منهم أستظل بألفتهم الحميمة، وهأنذا بعد مضي أيام على فراقهم أشعر أنني ما زلت بينهم ، أستشعرهم بالقرب مني ، ويتناهى إلى سمعي صدى أصواتهم ، أكتب لهم الان عن بعدٍ في غمرة عاطفة وذكرى، لأشكرهم على الوقت الذي عشته معهم ، وعلى الكلام الجميل المجبول بأريحيتهم الدائمة الذي سمعته منهم .

كان لقائي بهم لإشهارالجزء الثاني من كتابي " حيفا ... بُرقة البحث عن الجذور" تكريماً لي لم أنله من قبل ، لم أتمكن في حفل الإشهارمن السيطرة على عواطفي أمام حشد كبير توافد من أهل بلدي لقاعة الحفل ، نظرت إليهم بفيض إنفعالات عارمة ، وشعرت أنني منهم ولم أنفصل عنهم طيلة عمري .

نعم، هذا هو الإنطباع الذي خرجت به في تلك اللحظة، واستحوذ علي هذا الإنطباع، وانا أسمع مداخلات ثلة من المتحدثين بكلماتهم المؤثرة، كان أول من تحدث منهم الشاعر مفلح طبعوني، ثم تبعه الدكتور محمود يزبك الذي أشرف على عرافة الحفل ، وبذل جهداً كبيراً في تنظيم الحفل، كان طيلة أيام طويلة مضطرم النشاط يضفي على كل ما يقوم به فيضاً من الحيوية ، وبعده تحدث على التوالي: الدكتور جوني منصور ،الدكتور سهيل أسعد، والاستاذ رائد نصر الله .

كلماتهم لن تُمحى ذكراها من خاطري ولن تغشاها الظلال ، أكدوا بتركيبات نصية متشابكة، أن البحث عن الجذور يُساعد على تشكيل جوانب مهمة من الذاكرة الجمعية الفلسطينية الغائرة في عمق الزمان والمكان؛ كالشجرة الظليلة في تشكيل الهوية والإنتساب إلى الوطن.

ويُساعد أيضاًعلى التعرف على الذات والآخر، وتشاء الصدف أن ألتقي برائد نصر الله لأول مرة في حياتي قبل دقائق من إلقاء كلمته، مع أن عائلته تنحدر من جذور قريتي بُرقة، ووالده جورج نصر الله وعمه فرنسيس نصر الله، اللذين استقرا مبكراً في الناصرة، ارتبطا مع عمتي نجية في إكسال بعلاقة متميزة، فقد "خاوتهما" لأنهما مثلها من بُرقة تترابط معهما بذكرى مسقط الرأس، وقد عاملاها كأخوين لها حتى وافاها الأجل المحتوم، وهذه العلاقة لا تزال مستمرة حتى الآن ، يتسع مداها ، وتمتد جذورها مع الأبناء والأحفاد.

وهكذا تعرفت عليه بفضل البحث عن الجذور، كما تعرفت قبل عامين لأول مرة على الدكتور سهيل أسعد الذي تنحدر جذوره من بُرقة أيضا، وتعرفت على مجموعة كبيرة من الرجال والنساء تمتد جذورهم على اتساع المكان في حيفا وبٌرقة، تجمعني بهم منابت الجذور وحب الوطن وكل ما ُيذكر بالوطن .

زرتهم في بيوتهم ووضعت قائمة بأسمائهم في كتابي ، يصعبُ عليّ ذكرهم كلهم في هذه العجالة، واكتفي بذكر سهيل محمد سيف من شفا عمرو، غالب سيف من يانوح ، رفيق عبد القادر مسعود من عرعرة ،كمال كسابري من الناصرة، الدكتور مروان درويش من كفر ياسيف، ذيب لطف حسين من دير حنا، ، بولس كسابري من حيفا، ، وابن عم أمي أحمد عبد عودة من عبلين الذي التقيته لأول مرة في حياتي أثناء بحثي عن الجذور في الربيع الماضي.

سُعدت أيما سعادة باللقاء بهم وبأقرباء كثر لهم أثناء حفل إشهار كتابي في الناصرة ، أهديتهم نسخاً من كتابي، ورفعت أحاديثهم معي من آماد خيالاتي، لأحلق أبعد وأبعد في فضاءات بلادي، وأفتح أفاقاً واسعة للتأكيد على امتداد جذورهم المتشابكة ،بكل ما تنطوي عليه من معانٍ كثيرة، أهمها هو معنى الإنتماء للوطن،رغم الاحتلال وكل أنواع الظلم والاضطهاد والتشريد والمآسي والإحباطات.

وسًعدت أيضاً بالتعرف على الناصرة عاصمة الثقافة الفلسطينية، خلال الأيام التي سبقت إشهار الكتاب، بآفاق تلك الأيام المثقلة باللقاءات أتيح لي التعرف على مؤسسة الراحل الكبير توفيق زياد للثقافة الوطنية والإبداع ، عرفني رئيسها أديب أبو رحمون على مقتنيات المؤسسة، ومنها مجلدات أعداد الاتحاد القديمة، ومؤلفات كثيرة ، تتضمن أعمال الشاعر الكبير، امتد الحديث معه حول الحاضر الغائب توفيق زياد، في ظلال بريق كلماتٍ جميلةٍ عن شعره ونضاله ، كقائد كبير من أبرز شعراء المقاومة، وأعقب ذلك زيارة لضريحه، قمت بها برفقة أديب أبو رحمون ورائد نصر الله، كما زرت معهما ضريح الشاعر الكبير عبد الرحيم محمود.

ولا أنسى الجولات التي قمت بها للتعرف على الناصرة برفقة الدكتور محمود يزبك وصديقه زياد أبو السعود الظاهر ، تجولت معهما مشياً على الأقدام، سرنا في أزقة عتيقة مرصوفة بالحجارة، ينبعث منها هدير أزمنة طويلة ، اتجهنا فيها صعوداً، وسرعان ما وصلنا كنيسة البشارة للاتين التي تعتبر واحدة من اهم الكنائس في العالم، ثم زرنا كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس، وبعدها زرنا عين العذراء ، ومدرسة المسكوبية، التي درس فيها ميخائيل نعيمة، وتحدث عنها في مذكراته " سبعون " .

كررت التجوال سيراً على الأقدام في الناصرة برفقة رائد نصر الله، استمر بصري بالتنقل بين أجزاء تاريخية كثيرة،اتسع نطاق نظري في الامتداد نحو كل الجهات، حدثني عنها رائد في أمورٍ شتى، وعرفني على مرافق كثيرة، منها المسجد الأبيض، ومبنى خان الباشا، ومقام شهاب الدين الأيوبي، وبناية آل الفاهوم التراثية، التي يرنُ صوت التاريخ فيها، التقيت في داخلها بالمحامي وليد الفاهوم،عرفني على تفاصيل جدرانها وأبوابها وأقواسها، وعلى لوحة فنية مرسومة على امتداد سقف أعلى علية فيها، ألوانها كاضواء مصابيح تترقرق في أعلى السقف.

بعد هذا التجوال في الناصرة، رافقت رائد بسيارته في رحلة عرفني بها على الجليل الأعلى،مضينا معا في يوم ممطر، كنت فيه أشم شذا رذاذ حبات المطر، كنت صامتا بعض الوقت وخيالي يحلق في أجواء عالية حول أوضاع بلدي تراثاً وتاريخاً وراهناً ... وهج آمال لفحتني واتسعت حولي في المدى الممتد إلى ما لا يدركه البصر... وفي نهاية التجوال استمتعت أيما استمتاع بزيارة الفنان المعروف أشرف برهوم في منزله في ترشيحا، وهو صديق ابني وليد، حدثني مطولاًعن بلدته المسكونة بكثير من الصور والمعاني الفنية الجميلة ، أحاديثه عنها أيقظ في داخلي لحظات مسرة نادرة.

أحسست بما يكفي من الإرتياح، لاكتشاف تفاصيل أجزاء أخرى من الناصرة، عرفني عليها الكاتب سميح غنادري، تلمستُ بها أطياف التاريخ في تلك اللحظات الخاطفة، وأسعدني كثيراً قضاء ساعات طوال مع الشاعر مفلح طبعوني، بدأ اللقاء به في مكتبه، عرفني على بعض أصدقائه، ومنهم الروائي والكاتب المعروف عودة بشارات، ثم تواصل اللقاء معه في جلسة على شرفة مطعم "تشرين" ... كانت الشمس مشرقة ، والناصرة حولنا على امتداد المدى، حدثني في أمور شتى عن الحياة الثقافية في مدينته، وشعرت بانفعالات كثيرة توالت في نفسي الواحدة تلو الأخرى، وهو يحدثني بفيض من الحيوية عن مآثرعدد كبير من الشعراء والكتاب ... بذكراهم تستضيء الحياة بأنوار أخرى .

هناك الكثير من الذكريات الجميلة التي حملتها لي الأيام القليلة التي عشتها في الناصرة ، لا أستطيع حصرها على وجه الدقة بكلمات معدودة ، إنها تتدفق على خاطري ، فيخفق قلبي لها، ويكفيني القول أنها تدور كلها حول صور حقيقية عن نبل صمود أهل بلدي في الداخل الفلسطيني وسط ظلمة لا تُطاق ، وتعبرعن تجذرهم كاحجار الصوان في أرضنا الطيبة ، وعن حفاظهم على لغتهم وهويتهم، وعلى عاداتهم العربية الأصيلة ، وعن حفاظهم على أتلام أرضنا وأشجارنا وبيوتنا وأمواج بحرنا موجة موجة، وكل ما لنا بلا إستثناء .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/