الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبدالوهاب البياتي في موسكو ... ملاحظات وإنطباعات

جودت هوشيار
كاتب

2016 / 6 / 22
الادب والفن


أنا لست موظفاً ، أنا شاعر !

لم يكن قد مضى على وجودنا في موسكو في نوفمبر 1959 – نحن الوجبة الأولى من طلبة البعثات العراقية - سوى بضعة أسابيع حين سرى بين الطلبة خبر ( مفرح ) ، مفاده ان الشاعر عبدالوهاب البياتي قد وصل موسكو ملحقاً ثقافياً في السفارة العراقية . كان المزاج اليساري طاغياً بين الطلبة العراقيين ، وكان البياتي في ظنهم هو رائد الشعر العراقي ( التقدمي ) الجديد ، أي الشعر المكرس للدفاع عن الفقراء والمظلومين . ولكنني تلقيت الخبر بحذر وتوجس . لأنني لم أكن يوما معجباً بشعر البياتي أو بشخصيته
كانت قصائد ديوان البياتي الأول " ملائكة وشياطين " من الشعر العمودي العادي الذي كان مثله ، بل أفضل منه بكثير ، ينشر في الصحافة الأدبية العراقية وفي دواوين شعراء الخمسينات . أما شعره المنشور في دواوينه الخمسة اللاحقة الصادرة حتى ذلك الحين ، فقد كان من نمط شعر التفعيلة ، ولكنه كان شعراً مباشرا أشبه بالشعارات ، ولا يمت الى الشعر الحقيقي بصلة . لم يكن الشعر هو الذي كان يهم معظم الطلبة ، بل البياتي نفسه ، لأنه كما كانوا يقولون ( منا وبينا ) . لم يكن أي طالب يحفظ ولو بيتاً واحداً من شعره ، رغم بساطة هذا الشعر ، الذي لا يتطلب أي جهد لفك ألغازه المغلفة بالكلمات الثورية . وكان واضحاً أن أدوات البياتي الفنية كان بائساً وشعره لا يرقي الى مستوى شعر بدر شاكر السيّاب . ولكن السياب كان مكروها من هؤلاء الطلبة ، وعندما كنت أبدي اعجابي به ،كانوا يقولون في استنكار : (ما الذي يعجبك في قصائد هذا " الخائن " ؟) . والمعروف ان " الخائن " عنوان قصيدة للبياتي يهجو فيها السياب بأقذع الألفاظ ، ونشره في حينه في بعض الصحف( التقدمية ) لركوب الموجة اليسارية السائدة ، واشغال المكان الذي تركه السيّاب خالياً بعد ابتعاده عن هذه الموجة .
نظمت رابطة الطلبة العراقيين في موسكو لقاءًا مع البياتي في احدى قاعات الكلية التحضيرية التابعة لجامعة موسكو ، حضره معظم الطلبة العراقيين الدارسين في العاصمة السوفيتية ، الذين استقبلوا البياتي استقبال الأبطال ، ولم تهدأ عاصفة التصفيق الا بأشارة من منظمي اللقاء . اعتلى البياتي المنبر ، وهو منفوش كالطاووس ، وأجال بصره في انحاء القاعة ،قبل أن يتحدث بصوته المبحوح عن الصداقة العراقية – السوفيتية وأشياء أخرى من هذا القبيل .وأخذ الطلبة يطرحون عليه أسئلة تتعلق بمشاكلهم الدراسية والمعيشية . استمع الى كل هذه الأسئلة بتأفف ، ثم صرخ في وجوههم : " أنا لست موظفاً ، أنا شاعر " . والغريب في الأمر أن أحداً لم يقل له : " اذن ما هي مهمتك في موسكو ، اذا كنت لا تريد حتى سماع مشاكل الطلبة الذين لولاهم لما كنت اليوم في عاصمة العمال والفلاحيين الذين تتغنى بهم دوماً " ؟
انتهى اللقاء وودع الشاعر بمثل ما استقبل به من حفاوة . ولكني لا أدري لماذا تشاءمت من هذا اللقاء وقلت في نفسي ، هل أرسلته بغداد لمتابعة قضايا الطلبة وتعزيز العلاقات الثقافية مع الأتحاد السوفييتي أم لكتابة شعر جديد عن دولة العمال والفلاحين ؟
بعثة جمهورية مهاباد :
كانت لدي مشكلة تتعلق بتخصصي الدراسي . كنت أرغب في دراسة الهندسة الكهربائية ، ولكن ظهر اسمي ضمن المقبولين في الهندسة المدنية . كنا سنقضي في الكلية التحضيرية سنة دراسية كاملة وكان لدي الوقت لمعالجة المشكلة ولكن كيف ؟ هذا ما كنت أفكر فيه دوماً ولكن الحل جاء من حيث لا أحتسب.
ذات أمسية طرق باب غرفتي شخص يسأل عني . وبادر الى التعريف بنفسه ، وقال بلغة كوردية رائقة وصوت رخيم : - أنا الدكتور م. س. طبيب القلب .
- قلت: تفضل على الرحب والسعة
جلس حول الطاولة الوحيدة في الغرفة - التي كنا – أنا وزميلي الأوكراني - نستخدمها لأغراض شتى: للأكل والمطالعة والكتابة وكي الملابس.
- قلت : يا دكتور لدي شاي سيلاني جلبته معي ، وسأحضر لك شايا أصيلا خلال بضع دقائق . عندما رجعت من المطبخ كان الدكتور يتبادل الحديث مع زميلي الأوكراني ، ثم قال له: معذرة لأننا سنتحدث مع زميلك بالكوردية لو سمحت .
ثم خاطبني قائلاً : قد تتساءل من أكون ولماذا جئت أبحث عنك وعن زملائك الكورد ؟
وحكى قصة اول بعثة دراسية أوفدتها حكومة جمهورية مهاباد الى الأتحاد السوفييتي قائلاً : " كنا خمسة طلاب جئنا لدراسة الطب ، ولم نكد ننهي السنة التحضيرية حتى أنهارت الجمهورية بعد صفقة النفط المعروفة بين ستالين ورئيس الوزراء الأيراني على حساب الشعب الكوردي . بقينا بلا مورد ومقطوعين عن أهلنا ووطننا ، وقد تحملنا الكثير من المشاق والمتاعب حتى انهينا دراستنا بنجاح ، ونحن نعمل اليوم في مستشفيات موسكو . ويسرني أن ادعوك الى تناول العشاء في شقتي غداً . وأخرج قلما وورقة من حقيبته وكتب العنوان بالروسية وبخط واضح ، ورسم طريق الوصول الى مسكنه ..
كانت شقة جميلة في عمارة شاهقة تقع بالقرب من محطة مترو " جامعة موسكو " وكان الدكتور متزوجاً من طبيبة روسية شقراء ، في غاية الطيبة والرقة . وفي هذه الجلسة شرحت للدكتور مشكلتي فوعدني خيراً . وذات يوم قال لي ان الملحق الثقافي في السفارة العراقية صديقي وسيعالج المشكلة التي حدثتني عنها . لم أكن متفائلا ولكن الدكتور بدد مخاوفي وقال : ان البياتي سيهتم بمشكلتك لأنه منذ أن علم بأنني طبيب ناظم حكمت ، أخذ يلح عليّ ، أن ارتب له لقاءًا مع الشاعر التركي ، ، ولكن ناظم مشغول دوماً ، فهو ما أن يرجع من رحلة حتى يغادر من جديد الى بلد آخر بدعوة من أصدقائه وناشري شعره بشتى لغات العالم .
جاءني الدكتور يوماً ليقول لي أنه رتب كل شيء وسينتظرني غداً في الثامنة صباحا قرب باب الدخول الى محطة المترو القريبة من الجامعة للذهاب الى السفارة العراقية .
كانت الملحقية تشغل جناحا صغيراً في بناية السفارة . وبعد أن رحب البياتي بنا . قال الدكتور : هذا صديقي الذي حدثتك عنه. وبعد أن شرحت مشكلتي للبياتي ،قال : قدم طلبا وسنرى . سألته وماذا اكتب في الطلب . قال : اكتب نظراً لرغبتي الشديدة في دراسة الهندسة الكهربائية ... الخ . أخذ الطلب وقال سأحاول الحصول على موافقة مديرية البعثات في بغداد .
كنت التقي الدكتور وزملائه الأطباء الكورد الآخرين الذين كانوا يقيمون الولائم للطلبة الكورد بسخاء . بعد بضعة أسابيع وفي احدى لقاءاتنا قال الدكتور:.
- ما أن عاد ناظم حكمت من سفرته الأخيرة ، حتى ذهبت الى شقته للأطمئنان على صحته ، فقلبه عليل وهو لا يهتم بصحته كثيرا .ً قلت له : ان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي متلهف للقاءك ويتصل بي هاتفيا يوميا ، ويسألني ان كا ن بوسعك مقابلته!
قال ناظم : لقد التقيت البياتي في أحد المؤتمرات الأدبية . الشعراء المناضلون اخوتي . وهذا شاعر ثوري حكم بالأعدام مرتين من قبل السلطة الرجعية في بلاده ، ولكن الشعب العراقي هاج وخرجت مظاهرات حاشدة في بغداد والمدن العراقية الأخرى ترفع شعار " الحرية للبياتي " وقد اضطرت السلطة الى اطلاق سراحه فهرب من العراق ، كما هربت أنا من تركيا بعد قضاء سبعة عشر عاما في السجن . فكيف لا أقابله !
قلت للدكتور : هذه أول مرة أسمع فيها هذه الحكاية .! وفهم الدكتور مغزى كلامي ولكنه لم يعلق عليه. بل اضاف :
عندما اخبرت البياتي بترحيب ناظم لملاقاته شكرني ، وقال : سأحاول تحقيق رغبة صديقك الطالب الكوردي، فمدير البعثات الدكتور صلاح خالص لا يرفض لي طلباً .
بعد حوالي عشرين يوما ، جاءني الدكتور هاشاً باشاً ليقول لي : بغداد وافقت على طلبك . ينبغي أن نحتفل بهذه المناسبة ونشرب نخب نجاحك.
- قلت : بل نخب ناظم حكمت الذي وافق على مقابلة البياتي ، ولولا هذه الموافقة لكان قد رمى طلبي في سلة المهملات ، فهو شاعر وليس موظفاً !.
لقاءات عابرة :
السنوات التي قضاها البياتي في موسكو ( أواخر 1959- 1964 ) كانت سنوات ذهبية للشعر الروسي ، فقد كان الشعراء الشباب ( يفتوشينكو ، فوزنيسينسكي ، أخمدولينا وغيرهم ) يوقدون حماس الشباب بقصائدهم الجديدة الرائعة .ولم يكن يمر اسبوع دون ان يقام اكثر من لقاء شعري مع جمهورالشباب في الجامعات والمعاهد ، وفي المعامل وقصور الثقافة ، وفي ستوديو لينين الرياضي الذي كان يتسع لثلاثين الف متفرج جاءوا ليستمعوا الى آخر قصائد الشعراء المعبرين عن همومهم وتطلعاتهم وآمالهم في التغيير . ولكن رغم ترددي الدائم على مثل هذه اللقاءات لم أر البياتي يوما في أي لقاء شعري . لا مشاركاً ولا مستمعاً ، ولا اعلم السبب .هل لأن ان شعره غير صالح للألقاء ، أم أن العلة في صوته.وطريقة القائه ربما يقول البعض انه الخجل ، ولكني لا أعتقد ذلك . لأن البياتي لم يكن خجولا ،بل صامتا معظم الأحيان ، ينفث دخان سيكارته في وجهك ، ثم يأخذ نفساً عميقاً و يحدق في المجهول ..
ويبدو أنه لم يكن لديه وقت يضيّعه في مثل هذه اللقاءات ، فقد كانت هناك لقاءات أجمل وأمتع ! .كم مرة رأيته واقفا في نواصي الشوارع وقرب مداخل محطات المترو يتطلع الى الجهة التي ستأتي منها سيدة المساء. والغريب في الأمر أن مغامراته النسائية لم تنعكس قط في شعره ، كما انعكس في شعر زميلنا في الكلية التحضيرية حسب الشيخ جعفر مثلاً . الذي كتب قصائد كثيرة وعدة روايات استمد مادتها من علاقاته العاطفية وان كان قد بالغ مبالغة عظيمة في سردها ، كأنه دون جوان ترتمي الحسناوات على قدميه أينما حل .
أن الشعراء قي العادة هم من أرق الناس وأكثرهم انبهاراً بالجمال الأنثوي . ولا يوجد شاعر مهما كان حجم موهبته ، لم يذب عشقا وهياما في حضرة المحبوبة . ولكن يبدو ان البياتي لم يكن يحب أحداً. لا الشعراء ، ولا النساء .
بعد انقلاب الثامن من فبراير 1963 وفصله من الوظيفة ، أتخذ البياتي من مقهى يقع في لوبي فندق ( موسكو ) الشهير في قلب العاصمة السوفيتية .، مقراً دائماً له . كان الطلبة العراقيون يتحلقون حوله وينقلون له آخر أخبار الوطن الجريح . ثم غادر موسكو الى القاهرة في عام 1964 .
لم يتعلم البياتي اللغة الروسية ، في حين اني رأيت طلاباً أجانب من أوروبا الغربية وأميركا جاءوا الى موسكو لتعلم اللغة الروسية من أجل قراءة الروائع الأدبية الروسية بلغتها الأصلية التي كتبت بها .
ثمة اشاعة - روجها البياتي بنفسه بعد اقامته في القاهرة – مفادها أنه عمل استاذاً في جامعة موسكو وباحثا علميا في معهد الأستشراق . ولكن هذا كان بنداً ضمن برنامجه الدعائي ، الذي تصدره قصائد سياسية مباشرة وتقريرية في مديح عبدالناصر .
ان الزمن هو الحكم الفصل في فرز الصالح عن الطالح . والأبداع الحقيقي يبقى حياً ومقروءا مهما طال الزمن ، ولكن لا أحد اليوم يحفظ أو يقرأ شيئاً من شعر البياتي . ولكي أكون دقيقاً أذكر أنني سمعت منذ عدة سنوات في بغداد أحد الشعراء الشباب وهو يردد ضاحكاً بيتا واحدا من شعر البياتي ورد في مطلع قصيدته المسماة " الأميرة والغجري " وهو بيت ( شعري ) عجيب ، هذا نصه " أدخل في عينيك - تخرجين من فمي "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا