الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة نقدية بقلم الأستاذة سامية البحري: - أحلام وذباب- للكاتب عبد الكريم الساعدي أنموذجا ميلودراما الخطاب مشروعية الحلم في زمن الذباب

عبدالكريم الساعدي

2016 / 6 / 25
الادب والفن


دراسة نقدية بقلم الأستاذة سامية البحري: " أحلام وذباب"
للكاتب عبد الكريم الساعدي أنموذجا
ميلودراما الخطاب مشروعية الحلم في زمن الذباب
تصدير:
" لو تحولت أحلامي إلى حقائق لما اكتفيت بها، بل لظللت أتخيل وأحلم لا تقف رغبتي عند حدّ لأني لا أزال أجد في نفسي فراغا لا يشرح ولا يملؤه شيء، إنه نوع من انطلاق القلب إلى مصدر متعة لا علم لي بها، ولكني أحسّ بحاجتي إليها، بل إنّي لأجد في ذلك الانطلاق نفسه متعة، لأنه يغزو جوانب نفسي بشعور قوي كلّ القوة، وبحزن عميق يجتذبني إليه"
جون جاك روسو
مدخل:
إن النص فضاء ممتدّ تنتظم داخله جملة من الفقرات والمقاطع المترابطة، شكلا ودلالة وهو يحمل جملة من المقاصد ويرتبط بغايات مباشرة وضمنية. وقد أظهر الفيلسوف بول ريكور* احترازا شديدا إزاء المبادئ والمسلمات اللسانية التي تحكمت في وصف الخطاب وتحليل مفهومه والبحث في أبعاده، فهي في رأيه قاعدة قاصرة، غير مؤهلة للإجابة عن الإشكاليات الجوهرية لعلاقة الخطاب بالعالم الواقعي، وعلاقة الخطاب بالمتقبل. وبناء عليه سنحاول الحفر في حقل هذا النص " أحلام وذباب" علّنا نصالح بين الوظيفة الوصفية/ البنيوية وعلم الدّلالة، لنتمكن من الرّبط بين الخطاب والعالم الذي يحيطه، إيمانا منّا أنّ "الخطاب لا ينبغي له أبدا، أن يمجّد لذاته"**
ـ 1ـ على ضفاف النص:
ما يستوقفنا في البداية هو قيام النص على جملة من المقاطع المختلفة، المؤتلفة في آن، إذ نعثر على ثلاثة أنواع وهي:
ـ المقطع السردي
ـ المقطع الوصفي
ـ المقطع الحواري
فماهو مفهوم المقطع لغة واصطلاحا؟ وكيف يتحدّد هذا المفهوم في الثقافة الغربية أساسا؟
أ ـ المقطع في لسان العرب:
يعرف المقطع في لسان العرب، لابن منظور على النحو التالي:
" مقاطيع الأودية: مآخيرها . ومنقطع كل شيء: حيث ينتهي إليه طرفه. والمنقطع: الشيء نفسه.
وشراب لذيذ المقطع أي الآخر والخاتمة. وقطع الماء قطعا: شقه وجازه. وقطع به النهر واقطعه إياه واقطعه به: جاوزه، وهو من الفصل بين الأجزاء. وقطعت النهر قطعا والغربية أو ومقاطع القرآن: مواضع الوقوف، ومبادئه: مواضع الابتداء***
وبناء عليه ندرك أن المقطع هو جزء من الكل الذي هو النص، والنص هو جملة من المقاطع المنسجمة، وهي تتركب من بداية ونهاية.
ب ـ المقطع في لسان الغرب:
المقطع في الثقافة الغربية أو المتوالية أو الفقرة paragraphe / séquence textuelle / strophes
مجموعة من الجمل تشكل وحدة دلالية كبرى وتنسجم فيما بينها عن طريق آليات مختلفة: كالسرد/ الحوار/ الوصف....
وقد كان "بروب"** أول من استعمل تقنية التقطيع النّصي إلى وحدات وفقرات ومقاطع. وكان ذلك في كتابه ( الحكايات الروسية العجيبة). كما يعتبر الباحث السويسري "جان ميشيل آدم"** من أهم الباحثين الذين اهتموا بتحليل النصوص والخطابات في ضوء لسانيات النص، وقد حدّد خمسة أنواع من المقاطع أو المتواليات النصية التي توجد في خطاب معين هي:
المقطع السردي/ المقطع الوصفي / المقطع الحجاجي/ المقطع التفسيري / المقطع الحواري
ويتكون كل مقطع من ملفوظات تركيبية منسجمة لها وظيفة دلالية
2 ـ في عمق النص:
إن الباحث في هذا النص يجابه ذبابة ماردة تجعل القراءة تضجّ بالطنين، فكأنه في خلاء مظلم ليس له من قنديل، وكلما خيل إليه أنه رأى بصيصا من نور اصطدم وتعثّر.
فعلينا إذن أن نبحث عن مسرب ندخل من خلاله إلى هذه المتاهة. إن هذا النص "أحلام وذباب" يتضمن مجموعة من المقاطع التي تساهم في بناء نسيج القصة وانتظام خيوطها من البداية حتى النهاية، ومن أهم هذه المقاطع:
أ ـ المقطع السردي:
ينتظم السرد على لسان الراوي، وقد بدا عليما بكل تفاصيل الحكاية، غارقا فيها حتى النخاع، يلتقط كل التفاصيل المتعلقة بالشخصية، متماهيا معها: فهو الذي يلتقط أفعالها/ يعطيها الإذن بالكلام / ينقل مشاعرها وأحاسيسها.
هذا التماهي الشديد بين الشخصية/ والراوي يدفعنا إلى حديث عن قرب بينهما ومعرفة ما قبلية
هاهو يلتقط التفاصيل المتعلقة به، يرصده عن قرب فيقول:
" التفت حوله، جميع رفاقه يغطّون في نوم عميق، إلّا هو، ابتلى بأرقٍ متجدّد. مرّت ساعات يتوسل نومه، الأبواب موصدة، الظلمة تمخر عباب عينيه المعلّقتين في سقف الأوهام، وما من طيف يمرّ، ولا صورة تجوس ظلّ ذاكرته الهرمة. الصداع يتسلّل إلى رأسه "
وهذه اللحظة تصور وضعية الشخصية الموغلة في الوحدة والصمت والملل.
إلى أن تنبثق لحظة مشحونة بالنقمة والفزع والحركة، الذبابة الماردة مازالت تدور بين الحين والآخر حوله، ترصد صمته، ترشقه بوابل من طنين، قفز من فراشه مذعوراً، يداه تلاكمان الهواء، الفراغ، يطارد الذبابة بحنق - بلا وعي- من مكان إلى آخر، يرتطم بالجدار، يسقط، تؤسره الخيبة. يمتطي خطوات الخذلان، ما تبقى من ليله. يذرع المكان كالمتسول، يقتفي هزائمه المتلاحقة، يجفّف عرق جبينه، يستوي على سريره، ينظر إلى السقف ثانية، يرصف أشلاءه التي بعثرها الطنين، يبتسم،". تصوير مشهدي، مفصل بدا من خلال تتالي الأحداث، وتسلسل الأفعال: ـ يرتطم/ يسقط / يمتطي / يذرع / يقتفي / يجفف م يستوي / ينظر / يرصف / يبتسم... وكلّها أفعال وردت في المضارع مما يكشف عن استمرارها وتلاحقها، وهو ما يكشف كذلك أن الراوي يعيش تلك اللحظات وينقلها من قرب، وهو ما يحيلنا على صورة الكاميرا التي تلتقط تفاصيل الحدث لتسجله عن قرب . أما عن الزمن فهو زمن الليل، الذي يرمز للهزيمة’ والمرارة، والوهم.. في مقابل هذا المشهد نعثر على مشهد ثان، يتأسس في زمن مناقض للأول وهو النهار، لكن يتوازى مع المشهد الأول في تتالي الأفعال واتساقها، وتسلسلها فنرى الكاميرا تلتقط تفاصيل أخرى جديدة، لكنها متعلقة بنفس الشخصية ، فنصغي إليه وهو يغوص في باطن الشخصية فيقول :
" يمضغ بعض الوقت بلامبالاة، يرتقي حاجز الحضور الموحش، يغرق في لحظة تجل ، يتراءى له جداول متبرّجة بأزهار ملوّنة، تطلق أحلامه عند حافة امرأة تنثر عطرها فوق جدائلها المسفوحة فوق عشب أخضر، لم يرَ مثله من قبل، تعصر روحه بفيض فتنتها، رتّب زهوه، تسلّل ما وراء صحوه، تقرعه رغبة العناق ولثم ثغرها، وقبل أن يقتحم ظلال الأشجار الوارفة، اقتحمه طنين تلك الذبابة اللعينة لتحطّ مرة أخرى فوق أنفه الغارق بعطر أوهامه، وما كان منه إلّا أن يصفقها بكلتا يديه تاركاً سلاحه يقعقع، يستثير السمع وسط ذهول الجميع.لا يدري- هذه المرة - كيف يداري ارتباكه؟ خرج وسط الساحة، يلج فجوة"
وبتتبع الأفعال: يمضغ / يرتقي / يغرق، نلاحظ هذا التتابع العجيب، فالفعل الأول متعلق بالثاني ، وكلاهما متعلق بالثالث، لأن الانتظام كان في صور شعرية مجازية لا تدركها العين بل يدركها القلب، فنتوقع أن يغادر الراوي لكن يصدمنا بالغوص في تلك اللحظة المتفردة وهي "لحظة تجل" تعيشها الشخصية، فتكشف عن مواطن الحرمان وعن قسوة الواقع، ويتمكن الراوي من تعرية تلك اللحظة أمام المتقبل، فنغوص معه لنعثر على صورة خصبة للمرأة / الحلم. وهو ما يدفعنا للحديث
ـ رمزية المرأة في لحظة الحلم : عالم المرأة الخصب/ الحب / الشهوة العارمة / اللذة...وسائل لمقاومة الموت والجدب والانكسار. وهي لحظة غرق أرادها البطل ليهرب من حاضره المؤلم، وقد ارتبط حضورها بعالم رحب، خصب ، ملون، معشوشب، مزهر. بعث فيه البهجة وأيقظ فيه الرغبة في المتعة وهو ما يكشف عن عمق الحرمان في زمن الواقع، لذلك رغب في التعويض في الزمن البديل وهو زمن الحلم، إلا أن الذبابة تقف معرقلا وهي تنغص عليه حياته، وتعطل رغبته الواهمة.
ولطالما كانت المرأة تلك القطعة الفنية من فنون الله، التمس لديها آدم الحب والإلهام والرغبة والمتعة، وهي روح ساحرة تحمل بين جنبيها أقدس المعاني في هذا الوجود. وفي حضور المرأة اعتراف أن العالم في غيابها ظلام وضباب وموت، وأنها الوحيدة القادرة على بعث النور في الوجود، وهي القادرة على إخصاب هذا الوجود.
ب ـ المقطع الوصفي:
بني الوصف حول عالم الشخصية الباطني ، فوظفت القرائن الدالة على حركة عنيفة تنمو في عمق البطل وتنذر بنهاية مأساوية، وقد تجلى ذلك بداية من العالم المحيط بالشخصية، الذي رسمه الراوي بدقة متناهية:
" انقضى يوم آخر، عيناه الغائرتان في كهف الأسى، مازالتا معلّقتين في سقف القاعة، ظلمة شاحبة تقرع المكان، تحمله على براق لحظة صمت مغلّفة بأحلام عاقرة، سحاب لا يمطر. كلّ شيء حوله يبدو باهتاً، ضنيناً، حاول أن يرتّق أحلامه المبعثرة عند أطراف سريره، بعدما أخذته رعشة خفيفة، تغصّ بلهاث شهوة عوالم وهمية، إلّا أنّ طنين ذبابة ماردة أطفأ ذلك الشعاع الهارب من حلكة ليله. امتطى غضبه وأطلق سيلاً من اللعنات" كل ما حوله يوحي بالعتمة والأسى، تحاصره الأحلام العاقرة ويغرق في عالم مميت.
فعالم الشخصية، هو عالم مكتظ بصنوف الانكسار والتيه، تتصاعد الأسئلة وتشتد لكن الأجوبة تلوذ بالخواء. لذلك سنتخذ بؤرة التوتر وسيلة للدخول إلى عالم الشخصية:
ـ عينان ـــــــــــــــــــ غائرتان في كهف الأسى/ معلقتان في سقف القاعة، إنّ هذا المشهد الصامت في ظاهره، يكشف عن باطن ثائر، مهزوز، وقد عاضده المكان الغارق في ظلمة شاحبة، ويتعمق كل ذلك بالإغراق في وصف ما يحيطه ونقل أحواله ( باهتا / ضنينا ) لكأنه يستعد لرحلة مفارقة للزمن وللواقع .
وكان للصمت الفضل في خوض الرحلة على براق. إحالة على معراج روحي، لكنه يختلف كل الاختلاف عن رحلة المعراج في بعدها الديني.
ـ المعراج بين لحظتين: الخصوبة / الجدب:
المعراج لحظة خصبة / التأسيس: إذ يعتبر في العقيدة الإسلامية حدثا ضخما من أحداث الدعوة الإسلامية، ويعد الإسراء الرحلة التي أرسل الله بها نبيه محمد( عليه أفضل السلام) على البراق مع جبريل ليلا من بلد ه مكة ـ المسجد الحرام ـ إلى بيت المقدس في فلسطين. وهي رحلة سماوية قام بها الرسول صحبة جبريل على د ابة تسمى البراق، والبراق كائن ورد في بعض مصادر تراث الأديان السماوية، وهو الدابة التي تحمل عليها الأنبياء. فهذه الرحلة هي رحلة/ تأسيسية/ إعجازية، مشحونة بأبعاد قدسية ومفاهيم خارقة، تؤسس لعالم نوراني مقدس.
أما لحظة الشخصية فهي لحظة عاقرة/ مغلفة بالوهم، تكشف عن موت روحي وجسدي، يستجدي من خلالها البطل بعض السراب علّه يطفئ النار المشتعلة في جسده المنهك، والملقى على قارعة الجوع الغريزي ، يلملم الأحلام المبعثرة على أطراف سريره الجامد كما الصخرة. وفي خضم هذا الوهم، تتجلى لحظة الاستدراك ( إلا أن) لتقطع تلك اللحظة الواهمة، وتبرز تلك الذبابة اللعينة / الماردة وقد أثارت غضب الشخصية، فهي بديل للطائرات ودوي المدافع في الصباح، وهذا التماهي بينها يجعلنا نتوقف للبحث في رمزيتها.
ـ الغوص في عالم الذبابة:
إن الذبابة في النص تكتسب عدة دلالات، فهي المعرقل للحلم، وهي تطارد البطل لتعمق مأساته وتزيده لوعة، وكأنها تسعى لافتكاك دوره في النص، والسيطرة على الأحداث، لتصبح مدار اهتمام المتقبل وهمه الوحيد. ولعل ما يستوقفنا هو اختيار الكاتب للذبابة لتكون البطل المتصارع مع الشخصية، لذلك رأينا أن ننظر في وظائف هذه الحشرة. و من وظائف هذه الحشرة: أنّها تُنَقِّي الهواء، بقضائها على النباتات المتفسِّخة والعضويات المتفسخة، ولكنها تحمل في طَيَّاتها ما يزيد عن خمسمائة مليون جرثوم، ووجود الذباب في مكانٍ ما مؤشِّر على أن هذا المكان ليس نظيفاً، فكأنها رادعٌ قوي كي ننظف أفنيتنا . سريعة التنقُّل، تنجب جيلاً كاملاً كل عشرة أيام، أما الشيء الذي لا يصدق أن جملتها العصبية تشبه الجملة العصبية عند الإنسان، وعين الذبابة غايةٌ في القوة، غاية في قوة الإبصار، ولها إدراك عالي المستوى، وقد تتصرَّف بغضبٍ شديد إذا ما لاح لها قَتَّالة ذبابة، تغضب، وتتعلم، وتحس بالألم، ووزن دماغها واحد من مليون جزء من الغرام، وهو يعمل بأعلى كِفاية، وفي الذبابة جُمْلَةٌ مِن الغُدَد، ولها ذاكرة تستمر دقيقتين.
الذباب أنواع منوَّعة يزيد عن مئات ألوف الأنواع، منه ذبابٌ مفترس، ونوعٌ كالنحلة يمتصُّ الرحيق، ونوعٌ يُخَمِّر الفاكهة، ونوعٌ ينافس الطائرات في مناورتها, وفي سرعتها, مناورة الذبابة لا يمكن أن تصل إلى مستواها طائرةٌ صنعها الإنسان، تستطيع فجأةً أن تعكس اتجاهها، وتستطيع فجأةً أن تسير في اتجاهٍ يُشَكِّل مع خط سيرها زاوية قائمة، وتستطيع أن تضلل مطاردها، وتسخر منه، وتستطيع أن تقف على سطح الغرفة، لان في أرجلها مادةٌ لزجة تعينها على أن تلصق في سقف الغرفة.
من هنا ندرك قيمة اختيارا لكاتب للشخصيات في الأقصوصة، لاسيما أن البطلين أحداهما آدمي، والآخر حشرة، عرفت بصراعها مع الإنسان في كل الأزمنة والأمكنة، وبقدرتها على الانتصار عليه؛ فهل ستحقق الذبابة، في نصنا هذا، النصر المبين؟. ويتعمق الوصف بتكثيف الجمل الاسمية، في نسق إخباري دقيق إذ تتجلى الذبابة تطارد البطل، فتتسلق أنفه في عناد واضح، فتتلبس بصورة العدو المصر على القتال:
" الصمت ينزلق على كتف المكان، البنادق انتصبت بموازاة الأرجل المتصلّبة. الذبابة الماردة تعود، تتسلّق أنف الجندي، يتمازج القلق مع ارتعاشة كتفيه، يحرك أنفه، يمطّ شفتيه، لم تغادر مكانها، يحولق بصوت خفيض"
ثم تعود لتحتل موضوع الحوار وتربك المشهد رغم ما فيه من صرامة و ما يتطلبه من انضباط.
ج ـ المقطع الحواري:
يتأسس الحوار في هذه الأقصوصة على مشهدين:
المشهد الأول: الحوار بين البطل وصديقه:
لا أدري لماذا يتكرر موتنا؟ ولماذا يهدم الذباب أحلامنا البائسة؟
- أ ما زلت تحلم، أيّها الدب الكسول؟
- وكيف تعيش أيّها الأبله؟ وأردف بنبرة حزن:
- لم يبقَ لنا سوى الأحلام.
- وبِمَ تحلم؟
- أيّ شيء، المهم أنّي أحلم، سأقصّ لك حلم الليلة الفائتة بعد أن نعود إلى القاعة، كان حلماً جميلاً.
من خلال الموضوع ندرك أن الحلم هو المركز والمنتهى، فهو وسيلة للهروب من الواقع أو هو لحظة انعتاق من واقع ملطّخ بالعار والهزائم، واقع الأوطان العربية، المغتصبة، والأجساد المقطّعة، واللحم المحروق، واقع الجسد العربي المقدّم وليمة للدّود، واقع الكرامة المهدورة، والطفل الحريق والغريق .
هل أن الحلم يمكن أن يعالج كل هذه القضايا وأن يمسح هذا العار؟
بل حتى الحلم في ذاته، هل هو ممكن في عصر يشتد فيه طنين الذباب؟
ثم هذا الذباب، لماذا يشتدّ حضوره في قصتنا هذه، ملازما للأحلام؟
أسئلة عديدة متشابكة لا نبحث لها عن جواب واحد متفرد، شاف وكاف.
بل تفتحنا على احتمالات مختلفة وأبواب متفرعة، ولعله من الأبواب الممكنة:
ـ أن يكون الذباب سادنا على قلعة الحلم، يمنع أي طرف من الاقتراب منها حتى لا يعثر على مبتغاه، ولا يلقي ثقل الروح على عتباتها فيتنفس عبق الحياة ولو للحظة من الزمن. إنه الذباب المدمر الذي يزرع في الروح الهزيمة تلو الهزيمة، والانكسار تلو الانكسار، فيترنح ثملا بانتصاراته.
" وقبل أن ينطفئ ضوء القاعة كانت أسراب من الذباب تلعق دمه."
ـ أو أن يكون الذباب كما عبر عنه سارتر في كتابه "الذباب"
" في مدينة آرغوس إذا، لدينا ايغست وقد استتبت له السلطة في المدينة بعد أن قتل اغاممنون، والد أوريست والكترا، وتزوج من كليمنسترا، زوجة الملك المغدور... وها هي المسرحية تبدأ لنعرف فوراً أن ايغست قد أقام نظام قمع وعنف في المدينة، فارضاً على أهلها جميعاً أن يكفّروا عن الجريمة التي كان هو نفسه اقترفها. وكانت خمسة عشر عاماً قد مرت منذ مقتل الملك السابق... وها هو اليوم أوريست يعود إلى المدينة بعد كل تلك السنين... متطلعاً إلى الانتقام. لكنه لا يعود وحده، بل ها نحن نكتشف أن جوبيتر، وقد تنكر بزي رجل عجوز ذي لحية، يتبع خطواته خطوة خطوة. وحين يصل أوريست إلى المدينة متبوعا بجوبيتر الذي يعتقده مسافراً في ركب الطريق... لا يجد في انتظاره في المدينة غير رفوف من الذباب الذي يطنّ في الجو وينقض على أي شخص يمر. وإذ يبدي أوريست انزعاجه من هذا الذباب، يقول له جوبيتر إنه ذباب ذو قيمة رمزية: إنه إنما يمثل الندم الذي يتآكل أهل آرغوس على مقتل ملكهم آغاممنون الذي لم ينسوه أبدا... وها هم لا يزالون بعد كل تلك السنين يرتدون اللون الأسود حداداً عليه."
والملك في الأقصوصة، لا وجود له، لكنه يختفي في صورة الذبابة التي تطارد البطل على امتداد الأحداث، إنها الذبابة الرمز. قد تكون هي الماضي/ القيم ، المقوم للخيار الحضاري الراهن. ألم نلقي بأنفسنا في غياهب العتمة وتحولنا إلى خرائب تعمرها الأشباح والمكر والخديعة،وهربنا لنعانق الحلم، السراب حتى نهرب من واقعنا المالدم العربيهته وإصلاحه؛ فنكون بذلك قد ارتكبنا أبشع الجرائم في حق أنفسنا، لننعم بلحظات واهمة ونتذوق طعم الانكسار العربي ونعلن عن موت العرب ويسعد الذباب بلعق الدم العربي المراق على قارعة الهزيمة، ولعل الجرائم التي يشهدها عصرنا هذا تمثل وصمة عار في وجه عصر التنوير. ونهتف في نشوة في طعم العلقم " لم يبق لنا سوى الأحلام"
المشهد الثاني:
لحظة الغرغرة الأخيرة،
- لا تمُت، أيّها...
- قلها يا صاحبي ..... يميد به الشوق، يعانقه، يعاتبه، تحشرج صوته حزناً: - لا تمت أيها الدب الكسول، احكِ لي حلم الليلة الفائتة، من سيقصّ لي الأحلام بعدك؟
ـ لا تخش شيئا، ها أنا ذا أسلمك أحلامي.
علاقة متفردة تجمع البطل بصديقه، ولحظات شوق شديدة، قاسية كالحجر، يربط بينها "لحظة حلم" ذاك الحلم الذي كان وسيلة للخلاص من ثقل الواقع، وتنتهي بلحظة توريثه أحلامه، فما بقي إلا الحلم ولو كان مميتا.
3 ـ الخاتمة المتفجرة
لقد سيطر الوصف على الأقصوصة مما جعلها مشهدا يمكن أن نراه ونتفرج عليه بتفاصيله الدقيقة، وكانت الذبابة هي البطل المحوري في هذه الأقصوصة / المشاهد. إلا أن الخاتمة جاءت متفجرة، مدوية نكاد نصغي من خلالها إلى أصوات المتفجرات وأزيز الرصاص، ونسمع الصراخ والنواح ويباغتنا الراوي بقوله:
" لم يتوقع أحد أن العدو بهذا القرب" في حين أن الذبابة كانت كالمنبه منذ انطلاق الأقصوصة إلى أن العدو قريب جدا فكأن رائحة الدماء قد اغتالت انفها الدقيق قبل أن تسكب، وتختلط الدماء بالدموع لترسم نهاية مأساوية لبطل لم يعرف طعم الحياة، ولم يتذوق غير الوهم، ولم يلعق غير التراب بعد أن كان يحلم بالاستقرار في حضنها ولثم ثغرها. وتنتهي القصة بانكسار الضوء وهجوم أسراب من الذباب تقتات من دم البطل. هكذا تبدو هذه الذبابة لعنة من السماء تقع على أنف البطل كالطير الأبابيل فترميه بنهاية في حجم الفاجعة وتحوله إلى وليمة للذباب.
تتراءى لنا هذه الأقصوصة " أحلام وذبابة" كشريط سينمائي يصور حياة بطل/ جندي في جبهات القتال، عاش غريبا/ حالما ومات واجدا/ حالما، مختنقا بعبرة.
تنطلق الأقصوصة صامتة/ ساكنة/ متحركة في آن لتنتهي متفجرة / ساكنة سكونا أبديا...كما تتوفر على عناصر الإخراج السينمائي من إشارات وأثاث وأصوات ومعدات وأبطال وأضواء وظلال وتتجاوز "الميلودراما الاجتماعية" لتؤسس "لميلودراما الفرد" في علاقته بعالم نفسي موغل في الفراغ والوجع.هكذا يمكن الإقرار بالدور الخطير الذي يمكن أ ن تلعبه الأقصوصة في المجتمع وفي الفن عموما، فهذه المولودة الصغيرة في مستوى الحجم ـ مقارنة بالرواية ـ هي عميقة في مستوى الدلالة، لأنها تضمر أكثر مما تظهر، لعبتها الإيحاء والتكثيف. تخرج من رحم الواقع لتعيد تشكيله من جديد، تنفتح على كل المجالات وتحتضن كل الأشكال الفنية الأخرى، عجيب أمرها هذه المتمردة الصغيرة، مقدامة، لا تخشى المغامرة، تعانق اللامحدود، وتنفلت من المحدود.
الخاتمة:
إنّ الكاتب عبد الكريم الساعدي يمتهن حرفة الكتابة بشكل لافت، ويتقن مراودة القصة القصيرة اتقانا عجيبا، يتميز بقدرة فائقة على محاكاة الواقع والتوغل فيه، حدّ هدمه وإعادة بنائه من جديد. كما يتفرد بقدرة فائقة على الجمع بين جملة من المقاطع المختلفة والمتنوعة. ثمة وراء تجربة الساعدي حاجة إبداعية حقة، بروح جديدة وأسلوب خارق في فن الأقصوصة وهو يعتبر علامة تحول وتغير جذري لا في المفهوم فحسب بل في كيفية بناء فضاء الأقصوصة وإعادة تشكيله بلغة متفردة تضرب في الأعماق، تعانق الشعر فتحط على ضفاف القلب كما الفراش يرفرف في طقس ربيعي، متنقلا بين الورود، مبشرا بعالم خصب، يرسم طريقا بديلا ويعيد للأحلام طعمها المفقود، بعيدا عن طنين الذباب. أرحل وعلى ضفاف قلبي أجمل الأحلام .
الأستاذة سامية البحري / تونس
الهوامش:
ـ ابن منظور: لسان العرب، دار صادر بيروت
ـ فلاديمير بروب: مورفولوجيا الخرافة.
ـ الذباب : سارتر
ـ الموسوعة العلمية
-P.R cœur : Autobiographie intellectuelles, Paris 1995.
-P.R cœur : Du texte à l’action 1986 p 34.
-Adam J.M : Linguistique et discours littéraire.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد