الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإسلام دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها [8]

محمد عبد المنعم عرفة

2016 / 6 / 26
الادب والفن


يقول الإمام أبو العزائم:
تقديس الجناب المقدس عما لا يليق به سبحانه:
الله جل جلاله وتقدست ذاته وصفاته وأسماؤه، واحد لا شريك له، فرد لا مثل له، صمد لا ضد له، متوحد لا ند له، وأنه قديم لا أول له، أزلِىٌّ لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له، أبَدىٌّ لا نهاية له، قيوم لا انقطاع له، دائم لا انصرام له، لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال، لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآماد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأنه تعالى ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر، وأنه لا يماثل الأجسام لا في التقدير ولا في قبول الانقسام، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا تحله الجواهر، ولا بعرض ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجودا، ولا يماثله موجود، وليس كمثله شيء ولا هو مثل شيء.
وأنه تعالى لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه السموات، وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والتحول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات على العرش كما أنه رفيع الدرجات على الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام.
وأنه تعالى لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، تعالى عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وأنه تعالى بائن بصفاته من خلقه، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه شيء من ذاته. وأنه تعالى مقدس عن التغيير والانتقال، لا تحله الحوادث، ولا تعتريه العوارض، بل لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال. وأنه تعالى في ذاته معلوم الوجود بالعقول، مرئي بالأبصار نعمة منه ولطفا بالأبرار في دار القرار، وإتماما للنعيم بالنظر إلى الوجه الكريم.
هذا ما يمكن أن يسطر على صفحات الأوراق مما يقرب للعقول فهمه، وتطمئن به القلوب، وترتاح له النفوس، وما وراء ذلك من شهود عين اليقين ومكاشفات حق اليقين لا تفى به عبارات أهل التعبير، ولا إشارات أولياء الله المقربين، لأنه من غوامض أسرار عجائب القدرة وغرائب الحكمة، وغيب كمالات الذات الأحدية، وجمالات صفاتها العلية، وجلال أسمائها المقدسة الصمدية.
ومن سباقت له الحسنى من الله تعالى لحظته عين العناية فعمل بما علم، فإذا عمل بما علم ورثه الله من غوامض تلك الأسرار علم ما لم يعلم، قال سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (إنَّ في صدرِى هذا لَعُلومًا لو أبحتُ بها لقُطع مِنِّى هذا الحلقوم) وقال أبو هريرة (ملأتُ من رسولِ الله (ص وآله) جرابين بثثتُ فيكم أحدَهما ولو بثثتُ الآخرَ لقطعتُم ما بين كتفي) وأسرار الغيب المصون حظر أن تباح إلا للأرواح، أو تكشف إلا لمن زكت نفسه، قال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا).

أهل الملكـوت:
والمريد المخلص الصادق إذا تجمل بمعاني ما وضحت، وصدق الله ورسوله والأسرار التي بينت، كان مؤهلا لشهود الأنوار التي لا تتجلى في المُلْكِ لمن وقفوا عنده، ولكنها تلوح لأهل الملكوت، وأهل الملكوت قليلون، قال الهب تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) وقال تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) وقال تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فمن سبقت له الحسنى بفضل الله تعالى: أخرجه الله سبحانه من كون الفساد أو الظلمة إلى فسيح الملكوت الأعلى، فشهد من عجائب القدرة وغرائب الحكمة ما ينجذب به قلبه إلى حضرة القدس الأعلى، ويفر إلى الله سبحانه، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).
ومن قصر به العزم عن أن يذوق حلاوة العقيدة كما وضحت، وحُجِبَت عنه الأسرار، ورأى غيره قد مَنَّ الله سبحانه عليه بمشاهد تلك الأنوار حتى تبين له الحق، فعليه أن يجاهد نفسه في ذات الله تعالى حتى يكاشَفَ بأسرار هذا الكون من أنوار المُكَوِّنِ سبحانه، ولأهل هذا المشهد علامات جمعها الله في كتابه العزيز، قال تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ِقيُنفُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). وقد بينت جملا في الطريقة المستقيمة ووضحت ما ينبغي أن يكون السالك عليه الراغب في نوال فضل الله الأكبر في كتاب: (معارج المقربين)، وألمعت فيه إلى تزكية النفوس ومعرفة أمراضها، وطريق إعادة الصحة لها وحفظها عليها، فمن مالت نفسه أن يكون من أهل هذا المشهد العلي فليتعلم، وليجاهد نفسه عاملا بسنة رسول الله (ص وآله)، قال (ص وآله) (مَنْ عَملَ بمَا عَلمَ وَرّثَه اُللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْل أبو المْائ والله سبحانه أسأل أن يجعل لنا نورا نمشي به في الناس يستبين لنا به الحق إنه مجيب الدعاء.

صفات المعاني السبعة:
هي: القدرة، والحياة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.

1ـ القـدرة:
هي صفة قديمة يوجد الله بها ما يشاء أن يوجده، ويعدم بها ما يشاء أن يعدمه وفق إرادته، قال تعالى في بيان آثار قدرته تعالى في مخلوقاته: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ  وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ  تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ  وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَاد ِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)
وقال جل وعلا في إثبات كمال قدرته تعالى وعجز ما سواه وأنه مستحق للعبادة دون سواه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
وقال جلت قدرته في بيان كمال قدرته بما أودعه في عالم المخلوقات من أرض وسماوات وإحياء ونبات وفلك وأفلاك وليل ونهار ورياح وسحاب من العبر والآيات:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْم يَعْقِلُونَ)
وقال تعالى في بيان كمال قدرته وتمام عظمته: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بأس بعض انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
وقال جل شأنه في بيان كمال قدرته وعجز من سواه وفيه الرد على منكري البعث: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وقال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَاد  وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا  لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)
وقال تعالى في بيان كمال قدرته وخلقه الإنسان من الماء: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا)
وقال تعالى في بيان قدرته وأنه إذا أراد فعل أي شيء لا يمكن غيره أن يعارضه أو يمانعه: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْر فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

هذه الآيات نور مشرق على قلوب جملها الله بعيون البصيرة شهدت عجائب القدرة وغرائب تصريفها في الكائنات، فاستبان به للبصائر غيب القدرة، فانجذب العبد المتجمل بعيون البصيرة إلى جناب القدس الأعلى فارا من جانبه، وتحقق كمال اضراره واحتياجه إلى القادر سبحانه وتعالى، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، تحققا جعله عَدَمَاً في عين نفسه، موجوداً بقادر حكيم، وأن الكون وما فيه سر من أسرار قدرة الله تعالى، وفيض عميم من فضل قدرته تنزه وتعالى.

شهد المؤمن من تلك الآيات العلية التي رفعت له الستارة عما انطوى في هذا الكون الفسيح من أسرار الرب الفريد، فتحقق كمال التحقيق بوحدانية الله ذاتاً وصفة وفعلا، وقد تشرق عليه من وراء حجب الكائنات أنوار سريان القدرة، حتى قد يقوى هذا النور فيجعله لا يشهد شيئاً من الموجودات إلا ويذوق حلاوة الإيمان بوحدانية الله ذاتاً وصفة وفعلا، وقد يقوى هذا النور فتنبعث أشعته على الكائنات فتحجب الكون وما فيه عن عين المشاهد، فلا يرى إلا قدرة قادر مريد، فيغيب عن نفسه وحسه وعن كونه، وهو المجذوب إلى حضرة القدس بسابقية الحسنى، وهو الناقص في عين العارف لغيبته عن شهود الحكمة وتدبيرها، حتى إذا أشرقت عليه أنوار الحكمة أثبت ما أثبت الحق فشهد المرتبتين بنور اليقين، رتبة ممكن الوجود من الكون وما فيه، ورتبة واجب الوجود سبحانه، فيكمل كمالاً يجعله عبدا صرفا لا يغيب عن معية الله تعالى، ولا يغيب الله سبحانه عنه، فلا تقوى أنوار القدس عليه فتحجب الخلق عن عين رأسه، ولا الكائنات المحسوسة فتحجب أنوار الحق عن عين بصيرته، وهو الفرد الكامل المشاهد للحضرتين بالحضرتين.

فوق الأنوار أسرار:
ووراء تلك الأنوار أنوار، وفوق تلك الأنوار أسرار لا ينبغي للعارف أن يسطرها في الأوراق، وفيما أشرنا إليه كفاية لأولى الألباب، وإنما هي غوامض أسرار القدرة، وخفي غرائب الحكمة لا تُشْهَدُ بعين البصيرة، ولا تكاشَف بعيون السريرة، وإنما هي أنوار تواجه الروح التي هي نفخة الرحمن، قال (ص وآله): (كُنْ مَعَ اٌللهِ ترَ اللهَ مَعَك). وقال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) وليست تلك الأسرار وإن خفيت، والأنوار وإن غمضت، بشيء يذكر في جانب ما وراء ذلك من أنوار الكمالات الذاتية، وغيب غوامض مجلى الذات الأحدية (وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

ومن حُرِمَ العيون التي تشهد آيات القدرة في الكائنات فهو بهيم وأضل، يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً، أعوذ بالله من العمى في هذه الدار الدنيا، وقال تعالى: (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أسأله سبحانه أن يجعل لنا نورًا نمشي به في الناس إنه مجيب الدعاء، وأن يهدينا الله وإياك يا أخي صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

2ـ الحيــاة:
الحياة هي صفة قديمة ذاتية لله عز وجل، قال تعالى في إثبات صفة الحياة له عزوجل: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال تعالى في إثبات أنه حي لا يموت: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا).
تفصيل ذلك أنه تعالى حي قادر، جبار قاهر، لا يعتريه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت، وأنه ذو الملك والملكوت، والعزة والجبروت، له القدرة والسلطان والقهر، والخلق والأمر، والسموات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته، وأنه المنفرد بالخلق والاختراع، المتوحد بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور، لا تحصى مقدراته، ولا تنتهي معلوماته.. أنوار تلك الآيات جلية لأن مفيض الحياة على هذا الكون يفيضها فضلا منه سبحانه وكرما، لا لحاجة إليها لغناه المطلق سبحانه عن كل من سواه، وافتقار كل من عداه إليه سبحانه، برهان حق على أن مفيض الحياة هو الحي القيوم، وممد هذا الوجود الممكن بالحياة حي أبدي أزلي، إذ حياة كل رتبة من المراتب بقدرها، فالحياة الممكنة مقيدة بالنسبة لما قامت به ومن قامت به، ومفيض الحياة وممد الكائنات حياته ليس كمثلها شيء، وإنما جعلت الكائنات لتشرق أنوار الحي القيوم على القلوب، فتشهد عيون السر أن ممد الكون بالحياة حي حياة لا تتصورها الخيالات، ولا تدركها عيون البصائر، ولا تحيط بكنهها الأرواح الطاهرة الملكية.

وصفات الله سبحانه وتعالى تُعلم لنا بقدر ما نشهد من معناها المتجلي لا بقدر ما هي عليه في نفس الأمر، إذ ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، وما على المؤمن الكامل إلا أن يقول: آمنت بمعاني الصفات كما وردت.
وإذا كان كلام الله الذي نتلوه ليلا ونهارًا لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه وقد تعبدنا به سبحانه وتعالى، فكيف يمكن لعيون السريرة ـ وإن أشرقت بكمال التوحيد ـ أو لعيون الروح ـ وإن واجهت وجه العلي الكريم ـ أن تدرك معنى من الصفات و قد قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه) وهو كلام متلو مقروء، وقال تعالى مخبرا عن أحبابه المقربين: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) فاللهم أشهد أني بحول منك وقوة عقدتُ قلبي على أنك حي أبدي بما أشهدتني من فيض الحياة التي تفضلت بها علىَّ وعلى كل موجود، وأني أعتقد حق الاعتقاد أن صفاتك سبحانك لا يعلمها علماً حقيقيا على ما هي عليه في نفس الأمر إلا أنت سبحانك، وأعوذ بك اللهم من غفلة تجعلني أبحث بقوة فكري أو بعيون سري عن دليل يثبت صفة من صفاتك، بعد أن أَثْبَتَّ ذلك بكلامك المقدس، وأظهرت لعيون السر من آثار قدرتك ومعاني تجليات صفاتك، فأعنِّي اللهم على العمل بما عَلّمْتني لينكشف لي علم ما لم أعلم، أنك مجيب الدعاء.

3 ـ العــلم:
هو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، قال تعالى في إثبات العلم له سبحانه و لو بأخفى الخفيات حتى بما يهجس على خاطر الإنسان وتوسوس به نفسه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقال تعالى في بيان كمال علمه بدلالة الخلق عليه: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وقال تعالى في بيان أنه سبحانه عالم بكل شيء في السماء والأرض حتى الحديث الذي يسره المرء لأخيه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم) وقال تعالى في ذكر أنه سبحانه عالم بالإنسان في حال كونه جنينا في بطن أمه وفى حال نشئه: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم منَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
تفصيل ذلك أن الله سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري في تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر في جو الهواء، ويعلم السر وأخفى، ويطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل الآزال، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالتحول والانتقال.

أنوار صفة العلم:
إذا لاحظت عين العناية الإلهية عبدًا فوقعت به عين اليقين على معنى صفة العلم الإلهي؛ وتمثل تلك الصفة المنزهة بمعنى ما من معانيها التي تليق بكمالاتها؛ كان العبد المشاهد تلك المعاني في معية ربه حاضرا لا يغيب، متجملا بجمال أهل المراقبة، وكيف لا ؟! والمؤمن الذي يعتقد أن الله يعلم السر وأخفى يسارع إلى أن يعمل ما يرضي ربه عنه الذي يعلمه في كل حال من أحواله، ويتباعد عن معاصيه وعن مواطن سخطه ومقته لأنه يعلم أنه يعلمه ويراه، ويكره أن يراه ربه سبحانه حيث يكره أن يراه في مواطن مخالفة أمره ومعصيته كما يكره أن يقذف به في نار جهنم، وإن جهنم أخف على المؤمن المتمكن من معصية الله تعالى، وكيف لا؟! وهو عند المعصية إذا تحقق بأن الله يراه فيها ويعلم به فيها يشعر بأنه استهان بربه فخالف أمره، وهو يعلم قدر عظمة ربه وقدر موجبات غضبه وسخطه، فالمؤمن يتمنى أن يكون في نار جهنم ولا يقع في معصية الله ومخالفة أمره، لأن غضب الله وسخطه أشد عليه من عذاب جهنم، والجاهل بهذا المقام لا يخاف مقام ربه ولكن يخاف عذاب ربه، فقد يقع في المخالفة لنسيان يوم الحساب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) وقال تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا).

فمن كان خوفه من المنتقم القهار الكبير المتعال، كان في حصون الأمن من الوقوع في المخالفة، ومن كان خوفه من عذاب النار والحرمان من الملاذ والشهوات قد ينسى ـ لما ينال من ملاذ الدنيا وزهرتها الفانية ـ نعيم الآخرة، فيقع في المخالفات وينسى العقوبات حتى يلقى في هوة النار، نعوذ بالله من جهل مقام ربنا ومن نسيان يوم الحساب.

نتج من هذا أن الموقن بصفة العلم لله القادر، المتحقق بأن الله يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويعلم أنه معه حيث كان وكيف كان، لا يتعدى حدود الله، ولا يعمل ما يخالف سنن رسول الله (ص وآله)، واللص لا يسرق المتاع إلا إذا غاب صاحبه، والرجل لا يأتي زوجته أمام ابنها حياء منه، فكيف يعمل المؤمن المعصية مع علمه بأن الله معه ويعلم سره ونجواه ولا يخاف جلاله ولا يخشى عظمته وكبرياءه ؟!. فالمرتكب المعصية نسى يوم الحساب، وجهل معنى صفة العلم لله، أعوذ بالله من جهل يوقع في معصية الله، ومن نسيان يلقي صاحبه في هوة النار يوم القيامة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يشهدني أنوار صفة العلم حتى لا تحجب عين بصيرتي عن شهوده معي سبحانه، فأكون مراقبًا لجلاله، حاضرًا معه سبحانه، حييًّا منه سبحانه، راهبًا عظمته، راغبًا في فضله العظيم.

4ـ الإرادة:
هي صفة قديمة تخصص الممكن بالوجود أو بالعدم، وبالطول أو القصر، وبالحسن أو القبيح، وبالعلم أو الجهل، إلى غير ذلك من الشؤون والأحوال، قال جل ذكره سبحانه في بيان أنه تعالى مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق ما أراد وقدر: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب).
وقال تعالى في بيان أنه فاعل مختار يتصرف بقدرته البالغة حد النهاية ما شاء و كيف شاء: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ َوَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال تعالى في بيان أنه حكيم في صنعه يفعل بحكمته واختياره ما تقتضيه إرادته ومشيئته حسبما تقضي به المصلحة: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
وقال جل ثناؤه في بيان كمال إرادته وعظيم قدرته: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
وقال تعالى في بيان أنه فاعل مختار يفعل ما يشاء أن يفعله بمقتضى إرادته ومشيئته: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) وقال سبحانه وتعالى في بيان أنه فاعل مختار: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال جلت قدرته في بيان أن خلقة الإنسان وتصويره في الرحم على صورة متنوعة و أشكال متباينة إنما هو بمحض إرادته ومشيئته: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وقال سبحانه في كمال تنزيهه عن الولد, وكمال اختياره: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).
وقال جل شأنه في بيان أن الهداية والضلال إنما هما بمحض إرادته ومشيئته: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ  وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
وقال تبارك اسمه في بيان أنه إذا تعلقت إرادته تعالى بإهلاك قوم سلط عليهم أنفسهم بالفسق ومخالفته تعالى فيما أمر به ونهى عنه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).

تفصيل ذلك أن الله تعالى مريد للكائنات , مدبر للحادثات , فلا يجري في الملك والملكوت قليل ولا كثير , ولا صغير ولا كبير , خير أو شر , نفع أو ضر , إيمان أو كفر , عرفان أو نكر , فوز أو خسر , زيادة أو نقصان , طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره, وحكمه ومشيئته , فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر , بل هو المبديء المعيد , الفعال لما يريد , لا راد لحكمه , ولا معقب لقضائه , ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته , ولا قوة له على طاعته إلا بمعونته وإرادته , لو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته عجزوا عن ذلك , وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته , لم يزل كذلك موصوفا بها , مريداً في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها , فوجدت في أوقاتها كما أراد في أزله من غير تقدم ولا تأخر , بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير , دَبَّر الأمور بلا ترتيب أفكار , وتربص زمان , فلذلك لا يشغله شأن عن شأن.

كمال اليقين بمعاني إرادة الله:
المؤمن المتحقق بأنوار صفة إرادة الله تعالى متجمل بحلة الرضا عن الله سبحانه لاعتقاده أن كل الأمور والشؤون والأحوال بإرادته سبحانه وبتقديره أزلا , فيكون منشرح الصدر بمواقع القضاء , راضيا عن الله في كل شأن من شؤونه , مقبلا على الله بكليته وبذل يفوز برضوان الله الأكبر , فإن رضا العبد عن الله فضل من الله عظيم ينبيء عن رضاء الله عن العبد، قال تعالى: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ْوَرَضُوا عَنْهُ). وليس المراد من اليقين بإثبات الإرادة لله أن يكون المؤمن عالما بالأشكال المنتجة، ولكن ليكون المؤمن مطمئنا بقضاء الله وقدره، راضيا عن الله في كل شؤونه، راغبا فيما عند الله من الفضل العظيم، خائفا مما قدر أزلا مما لم يكاشف به، فيكون ممن أثنى الله سبحانه عليهم في كتابه العزيز بقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).

وليس العلم الذي يجعل الألسنة زلقة بإقامة الحجة، ويجعل القلوب مفعمة بحب الجدل والمناظرة والعناد عند العلماء بالله تعالى، ولكنه جهل، لأن العلم عندهم هو الذي يوجب الخشية من الله تعالى، والمراقبة لجنابه عز وجل، والحضور معه سبحانه.

ومن يتناول عن طهور العلم بالإرادة حقا لا يشهد في الوجود فاعلا مختارا غير الله تعالى، وتمنعه الخشية من الله سبحانه أن يسيء الظن به سبحانه، أو يعترض عليه في قضائه وقدره، ولا يكون عدم الرضا إلا من الجهلاء الذين يظنون أنهم علماء وليسوا علماء، فإن الله حصر العلم في خشيته لا في شقشقة اللسان والجدل والمناظرة، دليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) فعالم عند الناس لا يخشى الله هو جاهل عند الله، ولو أنه كان عالما حقيقة لما احتجب عن معاني الصفات المخوفة للعلماء العارفين، ولما غاب عن مشاهدة عظمة وكبرياء وجلال الله، غيبة تجعله يعصى الله تعالى بعلمه وقد وصف الله العلماء في كتابه العزيز، وأثنى عليهم، وجعلهم هم الأحياء وغيرهم أمواتا، قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِمِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فبين سبحانه وتعالى أن أولى الأمر فينا هم العلماء الذين يستنبطون من كتاب الله عز وجل، وهم أهل الخشية الذين أمرنا الله بطاعته والاقتداء بهديهم.
وأنت ياأخي إذا تحققت أن مولاك الذي خلقك مريد فاعل مختار، لا يكون شيء إلا بإرادته وتدبيره، كيف تغضب أو تعترض عليه سبحانه ؟ أسأل الله تعالى أن يجملنا بكمال اليقين بمعاني إرادته وجميع صفاته التي وردت عنه سبحانه، إنه مجيب الدعاء.

5، 6 ـ السمع والبصر:
السمع هو صفة قديمة تنكشف بها المسموعات، ولكن لا بأذن وصماخ، تعالى الله عن صفة الحوادث علوا كبيرا.
كما أن البصر هو صفة قديمة تنكشف بها المبصرات، ولكن لا بعين ولا حدقة ولا جارحة ولا غير ذلك فإن ذلك من صفات الحوادث المنزه عنها الله تعالى.
قالى تعالى في صفة السمع لنفسه: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى  قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)
وقال تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون)
وقال تعالى في ثبوت صفة البصر لنفسه تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
وقال تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

تفصيل ذلك أن الله سبحانه وتعالى سميع بصير، يسمع ويرى، لا يعزُبُ عن سمعه مسموع وإن خفى، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق، ولا يحجب سمعه بُعد، ولايدفع رؤيته ظلام، يرى من غير حدقة ولا أجفان، ويسمع من غير أصمخة ولا آذان، كما يعلم من غير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، إذ لاتشبه صفاته صفات الخلق، كما تشبه ذاته ذات الخلق.

من ذاق حلاوة الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سميع بصير، وتصور معنى السمع والبصر بالتنزيه الذي يليق بالجناب العلي، وتحقق العجز عن إدراكهما لعلو صفات الحق سبحانه وتعالى عن أن يكون لها مثيل تمثل به، أو نظير تشبه به، أو كيف تكيف به، تعالى الله علوا كبيرا؛ من تحقق بكل تلك الحقائق امتلأ قلبه خشية من السميع لكلام نفسه في نفسه، البصير بجولان الهم والخواطر بقلبه، فكان كأنه على صراط أدق من الشعرة وأحد من السيف، لو مال قدر الشعرة هوى في مكان سحيق، وراقب السميع البصير مراقبة من يعلم قدر عقوبة الجبار المنتقم شديد البطش ممن خالف أمره أو فعل ما نهاه عنه، فيكون تصديقه بإثبات الصفات لجنابه العلي كما علم، يوجب الخشية من الجلال الإلهي، ويجمل العالم بمراقبة الله تعالى ومحاسبة نفسه على الخاطر الذي يخطر على القلوب، واللمة التي تلم بها بل وعلى النفس الواحد وطرفة العين.

وكلما قرب العبد من الله كلما اشتد خوفه من عظمته وجلاله، وكلما انكشفت له أسرار معاني الصفات كلها كانت خشيته أشد ورهبته أقوى، وتمثلت له الجحيم بما فيها من أنواع العذاب وآلام العقوبات، فيكون وهو مع الناس يمشي على الأرض مشاهداً للملكوت الأعلى، ناظرا إلى نعيم الجنة وأنواع الملاذ التي لا توصف فيها، وإلى جحيم النار وآلام العذاب الذي لا يطاق، فيكون كما قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)إلى قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًارَّحِيمًا) وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ  الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إلى قوله: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).. وهذه الصفات التي أثنى الله بها على المؤمنين هي ولا شك صفات من كمل علمه بكمال الصفات، فاطمأن قلبه بذكر الله تعالى، قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
أسأل الله أن يمنحني وأهلي وأولادي وإخواني مشاهد أهل مقام الإحسان، ويمنحنا درجات القرب ومشاهد الحب، قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) إنه مجيب الدعاء.

7 ـ الكـلام:
كلام الله تعالى القائم بذاته هو صفة أزلية ليس بحرف ولا صوت، ولا يقبل العدم وما في معناه من السكوت، ولا التبغيض ولا التقديم ولا التأخير، ثم هو مع وحدته دال أزلا وأبدا على جميع معلوماته التي لا نهاية لها، وهو الذي عبر عنه بالنظم المعجز المسمى أيضا بكلام الله تعالى، وهو معجزة رسول الله القائمة الدائمة.
والقرآن هو الدعوى والحجة، وكل نبي دعوته غير حجته، فكانت المعجزة في كل زمان تناسب أهله، فسيدنا موسى عليه السلام لما اشتهر في زمنه السحر وكثر، جعل الله معجزته انقلاب العصا ثعبانا يأكل غيره، وسيدنا عيسى عليه السلام لما كان في زمن كثر فيه الأطباء جعل الله معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، الأمر المعجز، وسيدنا محمد (ص وآله) لما كثر في زمنه الفصحاء والبلغاء كانت معجزته القرآن المعجز لهم عن معارضته بالإتيان ولو بمثل أقصر سورة منه، قال تعالى في ثبوت تلك الصفة لنفسه سبحانه: (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وتفصيل ذلك أن الله جل جلاله متكلم آمر، ناه، واعد، متوعد، بكلام أزلي قديم قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، فليس بصوت يحدث من تموج الهواء واصطكاك الأجرام، ولا حرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم الصلاة والسلام، وأن القرآن مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، محفوظ في القلوب، وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى، لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف، كما نرى ربنا سبحانه وتعالى إن شاء الله يوم القيام من غير جوهر ولا شكل ولا لون ولا عرض، وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما, بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، لا بمجرد الذات.

مزيد بيان في صفة الكلام لله سبحانه وتعالى:
الإيقان بإثبات صفة الكلام لله سبحانه متعين على كل مسلم لما بينا من الأدلة القرآنية، ولأمر آخر لا يتم إيمان المؤمن إلا به، وهو التصديق بكتب الله التي أنزلها على رسله التي جعلها الله تبيانا لكل شيء، وهدى ونورا وذكرى، بين بها سبحانه ما يجب أن تنعقد عليه القلوب، وما يجب أن يقوم به المسلم لله من العبادات وما يجب عليه لوالديه وأولاده وإخوانه المؤمنين ولأهل ذمة الله ورسوله (ص وآله) وذمة المسلمين، وما يجب أن يكون عليه المسلم من الأخلاق، فإن إثبات صفة الكلام تجعل المسلم يتقبل أحكام كتاب الله بكمال الإيقان، ويسارع إلى العمل بما أمره الله وترك ما نهاه الله عنه، وليس على المسلم أن ينظر إلى صفة من صفات المعانى بعيون عقله التي تحكم نفسه ونظرائه وأشباهه، ولكن عليه أن يؤمن إيمانا لا يشوبه شك لشهوده حسا دلائل إثبات الصفات، وينزه صفات الله تعالى عن حد يحدها أو كيف يكيفها، تعالى الله عما يصفه الواصفون.
حتى إذا انعقد قلبه على اليقين الحق كاشفه الله بأنوار صفة الكلام، فيقرأ القرآن سامعا له من رسول الله (ص وآله) بخشوع وهيبة من الله تعالى، فيكون بين وجل من آيات الإنذار، ومزيد إيمان من الآيات الدالة على معاني صفات الله تعالى، ويتجمل بالتوكل على الله تعالى من الآيات الدالة على أنه الفاعل المختار الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فيكون التالي للقرآن مع المراقبة كأنه يسمع الكلام عن الله تعالى، بعد أن يستحضر أنه يسمعه عن رسول الله (ص وآله).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو