الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة والعنف : أي علاقة !

محمد البورقادي

2016 / 7 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



ما هي الآليات والاستراتيجات "التعسفية" التي تفرض بها السلطة قوتها على الأفراد ، وكيف يؤدي عنفها الرمزي والمادي إلى بناء الفرد الطيع المطبَّع بمعاييرها والمستدخِل لقيمها ؟، وكيف يتشكل العنف كبوابة لتفريغ شحنات الاحتقان والتوتر الاجتماعي الناتج عن المنحرفين عن قواعدها ؟

تعريف السلطة :

نجد في المعجم الفلسفي لجميل صليبا، أن السلطة في اللغة هي القدرة والقوة على الشيء ، والسلطان الذي يكون للإنسان على غيره ، وتجمع سلطة على سلطات وهي الأجهزة التي تمارس السلطة كالسلطات السياسية ، التربوية والقضائية وغيرها (صليبا،1978).
وليس ببعيد عن هذا التعريف ما يذهب إليه جورج بالاندييه من أن السلطة هي القدرة على التأثير على الأشخاص ومجريات الأحداث باللجوء إلى مجموعة من الوسائل تتراوح بين الإقناع والإكراه ( بالاندييه ، 1986).
والسلطة عموما سياسية كانت أو غير سياسية ،لا تقوم إلا في جماعة وعلى ذلك فإن ظاهرة السلطة هي ظاهرة اجتماعية ، وهي تتلخص في القدرة على إجبار الآخرين ضمن هذا النظام أو ذاك من العلاقات بين الأفراد وبين الجماعات أو هي الإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معينة يكون قادرا على توجيهها حسب مشيئته.ولتحقيق ذلك لا تلجأ السلطة فقط إلى الإكراه والقسر بل تستعمل وتستثمر الأعراف والطقوس والاحتفالات لتؤمن استمرارها وتجدد دورها في المجتمع ، فهي تعبر جملة من الرموز المعبرة عن وجهها المزدوج في بحثها عن الوحدة الداخلية للجماعة وفي التصدي للمخاطر الخارجية القائمة أو المحتملة (نفس المرجع السابق).

تعسف السلطة وعنف الأفراد :

هناك بعض الأنظمة السياسية التي تتعامل مع المواطن على أنه مجرد برغي في آلة كبيرة هي الدولة ، ويتناقض هذا الأمر مع إنسانية المواطن ومع حقه في المبادرة والإبداع والحرية ، إن محاولة خلق مواطنين من نمط واحد وكأنهم يخرجون من تحت مكبس واحد ، بقيادة فكرية واحدة ، وبقناعة أيديولوجية واحدة ، وبتطلعات مستقبلية واحدة ، كما تفعل الأنظمة التوتالتارية والشيوعية ، وإلى حد ما العسكرية ، إن مثل هذه المحاولة تخالف الطبيعة البشرية وتتناقض مع الفطرة الإنسانية، ذلك أن تجريد المواطن من ذاته وإلباسه ثوب الدولة أو الثوب الذي تريده له الدولة "شكلا ولونا وحجما" لا يخلق دولة ، ولا يحقق استقرارا بل على العكس ، يحول المواطن إلى قنبلة موقوتة تتمثل في حركات تمرد وعصيان غالبا ما تعبر عن نفسها بالعنف السياسي .
لأن محاولة تجريد المواطن من ذاتيته الإنسانية تحت شعار مصلحة الدولة العليا التي تمارسها أنظمة حكم مستبدة تلقى معارضة شديدة ، فإن هذه الأنظمة تلجأ إلى القمع وإلى العنف المشرع "وليس المشروع " لفرض قراراتها .
فمن خلال نهج النظام لمبدأ الاستفراد بالرأي والقرار ، يتم إقصاء انطلاقات الأفراد وتحطيم أهدافهم وميولاتهم بشكل لا ينسجم ونزعاتهم الحرة الطليقة ، فالنظام المستبد هو ما به تُكبح إرادة الأفراد وتنحصر وفق مسارات تستأثر السلطة برسمها وفرض التطبيع معها من طرف كل أفراد المجتمع، بما يؤدي إلى تكريس فرضية تشييء السلطة للإنسان وهدر كرامته ، بما تفعله عن طريق شرعنة وجودها كذات متفردة لها الحكم والأمر، في مقابل تحويل مجموع أفراد المجتمع إلى موضوع يذعن لاختياراتها بدون قيد أو شرط ، ولا شك أن استراتيجيتها تلك من شأنها أن تُخْصي قيمة الانسان وتُعدم استقلاليته بما يحطم كيانه ويسلبه كرامته، لذلك فسياسات الدولة كما قال عنها محمد جسوس "تريد خلق جيل من الضباع " ، حيث تهدف إلى تشييء الأفراد وتحويلهم إلى قطيع غنم مبتور الإرادة ومشلول الفكر وعليل الوعي .إن النظام المستبد بهذا المعنى هو غير عقلاني ومتسلط وقائم على أسس لا يرتضيها المنطق والعقل.
ولا شك أن أول ممارسات العنف السلطوي هو تعليق الدستور وفرض الأحكام العرفية ، وبذلك يصبح القرار بيد الفئة الحاكمة التي تعطي نفسها صلاحيات مطلقة لفرض النظام وإصدار تشريعات بوسائل قمعية تعسفية ، مما يسقط العلاقة الأخلاقية الطبيعية بين الحاكم والرعية ،وعندما يفقد المواطن حقه في الإختيار نتيجة لذلك الحكم المستبد الغير قابل للنقاش والتفاوض ، ويفقد وفقا لذلك الوسيلة للتعبير عن اختياره سلما وبحرية ، يلجأ إلى العنف "التمرد" لتأكيد ذاته وللدفاع عن إنسانيته وعن معتقداته .
من هنا فإن الإرهاب هو رد فعل مزدوج ، فهو من جهة أولى رد فعل على القهر والظلم ، وهو من جهة ثانية، محاولة لكبح جماح رد الفعل هذا.هو رد فعل تقوم به شعوب مغلوبة على أمرها ضد الدول المستبدة ، ثم هو رد فعل تقوم به الدول المستبدة ضد العمليات الانتحارية التي تشنها جماعات يائسة من هذه الشعوب المغلوبة على أمرها ، ولذلك فهو حلقة مفرغة لا يمكن للعالم أن يخرج منها إلا بإزالة أسباب القهر والظلم ، وليس بمنع المظلومين والمقهورين من التمرد والاحتجاج حتى الموت . إن القمع والعنف لا يؤدي إلا إلى زرع الكراهية والحقد والرفع من حدة الانتقام في نفوس الأفراد تجاه السلطة ، فالقمع بمعنى آخر هو تسلط على حرية الأفراد وزحف على حقوقهم التي قد تكون مشروعة في غالب الأحيان لأنها تنطلق من حاجياتهم المعيشية ، ولن يؤدي تزايد قمع الأفراد إلا إلى الرفع من حدة الاحتقان والغضب لديهم بما ينذر بحدوث مختلف الاختلالات والتوترات النسقية ، في حين يبشر لجوء السلطة إلى المعايير الديمقراطية.
إن السلطة القمعية تحاول أن تجعل المواطن مجرد أداة طيعة في آلة الحكم ، والسلطة الرافضة للقمع تحاول أن تجرد الحكم الذي تتمرد عليه من شرعيته "المستمدة من الشعب" ، وعندما يشعر الحكم بالطعنات توجه إلى شرعيته ،يمارس الإرهاب بدوره باسم الدفاع عن هذه الشرعية ضد المتمردين عليها ، وعندما يشعر المواطن بأن كرامته الإنسانية أصبحت ملغاة يلجأ إلى الوسائل الإرهابية نفسها لاسترجاع حقه الدستوري في المواطنة الكاملة .
إن الالتزام بالقوانين واحترام موجباتها هما أساس كل مجتمع متحضر ، وهما القاعدة التي يقوم عليها الاستقرار. وفي هذا الإطار نجد مدرستين تنظر كل منهما إلى هذه العلاقة الجدلية من زاوية مختلفة ، فمدرسة روبرت وولف تقدم ضمير الفرد على أي التزام سياسي فتقول :"بأن الإلتزام السياسي المطلق يجرد المواطن من الحس الأخلاقي "(نفس المرجع السابق) ، أما مدرسة جون راوولس فإنها تعتبر الالتزام السياسي عقدا اجتماعيا تنبثق عنه بالضرورة التزامات لابد من احترامها ، وتقول هذه المدرسة "إن المبدأ الأخلاقي الذي يقوم على قاعدة هذا الالتزام لا يقف عند حد الارتباط السياسي ولكنه يتعدى ذلك إلى نبذ العنف كأداة للتغيير" (نفس المرجع السابق).ويشدد راوولس في نظريته على حق الدولة في طاعة رعاياها ، وتحدد هذه الطاعة القوانين والأنظمة ، ذلك أن السلطة التي يمارسها الحاكم هي الوجه الآخر للطاعة ، ويحدث الخلل في هذه العلاقة عندما يحاول الحاكم أن يفرض على رعيته مواقف وتنظيمات تتناقض مع رغباتهم أو عندما يحاول أن يفرض بالقوة سلطته عليهم .
وفي النقيض من ذلك يعزز وولف نظريته بالاستناد إلى نظرية إيمانويل كانط التي يقول فيها : "لا يوجد أي مبرر يحمل أي إنسان على القيام بعمل ما لمجرد أن إنسانا آخر، كائنا من كان هذا الإنسان الآخر ، طلب منه أن يقوم بهذا العمل".ومن تم فالمبرر الوحيد للقيام بفعل الطاعة هو الاقتناع بضرورة القيام به لما له من مرد إيجابي على المجتمع ككل ، وبالتالي على الملتزم بالطاعة أن يسعى إلى توفير هذا الأمر في الدولة الديموقراطية التي يستمد فيها الحاكم سلطته من الشعب بحيث تترجم قراراته الإرادة الشعبية فتكون الطاعة هنا للحاكم الوجه الآخر للإقتناع بصوابية الإلتزام بقراراته .
أما عندما تكون سلطة الحاكم مفروضة على الشعب ، وعندما تكون قراراته بالتالي متناقضة لقناعات الشعب ، فإن الطاعة هنا لا تؤدي إلا إلى الإمعان في الظلال والبغي، مما يفجر العنف السياسي السلطوي ، أي عنف السلطة ، والعنف السياسي المضاد ، أي العنف الرافض للسلطة .
وعموما فإذا كان الإنسان يجنح إلى العنف بالفطرة ، فإن المجتمعات الإنسانية تستمد قوة اندفاعها نحو العنف من القواعد التالية .
أولا : القاعدة الإقتصادية ، حيث يؤدي التفاوت الحاد في الدخل إلى قيام حالة من الصراع بين الذين يملكون والذين لا يملكون .
ثانيا : القاعدة الإجتماعية ، حيث يؤدي عجز الدولة أو فشلها في تقديم الخدمات الاجتماعية إلى قيام حالة من خيبة الأمل من خلال المقارنة بين الواقع والآمال المرتجاة .
ثالثا : القاعدة النفسية ، حيث تتحول التربية الوطنية والعائلية إلى عملية شحن دائمة لممارسة العنف ضد عدو قائم أو عدو محتمل .
هل يمكن القول بأن الصراع الاجتماعي الذي تعرفه المجتمعات الحالية هو مظهر من مظاهر الانسلاخ من ثقافة المجتمع السائدة وتحدي للنظم والأعراف والقوانين المتواطئ عليها ؟ أم هل هو بادرة للتحرر وإعادة بناء وإرساء للذات وفق أنماط وقيم جديدة ؟

قد نزعم أنه لن تنفجر الثورة وينبثق العنف إلا من رحم الإخلال بالعقد الاجتماعي الذي بموجبه يحكم الحاكم رعيته .هذا العقد لا يعتبر بحسب جون جاك روسو شكلا لتكوين المجتمع كتنظيم سياسي فحسب، في إطار ارتقاء الانسان من كائن طبيعي تحكمه الغرائز الطبيعية إلى كائن مدني يعيش في دولة مدنية تحكمها قوانين ونظم معقدة .ولكن هذا العقد يحدد أيضا العلاقات المتبادلة بين الشعب وبين منتخبي الشعب التي يجب أن تكون على أساس الحكم العادل والمنصف كما يجب أن تحكم هذه العلاقة سلطة مقيدة "وليست استبدادية " تضع حاجات الشعب في مقامها الأول وعلى رأس أولوياتها إذ تلك مهمتها .
إن أساس العقد الذي يتنازل بمقتضاه المرؤوسين عن حقوقهم الطبيعية لصالح الطبقة الحاكمة أو السلطة في نظر روسو هو "تعاقد الكل مع الكل " وفق تراض تام بين الطرفين ينجم عنه تفويض إدارة الثروة التي هي حق للجميع وزعامة البلاد للفئة الحاكمة ،وما هذه الأخيرة إلا منذوبة أو خادمة لدى أو عند الشعب أو الرعية ،لأن الشعب هو صاحب السيادة المطلقة والكلمة العليا (روسو ، 1762) .
وقد نزعم في سياق آخر أن العنف قد ينتج عن تنامي ازدياد حاجات الإنسان في ظل قلة الموارد التي يمكن أن تفي بتلك الحاجات ولكن هذا الطرح غير صحيح وله ما يفنذه؛ حيث أن شح الثروات والموارد الطبيعية ،"هذا إن فُرض شُحّها "،قد لا يبرر لجوء البعض إلى الحرب والعنف في سباق وتنافس من أجل الظفر بقسط وافر من تلك الثروة ، كما ذهب إلى ذلك طوماس هوبز "حرب الجميع ضد الجميع " إن سادت العدالة والمساواة والإنصاف في اقتسام هذه الثروات .ولكن الحرب تقوم إن اختلت موازين الحكم باختلال ميزان العدالة ولاديموقراطية التسيير وتزايد الفوارق بين الطبقات بما ينتج ويعيد إنتاج الأمراض الاجتماعية . ذلك أنه في غياب وجود معايير مقننة وواضحة يتأسس عليها اقتسام الثروات في إطار من الديمقراطية والعدالة ، تتنامى حظوظ استغلال المال العام من طرف ذوي النفوذ وكل المقربين من السلطة (كمركز للنعم ) ، فتغتني بذلك الطبقة الرأسمالية المالكة (والمقرَّبة ) على حساب حقوق الطبقة العاملة المنفية أو المبْعَدة عن دوائر السلطة . ولا جرم أن هذا الإخلال والاختلال على قدر تعاظمه ، يحمل المحرومين على المطالبة بحقوقهم في الثروة لاجئين إلى العنف إن فشلت محاولاتهم المستميتة في استرجاع حقوقهم بالوسائل السلمية المعروفة. وبالتالي فالعنف لا يستمد مشروعية ممارسته إلا إذا انقطعت كل ممكنات الحوار والتواصل ليبقى هو الحل الأخير الذي يرجى من ورائه إسماع الصوت وإيصال الرسالة إلى مراكز القرار ، فكما يقال "العنف يبدأ حينما يتوقف الكلام "، أو حينما يصير محظورا في وجه السلطة.
إن العنف السلطوي بما أنه يَكبت انطلاقات الأفراد عن طريق عملية الترهيب التي يقوم عليها هدفه ، فهو يساهم بالتوازي في تقليص رغبات الأفراد في نهج العنف ضد السلطة ، لأن هدف هاته الأخيرة دائما هو خلق وعي جمعي مُسْتبطَن لدى أفراد المجتمع ، يتمثل داخله عنف السلطة كعنف أشرس بكثير ولا يوازي بحال عنف الأفراد العاجزين عن المواجهة ، فهي (أي السلطة) انطلاقا من ذلك ،تحاول إقناع أفراد المجتمع بضرورة التخلي عن العنف ضدها لأنه عنف غير متكافئ ولا يساوي مقدار عنفها التي ستمارسه عليهم في حالة عدم الانقياد لمعاييرها ، وهذا ما يردع الأفراد إلى حد ما عن مجابهة السلطة أو الوقوف ضد قراراتها ، فهم يتخيلون بدءا وختاما أن الحرب ضدها ستؤول حتما لصالحها (نظرا لقوة عتادها وإمكانياتها ) ، فيجعلهم يترددون في الإقدام على العنف ضدها بما يضفي ، موازاة مع ذلك ، الأمن والاستقرار.إن تحقيق الأمن والاستقرار من طرف السلطة ليس ناتج عن تلاقح وانسجام مبادئها مع توجهات ورغبات أفراد المجتمع ، بقدر ما هو ناتج عن القبول الإجباري لمعاييرها والمشروط بالخوف الصريح من عنفها وشراستها ، حقا لقد كان كامو محقا عندما قال بأن" ليس هناك أحقر من احترام مبني على الخوف" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير