الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة القمعية عند ميشيل فوكو وميشيل كروزيه

محمد البورقادي

2016 / 7 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتقد كروزيه بأن السلطة هي علاقة تبادلية و ليست ممنوحة ،من حيث لا يمكن تحت أي ظرف لشخص ما أن يجبر شخصا آخر على تنفيذ أمر ما لا يريد ذلك الشخص القيام به. فالفرد حر وله مجال للتحرك خاص به وله الحرية في أن يفعل ما يشاء انطلاقا من قناعاته وميولاته .لكن هذه العلاقة حسب كروزيه هي توافقية بين الطرفين "الخاضع والمخضع " فلا يقبل المخضع شرط الإخضاع إلا إذا كان يتوفر على ضمانات من طرف الشخص أو الجهة الخاضع لها .ومن هنا يمكن القول بأن ممارسة السلطة تتم عبر وجود مبدأ التفاوض والتبادل النفعي بين الطرفين أو التنازل لحق طرف لطرف آخر وفق شروط ومبادئ معينة متوافق عليها .ومن ثم فالسلطة ليست تعسفية ، أي أنها لا يمكن أن تمارس بالإكراه والقسر ضدا على كل التنازلات المسبقة من الطرف الممارسة في حقه .
ولتفسير العلاقة الموجودة بين السلطة والفاعل الاجتماعي ، يطرح لنا كروزيه مبدأ "الشك أو الإرتياب " الذي يستغله الفاعل الإستراتيجي "تنظيم سياسي ، سلطة " كأرضية لبناء نوع من العنف تجاه الفاعل الإجتماعي وذلك في محاولة إجباره على الإلتزام بقواعد اللعبة "العمل ، النظام ".فمن يستطيع التحكم في منطقة الشك أو الإرتياب بحسب كروزيه هو الذي له القدرة على ممارسة الرقابة والنفوذ والسلطة على الآخرين بما يخدم مصالحه وبما يجعل الآخرين تابعين له في قراراته .فبقدر مؤهلاته وإمكانياته بقدر ما يستحكم على تلك المنطقة التي تمكنه من اكتساب قوة غير رسمية تعقلن ممارسته للسلطة وتزيد من مجال حريته على حساب تقليص مجال حرية الآخرين ومن ثم فانعثاق الأفراد المتحكم فيهم رهين بمدى قدرتهم على الإنفلات والخروج من منطقة الشك أو الإرتياب تلك .
إن دوافع الأفراد لتحقيق غاياتهم عبر هامش الحرية المتوفر لديهم هي التي تدفعهم إلى تطوير عدة استراتيجيات ضمن هاته العلاقات الغير متكافئة و ضمن نسق علائقي يحرك هذه الاستراتيجيات و هو ما يسمى بـ " نسق الفعل الملموس أو الفعلي " حيث يمارس من خلاله الفاعلون مختلف الإستراتيجيات بهدف الوصول إلى مصالحهم ، وذلك يتم في علاقة تبادلية، بين مختلف هؤلاء الفاعلين ،غالبا ما تتسم بالصراع والتنافر وفق ضبط جماعي .ويعرف كروزيه الفعل الملموس بأنَّه جماعة إنسانية مهيكلة تنسق أفعال أعضائه بفضل آليات المناورة الثابتة نسبياً والتي تضمن البناء أي ثبات المناورات والصلات فيما بينها، بواسطة آليات الضبط التي تبني مناورات أخرى. ويؤكد أن ضغوطات التنظيم التي تكون الممر المفروض لعلاقات السلطة أي نسق العلاقات بما فيها الأنساق والأنساق الفرعية للفعل الملموس، وتهدف مفاهيم نسق المدبرين ونسق الفعل الملموس إلى توضيح وإجلاء الجدلية بين السلطة والتفاوض (كروزيه، 1981).
وإذا أسقطنا هذا الطرح على مفهوم السلطة نجد أن الفكاك أو التخلص من العنف السياسي مرتبط بمدى قدرة الفاعل الإجتماعي "على نقذ ،إعادة تأويل وفك شفرة " الخطاب الرسمي المقولب الذي تصوغه مؤسسات التنشئة الإجتماعية. هذا النقذ الموضوعي هو الذي من شأنه أن يزيد من استقلالية الفرد ويخلصه من قيود التطبيع والخضوع السلبي للسلطة بما يجعله يسائل شرعية النظام السائد ويكشف الحيف الذي يعرفه.هذا النقذ هو الذي يؤدي إلى الصراع والتصادم بين مختلف العقلانيات ، عقلانية الفرد الذي يسأل عن حقه الذي تنازل للسلطة عليه وعقلانية السلطة الذي تحاول ممارسة كل أشكال العنف "المشرعن" ضده .
وما يفعله جهاز الدولة هو محاولة منع الأفراد من مراقبة منطقة الشك عن طريق إخفاء مكامن الخلل في النظام القائم وإبراز مبادئ الديموقراطية والعدالة والتسويق لها بشتى الطرق .بشكل يضعف أو يقلص من محاولات الإصلاح والتغيير التي قد يقدم عليها الثائرون وذلك من أجل ضمان استقرار النسق "النظام" على ما هو عليه من اختلالات واستمراره .
إن نسق الفعل الملموس بحسب كروزيه هو جملة العلاقات التي تنمي أعضاء تنظيم معين، والتي تساعد على حل المشاكل الملموسة اليومية، ولا تستطيع المؤسسة "الدولة" التنبؤ بهذه العلاقات ولذلك تُّعد هذه القواعد غير الرسمية ضرورية في سير المؤسسة "الدولة". "والتغيير الناجح هو نتاج سيرورة جماعية يتم من خلالها خلق وتحريك الموارد، والقدرات الضرورية للأعضاء، قصد بناء مناورات جديدة تتمتع بحرية التطبيق دون قيود،وتجعل النسق يضبط التوجه أو إعادة التوجيه كجماعة إنسانية وليس "كآلة" أي خاضع وتابع ، ولهذا كان التغيير تعديلاً للوضعية ، وفي الوقت نفسه تحويل لأنماط ضبط تلك الوضعيات (نفس المرجع السابق)."
ولعل منطقة الشك أو الإرتياب التي أشار إليها كروزيه هي ما أشار إليه ميشل فوكو عندما تكلم عن الطريقة التي تمارَسُ بها السلطة بتقنياتها وتكتيكاتها واستراتيجياتها ، وهي الآليات الخفية والعدة النظرية التي تختفي ورائها السلطة لتفرض الأمر والطاعة ، فالسلطة ليست مجرد قوة عنفية قائمة على المنع والإرغام ، إذ لا يشكل العنف جوهرها والتي بدونه لا يمكن أن تُمارَس ، "ولو كانت كذلك ما استطاعت أن تتجسد كفعل في الأفعال "، ولو أدركناها كمجرد هيمنة متأتية من الخوف ما استطعنا فعلا كشف عملها وما تمكّنا من تبين لعبة القواعد التي تزرع أشكال التصدع في جسم السلطة ، وهي الأشكال التي يمكن بها أن ترتد قواعد المهيمنين في نحورهم ، وما كان بوسعنا التفكر في هذا الجذع المشترك الذي يولد السلطات ولكنه يولد أيضا "فتحات الإرباك والإرتباك " التي تمنعنا من تصور السلطة ككيان مستقر، إمكانية دحره مستحيلة (فوكو ، 1976).
وتلك الفتحات أو المناطق هي ما يتيح للسلطة ممارسة نفوذها ويجعل منها قوة متعددة تعمل بخفاء في أجهزة الإنتاج والأفراد والجماعات والمؤسسات وتسري في مجموع الجسم الإجتماعي .
والفاعل الإستراتيجي الذي يتخذ من سلطته ذريعة لتضييق هامش حرية الآخرين وإلزامهم بالطاعة عن طريق تحكمه بمنطقة الشك أو الإرتياب تلك بحسب كروزيه ، هو ما أعلن عنه فوكو عن طريق النموذج الإستراتيجي الذي يُستعاض به لفهم السلطة ، وهو" النموذج الذي يدرك الطابع الاستراتيجي للسلطة وقدرتها الاستمرارية ، حينما تخترق الأجساد وتنتجها في نفس الآن وحينما تولد الرغبة وتكوِّن المعرفة وتنتج الخطاب".
ومن هنا فاستراتيجية السلطة لا تهدف إلى التحكم في مناطق الإرتياب فقط في سبيل ممارسة الإكراه داخل نسق معين، ولكن استراتيجيتها مرتبطة كذلك بقوتها الإنتاجية . إنها لا تؤثر فقط كقوة تقول لا ، بل إنها في الواقع تخترق وتنتج أشياء ، وتولد المتعة ، وتكون المعرفة ، وتنتج قولا ، يجب أن نعتبرها كشبكة منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله ، أكثر منها هيئة سلبية وضيفتها القمع .
وانطلاقا من هذا الطرح ، فالسلطة لا تحتكر حق أو مشروعية ممارسة العنف فقط كما زعم بذلك ماكس فيبر ، إذ لو كانت كذلك ما كان يمكن قبولها أو الخضوع الطوعي لها ، ولكنها أيضا تحفز الإنتاج ، وتصنع الرفاه ، وتنتج الخطاب ، وتحقق الأمن بما يكفل الاكتفاء لمجموع الجسم الاجتماعي.
والقول بذلك كما سبق ، لا يستبعد العنف والطاعة من مجال السلطة ، ولكنه لا يجعلهما أساسها ، بل نتيجتها ، لأننا لو افترضناهما أساسا لها ، لافترضنا عجز السلطة عن الإنتاجية ولحسبناها سياجا مغلقا يكرر ذاته ويتآكل من داخله بنقص قواه الحيوية ،"أي أفراده "، ولأصبحنا نتصور أن منطق القوة هو ضعيف رغم ما يمتلك من قوة ، ولما استطعنا أن نستصيغ بقاء نفوذ هاته القوة وسطوتها طوال أحقاب تاريخية مرت ، وبالتالي فالسلطة مرفوضة مقبولة في نفس الآن ، أو ماسخة ممسوخة على حد تعبير هنري لوفيڤر .
إن ما يبرر الفرضية القمعية للسلطة هو أنها تتخفى وتتستر عن الكثير من آلياتها واستراتيجياتها ، فهي ليست قوة ردعية فقط ، بل هي تقنن وتطور وتراقب ، وتتقدم وكأنها مستعدة للتضحية بذاتها من أجل حياة أفرادها ومجتمعها، وهي لذلك سلطة رعوية كما يسميها فوكو ، حيث ترتبط مهمتها بالخلاص والتوجه إلى الحاجات الحيوية وإنتاج الحقيقة .
وهي إذ تقدم تلك التضحيات في سبيل سد حاجات أفرادها ، تطلب في مقابل ذلك الطاعة والالتزام وفق المعايير والقواعد المقننة وعدم تجاوزها والإنحراف عنها أو معارضتها ، وبغض النظر عن قبول أو رفض تلك المعايير من طرف الفرد ، تلزمه السلطة الإنقياذ لها بالإقناع في بادئ الأمر وبالقسر في حالة العصيان،وكل شذوذ أو انحراف من طرف الفرد يقابل بالسجن من طرف السلطة .وكل محاولة لكشف حقائق الخداع والتماطل والإهمال التي تنهجه السلطة في الخفاء ضدا على كل القيم والأعراف والأخلاق يقابل بالكبح والمنع والقمع ويشرعن باسم القانون .وكل حرية زائدة أو تعبير جامح "أي مخالف لتوجهات السلطة "ترصده السلطة وتتعقب أثره بهدف إبادته واجتثات أصحابه ، ولأن ذلك من شأنه أن يهدد مصالحها تعجل بتصفيته أو بتطويع أصحابه في المؤسسات السجنية باسم الحفاظ على الأمن والاستقرار.
إن الفرضية القمعية بذلك تتعارض جوهريا مع السلطة وما دامت الحقيقة كذلك فهي تمتلك العنصر المحدد أي تمتلك فرص الفرض والإرغام ، ولعل الأدهى من ذلك أنه في كل محاولة تمرد يبحث فيها هذا المفكر أو ذاك في ما يجب أن يكون عوض ما هو كائن ، تكون السلطة بالتوازي بصدد وضع دواليب العقاب والقسر موضع عمل ، "إذ في حين يبحث المشرعون والفلاسفة في الميثاق عن نموذج أولي لبناء أو إعادة بناء الجسم الاجتماعي ، حينها يكون العسكريون ومعهم اختصاصيو الضبط ، منهمكون في إنشاء وبلورة سبل قسر وإكراه الأجساد الفردية." (فوكو، 1975).
ولذلك فالسلطة لا تحتكر حق ممارسة العنف فقط ولكنها أيضا "تُحفّز على الانتاج وتصنع الرفاه وتحقق الأمن" ، ولو لم تستطع الجمع بين متناقضين (أي ممارسة العنف وصناعة الرفاه أو محاولة صناعته) ، لما انكتب لها الاستمرار ولانتفت هيبتها ومشروعيتها عند أفراد المجتمع ، بما قد يفضي إلى تدميرها أو تآكلها . إن منطق التضحية التي تقدم الدولة نفسها به ، هو ما به ينكتب لها القبول المشروط من طرف أفراد المجتمع وما عليه تُعَوِّل لكسب رهان سيطرتها وهيمنتها على حد سواء ، ولولا تلك التضحية (رغم يُسرها) لأضحت سلطة الدولة (رغم شدة عنفها) ضعيفة عاجزة يساورها الخذلان ، إذ لم تُقَدِّم ما يَشفع لها لتَسْلُب به.
وبهذا المعنى ، فجهاز الدولة كمنذوب عن المواطنين (بمختلف أطره وبكل مؤسساته ) لا يتهاون في تقديم المساعدة أو على الأقل التأثيت لها من حين لآخر ، فبإقدامه على ذلك يُضفي على أجهزته الأمانة ويُعاود زرع التقة المفقودة في نفوس المواطنين أو على الأقل يدفع إلى امتصاص الغضب الناتج عن تراكم الاحتياجات الغير مسدودة والحقوق المسلوبة بما يحقق إلى حد ما أو يُؤجِّل من فياضانات العنف الجارفة التي تعتري النسق الاجتماعي جراء الاخلال بتوازناته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل