الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحماية القنصلية بالمغرب

يوسف رزين

2016 / 7 / 6
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


تقديم :
حازت الدول الاوربية من الدول الاسلامية في القرون الغابرة على تنازلات تهم سيادتها الوطنية تمثلت في نظام سياسي قضائي غريب دعي بالحماية القنصلية و الذي قام على اساس منح الممثلين الدبلوماسيين لاروبا المعتمدين في بلد ما حماية دولهم لرعاياه فيصيرون و هم يحملون جنسيته غير خاضعين لقوانينه و معفون من اداء الضرائب و ما يلزمهم من خدمة وطنية. و هذا نظام غريب لانه يتنافى مع سيادة الدولة و انبساط سلطانها و قوة قوانينها و احكامها فوق ترابها على جميع المقيمين بها سواء كانوا محليين او اجانب.
ظهر هذا النظام اول مرة بالدولة العثمانية منذ اواخر القرن السادس عشر ثم انتشر في القرن السابع عشر كنتيجة للمعاهدات التي ابرمتها تركيا مع فرنسا سنة 1607 و الاقاليم المتحدة سنة 1612 و النمسا سنة 1615 و انجلترا سنة 1675 و دول اخرى . و قد تعللت الدول الاوربية انذاك بصرامة الاحكام الاسلامية من رجم للزاني و قطع يد السارق و جلد شارب الخمر مع وجود فوارق طبقية بين مواطني الدولة العثمانية تجعل بعضهم سادة و الاخرون عبيدا بالاضافة الى انعدام نزاهة القضاء التي تحمي الاجانب و خلطائهم من ظلم القضاة و الحكام و الاعيان. و هذه امور نظر اليها الاوربيون على انها تعرقل حرية التجارة و نموها و تهدد اقامة الاجانب في البلاد الاسلامية و مصير اموالهم و امتعتهم.
و قد فعلت الدول الاوربية نفس الشيء مع المغرب فيما طلبته من امتيازات كلما عقدت معه معاهدة سلم و صداقة او اتفاقية تعاون و تجارة، و لكن سلاطينه كانوا يرفضون هذه الطلبات لما فيها من انتقاص من سيادته لكن بوفاة المولى اسماعيل ساءت احوال المغرب فبدأ مسلسل منح الحماية القنصلية للدول الاجنبية غير مدرك لتبعاتها الوخيمة.
تعتبر المعاهدات التي ابرمت على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله اقدمها حيث اعطى للاجانب الحق في المجئ الى المغرب و التجول في اصقاعه و الاستقرار به دون حاجة الى الحصول على تأشيرة ، و من فصولها ايضا ما سمح لهم به ان يختاروه من الوطنيين كسماسرة في ترويج تجارتهم. و ضمنت هذه الاتفاقيات لهؤلاء السماسرة و كل من يخدم القناصل التوقير و الاحترام و الاعفاء من كل المغارم و التكاليف المخزنية ، كما تعترف هذه الاتفاقيات ايضا بقضاء قنصلي يفصل فيما ينشأ بين الاجانب من خصام حسب شرائع بلدانهم و قضاء مشترك يحكم فيه القناصل الى جانب الولاة المغاربة فيما اذا كان الخصام بين مغاربة و اجانب.
لقد نمت الحماية القنصلية بالمغرب كبذرة صغيرة ما فتئت تكبر حتى استفحل امرها و ادت بالمغرب الى فقدان سيادته و عجزه امام الاطماع الاجنبية و هو ما سنتناوله بالشرح في المحاور التالية.













I – نشأة الحماية القنصلية بالمغرب و تطورها :
كانت اولى المعاهدات التي ابرمها المغرب في هذا المضمار هي المعاهدة المغربية السويدية سنة 1763 ، و التي نص فصلها الخامس عشر على ان "للسويديين ان يجعلوا من القناصل ما يريدون و يختارون بانفسهم كما ان لهم ان يجعلوا من السماسير ما يحتاجون اليه و كل من انضاف اليهم من اهل الذمة و غيرهم من يقضون لهم اغراضهم لا يكلفون بوظيف و لا مغرم الا الجزية فإنها لا تسقط عن اهل الذمة " كما نص فصلها السابع عشر على "ان القنصل السويدي هو الذي يفصل في الخصومات التي تنشأ بين رعايا دولته حسب شريعة بلده و اذا حدث الخصام بينهم و بين غيرهم فالحاكم المغربي و القنصل السويدي يفصلان نازلتهما الا اذا ادى الخصام الى الجرح فيرفع الامر حينئذ الى السلطان". و كما هو واضح فإن هذه المعاهدة تعطي للسويد حق اختيار سماسرة من الرعايا المغاربة مع اعفائهم و كل من انضاف اليهم من المستخدمين و الاعوان من جميع الضرائب و التكاليف باستثناء الجزية عن اهل الذمة كما تسمح هذه المعاهدة بانشاء محاكم قنصلية تفصل فوق ارض المغرب بين السويديين بقوانين بلدهم و بمشاركة الولاة المغاربة في الحكم اذا كان الخصام بين السويديين و غيرهم.
و ابرم المغرب في سنة 1767 المعاهدة المغربية الفرنسية و قد ورد في الشرط الحادي عشر منها "ان من استخدمه قناصل فرنسا من كاتب و ترجمان و سماسير و غيرهم لا يتعرض لهم في وجه من الوجوه و لا يكلفون بشيء من التكاليف في نفوسهم و بيوتهم كيفما كانت هذه التكاليف و لا يمنعون من قضاء حاجة القنصوات و التجار في اي مكان كان ".
و قد عمل الفرنسيون على تأويل هذه المعاهدة حسب هواهم حيث جعلوها تعني اعفاء مستخدميهم من التكاليف المفروضة على الانفس كالخدمة العسكرية و الزكاة مثلا كما اشترطوا تاسيس قضاء مشترك في النزاعات التي تحدث بين الفرنسيين و المغاربة و عدم التقيد بعدد محدد من المستخدمين و حق حماية السماسرة.
و امضى المغرب ايضا المعاهدة المغربية الدانماركية لسنة 1767 التي فتحت ابوابه امام التجار الدانماركيين دون قيد او شرط و اعطت الامتيازات القضائية لهم بان يتقاضوا امام قاض دانماركي اذا كان الخصام بين دانماركيين و امام قضاء مشترك اذا كان الخصام بين دانماركي و مغربي و بأن لقناصلهم حق منح الحماية لخدمهم المغاربة مع ما تفيده من اعفائهم من التكاليف المخزنية. و في سنة 1773 ابرم المغرب المعاهدة البرتغالية حيث اعترف فيها انه باستطاعة التجار البرتغاليين المجئ الى المغرب و الاستقرار في موانئه و انفراد القناصل بالحكم بين رعاياهم و اذا حدث الخصام بينهم و بين مغاربة يتم اللجوء الى القضاء المشترك . و امضى المغرب كذلك سنة 1856 المعاهدة المغربية البريطانية و التي حصلت بريطانيا بموجبها على عدة امتيازات من قبيل حق نائب ملكة بريطانيا العظمى في اختيار من يترجم عنه و يخدمه من المسلمين و غيرهم و اعفائهم من المغارم و نصت المعاهدة ايضا على حق البريطانيين في السفر و الاستقرار حيث شاؤوا بالمغرب دون تعرض من احد و اعفائهم من الضرائب و احترام ديارهم و عدم تفتيش سجلاتهم التجارية و رسائلهم. كما اعترفت المعاهدة بقضاء قنصلي فيما يخص المنازعات بين البريطانيين و المغاربة بالاضافة الى وجوب قيام ولاة المغرب باعتقال من يأمر القناصل البريطانيون باعتقاله و نقله الى الجهة التي يريدون نقله اليها.
و اما اسبانيا فقد ابرم المغرب معها معاهدتين ، الاولى سنة 1860 و الثانية سنة 1861 ، فبالنسبة للاولى فكانت جراء هزيمة تطوان حيث تخلى على اثرها عن جزء من اراضيه و الزم بأداء غرامة حربية . ثم تأتي المعاهدة الثانية سنة 1861 التي نصت موادها الاربع و الستون على اعتراف المغرب لاسبانيا و قناصلها و رعاياها القاطنين بالمغرب على نفس الامتيازات التي منحت لبريطانيا ، بل اضافت اليها حق الرعايا الاسبان في تملك العقار بالمغرب و الترخيص لهم بقطع اخشاب الغابات المغربية و تصديرها و حق الاسطول الاسباني بصيد السمك و قطع الاسفنج و المرجان بشواطئه لقاء ضريبة سنوية رمزية.
و لقد اثار امضاء المعاهدات مع بريطانيا و اسبانيا و حصولهم على امتيازات كبيرة غيرة فرنسا نظرا لانها لم تحصل عليها في معاهدة 1767 فبدأت تدعو الى عقد معاهدة جديدة، لكن في الجهة المقابلة فإن المغرب بسلطانه و ولاته و شعبه بدأ يتذمر من عواقب هذه المعاهدات حيث صار الاجانب يقدمون عليه بدون اذن و يستقرون حيث شاؤوا كما مدوا نشاطهم التجاري الى القرى و الارياف الداخلية بعد ان كان محصورا في الموانئ ، مما زاد في عدد المتمردين على السلطة الشرعية و تهربهم من القيام بالخدمات الوطنية الشيء الذي بدا يعطل الاحكام و يضعف سلطة الولاة و يهدد الامن و يقلل من مداخيل بيت المال فبدأ السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان يعبر عن مخاوفه للدول الاجنبية و يعلن استنكاره و تحفظاته من الحماية غير القانونية التي يمنحها مبعوثوها و قناصلها لرعاياه و كلف كاتبه في الشؤون الخارجية ادريس بن محمد بن ادريس العمراوي ان يلفت نظر وزير فرنسا المفوض الى تردي الاوضاع بسبب ذلك كما كلف الفقيه محمد الشامي ان يفعل نفس الشيء مع وزير بريطانيا المفوض السير جون دريموند هاي ، فاستغرب كلاهما الامر و استنكرا التعسف و تبرآ من كل حماية تعطى مخالفة للاوفاق ، و بلغ السير جون دريموند هاي وزارة الخارجية بلندن احتجاجات السلطان و كيف ان الحماية القنصلية تطورت تطورا مزعجا و خرجت عن مسارها المعقول بسبب تعسفات القناصل فقامت هذه الاخيرة بمساع لدى وزارة الخارجية الفرنسية للبحث عن طريقة مرضية لاجتناب الاستغلال المتعسف لاتفاقيات الحماية.
و هكذا شرع كاتب السلطان سيدي محمد السيد ادريس بن ادريس مع نائب السلطان المقيم بطنجة السيد محمد بركاش باثارة هذه القضية مع القناصل الاوربيين و معهم نسخ من الوثائق القديمة المتعلقة بالحماية القنصلية ، و لكن لم يستجب للمفاوضة من السفراء الا السيد بيكلارد وزير فرنسا المفوض حيث بدأت المفاوضات بين الطرفين المغربي و الفرنسي في منتصف شهر يونيو 1863.
و خلال المفاوضات قسم المفاوض الفرنسي الحماية الى ثلاث اقسام و هي : حماية تمنح للبلديين المستخدمين بدور السفراء و القناصل كالتاب و الحراس و الخدام ، و حماية تمنح للسماسرة الوطنيين الذين يتوسطون بين التجار الاوربيين و التجار المغاربة ، و حماية تمنح للمتخالطين من سكان الارياف مع قناصل الدول الاجنبية في غير التجارة.
و لم يكن القسم الاول محل جدال بين المتفاوضين و اما القسم الثاني فإن المغرب وقف موقفا متشددا من ادعاء التجار الاجانب ان لهم الحق في منح حماية دولهم للسماسرة و المتخالطين معهم من الاهالي ، و اما القسم الثالث و هو حماية سكان الارياف فإن المفاوض الفرنسي ابدى استعداده للتخلي عنه بشروط . و قد بذل المفاوضان المغربيان طيلة شهرين كل ما في وسعهما لحمل المفاوض الفرنسي على تقديم تنازلات لصالح المغرب.و هكذا في 19 غشت 1863 تم امضاء الوفق كما اقترحته فرنسا و هو في ظاهره يضيق من سعة الحماية القنصلية و لكنه في واقع الامر يرسم لفرنسا بعبارات واضحة امتيازا جديدا.
لقد اعترف الطرف الفرنسي بأن الحماية مؤقتة تنقطع بانقطاع المحمي عن خدمتهم لكن يمكن ان تبقى لبعض الاشخاص طيلة حياتهم ، و انها لا تشمل من اقارب المحمي الا زوجته و اولاده و انها لا تورث ماعدا موسى بن شيمول ، و نجح المفاوض المغربي في حصر فئات المستخدمين بدور السفير بالنص على صفاتهم مثل الكتاب و الحراس و الخدام و نجح المفاوض الفرنسي في اقحام كلمة و شبههم و نجح المفاوض المغربي في النص على اسقاط الحماية عن مخالطي قناصل فرنسا من سكان الارياف و نجح المفاوض الفرنسي في توقف متابعة هؤلاء المخالطين قضائيا بعد اسقاط الحماية عنهم على اخبار السفير الفرنسي الشيء الذي يجعل هؤلاء المخالطين محميين في الواقع و ان لم يحملوا بطاقة الحماية. و هكذا فإن ما ربحه المغرب من هذا الوفق خسره من جهة اخرى بدرجة اهم.








II – آثار الحماية القنصلية على المغرب :
ان ما يثير الانتباه هو ان نظام الحماية رغم تضرر المغرب منه فإن المغاربة قد تسابقوا عليه سواء كانوا يهودا او مسلمين مما يكشف الهشاشة الادارية و الاقتصادية و القانونية للدولة المغربية ، فالمغربي آنذاك لم يكن يشعر بالانتماء لدولته و وطنه لذلك بمجرد ما سنحت له الفرصة في التحرر من واجباته تجاه وطنه لم يتأخر عن ذلك و هرول نحو الحماية القنصلية . لقد كان يفضل منح جزية للقنصلية الاوربية لقاء حمايتها له على ان يؤدي الضرائب الواجبة عليه لخزينة دولته مما يوضح ان التماسك الداخلي للمجتمع المغربي كان في ادنى مستوياته و لهذا عملت الدول الاوربية على التسرب الى المغرب من هذه الثغرة عن طريق سياسة منح الحماية القنصلية للرعايا المغاربة . لقد كانت سياسة خطت باتقان في اندية اوربا السياسية لنشر الفوضى في المغرب و توهين قواه استعدادا لاحتلاله و لهذا عهد الى الوزراء المفوضين بطنجة و القناصل في سائر المراسي بتنفيذها كما ان هؤلاء الاخيرين خلطوا سياسة دولهم بمصالحهم الشخصية فطفقوا يتاجرون في الحماية القنصلية و يبيعونها جهارا نهارا كما تباع اي سلعة في السوق و نفس الشيء فعله التجار الاوربيون بموجب الحق الذي صار لهم بمنح الحماية القنصلية فعمدوا الى فتح متاجر وهمية بكل ميناء من موانئ المغرب يبيعون من خلالها بضاعة الحماية التي تدر ارباحا دون تعب اكثر بكثير من ارباح ماكينة تورد أو جلدة تصدر .
و امام عجز الولاة المغاربة عن انصاف المظلومين من مظالم الحماية القنصلية حيث استطال المحميون على الناس و امعنوا في اهانتهم و سلب اموالهم و الاحتيال عليهم دون ان تطالهم يد القضاء المغربي فإنه لم يكن امام المظلومين من هذه الحماية الا ان يطلبوها بدورهم. لكن يبقى اهم سبب من اسباب شيوع الحماية القنصلية هو اختلال الادارة المغربية و فسادها حيث كان المغرب يحكم بواسطة اجهزة حكومية و ادارية عتيقة يسيرها اشخاص شبه اميون و لم تكن الحكومة تنفق مستندة على ميزانية يتراجح فيها الدخل و الخرج او الموارد و النفقات بل كانت الامور موكولة للمشيئة الربانية و جل الموظفين لم يكن يتقاضى عن عمله الحكومي او الاداري راتبا اداريا معلوما مما كان يدفع الكثير منهم الى الالتجاء الى ممثلي الدول الاجنبية ليتوسطوا لهم لدى المخزن لصرف رواتبهم المتأخرة بل ان الجيش نفسه اذا عجز عن الثورة كان ينظم مظاهرات سلمية يطوف من خلالها على السفارات و القنصليات طالبا التوسط له لدى حكومته لصرف رواتبهم . لقد صار المغرب في هذا الوضع مشلول اليد امام ظاهرة الحماية القنصلية و التي كانت لها اثار وخيمة على ممتلكات الناس و حقوقهم و هو ما سنوضحه كالتالي :
لقد رخصت المادة الخامسة من الاتفاقية التجارية المبرمة سنة 1861 بين المغرب و اسبانيا للرعايا الاسبان ان يشتروا في المغرب بموافقة ولاته عقارات و يتصرفوا فيها تصرفا مطلقا بعد الشراء . و بحكم هذه المادة صار للاجانب من كل الاجناس الحق في تملك العقار بالمغرب لأن جميع ما يعترف به لدولة من الدول من امتياز يستفيد منه سائرها. لقد كان الواحد منهم لا يكاد يحصل على رسم تملك حتى تمتد عينه ثم يده الى ما يجاور ملكه الجديد من املاك الناس و يدخل مع جيرانه بسبب طمعه في معركة من الخصام و الاحتكام يخرج منها في الغالب منتصرا و يخرجون منها في الاكثر منهزمين ، سيما اذا كانت الارض التي يختصمون عليها من املاك الدولة او املاك الاوقاف او من الاملاك الجماعية كأملاك القبائل و املاك الكيش ، بل و حتى الاملاك الخاصة الثابتة برسومها لمغاربة احياء حاضرين لم يكن اصحابها ليسلموا من غبن يقع عليهم و ظلم يلحق بهم ساعة الاختصام بسبب وقوف القناصل وراء رعاياهم و محمييهم و ايضا بسبب ضعف التوثيق فيما يخص الرسوم العقارية و شدة الخلل في تسجيلها.
لم تكن العقارات حين تباع تقاس طولا او عرضا و ينص على عدد ما في مساحتها من هكتار و آر و سنتيار و لم تكن تثبت في اطرافها معالم محكمة بمعرفة المهندس بل فقط ان متبايعين كان يحضران شهيدين يشهدان ان الواحد باع للاخر ارضا يحدها من الشرق بلاد فلان و من الغرب عزيب فلان الخ.. و هذا التحديد و القياس كما نرى تقريبي لا يعطي صورة قطعية عن مساحة العقار المشترى و يجعله عرضة للاختلاف بشأنه و التنازع على حدوده ، و من هذا الضعف التوثيقي و الخلل الوصفي التسجيلي كان الاجانب و محميوهم ينطلقون للتطاول على املاك الناس العقارية مع عجز المغاربة عن البرهنة على ملكيتهم لاراضيهم لان الواحد منهم لا يملك رسم الملكية و عقد الاراثة و اذا كانت الملكية ثابتة ثبوتا صحيحا بعقد واضح لم يعدم الاجنبي او المحمي حيلة للاستيلاء على ارضه و هي رشوة الشهود و القاضي نفسه و اشخاص ذوي ديانة و مروءة يعملون له بينة مستفيضة مبينة على العشرة و طول المخالطة يثبتون بها دعوى الاجنبي او المحمي و ينفون بها دعوى المغربي . كل هذا و السفير يواصل مساعيه و القنصل يوالي توسطاته المشوبة بالتهديد باحضار الاسطول. و بهذا الاسلوب تمكن الاجانب و محميوهم من الاستيلاء بالباطل على اراض شاسعة و تحويل ملاكها الاصليين الى زراع لحبوبهم و رعاة لمواشيهم.
و لم يتوقف ضرر الحماية القنصلية على العقار بل تعداه الى القضاء ذلك انه كما سبق ذكره فقد حصلت الدول الاوربية على حق انشاء محاكم قنصلية او مشتركة و استثني رعاياها او محميوها من سريان حكم الدولة المغربية عليهم . و بهذا ظهر في الجهاز القضائي اختلال اتسع خرقه مع الزمان حتى كاد يعطله بالمرة بعد ان ذهب ذلك الاستثناء بهيبة الدولة و جرأ الاجانب و المحميين عليها ، فإذا تشاجر محميان في قارعة الطريق و تعرض من جراء هذا الخصام املاك الناس و انفسهم للاذى فإن السلطة المغربية لا يمكنها التدخل الا بعد استئذان القنصل و في هذه الحالة تصير تأتمر بأمر القنصل و تنتهي بنهيهم . و اذا كان الخصام بين اجنبي او محمي و غير محمي فإن القضية تحكم لصالح الاجنبي او المحمي خوفا من قنصليته و بذلك ساهمت القنصليات في خلق فوضى قضائية استظل المجرمون بها لارتكاب جميع انواع الجريمة من غصب متاع الناس و هتك اعراضهم و تهديد امنهم.
و بذلك تكون الحماية القنصلية قد ذهبت بهيبة الدولة و قللت من موارد الخزينة و احدثت انقساما و شرخا عميقا في المجتمع المغربي و شلت قدراته.





III- رد فعل المغرب :
وجد المغرب نفسه امام هذا الوضع المستفحل لمشكل الحماية القنصلية مجبرا على التحرك لدرأ اخطارها . لقد عمل حكومة و شعبا على الحد من مظاهرها . و في هذا الصدد اعلن عدد من الفقهاء المغاربة موقفهم الحازم من المحميين فاصدروا فتاواهم الذامة لهم و المحرمة للتعامل معهم كالقاضي الحاج العربي بن علي المشرقي الحسيني دفين فاس المتوفي بها سنة 1895 حيث ألف فيهم سنة 1873 قبل اجتماع مدريد بسبعة اعوام رسالة سماها" الرسالة في اهل البصبور الحثالة" افتى فيها بمقاطعة المحميين قائلا" و من اعان المحتمي او عاشره او خالطه او ارضته حالته فهو فاسق ملعون" و قد ألف علماء مغاربة اخرون رسائل عديدة في هذا الصدد تحث المغاربة على مقاطعة المحميين و عدم مصاهرتهم و المتاجرة معهم كالعالم المامون بن عمر الكتاني الذي الف " هداية الضال المشتغل بالقيل و القال " و علال بن عبد الله الفاسي الذي الف " ايقاظ السكارى المحتمين بالنصارى" و كتاب " الويل و الثبور لمن احتمى بالصبور" الخ ..و هي كتب تبين وعي المجتمع و طبقته المثقفة انذاك بخطورة ظاهرة الحماية القنصلية و ضرورة التصدي لها.
اما من ناحية الحكومة المغربية فقد بدأت تصطدم بالمشاكل المترتبة عن نظام الحماية القنصلية كاختلال الامن و ضعف السلطة و قلة الموارد و تدخل السفراء و القناصل في الشؤون الداخلية للدولة المغربية لذا بدأت لديها اول المحاولات لاعادة النظر في قضية الحماية حيث بعث السيد محمد الخطيب نائب السلطان في الشؤون الخارجية المقيم بطنجة رسالة دورية في شهر مارس سنة 1854 الى جميع رؤساء البعثات الديبلوماسية المعتمدين بالمغرب يطالبهم فيها بحصر حق الحماية القنصلية في حدوده الحقيقية . كما اشار السلطان مولاي عبد الرحمان الى مساوئ هذا النظام و عبر للسير جون دريموند هاي ممثل بريطانيا العظمى عن تخوفاته عن عواقبه و تحفظاته من تعسفات القناصل في ممارسته خلال المحادثات التي سبقت امضاء المعاهدة الودية و الاتفاقية التجارية بين المغرب و بريطانيا سنة 1856 .
و حاول ايضا السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان معالجة قضية الحماية القنصلية و طلب سنة 1870 من السير ج. د . هاي ان يساعده في محاولته . و لما تولى السلطان مولاي الحسن الاول سنة 1873 عمل ايضا نفس الشيء و لذلك قرر ان يتصل مباشرة و من غير واسطة بالدول الاوربية فأرسل في شهر ماي 1876 امينه محمد الزبدي الرباطي سفيرا متنقلا الى فرنسا و بلجيكا و بريطانيا العظمى و ايطاليا بغية لفت نظرهم الى قضية الحماية القنصلية بهدف اصلاح نظامها اصلاحا يحول دون استغلالها بهذا الشكل المتعسف فلم يعد الا بوعود من فرنسا و بريطانيا عن استعدادهما لطرح قضية الحماية القنصلية على بساط المناقشة الصريحة مع جميع الدول الاجنبية الممثلة بالمغرب.
و اعتمادا على ذلك اصدر السلطان المولى الحسن امره الى نائبه في الشؤون الخارجية السيد محمد بركاش الذي سلم يوم 10 مارس سنة 1877 الى رؤساء البعثات الديبلوماسية الاجنبية بطنجة مذكرة من 19 نقطة سرد فيها اعتراضات المخزن و بين الاصلاحات التي يجب ادخالها داعيا اياهم الى الاجتماع في مؤتمر خاص بذلك . و من اهم النقاط التي تضمنتها هذه المذكرة رفض المغرب لاستخدام محميين من طرف القناصل يكونون موظفين عند الحكومة المغربية او متابعين من طرف العدالة كما ان الحماية لا تورث مع وجوب حصر اسرة المحمي في زوجته و اولاده فقط و ضرورة دفع السماسرة العاملين لحساب الاجنبي الضرائب و ان يؤدي الاجانب و محميوهم من المغاربة الممارسين للفلاحة الضرائب على محاصيلهم و قطعانهم و رفض الحكومة المغربية خروج المغاربة المتجنسين عن طاعتها و ضرورة امتثالهم لقوانينها الخ ..
و قد رد رؤساء البعثات الاجنبية على هذه المذكرة يوم 9 يوليوز 1887 حيث عقدوا عشرة اجتماعات ادارها السير ج. د. هاي دامت الى 10 غشت ، ناقشوا خلالها النقاط التي تضمنتها المذكرة المغربية . و بفضل تعاطف السير ج. د. هاي مع مطالب المغرب ابدى جميع الممثلين استعدادهم لاتخاذ بعض التدابير لترضية المغرب و ان كانت على المستوى الشكلي كتربية الخنازير التي اصبحت محدودة في راسين لكل اسرة اوربية و حماية غابة طنجة من النهب و تسليم قوائم المحميين في كل سنة الى السلطات المغربية ، اما المسائل الجوهرية كحق الحماية و الشروط التي يمارس بها فلا .
و استمرت المفاوضات بقية سنة 1877 و طيلة سنة 1878 بين الممثلين الاجانب تارة و بينهم و بين ممثل الحكومة المغربية تارة اخرى . و قد كانت فرنسا و ايطاليا متفقة في الدفاع عن الحماية القنصلية و عدم تقديم اي تنازل اما اسبانيا فصارت اميل الى ادخال اصلاحات جذرية على نظام حمايتها القنصلية خوفا من حدوث انهيار داخلي في المغرب فجأة تعجز عن التعامل معه. و في نهاية شهر ماي كلف الممثلون الاجانب لجنة باعداد ملخص لجميع المحادثات التي استمرت اكثر من سنتين و التي كان من الواضح أنها بعيدة كل البعد عن الوصول الى نهايتها .
و امام هذا الوضع اقتنع السير ج. د. هاي ان اجراء مداولات فوق التراب المغربي لن تؤدي الى حلول حقيقية و انه من الاجدى انعقاد مؤتمر خارج المغرب يتداول فيه عن الدول الاوربية مندوبون غير ممثليها المعتمدين بطنجة و تكون جلساته علنية و تنشر مداولاته في الصحافة الدولية مما سيرغم الدول المناوئة كايطاليا و فرنسا على الاقتراب من موقف بريطانيا المساند للمغرب، فأخبر السيد بركاش بذلك و الذي بدوره اخبر السلطان مولاي الحسن فوافق على الفور ، و منه نشأت فكرة عقد مؤتمر مدريد الدولي.









IV – مؤتمر مدريد الدولي :
تم توجيه رسائل من طرف المركيز سلزبوري وزير خارجية بريطانيا يوم 7 اكتوبر سنة 1879 الى سفراء بريطانيا العظمى المعتمدين لدى الدول التي يهمها امر الحماية القنصلية و الديبلوماسية بالمغرب و قد اخبرهم بفشل مذكرات طنجة التي عقدتها الحكومة المغربية مع رؤساء البعثات الديبلوماسية و القنصلية حول موضوع الحماية القنصلية . و ذكر المركيز سلزبوري ان حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تقترح عرض المسألة في اجتماع يعقده المملثون في مدريد نظرا لقربها النسبي من المغرب و لاستعداد حكومة اسبانيا اظهار وجهة نظر معتدلة بخصوصها تبشر بالوصول الى تسوية عادلة.
و قد قابلت اسبانيا الاقتراح بالارتياح و شكرت بريطانيا عليه و اوفدت السيد رينالدي الى فاس ليطمئن السلطان على حسن نياتها قبل انعقاد المؤتمر كما اوفدت بريطانيا السير ج. د. هاي الى السلطان في ابريل 1880 ليؤكد له حسن نيته و وقوفه الى جانبه . و هكذا بدا ان دول المغرب و اسبانيا و بريطانيا العظمى تعمل في انسجام كبير و وفاق تام ، بينما كانت بقية الدول تقف في الاتجاه المعاكس للمصالح المغربية و على رأسها فرنسا و ايطاليا.
و عليه وجهت الحكومة الاسبانية يوم 10 ابريل الدعوة الى كل من المغرب و البرتغال و فرنسا و انكلترا و بلجيكا و هولندا و الولايات المتحدة الامريكية و البرازيل لحضور المؤتمر الذي تبدأ اشغاله يوم 15 من شهر مايو 1880 . و الحقيقة ان اغلبية الدول كانت تميل الى ترضية المغرب بالقدر الضروري اللازم لاستقراره و نمو التبادل التجاري معه باستثناء فرنسا و ايطاليا و المانيا . هذا و قد اجابت معظم الدول عن دعوة الحكومة الاسبانية بالقبول و عينت الدول سفراءها او وزرائها المفوضين بمدريد ليمثلوها في المؤتمر و عزز بعض هؤلاء الممثلين بخبراء في الشؤون المغربية و معهم ملفات كاملة تتعلق بكل ما راج في موضوع الحماية القنصلية.
في المقابل فإن الوفد المغربي عانى من عدة مشاكل اهمها مرض السيد بركاش و عدم توفره على المال الكافي لمواجهة نفقات السفر الى اسبانيا و المقام بعاصمتها هو و الوفد الذي سيسافر معه و الذي قدر بألف ريال ، كما انه فهم مما اقترحته بريطانيا ان ممثلي الدول بمؤتمر مدريد يكونون من غير ممثليها في طنجة و الحال انه منهم و بالتالي لا يجوز له حضور المؤتمر. و هذا كان سوء فهم منه لانه ليس ممثلا لدولة اجنبية ببلده بل هو نائب السلطان و الواسطة بينه و بين الممثلين الاجانب و لقبه الرسمي عند حكومته النائب و الذي يعني وزير الشؤون الخارجية و ليس القنصل او السفير، لكنه عاد في النهاية و اقترح نفسه على السلطان ان يرسله شعورا منه بالمسؤولية لما رأى الوقت يمر دون ان يعين الوفد و خشي ان يجتمع المؤتمر دون حضور ممثل المغرب و هكذا فقد سافر الوفد المغربي الى مدريد مكونا من السيد بركاش و الحاج عبد الكريم بريشة و ولده الحاج محمد و صهره السيد المكي البطاوي و المهندس السيد الزبير سكيرج.
عقد المؤتمر اجتماعا تمهيديا بقصر رئاسة الحكومة بمدريد يوم السبت 16 ماي كما كان مقررا بحضور ممثلي جميع الدول التي قبلت حضوره ثم اتفق الحاضرون على ان يؤجل الاجتماع الى يوم الاربعاء 19 ماي كما سويت خلال هذه الجلسة بعض القضايا الشكلية كاعتبار الفرنسية لغة للمؤتمر . و منذ هذا التاريخ عقد المؤتمر ستة عشر جلسة كانت اخرها يوم 3 يوليوز . و افترض في البداية ان على المؤتمرين بمدريد ان يصادقوا بدون مناقشة على جميع النقط التي صودق عليها خلال الاجتماعات التي وقعت في طنجة بين ممثل الحكومة المغربية و بين الممثلين الاجانب اي ان السيد محمد بركاش لم يكن الا ان يقدم مطالب سنة 1879 مع التعديلات التي ادخلت عليها و تتلخص هذه المطالب المعدلة في ان الشروط التي تقوم الحماية القنصلية على اساسها هي المستخلصة من المعاهدة المبرمة بين المغرب و بين انجلترا سنة 1856 و الاتفاقية المعقودة بينه و بين اسبانيا سنة 1861 و التسوية التي توصل اليها مع فرنسا سنة 1863 و ان تراجمة الممثلين الاجانب و خدامهم من العرب لا يلزمهم اداء اي ضريبة و ان الوكلاء القنصليين بالموانئ لكل واحد منهم الحق في استخدام ترجمان و حارس و خادمين لا يؤدون هم اي ضريبة و ان احد رعايا السلطان اذا عينته دولة اجنبية وكيلا قنصليا لها تشمله و اسرته حمايتها و لكنه لا يستطيع حماية مغربي اخر و ان مستخدمي الممثلين الاجانب لا يمكن اختيارهم من بين موظفي الحكومة المغربية و لا من بين الناس المتابعين قضائيا و ان قائمة المحميين ترسل كل سنة الى وزير خارجية السلطان و الى الولاة المحليين و ان الحماية تشمل اسرة المحمي و لكنها ليست وراثية و ان مستخدمي الكتاب و التراجمة الوطنيين لا يتمتعون بالحماية و كذلك مستخدمي المستوطنين الاجانب لكن هؤلاء لا يمكن حبسهم دون اخبار القنصل الذي ينتمي اليه مستخدمهم و كذلك الحال بالنسبة للسماسرة و ان السماسرة يؤدون الضرائب سواء كانت الضرائب على الانفس او على الاموال و لا يمكن اعتقالهم الا بعد اعلام القنصل الا اذا كانوا ساعة الاعتقال متلبسين بالجريمة و ان الرعايا الاجانب و المحميين العاملين في الفلاحة يؤدون الضرائب الفلاحية و ان المغاربة المتجنسين بجنسية دولة اجنبية يخضعون لحكم السلطان عند رجوعهم الى المغرب.
لقد كان هناك اتجاهان داخل المؤتمر ، اتجاه يمثله السيد محمد بركاش الذي كان يسعى الى اخراج السماسرة من حظيرة المحميين بحيث يؤدون الضرائب و يخضعون لسلطة المخزن ، كما سعى في ان تكون حرية التجار في اختيار سماسرتهم محدودة فلا يختارونهم من بين موظفي الحكومة و لا من بين سكان البادية و المدن الداخلية. و كان يؤازر ممثل المغرب في مطلبه هذا مؤازرة كلية او جزئية ممثلا بريطانيا و اسبانيا. اما الاتجاه الثاني فمثله الفيس اميرال جوريس ممثل فرنسا الذي كان يتصرف طبق التعليمات الدقيقة التي تلقاها من وزارة الخارجية بباريس و خلاصتها عدم التنازل عن الامتيازات التي اكتسبتها فرنسا من معاهدات امضيت بينها و بين المغرب مباشرة او عن تلك التي اكتسبتها مما عقده المغرب مع غيرها من الدول . و اشار ممثل فرنسا ان التنازل الوحيد الذي يمكن ان يقبله هو اداء السماسرة للضرائب الفلاحية مقابل الاعتراف الصريح بحق الاجانب في تملك الاراضي ، و كان يؤازره في ذلك ممثلا ايطاليا و المانيا.
و في النهاية كان واضحا رجحان الكفة الفرنسية ، فقد كان يؤازر فرنسا في وجهة نظرها الخاصة بحماية السماسرة و حرية التجار الاجانب في اختيارهم و مسألة المتجنسين عدد من الدول بمنتهى الحماسة اما المغرب فبدت كفته مرجوحة من البداية لان وفده كان عاجزا عن فهم ما يدور في المؤتمر بسبب جهل رئيسه و اعضائه للغات المشاركين فيه ، فكانت تدخلاته قصيرة و ردوده مقتضبة و طلباته لا تعدوا ان تكون مجرد توسلات الى الدول المشاركة.
و هكذا انفض المؤتمر يوم 3 يوليوز 1880 بعدما وقع مفوض المغرب و مفوضو الدول التي شاركت فيه على اتفاقية دونت قانون الحماية و التجنيس في فصولها الثمانية عشر و لم يحصل المغرب على شيء مما كان يرغب فيه و يتمناه ، فانجلت المداولات عن اتفاقية جعمت شتات ما تفرق فيما سبقها من معاهدات و اتفاقيات تخص الحماية القنصلية و استوفت ما كان من شروطها و موادها غامضا متشابها ، و كل ما اعترفت به للمغرب هو حق حكومته في استخلاص الضرائب الفلاحية و رسوم الابواب من التجار و السماسرة و المحميين و لكن مقابل ثمن باهظ و هو اعتراف المغرب بحق الاجانب في شراء العقار بالمغرب.















V- اهم فصول اتفاقية مدريد :
نص فصلها الاول على ان الاسس التي يقوم عليها نظام الحماية هي المنصوص عليها في الاوفاق المبرمة مع الانجليز سنة 1856 و الاسبان سنة 1861 و التسوية التي ابرمت مع فرنسا سنة 1863 و قبلت بها الدول الاخرى الا التعديلات التي ادخلها عليها هذا الوفق. و نص الفصل الثاني على حرية الممثلين الديبلوماسيين في ان يختاروا من بين المسلمين و غيرهم تراجمة و خداما تشملهم حماية الدولة التي يستخدمها ممثلها فلا يؤدون اية ضريبة كيفما كان نوعها الا ما هو مقرر في الفصلين الثاني عشر و الثالث عشر . و تجدر الاشارة الى ان عدد التراجمة و المستخدمين العاملين عند رؤساء البعثات الديبلوماسية لم يحدد برقم فيمكنهم ان يستخدموا منهم ما فيه كفايتهم و ما هو فوق حاجتهم اما القناصل و نواب القناصل و الوكلاء القنصليون المستقرون بالموانئ فلا يختارون الا ترجمانا واحدا و حارسا واحدا و خادمين اثنين و كاتبا عربيا عند الحاجة و يعتبر هؤلاء المستخدمون ايضا محميين لا يؤدون اية ضريبة الا ما نص عليه في الفصلين الثاني عشر و الثالث عشر (الفصل الثالث).
و اذا عينت دولة اجنبية احد رعايا السلطان وكيلا قنصليا فإن حمايتها تشمله هو و اهله الساكنين معه بداره و لكنه لا يستطيع ان يمنح حماية الدولة التي ينوب عنها الا لحارس مغربي واحد و يتمتع نائب القنصل بما يتمتع به الوكيل القنصلي من الحقوق خلال ممارسته لعمله (الفصل الرابع). و تعترف الدولة المغربية بحق السفراء و الوزراء المفوضين و نواب الدول في استخدام من يشاؤون من المغاربة لانفسهم او لدولهم و لكن من غير ان يكونوا من شيوخ القبائل و سائر موظفي الحكومة كالجنود الا المخازنية اللازمين لحراستهم كما لا يمكنهم اعطاء الحماية لمغاربة مدعى عليهم في المحاكم او متهمين بجريمة قتل قبل ان يحكم عليهم (الفصل الخامس). و يحترم منزل المحمي و اهله الساكنون معه كالزوجة و الابناء و الاقارب القاصرين و لا تورث الحماية باستثناء اسرة ابن شيمول ، نعم اذا انعم السلطان باستثناء اخر فلجميع الدول الممثلة في المؤتمر الحق في طلب مثل ذلك (الفصل السادس) .
و يخبر ممثلو الدول كتابيا وزير الخارجية بكل موظف يستخدمونه و يبعثون اليه سنويا بقوائم محمييهم (الفصل السابع) كما يبعث القناصل و الوكلاء القنصليون المقيمون في الموانئ قوائم محمييهم بها الى ولاتها المغاربة كل سنة (الفصل الثامن). و لا يعتبر محميا من يخدم مع مستخدمي السفارات و القنصليات و لا من يخدم مع الاجانب و المحميين، و لكن الولاة المغاربة لا يمكنهم اعتقال واحد منهم دون اخبار قنصل مستخدميه الا في حالة تلبسه بجريمة القتل او الجرح او التعدي عليه فيعتقل و يعلم رئيس البعثة الديبلوماسية او قنصله بعد ذلك (الفصل التاسع). و تطبق احكام تسوية 1863 المتعلقة بالسماسرة الا التعديلات المتعلقة بالضرائب المنصوص عليها في فصول تالية (الفصل العاشر) و تعترف الدولة المغربية بحق التملك و تتم اجراءات شراء الاملاك و الحكم فيها طبق القانون المغربي (الفصل الحادي عشر) .
و يؤدي الاجانب و المحميون و السماسرة الضرائب كل سنة على يد قناصلهم كما يؤدون حقوق الابواب لكن طريقة الاداء و تاريخه و تقدير المبالغ المؤداة يوضع لها نظام (ترتيب) يتم تحضيره من طرف وزير الخارجية و نواب الدول ولا يزاد في المبالغ المقدرة الا بموافقتهم (الفصل الثاني و الثالث عشر) و لا يتوسط مستخدمو القنصليات لفائدة غير المحميين الا اذا استظهروا برسائل السفراء و القناصل (الفصل الرابع عشر) . و اذا حصل مغاربة على شهادات تجنيس في الخارج و رجعوا الى المغرب فبعد اقامتهم به مدة تساوي المدة التي اقاموها في الخارج للحصول على تلك الشهادات يخيرون بين قبول احكامه او الخروج منه الا اذا ثبت ان حكومة المغرب اما المتجنسون وقت امضاء هذه الاتفاقية فيحتفظون بالجنسيات التي اعطيت لهم (الفصل الخامس عشر).
و لا تمنح في المستقبل حماية ضدا على هذه الشروط لكن يقع الاعتراف بجميع ما اعطى من الحمايات حتى الان تعسفا و يمكن للدول ان تمنح حماية استثنائية لبعض المغاربة الذين ادوا لدولة اجنبية خدمة عظيمة على ان لا يتجاوز عدد المحميين استثنائيا لكل دولة اثني عشر الا اذا انعم السلطان عليها بعدد اكثر (الفصل السادس عشر) . و تعترف الحكومة المغربية بصفة الدولة الفضلى لجميع الدول الممثلة في المؤتمر لتنعم مجتمعة بكل امتياز يمنح في المستقبل لاحداها منفردة (الفصل السابع عشر) . اما الفصل الثامن عشر فيتعلق بتبادل وثائق التصديق على الاتفاقية الذي يقع بطنجة في امد قريب .
و هكذا نرى ان هذه الفصول لم تحقق شيئا مما كان المغرب يأمله و يتمناه و انما وضعت حول عنقه باحكام طوقا مازال يضيق و يخنقه حتى افقده توازنه و شل حركته بعد 32 سنة . كما انها وضعت حدا للعشوائية و الفوضى اللتين كانت تعرفهما سوق التعسف و خرق القوانين و احل محلهما النظام و الاستقرار حتى كان الشاعر لم يقل فيها الا بيته الشهير :
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما














خاتمة :
كان العصر في القرن 19 عصر المد الاستعماري للعالم الغربي المتسلح بالعلم و الحداثة و التقنية على العالم الاسيوي الافريقي المتخلف و الغارق في التقليد و الاقطاع لذلك كان طبيعيا و مقدرا ان يخضع للهيمنة الغربية سواء بشكل مباشر عن طريق القوة العسكرية او بالتدريج عن طريق الحماية القنصلية و هو القدر الذي تسلط على المغرب و لم يكن له بد من التقهقر امامه و الخضوع له سيما و انه بلد تقليدي عتيق لا يمكنه ان يصمد امام الالة الغربية الحديثة.
ان مشكل الحماية القنصلية الذي تعرض له المغرب يكشف بجلاء ضعف المغرب المركب و المتعدد على جميع الاصعدة سواء كانت عسكرية او سياسية او اقتصادية او ادارية او فكرية او ديبلوماسية ، بعبارة اخرى كان المغرب خلوا من المؤسسات التي يمكن ان تقوي بنيانه الداخلي و تمكنه من الصمود امام الاطماع الاجنبية و هو ما يحتم عليه الاهتمام بالمؤسسات على شتى انواعها لان في ذلك صونا لسيادته على المستوى البعيد.
__________________
مرجع :
ابن منصور،عبد الوهاب ، مشكلة الحماية القنصلية بالمغرب من نشأتها الى مؤتمر مدريد سنة 1880 ، الطبعة الثانية ، 1985 ، المطبعة الملكية ، الرباط.
يوسف رزين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟ • فرانس 24


.. إدانات دولية للهجوم الإيراني على إسرائيل ودعوات لضبط النفس




.. -إسرائيل تُحضر ردها والمنطقة تحبس أنفاسها- • فرانس 24 / FRAN


.. النيويورك تايمز: زمن الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران لن




.. تجدد القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة