الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصة القصيرة - ذكريات مفقودة -

تامر سلامة

2016 / 7 / 7
الادب والفن



أنهى فلاديمير خدمته العسكرية ، ثلاث سنواتٍ خدم فيها وطنه الأم في الشيشان ، حاله ك حال جميع الشباب الروس ، عمره الآن واحد و عشرون عاماً ، شاب في مقابل العمر ، عانى ما عاناه ، و لم يكن يشد أزره غير سوى الأمل اللانهائي للعودة للمنزل ، كم إشتاق لوالدته ، لمحبوبته التي ٱنتظرته طويلاً و لأصدقاء طفولته الأوفياء ، إشتاق لرائحة ثلوج لينينغراد ، للهواء العليل الذي يخترق أشجار السرو الخضراء لينعش صدره و قلبه ، أخيراً إنتهت خدمته و حان اللقاء .
عاد فلاديمير مفعماً بالحب و الأمل و يغمره الشوق ، لكل شيء ، توجه لمنزله في الحي رقم ١٢ , طرق باب المنزل ، إستمر بالطرق لدقائق ، ربما أمه العجوز قد خف سمعها ، طرق أقوى ، و لكن لم يكن هناك من مجيب ،مر به أحد جيرانه ، فعانقه عناق الأبطال ، تعرف عليه ، إنه العم أناتولي جاره و صديق والده القديم ، جلسا على الكرسي القديم أمام المنزل و تحدثا ..

أ : كيف حالك يا ولدي ، كيف كانت فترة خدمتك ، حمداً للرب أنك عدت سالماً دون إصابة أو بتر في الأطراف ، كم أنت محظوظ يا فلاديمير .

ف : شكرا لك أيها العم ، إنتهت الخدمة على خير رغم صعوباتها و حربنا الشرسة ضد الإرهاب الشيشاني ، كم إشتقت لكم جميعاً ، لكن ما بال الحي هادىء ؟ ليس كما تركته ؟ أين أرتور ، كوستا ، أليكسي ، ستوبا ، ديانا ، يلينا ؟ أين هم ؟ لا أرى أحداً هنا ؟

أ : في الحقيقة ي ولدي كلهم قد رحلوا ، منذ سنتين مضت ، كلٌ غادر بحثاً عن مستقبله أو تزوج و إنتقل للعاصمة ليستقر هناك .

ف : يا إلهي ، أتمنى أن يكونوا قد بلغوا مبتغاهم و حققوا ما يريدون ،لكن أين أمي ؟ لقد طرقت الشباب حتى أوجعتني قبضتي ، يجب أن أراها ، فقد عزمت أن أتزوج ماشا اليوم ، و لكنني لم أقابلها بعد ، هل بقيت في منزل عائلتها أم غادرت هي الأخرى ؟

أ : آآآهٍ يا ولدي المسكين ، لدي جوابين على أسئلتك لكن سأبدأ بالمفرح فيهما ، إن ماشا ما زالت تقطن مع والديها حسب ما أعتقد لكنني لم أراها منذ إسبوع ، لربما هي مريضة أو شيء ما .

ف : إنها تنتظرني كنت متأكداً من إخلاصها لي ، إنتظرتني ثلاث سنوات ، أخيراً سنتزوج ، لكن أخبرني بالشيء الآخر ، لماذا تبدو حزيناً و متردداً ؟

أ : لا أعرف كيف أقولها لك ، لكن الغالية قلينا ڤالينتينڤا لن تعود ، لو تعرف ي ولدي كم عانت في غيابك و كم أرسلت لك الرسائل التي لم ترد عليها حتى ...

ف : ماذا تقصد ! أين أمي ؟! لم أتلقى رسالةً يتيمة على مدار الثلاث سنوات ، أين أمي أخبرني أرجوك عم أناتولي أين رحلت !

أ : لقد توفت يا بني ، توفت قبل سنة بعد صراعٍ قاسٍ مع السرطان الذي غزا رئتيها ، ذاك المرض الخبيث الستاليني البطش ، الذي لا يرحم أحداً إن قرر القضاء عليه ، فليرحمها الرب في السماوات و لترقد بسلام .

نهض فلاديمير كأن زلزالاً عنيفاٌ قد ضرب قلبه ، إنطلق نحو المقبرة ، يفتش عن قبر أمه حتى وجده ، ركع باكياً يرثي أمه ، إحتضن القبر و عيناه تمطران سيولاً من الدموع الممزوجة بالدماء و الألم ، ألم يكفه معاناة الحرب وويلاتها ، حتى ينتزع منه الرب أمه ! ، وضع الزهور و نظف قبر والدته و تحدث معها كأنها حية ، شكا همومه و بكى و طلب المغفرة حتى خارت قواه .
إقترب الليل ، نهض فلاديمير خارجاً من المقبرة ، توجه نحو بيت عائلة ديميتري بيتروڤيتش ، منزل والدي ماشا ، فلم يبقى له سوى معشوقته و لن يخفف ألم فراق أمه و لوعة فقدانها سواها ، طرق الباب ، خرجت أمها إيلينا ..

إ : فلاديمير ! يا لها من مفاجأة ، متى وصلت ؟

ف: وصلت اليوم ، فقد إنتهت خدمتي العسكرية ، لقد سألت العم أناتولي عن ماشا ، هل هي بخير ؟ ، فقد أخبرني أنه لم يرها في الحي منذ أسبوع ! أين هي يجب أن أراها ..

إ : إنها على خير ما يرام ، لكن .. قد رحلت منذ إسبوع ، رحت يوم الأربعاء السابق ، نحو موسكو ..

ف : ماذا ! لماذا ؟ و مع من ؟! لقد إتفقنا على الزواج ، و أقسمت لي بالإخلاص و إنتظار عودتي .

إ : لا أعلم عما تتحدث يا بني ، لقد غادرت مع خطيبها أنطون ، و هما الآن على الأرجح يجهزان للزفاف في موسكو ، حيث سيتزوجان بعد شهر من الآن ..

ف : ماذا ! هل تمزحين ! كيف تجرأت ؟ كيف ؟!!

إ : هههه هل حقاً ظننت أنها ستنتظرك ثلاث سنوات ؟ إنظر إلى نفسك تتلفظ بالحماقات ، أي فتاةٍ تلك التي ستصون عشيقاً يغيب عنها ثلاث سنوات و مصيره شبه مجهول ؟! إذهب لبيتك يا عزيزي ، صدقني قنينة فودكا ستفي بالغرض و تنسى ..

ف : حسناً .. شكراً لك أيتها العمة ..

في طريقه للمنزل ، كان فلاديمير لا يرى شيئاً أمامه ، سوى أطياف ذكرياته البريئة في شوارع هذا الحي ، فهنا لعِبَ الكُرة مع أصدقاء طفولته ، هناك تحت الشجرة إعتاد أن يسهر الليالي مع محبوبته مفترشاً العشب و يلتحفان السماء ، يعدان النجوم و يحلمان بمستقبلهما معاً ، و تلك الأرجوحة القديمة الصدئة ذات الصرير المزعج ،كم مرجحته أمه عليها حين كان صغيراً ، و هذا الشجرة القديمة ، شجرة عشقه و تذكار الزمن ، إقترب منها و تسلقها ، بحث فوق جذعها عن نحت في لحائهاٍ ، حيث نقش إسمه و إسم ماشا بالسكين قبل ثلاث سنوات .. يا لها من ذكريات جميلة و مؤلمة ، ذهبت أدراج الرياح ، كم حلم و كم صبر ، خسر كل شيء ، بالكاد يستطيع إلتقاط أنفاسه و التشبث بما تبقى له من إحساس ..

دخل المنزل ، نظر للصورة المعلقة على الجدار ، تحسسها ، كم هو وحيدٌ و ضعيف ، إن الإنسان لا يرتقي عن كومة من ترابٍ عفنة ، دون أمه ، ولا يختلف عن الأشجار الصمّاء، دون مُحَبَّتُه و أصدقائه ، لكن لا ، فحتى الأشجار يوجد من يحبها و يعتني بها ، بل هو ك بيتٍ مهجور الآن ، لا أحد يحتاجه أو حتى يفتقده في عزلته الإجبارية التي فرضها عليه الوطن ، خسر كل شيء ، ماذا تبقى له ؟ كل ما كان يشجعه البقاء حياً و يمده بالأمل خلال ثلاث سنوات قد تلاشى ، خلال ست ساعاتٍ ثقيلة بدت كأنها ستون سنة ، تحول فجأة من من شابٍ عشريني يافع الشباب مفعم بالحياة ، لكهلٍ في الثمانين من العمر ، شعر كأن كل هموم الدنيا قد إنفجرت في وجهه مرةً واحدة ، كأن السماء قد صبّت كل ما إكتنزته من غضبٍ إلهي عليه .

غط في نومٍ عميق ، إستيقظ في الصباح الباكر ، حمل حقائبه الثقيلة التي لم يتسنى له إفراغها حتى ، ذهب لموقف الحافلات ، توقفت حافلة بعد دقائق ، حمل حقائبه ووضعها في المكان المخصص لها ، بدأ يصعد درجات سلم الباص بخطواتٍ ثقيلة ملأها الألم و خيبة الأمل ، إصطدم بفتاةٍ تنزل الحافلة ، لم يلتفت لها و إعتذر دون أن يرفع نظره نحوها ، جلس على الكرسي و إنغلق الباب ، نظر من النافذة نظرة أخيرة نحو منزل طفولته ، إلتقت عينيه بعيني تلك الفتاة ، إنها ماشا ، لكنه لم يهتم ، فقد إختارت طريقها و حياتها و تخلت عنه ، إنطلق الباص مسرعاً ، آخذاً ذكريات فلاديمير المؤلمة بعيداً ، ليعيده مجدداً لمعسكر الجيش ، فلا يوجد له ما تبقى هنا في لينينغراد ، بعد أن توفت أمه ، غادره أصدقائه ، و تركته حبيبة عمره ، لم يبقى له سوى عشق الوطن ، ذاك الوطن الذي لم يتركه مهما فعل أو تأخر عنه ، عازماً أن لا يعود مجدداً لمدينته التي لفظته منها ذكرياته المفقودة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن