الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بائعة الاعشاب بين الواقع والمخيال

كامل حسن الدليمي

2016 / 7 / 7
الادب والفن


بائعة الأعشاب بين الواقع والمخيال
قراءة في المجموعة القصصية للروائية والقاصة حنان رحيمي
كامل حسن الدليمي
شغلت الأوساط الأدبية في نتاجها الإبداعي بين الشعر والرواية والقصة ، أديبة ملتزمة وجادة امتلكت أدواتها الأدبية وتسلحت بخزين معرفي أضفى على نتاجها الأدبي مسحة جمالية أخاذة تمكنت من خلاله النفاذ إلى قلوب المتلقين كواحدة من المبدعات العربيات اللواتي تميزن بخطاب جريء على كافة المستويات لاسيما أن الجرأة في الطرح تشكل ضمانة للنجاح والوصول إلى أماكن الصدارة خصوصا في عالمنا العربي الذي يقمع في الغالب النتاج الإبداعي النسوي ويبيح للرجل ما لا يسمح به للمرأة ... تلك هي المبدعة حنان رحيمي، قرأت لها شعرا جميلا في (جني المطر" واستمتعت بروايتها ( حياة منتصف الموت) وتخيلت أنني أقرأ لعظام الروائيين العرب من خلال لغة صافية وأسلوب تميز بالواقعية منطلقا من الهم الجمعي للإنسان ، ثم اقتنيت من معرض بيروت الدولي مجموعتها القصصية الأخيرة " بائعة الأعشاب " فوجدتني أمام قامة سامقة كبيرة امتزجت بالفقراء والمساكين وولجت عالم الخدم القادمين من اسقاع الأرض بحثا عن الرغيف ، وخبرت جيدا باعة الأعشاب ورصدت همومهم ولم اشك لحظة واحدة انها انفصلت عن العوالم التي اشتغلت عليها ولولا معرفتي الشخصية بها لقلت أنها منهم ، وذكرتني تماما بالمنفلوطي وعالم الشحاذين في مصر الحبيبة وكيف ولج عالمهم وكأنه منهم ، هذا هو الصدق في الأدب الذوبان التام في الشخصيات وتحليلها تحليلا نفسيا بمنتهى الدقة والوضوح بعيدا عن الوصف والتعالي على تلك الشخصيات المسحوقة الذي يذهب متعة تعقب الحدث القصصي .
والحقيقة أن القص فنٌ صعب إذا آمنا بالرأي القائل انه تحليل نفسي للشخصيات وتقمصها من قبل القاص ووضع الحوارات المعبرة عنها بعناية ودقة توصل الرسالة بإيجاز ودون تكلف أو خريج عن الأطر العامة للشخصيات وتحميلها ما لا يؤمن به القاص مما ينفر المتلقي ، وفوق كل هذا فإن حبك القصة يتطلب وعيا وإحاطة بالمفردات المعبرة ودقة متناهية في مراعاة الزمان وتحديد المكان المواكب للأحداث خزينا لفظيا ومعرفيا كبيرا .
وإذا آمنا بأن القصة هي سرد لأحداث واقعيّة أو خياليّة، قد تكون نثرًا أو شعرًا يقصد من خلالها إثارة الاهتمام والإمتاع والتّثقيف للسامعين أو القرّاء ،عليه لابد من التركيز على الجانب التوعوي للقصة فضلا عن الإمتاع وتحقيق الدهشة والانفعال والتأثر الذي قد يوصل المتلقي الى التعاطف مع الأبطال ( يبك أو يضحك يفرح أو يحزن ...) وليس يسيرا استنهاض العواطف لمجموع المتلقين مالم يكن القاص حاذقا ذكيا ملما بخفايا النفس الإنسانية في مجتمعه خصوصا وبقية المجتمعات وكيف يكون الخطاب ذا اثر عام .
ادركت القاصة كل هذا بوعي وجسدته في مجموعتها القصصية بدراية تنم عن استيعاب تام بكيفية استدراج المتلقي للحظة النشوة الفكرية وتحقيق المتعة من القراءة من خلال الترابط المتين والانتقالات المنسجمة للأحداث حيث لم تترك القاصة لحظة فراغ يمكن من خلالها ان يتملص القاريء من المتابعة لمجريات الحدث وتطوره صعودا قمة العمل ومن ثم نزولا للنهاية التي انفتحت على احتمالات عديدة في بعض القصص التي تضمنتها المجموعة .
من هي بائعة الأعشاب؟ ما هي الفكرة أو المغزى من إيراد حكايتها ؟بائعات الأعشاب كثيرات أي صراع يمكن توقعه في هذه القصة؟ كل هذه التساؤلات يجيب عليها الركن الأول للقص ( الفكرة أو المغزى) فهو يشكل المرتكز الاول الذي لاغنى عن إثارة القارئ وقد تحقق فعلا وهو وجود درس وعبرة لهذه البائعة الاستثنائية يفسرها الحدث بكل مجرياته. نعم لا أحكام مسبقة ، فقط تم التركيز على العلاقة بين الأشخاص والأحداث والأفكار المطروحة، ثم تحقق الحدث وهو مجموعة الأفعال والوقائع مرتّبة ترتيبًا سببيّاً، تدور حول موضوعها، وتصوّر الشخصيّة وتكشف عن صراعها مع الشخصيّات الأخرى، وجاء الحدث بصيغة (الأنا) السردي بمعنى أن القاصة لبست شخصية (بائعة الأعشاب) وتصدت لتكثيف السرد من خلال الحوارات المنتجة بين تلك الشخصيات وبذلك تحققت وحدة الحدث حين أجابت القاصة عن الأسئلة الأربعة التي تلزم أي قاص الإجابة عليها في متن الحدث القصصي وهي: كيف وأين ومتى ولماذا ؟
ولو انتقلنا للعقدة أو ( الحبكة ) لوجدنا أن الحوادث ارتبطت زمنيا متوحدة مع بعضها ساعية الوصول الى المتلقي من حيث يحب أن يصل وهذا ما ميّز القاصة في معظم القصص الواردة في المجموعة حيث توحدت الحوادث على النسقين الداخلي والخارجي ووضحت القاصة بذكاء بداية العقدة أو الحبكة مع نهايتها مؤطرة بنسق اجتماعي يستقصي تركيبة المجتمع من خلال الخادم والمخدوم ، الغني والفقير، السيد والعبد، العاقل والمجنون وهكذا .
لقد أخذ البعد الاجتماعي حيزا كبيرا في معظم القصص وكأن القاصة خبيرة اجتماعية تحرت بشيء من الدقة طبقات المجتمع وعايشتها بروح الباحث عن ضالة وتوصلت من خلال هذا الجهد البحثي للاطر التي تغلف هذه الشخصيات على اختلاف مستوياتها الفكرية فكانت الأفكار ناضجة لدرجة الإدهاش الذي تمكنت القاصة من كسب المتلقي لصفها وانسلاخه عن الواقع وكأنه يعيش الحدث بنفسه ، ولا يتمكن من تحقيق هذا المستوى المتقدم في الحذب إلا من استحضر كافة أدواته المعرفية وتسلح بثقافة موسوعية تستكنه الخفايا المعتمة في المجتمع وتتعاط بايجابية معها على أساس النفع العام وتوجيه القائمين على الأمر بطريقة ذكية لظواهر مغيبة عن أنظارهم أو هم من تقصد تغيبها لان الاطلاع عليها يعني وضعه أمام مسؤولية إيجاد الحلول المناسبة لها ، وهذا ما نستطيع أن نطلق عليه ( الأدب الفاعل) أو الفّعال لأنه يسلط الأضواء على معاناة الناس ويشير إلى حلولها المقترحة .
ولن أغالي اذا زعمت أن (بائعة الاعشاب ) كمجموعة قصصية لامست الوجع الانساني ليس في لبنان وحسب بل في مختلف اسقاع الارض لما رصدت من هموم تكاد ان تكون عامة يتعرض لها عموم المجتمع العربي بشكل خاص والعالمي عموما واستعرض واحدة من القصص التي وردت في المجموعة على أن مسألة المفاضلة بين قصة وأخرى ليس يسيرا فكل قصة لها نكهتها وطعمها المميز :
حكاية رماد:
سهواً أنهت قهوتها, انتبهت أنها تريد الاستمتاع بآخر رشفة، باغت التفل شفتيها، دفنت أصابع يدها في منفضة السجائر المتخمة في محاولة لخنق العسيس المنبعث من تحت الرماد..
بانفعال زفرت عندما لاحظت ان بصمتها زركشت أوراق مقالتها الأخيرة، رفعت نظارتها فوق جبيها لترى .
يا لها من فوضى!.. همهمت,عندما عرفت أنها ستعاود نسخ المقالة من جديد, وربما لن تكون الأخيرة.
تأففت وهي تحاول عبثاً إيجاد علبة سجائرها, لكن الأخيرة خذلتها, عندما تذكرت أنها أرسلت بها إلى سلة المهملات. هزت رأسها, ابتسامة جافة خرجت مع كلام مسموع:
ــ (مقال قاهر) وسلة المهملات أقرب إليه من المطبعة.
النوم سلطته مطلقة على جفني أحلام، غالبها النعاس, لم ترغب ترك طاولتها دون ان تنجز شيئاً, أخذها النوم دون تردد وهي تجلس على كرسيها، إلى غيبوبة الحلم.. الكل يسأل, والسؤال ذاته يتردد:
ــ " شو في ؟..خير يارب, ما الحكاية"؟...الجواب تاه في بهو الحناجر، ووجهة البشر واحدة: نساء ورجال وأطفال وفتية ساحة البلدة الرئيسة حيث الجمع الغفير..
"الزمن أواخر سنة 1975 في حين كانت بيروت تلتهب، معارك، خطف، مجازر، ذبح على الهوية. كانت هذه المنطقة ما زالت هادئة تحافظ على تعايشها" .
المفاجأة صادمة, كل الذين رأوا المشهد ذهلوا وتراجعوا إلى الوراء, بعيون جاحظة وألسنة تيبست في الأفواه امام هول الحدث ، علت وجوههم علامات الحيرة والدهشة...
بهذا الأسلوب الشفيف الشيق يتصاعد الحدث وتتطور فعاليات المشهد بطريقة درامية قائمة على شدّ القاري عبر متوالية الحدث وتداخل الأدوار بين ابطال القصة ومن بين ابرز تلك المواقف ما حدث في المقبرة تقول القاصة :
"الريح تعوي وتزمجر، أية فجيعة تنتظر على أبواب البيوت!!.. اصطفت الجموع أمام المقبرة لوداع العريس المسجى في حضرة الموت, كان بينهم وجوه غريبة، من أين أتت وكيف ؟... لا احد يعلم . وقبل أن ينهي رجل الدين صلاته لعلع الرصاص في أرجاء المكان, ليخرج الحشد مصدومين مذهولين, أمام رجال ملثمين يتزنرون بأسلحتهم، وتحت أرجلهم عدد من الجثث لأبناء البلدة المجاورة، علا صراخ أحد الملثمين:
- الآن سترقد بسلام يا سامي.. نعم سترقد بسلام .
تناثرت أسئلة لم يولها احد اهتماما: هل نحن نشرب من نبع واحد, وتجمعنا أرض واحدة, أبناؤنا يتقاسمون مقاعد الدراسة سواسية حقاً؟!
تلاطمت أمواج الأسئلة التي وصلت بعد فوات الأوان, حيث ازداد عدد الأمهات الثكالى والأرامل والأيتام، إنّها الحرب الطائفية , صارت الأرض فحمة، حجارة البيوت تبكي ساكنيها، الهواء الأصفر اقتلع الأطفال، صار الإنسان وحشاً ، صار أفعى، تجرَّع السم وسقاه، أي حرب هذه!..لا بصر ولا بصيرة!!...
من أشعل شرارتها, وماذا يبتغي من وراء سفك الدماء البريئة
من هو المستفيد؟.
ان دلالة تتابع هذه الأسئلة بالتأكيد تقف خلفها أجوبة مستحضرة من قبل القاصة وهي اجوبة لابد ان تكون تحليلية للمشهد وفقا لما تراه القاصة ليس ما يراه الساسة القابضين على مقود الموت والحياة في البلاد على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم ثم تنحدر هذه الاسئلة زوايا مظلمة لم يسلط الضوء عليها المشيعون تقول:
مررنا بكل الأسئلة, سوى السؤال الذي يقول:
أبو سعيد الذي وصل البلدة قبل سنوات طويلة, أين هو الآن؟ ولماذا توارى وعائلته بعد مقتل سامي؟...
. ــ أحلام.. يا أحلام, غفوت وأنت تجلسين على كرسي مكتبك, قالت الأخت الصغرى لأحلام.
- ربما غفوت لبرهة.
ــ كنت تحلمين, أتيت إلى هنا وأنت تتمتمين أبو سعيد.. أبو سعيد, من هو أبو سعيد؟.
- إنه بطل المجازر القادمة.
هذه القصة نزف ووجع وبكائية ليس من نسج الخيال بل هي من الواقع المعاش ليس لأحد أن ينكر هذه الافعال في بلاد العرب نحن امة استأجرت الموت ووطنته لا لشيء فقط كي نخطئ بعضنا ويثبت هذا لذاك انه الأعنف والأقوى وما تقوت الامة يوما على عدو ...
والسؤال هنا : ما هي جدوى الأدب عموما وما معنى القصة والحكاية والشعر والرواية أليس للاعتبار وللدرس والعبرة وتحري الحلول لمشاكل المجتمعات ها هي قصة من واقع الأمة نزفت القاصة من عمرها لتقدمها للقراء على طبق من ذهب ليعتبروا ولكن ( أسمعت لو ناديت حيا)
وسارت بقية القصص على هذا الوقع المنضبط والنسج المعبر بأسلوب يكاد أن يكون متفردا في ما تقرأ اليوم من طلاسم .
وأذا كان من ملاحظة على (بائعة الأعشاب ) فهي تلك النهايات المفتوحة على حلول تركت القاصة للمتلقي وضع الحل المناسب لها وكأنها تقصدت ذلك لتجعل القاري طرفا فاعلا في مجريات الأحداث ولا تشكل هذه الملاحظة إلا عامل قوة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته