الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الكافر سعيد- رسول المغاربة (3)

موريس صليبا

2016 / 7 / 7
مقابلات و حوارات


سعيد الكافر يغوص في كراهيّة الآخر
نواصل الحوار مع الأخ سعيد أوجيبو (أو كما يسمّي نفسه "الكافر سعد") الذي يصف لنا من خلال اختباره الصعوبات التي يلاقيها المهاجر إلى بلاد غريبة عن تقاليده وقيمه وانعكاسات الاحتكاك بها على حياة المهاجرين وتأقلمهم في مجتمعات وبيئات مختلفة عمّا عرفوه وتأصل في سلوكهم وتوجّهاتهم.

س – الأخ سعيد، هل تحوّل الغضب الذي كان يجيش في داخلك مع الوقت إلى كراهيّة شديدة، فعرفت أحداثا جعلتك فعلا مراهقا غضوبا متمرّدا؟
ج - هناك أحداث يعيشها المرء في طفولته أو في عمر المراهقة لا ينساها فحسب، بل تترك ترسّبات كثيرة في حياته. وأنا ما زلت متأثرا جدّا بما حدث معي مرة عشيّة ((عيد الخروف))، أي عيد الأضحى، في فرنسا. ذهبت مرّة بصحبة إمام المسجد ووالدي وبعض الأقارب إلى مزرعة كنّا نشتري منها خرافا للعيد. في تلك المرّة حاول صاحب المزرعة أن يبيعنا خرافا مسنّة معظمها في حالة صحّيّة غير مقبولة. إعتبرنا جهلة متخلّفين لا نعرف كيف نختار الخراف السليمة. أذكر جيّدا أننا كنّا ننظر بدقّة إلى ذنب الماشية ونتفحّص فمها، فنتعرّف حالا على سوء حالتها، فنرفض شراءها. وهذا ما أثار مرّة غيظ صاحب المزرعة الذي لم يقبل برأي أبي ولا برأي الإمام (الذي كنّا ننظر إليه كاختصاصيّ بأمور عديدة) أو برأي أي شخص آخر حول ماشيته أو بالأحرى بضاعته. فغضب آنذاك وأخذ رفشا وهدّدنا بالقول: ((يا جماعة البونيول، يا عربان، أخرجوا من مزرعتي حالا! لا أريد رؤية وجوهكم هنا بعد اليوم.))
وعندما عدنا إلى سيارتنا، خيّم علينا صمت رهيب. على أثر ذلك، التفت الإمام إليّ قائلا: ((هل رأيت يا إبني كيف نتألّم ونعاني كي نأتي باللحم إلى بيوتنا ونحتفل بعيدنا؟)) صُعقت بسبب ذلك وثار غضبي وتمرّدي على هكذا مجتمع، وكنت قد بلغت آنذاك سنّ العاشرة. وهكذا تفجّرت الكراهيّة لديّ أكثر فأكثر تجاه الغرب والفرنسيّين. وما آلمني كثيرا هو أنني كنت قد عرفت رفاقا فرنسيّين كثر وتصادقت معهم، ولكن منذ ذلك الحين، فقدت الثقة بهم جميعا وقاطعتهم، وحمّلتهم مسؤولية تصرّف صاحب المزرعة (نعم الشرّ يعمّم والخير يخصّص). نعم كنّا زملاء واصدقاء، ولكنّي كنت مقتنعا أنّهم لن يقبلوني أبدا أنا الفرنسيّ من إصل مغربيّ.

س- كيف تصرّفت بعد ذلك؟ هل اعتمدت سلوكا معيّنا في حياتك؟ أم رضخت للأمر الواقع وتأقلمت معه؟
ج - كلاّ، مع تفاقم حدّة الغضب والتمرّد، اعتمدت سياسة واستراتيجيّة رهيبة. فقلت في نفسي: بما أنّني ((بونيول)) وسأبقى ((بونيول)) في فرنسا، قرّرت الإستفادة واستغلال الحلال والحرام، بدأت بالسرقة والسلب والتسوّل واقتراف أشنع الأمور وأسفهها والإعتداء على الناس وإهانتهم. لم أترك معصية إلا اقترفتها، ولا انحرافا أخلاقيّا إلا ومارسته. فتأصّل هذا الوضع الرهيب في سلوكي وأصبح أمرا طبيعيّا في نظري. تماديت إل حدّ بعيد في ممارسته والتأقلم معه، وكأنّه جزء منّي. لم يعد بوسعي التحرّر منه بسهولة، إلاّ في فترة لاحقة بفضل الصليب ويسوع المسيح الذي جعلني أحبّ كلّ إنسان دون أيّ تميّيز عرقي ّ أو دينيّ أو إجتماعيّ.

س – رغم ما عانيت أنت والأسرة في تلك الأجواء المتوتّرة في مجتمع غريب عن مجتمعكم الأصلي، هل بقيت فكرة العودة إلى الوطن واردة؟
ج - هنا يكمن مصدر العلّة والبلبلة النفسيّة والتوتّر داخل الأسرة. كان هذا الأمر يؤلمني للغاية، لأنّ والداي كانا دائما يفكّران بالعودة إلى المغرب، وكأننا جماعة من الغجر، لا مأوى ثابت لنا، أو من البدو الرحّل نحطّ رحالنا وننصب خيمنا حيثما نجد مجرى ماء لنا ولمواشينا وإبلنا، أو كأنّنا جماعة من الأوباش أو اللصوص الذين لا يعرفون إلا عمليّات السطو والسلب والنهب والقتل. لا نستطيع الاستقرار في مكان ما إطلاقا. كنت أشعر ياستمرار بأنّ هجرتنا مؤقتة، ولن يتسنّى لنا أبدا التفكير ببناء مستقبل لمدى طويل حيثما حللنا، خاصّة هنا في فرنسا، وذلك لأن الأب والأم هما أصحاب القرار. لم يتوقفا عن القول لنا باستمرار: ((الصبر! الصبر يا أولاد! سنعود يوما إلى بلدنا وتعيشون حياة أخرى!)) بينما نحن الأولاد نتمزّق من الضياع النفسي والإجتماعي، ننتظر بألم ومرارة، ومع مرور الوقت، ننتقل سريعا من الطفولة إلى المراهقة، ثمّ إلى سنّ الرشد وإلى سوق العمل دون أن ندرك معنى الإستقرار النفسيّ والمادّي والإجتماعيّ وحتّى العائليّ.

س - كيف تخطّيت هذه العقبة والحلم بالعودة إلى المغرب؟
ج - مع تقدّمي في العمر، شعرت بتحرّر تدريجيّ من وطني الأصليّ وبتعلّق قويّ بوطني الجديد فرنسا. والأسباب كثيرة: هنا في فرنسا نجد الكثير من الرفاهيّة رغم شعورنا غير الطبيعي وغير المبرّر برفض المجتمع الفرنسيّ لنا. ولكننا لا نفكر بهدؤ وترو وتعقّل بما يوفّر لنا هذا البلد حيث نتنعّم بحريّة التفكير وحريّة التنقّل والتصرّف دون رقيب أو وازع، ونتمتّع بكل المساعدات الإنسانيّة والإجتماعيّة التي تتمنّى شعوبنا العربيّة المسلمة أن يتوفّر لها خمسة بالمائة ممّا هو متوفّر لنا هنا ولكل مهاجر إلى هذا البلد. وبالرغم من كل ذلك، كنّا نشعر بضغوط الأسرة الكبيرة التي بقيت في الوطن. نعم الهجرة إلى فرنسا كانت فرصة للنجاح والترقّي الإجتماعي والاقتصادي، وهذا ما كان بارزا في نظرة الأقارب لنا لدى زياراتنا للمغرب.

س – هذا يعني أنّ أسرتك التي هاجرت لم تقطع علاقاتها مع الوطن الأم، فكنتم تعودون من حين إلى آخر لزيارة المغرب؟ كيف كان شعوركم عند عودتكم الأولى إلى المغرب ولقاء الأقارب هناك؟
ج - نعم، عدنا لأوّل مرّة إلى الوطن عام 1978 وذلك بسياّرة مستعملة من نوع ((بيجو براك 404)) قادها أخي الكبير. كانت الرحلة طويلة، تجاوزت الفي كلم، ومنهكة للغاية. تصوّر كيف كانت الأسرة بكاملها مكتظّة في تلك السيّارة وكأننا في علبة سردين. آنذاك لم تكن بعد الأوتوسترادات متوفّرة كما هي اليوم. ولكن بالرغم من ذلك، نسينا كل المتاعب عندما وصلنا إلى الباخرة التي نقلتنا مع السيّارة من إسبانيا إلى المغرب، والتقينا على متنها المئات من المهاجرين المغاربة في طريق زيارتهم مثلنا إلى الوطن والأهل هناك. وقد لفت انتباهي في الباخرة منظر سيّارات المهاجرين المسجّلة في المنطقة التي نسكن فيها، أي منطقة "الرين" الأعلى والأسفل، الواقعة شمال شرق فرنسا، ورقمها 68، وكذلك سيّارات عديدة أخرى مسجّلة في المنطقة رقم 59.
وعندما بدأت ملامح مئذنة جامع طنجة وبيوتها البيضاء اللون وأرض المغرب تلوح في الأفق، اعتراني شعور غريب، وكأنّ التراب ينادي التراب، وأنا لست سوى حفنة من تراب. غير أنّ شعورا آخر عاد إليّ من جديد وبقوّة، عندما أخذت النساء على الباخرة تزغرد وتطلق أهازيج اليويو التقليديّة، والدموع تسيل من عيونهنّ فرحا بالعودة إلى الوطن الأم، وكذلك كان حنين الرجال وشوقهم إلى مسقط رؤوسهم بارزا بوضوح على وجوههم وأحاديثهم وتطلّعاتهم، وكأنهم سيولدون من جديد.
تصوّر أننا عبرنا كل فرنسا من شمال شرقها وحتّى جنوب غربها، ثمّ إسبانيا من شمالها إلى أقصى جنوبها، وقد أنهكنا التعب جميعا. ولكن ما أن شاهدنا، من على متن الباخرة، مئذنة طنجة وجمال تلك المدينة البيضاء، حتّى تلاشى التعب والألم، وزالت الأوهام وكلّ معالم التميّز والتفرقة التى عانينا منها في المهجر. فعلا شعرنا بالحريّة والغبطة التي ترافقت مع أهازيج النساء التي لم تتوقّف بل كانت تتضاعف كلّما اقتربنا من شواطئ المغرب.

س – هل عدت إلى دوّار الصفيح بالقرب من مدينة القنطرة حيث سكنتم سابقا قبل الهجرة إلى فرنسا؟
ج - نعم، ذهبنا إلى ذلك المكان، إلى مدينة الصفيح التي عشنا فيها وإلى البيت الذي أبصرت النور فيه. هناك إلتقينا بسكّان الحيّ، خاصّة جيراننا الذين تعايشنا معهم قبل الهجرة، فرأيت على وجوههم نظرات ملتبسة وغامضة، يستشفّ منها الإعجاب بنا، وفي الوقت ذاته برزت من خلالها علامات رافضة لنا. في الواقع، شعرت بأنّ جذورنا اقتلعت من هناك، وأصبحنا "خونة"، نعم "خونة" للوطن، غرباء لا شيء يربطنا بتراب بلدنا الأمّ، وقد تحوّلنا إلى الجنس الأبيض، سمرة جلدتنا فقدت يصماتها المغربيّة، وأصبحنا أغنياء لم نعد نذكر حياة الفقر والبؤس التي عرفناها سابقا. كان الجميع ينتقدنا ويعتقد أنّنا نعود إلى أرضنا وجيوبنا مليئة بملايين النقود. كانوا يعتقدون أن أجهزة التلفزيون والبرّادات والغسّالات الكهربائيّة وكلّ المستلزمات المنزليّة الحديثة، وحتّى السيّارات، متوفّرة مجّانا، أو بشكل شبه مجّاني في شوارع فرنسا. ما كان أحد يفكّر أنّ أبي يعاني الكثير من المشقّات والآلام في العمل ويُضحّي بصحّته كي يقيتنا ويوفّر لنا حياة أفضل. وما آلمني أكثر هو ما شاهدته على متن الباخرة التي نقلتنا من إسبانيا إلى طنجة، هو كيفيّة تصرّف المغاربة. فمعظمهم كان يستبدل هندامه، مثلا يلبسون بنطلونات أوروبيّة جديدة وينتعلون أحذية جديدة، بهدف إبراز مدى نجاحهم وتفوّقهم وتأقلمهم في المهجر. بينما في الواقع كان معظمهم من الدراويش يعيشون سابقا مثلنا في مدن الصفيح والأكواخ والملاجئ الشعبيّة. كانوا يعيشون حياة بائسة، وبفضل هجرتهم إلى فرنسا والعمل فيها تبدّلت أحوالهم وتحسّنت. عندما شاهدت ذلك، أدركت حالا ظاهرة هذا النوع من الخبث المقنّع، فتألمت كثيرا. رفضت هذه التصرّفات واستهجنتها وتمرّدت عليها. لذلك ما أن وصلت إلى المغرب لبست حالا الجلاّبة والبابوش وأخذت أركض وألعب وكأنّني لم أغب أبدا عن تراب الوطن ولا عرفت بلدا آخر غيره. ولكن تصرّفي هذا أثار مشاعر الرفاق والأصدقاء الذين كانوا يسألونني في الحيّ الشعبي، لماذا ألبس مثلهم وليس مثل الفرنسيّين. كانوا يريدون أن أكون فرنسيّا، ولكنّي رفضت ذلك عمدا كي أعيد الأمور إلى نصابها. معظم معارفنا كانوا يفكّرون أنّنا نعيش حياة هنيئة في فرنسا حافلة بالرفاه وكل أنواع المتعة. نعم، هناك منافع وفرص اجتماعيّة متوفّرة، خاصّة فرص التعليم المؤمنة للجميع، والطبابة، وكذلك نعمة الحريّة غير المتوفّرة لهم في المغرب. ولكن في المقابل، هناك آلام ومآس نعاني منها بسبب صعوبة التكيّف والإندماج. وهذا أمر لا يفهمونه وعبء ثقيل نرزح تحته ونعاني منه كثيرا، ولا يستطيعون إدراك انعكاساته على حياتنا الإجتماعيّة والنفسيّة وحتّى العائليّة.

وإلى اللقاء في الحلقة التالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القادة الأوروبيون يبحثون في بروكسل الهجوم الإيراني على إسرائ


.. حراك تركي في ملف الوساطة الهادفة الى وقف اطلاق النار في غزة




.. رغم الحرب.. شاطئ بحر غزة يكتظ بالمواطنين الهاربين من الحر


.. شهادات نازحين استهدفهم الاحتلال شرق مدينة رفح




.. متظاهرون يتهمون بايدن بالإبادة الجماعية في بنسلفانيا