الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
- شعرية الرسم بين اللوحة والقصيدة - ، المقدمة
منال البستاني
2016 / 7 / 10الادب والفن
" شعرية الرسم بين اللوحة والقصيدة "
د. منال البستاني
***
المقدمة
بين الشعر والرسم ، شجن ورؤى ..
في كل منهما ينسج الفنان والشاعر لواعجهما ، الأول بالألوان والدوائر والأشكال ، والثاني بالكلمات ، فتتشابك وتتداخل الهموم ، لتولد اللوحة والقصيدة ، بلغة بلاغية تسبح ما بين الخيال الذي يستمد قوته من الشعور بالحب ، أو بالحزن ، و من هموم الواقع الذي يتميَّز بالظلم والقسوة ...
إنَّ لغة الشعر استثنائية ، أو كما يقول Martin Heidegger ، الشعر كلام رمزي يُغلِّفه الغموض ، الذي يضفي على اللغة قوة أخَّاذة فاتنة تثير التأمل والتساؤل والتأويل . أما الصورة الشعرية فيقول Cecil Day - Lewis إنها رسم قوامه الكلمات .
إنّ لغة الرسم لغة يُبلور فيها الفنان بالألوان آلام الذات والواقع المكلوم والطبيعة والكون الشاسع في لغة خصبة يعكس فيها أبعادا نفسية تفتح للمتلقي نوافذ مطلّة على الجمال المشحون بالمعاني الرمزية التي تكشف كل الأقنعة عن ماهية الواقع الراهن .
يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي Gaston Bachelard في كتابه " شعرية الفضاء " "La Poétique de l espace" ، إن الفن هو إثراء لخصوبة الحياة ، وهو الحوار المتناغم بين أنواع الدهشة التي تنبِّه وعينا وتنتشله من الخدر . والفن حالة فلسفية مثيرة في رؤية . Martin Heidegger
الألوان ، لها القوة الجاذبة التي تدعونا إلى التأمل والغوص ، لها جغرافيتها ، واستراتيجياتها البصرية ، وإيقاعها ورمزيتها ، وفلسفتها التي تتسلل إلى مسالك الروح وتستشعرها . فالفنان يتعامل مع الألوان ، وما لها من طاقة وزخم وشحنات وإيقاع ، يسكب فيها رؤاه التي يبوح بها للبحر وللسماء ، للأرض والأشجار ، يبكي الموت والغياب ، يهجو القبح والرذيلة ، ويُمجِّد الجمال ، وينقل رؤيته إلى المتأمل بصور لونية . فكما أنَّ القصيدة تفتح لنا فضاء رحبا ، بالمفردات التي تنبثق منها الصورة الشعرية و تكشف الحُجب ، كذلك اللوحة تهزنا بالألوان والمضامين ، فكل لون هو مفردة تصويرية ، مثقلة بالأسرار والطقوس الدينية ، والمشاعر الوطنية ، والرموز السياسية ، والمضامين الإنسانية ، فالألوان قصيدة شعرية ملحمية غنائية ، ومراثٍ ، والفنان كما يقول الرسام الفرنسي Nicolas Poussin ، يجعل الفعل الشعري مرئيا .
الإيغال في عالم اللوحة ، وعالم القصيدة ، ينتقل بنا ، برمزية شفَّافة إلى عالم الخيال ، لتتجلى من خلاله عمق الحقائق المعنوية ، التي تقفز بنا قفزة إنسانية وجدانية ، وحينها نسبح في فضاء من الضوء والظل ، والتضاد ، يخطفنا من عالم الفساد والانحلال ، هناك حيث يتحول قلق الموت ، ومعتقل الحياة ، إلى عالم فسيح ، نظيف ومهدِّئ .
الرسم والشعر عالم يصدُّ عنّا غبار الواقع المؤلم وضوضاءه ، وتشرق فيه شموس الفكر ، وتتألق النجوم ، ففي لوحات الفنان العراقي موفق أحمد وهو يتأمل الظلم والمنافي والسياسة المعاصرة التي عاثت في الأرض الفساد ، تجرف الرياح القوارب إلى السواحل وقد التهمت الأمواج الإنسان المسالم الباحث عن الحرية في مدن نائية فيهلك بالاختناق هائجاً مرتجفاً وقد ترسّبت أحلامه في قعر روحه ، وفي لوحاته تسكب السماء ضياء وشهبا تتنافى مع واقعنا الغارق بالعتمة ، وتُحلِّق روح الفنان الروسي Wassily Kandinsky مع الحصان في الفضاء الأزرق الصافي وهو يرنو إلى التحرر والانعتاق من جاذبية الأرض في لوحة " الفارس الأزرق " ، ويطلق الفنان الاسباني Goya في لوحة " العملاق " صرخته ضد الدكتاتورية والطغيان ، وضد الحروب التي تجعل الإنسان المسالم في حالة انبطاح خوفا من وابل القنابل والحريق ، وفي لوحته " الكلب " نتأمل بحسٍ عميق مأساة تربُص القدر بالإنسان ، أما الفنان الفرنسي Jacques Louis David فقد جسَّد الاغتيال والطعن والخيانة في لوحة " اغتيال مارا " ، وجان بول مارا هو أهم مفكري وقادة الثورة الفرنسية ، اغتيل في أوج مجده فاعتبره الفرنسيون شهيداً ، وجسّد في لوحته " رأس يحيى " الانحراف عن القيّم الأخلاقية والانقياد نحو اللذة والرذيلة وانتهاك المحرمات التي تقضم ما يتحلى به الإنسان من نبل أصيل . وتبكي نجمة الشاعر الفرنسي Rimbaud ، بانزياح لوني غريب يُلطّف أجواء الحزن باللون الوردي إذ يغمرنا بشيء من الحب والحماية ويخفف عنّا الشعور بالوحدة في سجن الحياة في بيت شعري منفرد :
بكت النجمة وردية ..
و تأخذ الصلاة في رؤية الشاعر الفرنسي Mallarmé لوناً أزرقَ إذ يجعل من القصيدة أنغاماً وتراتيلَ مسكّنة للروح ونداءً للحقيقة وسمو، و يتألق القمر باللون الأبيض عند الشاعر الفرنسي Verlaine في قصيدته " قمر أبيض " حين يمزج موسيقى المشاعر الإنسانية بتجليات الحب والطبيعة ، وفي " أنشودة المطر" لبدر شاكر السّياب يتجلى مشهد من مشاهد غابات النخيل الكثيف الملتف في جمال لوني يمتزج فيه اللون الأسود الذهبي الضارب إلى الحُمْرة فيسبح لون عيني الحبيبة مع لون غابات النخيل ساعة السَحر ، ويتألق رمز التجلي الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، وتمتد الأبعاد الرمزية إلى مداها الأوسع لتشمل الوطن الفردوسي ، والفجر الجديد والأمل والبعث ، وتتشابك الدلالات اللونية في القصيدة للتعبير عن إشراقات الإلهام ونشوة الحب والإبداع في لوحة فنية تدعونا للتحليق في فضاءات شعرية صوفية فتشرق فضاءات توحي بالحب والاغتراب والحنين في إيقاع موسيقي راقص ترقص فيه أضواء القمر على مرآة الماء :
عيناكِ غاباتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم
وترقصُ الأضواء كالأقمار في نهر
أما امرؤ القيس ، فيرسم الأرق والألم والعذاب والقلق ، من خلال الليل الغائر في الغم والظلام ، بلون يكتنفه السواد الكثيف ، في صورة شعرية تعبِّر عن الحزن العميق الهادر في ثنايا الروح ، يُشبِّهه الشاعر بموجِ بحرٍ أرخى سدوله ، وفي مفردة السدول نبصر ونحس بصورة مرسومة رائعة :
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
الشاعر الفرنسي Aragon ، يصف في قصيدته " عيون إلزا " لون عيني إلزا حبيبته بالشفافية المتجانسة التي تجعل العالم من حوله منيراً ، كلون الشموع التي تعكس ضياءً شفافاً على مياه الشواطئ والخلجان ، ففي عينيها تتبدد الذكريات الحزينة ، ويتلاشى الزمن ألشفقي الكئيب في خمر الإبداع :
عيناكِ من شدة عمقهما
رأيتُ فيهما وأنا أنحني لأشرب
كل الشموع تنعكس
عيناكِ من شدة عمقهما
أني أضعتُ فيما ذاكرتي
الشاعرة العراقية بشرى البستاني تضفي على الجرح الإنساني ، وعلى الأرض ذات البهاء والخصب والجمال والثمر ، لون البنفسج الموجوع ، والأرض في رؤيتها الشعرية أقمار وورود وقناديل يتبارى جمالها مع بهاء السماء ، لذا هي تبكي في قصائدها سنابل العراق المحروقة وتراثه الحضاري العريق الذي رمزت إلى شعبه الذي يئن رمزا أسطوريا لتاريخه المضيء بالثور المجنّح ، شعب يئن تحت وطأة دبابات أمريكا الرعناء بالجملة الشعرية " : وجرحٌ تحت أجنحة يئنُّ " :
والأرض ترفض أن تكونْ
دبابة رعناءَ ، هذي الأرضُ أمُّ
قمرٌ ووردٌ مطمئنُّ
وسنابلٌ عطشى وجرحٌ تحت أجنحة يئنُّ
ويرسم الشاعر العراقي سامي مهدي في قصيدة " الأحياء " صورة نفسية جنائزية للدفن و الزوال ، فظرف الزمان " قبل " يوحي بوقائع تاريخية مؤلمة وحروب دموية تتالت عبر العصور تدور على الساحة الإنسانية ، يبوح الشاعر بمواجع يؤججها صدى الموت والصراع فتتسلل ألوان العذاب من يد الزمن ، لتأخذ مداها الروحي الأسطوري الجمالي التراثي في ترانيم حزينة ، يعلو بها صوت الملحمة السومرية ملحمة جلجامش الباحث عن الخلود نمسك بها في " مفردة " أعشاب " ، و نلمس من خلال البنية العميقة والرموز الخفية ملحمة القهر والظلم والاضطهاد الذي ينخر الجسد الإنساني المعاصر ، يرفض الشاعر حالات القتل والعنف والاغتصاب ، ويحث المجتمعات على الصداقة كالتي بين جلجامش وأنكيدو، ويجد أن الطريق الأسمى للحياة العمل البنّاء ، وأن نستنهض تراثنا وطاقاتنا بصورة شمس تضيء حاضرنا المعتم ، بعيدا عن الإبادة والنهب والعنجهية والجبروت في حياة يتربص بها الفناء:
قبل أن ندفن موتانا
هربنا وتعلقنا بأعشاب الحياة
ورضينا ببقايا بقيت منهم
تسمّى : ذكريات
إنها صور مجازية ، تعبر عن حالات من الهموم والقلق التي تنتاب الشعراء فيعبِّرون عنها كلٌ بلغته ، كذلك الفنان ، يراوغ في التعبير عن حالته النفسية ، وعزلته ، واغترابه ، باللعب بالألوان كما يلعب الشاعر باللغة ، فيفجِّرها ضياء ، أو بشكل فجوات وشقوق سوداء أو حمراء ، أو صفراء نارية ، أو بألوان قزحية لها تأثيرها الوجداني على المتأمل ، فمن اللوحات ما يضخ فينا السعادة ، ومنها ما يوحي بالحزن واليأس ، ومنها ما يأخذنا إلى تراثنا وتأريخنا ، ويوقظ الذكريات ، فالرسم والشعر لغة تبوح بما نكتم في صميمنا ، وتعرِّي كل العصور الخليعة ، لغة ذات سحر يعمِّق شعورنا بالاغتراب والحاجة إلى الجمال .
إن الفنان المبدع ، قادر على الإقناع والتأثير ، وإيصال رسالة الفن من خلال الرؤية البصرية ، التي لها تأثير القوة الكهرومغناطيسية ، وتأثير الخطاب البلاغي المقتدر ، بما فيها من تلميحات وخفايا ، وأسرار قادرة على أن تؤدي هدفها الذي يقود إلى التسليم بالجمال ، من خلال النسيج اللوني التشكيلي التعبيري ، الذي يُبرز وظيفة الفن الشعرية الجمالية الثورية ، والتاريخية الصادقة ، إذ تتجلى الحقائق بلا تزوير ولا تزييف ولا تلفيق ، ولا نفاق ، فالفن في رؤية الفيلسوف الألماني Hans Georg Gadamer ليس فقط ظاهرة ذاتية ، بل ظاهرة لها القدرة على الاندماج بالتراث التاريخي ، والموقف الثقافي واللغوي الذي يتفاعل مع جريان الزمن.
لغة الرسم أول لغة مارسها الإنسان في كهف حضوره الأول إنها تجربة توتر وقلق ، يكابدها الفنان ، ويبثها للعالم برموز وإشارات تطلقها الروح في منافيها الحزينة ، وهي ليست لغة حب حسب ، بل لغة فهم وإدراك لكل ما يدور حولنا من عنف ، ينقلها لنا الفنان بحس إبداعي عميق ، بلغة سلمية ، تتسم بالصدق والوفاء ، وبهواجس تتراسل مع العالمين المرئي واللا مرئي ، تخلق فينا حالة من الشعور بالراحة والاسترخاء ، تواسينا وتشاطرنا المشاعر ، وتُفرغ حالة التوتر والشَّد العصبي المتولد من عدم التوافق مع ما يحيط بنا من الصراعات السياسية العالمية المسمومة المبطَّنة بالحقد والعهر والإباحية ، التي تمارسها القوى الصادمة التي تخاطب الإنسان بلهجة نارية عنيفة و تقذفه بالرصاص والقنابل المدفعية والكذب والرياء .
إنَّ الرسم والشعر يتعانقان بلغة تصويرية ، تنبثق من صميم قلب الفنان والشاعر ، ذلك القلب الذي ينبض بالألوان والكلمات ويركض وراء الحلم في الدروب المعتمة من أجل أن يمسك بميزان العدل ، ويطلق شعلة الحرية كي يُدشِّن الإنسان حياة تزينها قيمٌ روحية ، تُعيد إليه السكينة والنور في هذا الزمن الناري الدخاني الأسود ، زمن الطغيان والتقنية والحساب ، والسياسة التي تختال وتتمايل وتتبختر بنزواتها الرعناء التي تسحق ضحاياها البشرية ، فالفنان والشاعر يطمحان إلى عالم تخلع فيه السياسة رداء الدناءة والجشع ، وترتدي ثوب الحشمة والعفة ، وتتزن في الميول والرغبات والشهوات ، وتمتنع عما لا يَحِلُّ من أقوال وأفعال تسيء إلى الإنسانية ، وتحث على الخراب والدمار ، وقتل الأبرياء ، فهؤلاء الشعراء والفنانون يمجّدون باللوحة والقصيدة الإنسان وقيّم النبل.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الفنان #محمد_عطية ضيف #قبل_وبعد Podcast مع الاعلامي دومينيك
.. الفنان عبد الرحمان معمري من فرقة Raïm ضيف مونت كارلو الدولية
.. تعرّفوا إلى قصة “الخلاف بين أصابع اليد الواحدة” المُعبرة مع
.. ما القيمة التاريخية والثقافية التي يتميز بها جبل أحد؟
.. فودكاست الميادين | مع الشاعر التونسي أنيس شوشان