الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل العائلة وإرادة الخلود5

محمد سرتي

2016 / 7 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أصل العائلة وإرادة الخلود (الجزء الخامس)
في أحد معسكرات القاعدة قرب جلال أباد، وكان أكبرها هناك، دار حديث حول ما إذا كان الزيود (أتباع المذهب الزيدي) كفاراً أم مسلمين. لا أذكر كيف بدأ الحديث، ولكن أذكر جملة اعتراضية قفزت فجأت خارج السياق، وانطلقت نحوي كرصاصة اخترقت الجدار الفاصل بين الوعي واللاوعي. أو ربما كصفعة قوية من يد معالج نفساني على وجه مريضه ليستعيده من حالة التنويم المغناطيسي. قال أحدهم: هم لا يختلفون عنا سوى في الإسبال. فرد عليه قائد المعسكر عفوياً، ودون أدنى فاصل زمني بين الجملتين: "هذا يكفي".
تفاجأت، بل صدمت ليس لأنني لم أكن تكفيرياً حينها، بل لأنني تعرفت في تلك اللحظة تحديداً على نوع جديد من التكفير، مكثت مدة بعدها أحاول توصيفه فلم أجد أفضل من "التكفير الغرائزي". والصدمة الأكبر حين اكتشفت لاحقاً أن التكفير الغرائزي كان هو النسخة الحقيقية، الأصلية، الصافية، النقية، والخام لبقية أنواع التكفير الأخرى، سواء السياسي أو العقائدي أو التشريعي..... فجميع تلك الأنواع هي مجرد محاولات ذكية لإضفاء طابع قانوني على التكفير الغرائزي، يكون مقبولاً دبلوماسياً، تمهيداً لترويجه دعوياً وإعلامياً.
كان المجاهدون جميعهم –دون استثناء- تكفيريين، ولكنهم كانوا متوزعين، ليس بالتساوي، بين الأنواع التكفيرية الفرعية فقط. أما هذا النوع الأصلي الخام فلم يكن يعتنقه بين جميع المجاهدين سوى تلك الفئة محدودة العدد، والتي تنتمي في عمومها إلى القومية التي يمكن وصفها بالقومية العشائرية، وكانت معسكرات القاعدة مراكزاً لتجميعهم.
وبالتوازي مع ما كان يحدث في أفغانستان؛ كانت أرض الحرمين تشهد ظاهرة عجيبة غريبة: فجأت، ودون مقدمات؛ بدأت مداخل المساجد والأسواق والأماكن العامة تتزين بملصقات دعوية تحمل فتاوى من كبار العلماء بتحريم حلق اللحية وإسبال الثوب. وانتشرت في ذلك المطبوعات والكتيبات والأشرطة الدعوية والخطب المنبرية. فبدأ ستايل اللحية والثوب القصير يزيح كل منافسيه من الساحة، بما في ذلك تسريحة مايكل جاكسون. بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حين حكموا على بعض المعترضين على هذا الستايل بالكفر والردة بحجة إنكارهم لأصل ثابت من أصول الدين. وأيضاً: كانت الفئة الأكثر هوساً بهذا الستايل، والأكثر اندفاعاً نحو تقليده هم أبناء القومية العشائرية. ثم بعد ذلك بدأ طالبوا اللجوء الاقتصادي من أبناء القوميات الأخرى تقليدهم لما لمسوه في هذا الستايل من ضرورة شرعية لإنجاز المعاملات وتسريع الإجراءات وتجاوز البيروقراطيات.
كان مشروع اللحية والثوب القصير عبارة عن حرب ناعمة يشنها كمال أدهم ضد الثورة الإسلامية في إيران، فبعدما نجح في دفع السادات إلى إطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الناصري في كامب ديفيد؛ لم يمهله الإمام الخميني -قدس الله روحه الطاهرة- طويلاً حتى أخرج له مشروع وحدة جديد، يتجاوز هذه المرة حدود العالم العربي ليشمل ربع سكان الكوكب. عندها جن جنون كمال أدهم، فلم يجد أمامه من بد سوى القيام بثورة مضادة، فكانت اللحية والثوب القصير.
ولكن ما يحتاج الكثيرون لمعرفته هو أن مشروع اللحية والثوب القصير كان الوجه الآخر لمشروع "هذا يكفي" والمدعوم من نفس الأجهزة الاستخباراتية، ولنفس الغرض. هذا ليس تحليلاً مجرداً، ولكنه مبني على أدلة وحقائق ثابتة وقطعية، يعلمها جيداً من كان يتابع بدقة كل ما كان يتسرب من نتائج التحقيقات حول حادثة اغتيال الشيخ الشهيد عبدالله عزام رحمه الله، خصوصاً ممن قدر لهم الله التواجد في بيشاور لتغطية الحادثة صحفياً وقت وقوعها. فقد كان الشيخ الشهيد يمثل بالفعل آخر حجر عثرة في طريق سيطرة القاعدة على الجهاد الأفغاني، وبالتالي على الدولة الأفغانية من خلال حركة طالبان: الفرع الأفغاني لتنظيم القاعدة. فالشيخ رحمه الله كان وحدوياً للنخاع، وكان يعلم أن الغرض الأساسي لإنشاء تنظيم القاعدة هو تطويق الثورة الإسلامية في إيران. كان يجاملهم أحياناً في التظاهر بعدائه لإيران، ولكن ربما يجهل البعض، أو ربما الكثيرون، أن ثورة الإمام الخميني هي التي أشعلت الحماس في نفسه وشجعته على الذهاب إلى أفغانستان، فكان هدفه متوسط المدى: إقامة وحدة كونفيدرالية بين باكستان وأفغانستان وإيران، تكون نواة لوحدة الأمة بأسرها. ولكنه أخطأ عندما صرح بما يجول في خاطره يوماً في مجلس عام، فكان في ذلك نهايته.
لم يكن مشروع "اللحية والثوب القصير" حركة ارتجالية، أو صرعة مؤقتة لتشتيت أنظار الشباب عن الدعوة الخمينية، ولكنها خطة ذكية ومحكمة، ذات أبعاد استراتيجية غاية في الخطورة. فهي لا تهدف فقط لتحصين أرض الحرمين من الدعوة الخمينية، بل تذهب إلى حد القضاء الكامل، والأبدي، على أي احتمال لقيام دعوة وحدوية في العالم العربي والإسلامي، سواء دينية أم قومية.
كان مشروعاً متكاملاً، يمثل الستايل واجهته المعلنة التي تخفي خلفها مسارين متلازمين وملتصقين بها التصاق الكتاب بالعترة: العنصرية والمذهبية. ولكن قبل الحديث عن هذين المسارين يجب أولاً إكمال توصيف الستايل:
من الواضح أن هذا الستايل تم تصميمه استناداً على نظريات التفاعلية الرمزية والتفاعلية الثقافية، فلغز الـ "شماخ بدون عقال" الذي عجز المحللون عن فهمه حتى اليوم، يمكن لهذه النظريات فك رموزه بسهولة. فمشكلة عنصر الـ "شماخ بدون عقال" تكمن في كونه العنصر الوحيد الذي لم يتمكنوا من العثور على أي نص، أو حتى شبه نص، يبرر إصرارهم على تواجده في قلب الصورة كعنصر أساسي ومحوري. وبذلك أصبح هذا العنصر بمثابة السبطانة المدخنة smoking gun
توازي الرمزية السيميوطيقية للعقال عند شيخ القبيلة رمزية التاج بالنسبة للملك. فانتزاع العقال من رأس الشيخ كانتزاع التاج من رأس الملك، أي تجريده من سلطته السياسية. ولكن السلطة السياسية سلطة محددة ومحصورة داخل دائرة مغلقة، تماماً كدائرة التاج، ودائرة العقال. فدائرة التاج ترمز إيحاءً لحدود المملكة الجغرافية، بينما ترمز دائرة العقال إيحاءً لحدود القبيلة الديموغرافية التي لا تتعداها سلطة الشيخ. لذلك فلقب "الشيخ" لا يأتي عادة منفرداً، بل لابد من إضافته لاسم القبيلة. وحتى في المدينة يستخدم مضافاً إلى مهنة: شيخ الصرافين، شيخ الخبازين، شيخ النجارين، شيخ الصاغة...... وفي الطرق الصوفية لابد من إضافته إلى طريقته: شيخ الطريقة النقشبندية، شيخ الطريقة الرفاعية، شيخ الطريقة القادرية..... والعمامة على رأس رجل الدين عموماً –بشكلها الدائري- تخاطب البنية اللاشعورية للتقابل بين الهيولي والمادة، بين الفوضى والنظام، بين اللانهائي والنهائي. فهي إذاً جملة سيميوطيقية تفيد صيرورة التشكل والتأطير والتحديد. إذاً لا يوجد شيخ بدون مهنة، أو شيخ بدون طريقة، أو شيخ بدون قبيلة، أو شيخ قبيلة بدون عقال يرمز سيميوطيقياً لمحدودية سلطته. ولكن الحالة الوحيدة التي يطلق فيها لقب "شيخ" مجرداً من الإضافة هي عندما ينزع الشيخ عقاله دون أن يفقد مشيخته. أي عندما تكون مشيخته غير مقيدة، لامحدودة، لانهائية. سلطة فوق سلطة الشيخ المقيد بقبيلة، أو مهنة، أو طريقة. بمعنى أن لقب "شيخ" على إطلاقه، دون عقال، يوازي –سيميوطيقياً- لقب "شاهنشاه" أو "شيخ الشيوخ".
وبصياغة أخرى: تم تصميم ستايل اللحية والثوب القصير والشماخ بدون عقال كأيقونة كهنوتية عشائرية ترتفع بقداستها فوق مستوى العناوين الاعتبارية الأخرى، وتهيمن عليها، بما فيها "شيخ العشيرة". ولربما لأول مرة في التاريخ، يصبح لدى القومية العشائرية أيقونة دينية خاصة بها، منطبعة بالطابع الثقافي العشائري الذي لا يشترك فيه معهم أحد، ومتجاوزة لكافة التقسيمات والخصوصيات العشائرية الفرعية، لينضوي تحتها جميع المنتسبين لهذه القومية كنمط ثقافي جامع، باختلاف قبائلهم وعشائرهم وانتشاراتهم الجغرافية. فلم يعد لأبناء القومية العشائرية حاجة لتقليد علماء الدين المعممين، أي علماء المدن والحواضر، كالأزهر والزيتونة وصنعاء ودمشق والنجف وقم. فقد أصبح لهم الآن منظومتهم الدينية الخاصة بهم، النابعة من ثقافتهم والمعبرة عنها، والتي باتت تنتقي من النصوص وتفسرها لهم بما يتناغم مع الثقافة العشائرية، وتتجاهل كل ما يتعارض معها، أو على الأقل تلوي أعناقها بقدر من التذاكي والمراوغة، بحيث تتماهي مع عاداتهم وتقاليدهم ونظرتهم إلى العالم، وبالتالي تضفي على عناصر ثقافتهم طابع القداسة. وإمعاناً في الأيقنة: ابتكر لهم مشايخهم نمطاً فونيطيقياً فريداً في طريقة إلقاء خطبة الجمعة، يتماهى مع طريقة إلقاء القصائد النبطية، بصوت حاد وقوي، وتردد ثابت يخلو من الإيقاع، ونبرة جادة وحازمة، تختلف جذرياً عن طريقة المعممين الهادئة والحنونة، ذات القفزات الإيقاعية التعبيرية. ولم يفتهم أيضاً تطعيم هذه الأيقونة ببعض المورفيمات المميزة: "جزاك الله خير" "الله المستعان" "لله الحمد والمنة".......
خلقت لهم هذه الأيقونة فضاء سيميوطيقياً مغلقاً وفريداً؛ فقد وجدوا فيها عنصراً ثقافياً جامعاً بمقدوره توحيدهم تحت مظلة عقائدية قومية تميزهم عن بقية البشر، بالإضافة لامتلاكها قدرة تنافسية هائلة ليس بمقدورها فقط منافسة العمامة، بل وإزاحتها تماماً من عرش السيادة الدينية على العالم الإسلامي، خصوصاً بعدما أصبح الشماخ بدون عقال يتربع على عرش الحرمين: قبلة المسلمين ومرقد نبيهم. وبات يتحكم بشكل مطلق وحصري في الخطاب الديني الموجه إلى الحجاج والمعتمرين وزوار النبي الأعظم. وهنا جاءت ضربة المعلم: عندما عثروا لهم على نص إرشيفي يزعم أن النبي الأعظم قد تنبأ بانقسام أمته في آخر الزمان إلى 72 فرقة، كلها في النار، عدا فرقة واحدة، وصفها بالعبارة التالية: "ما أنا عليه وأصحابي". وهو نص يخالف تماماً صيغة التشهد الأخير، التي تقرر بأنه لو كان هنالك فعلاً فرقة ناجية فلن تكون سوى "ما أنا عليه وآل بيتي". ولكن يبدو أن نصهم الأرشيفي، والله أعلم، مدسوس إسرائيلياً: فالعدد 72 عدد مقدس في الكهنوت اليهودي، وهو سر من أسرار الزودياك الفيدانتي، سنتحدث عنه لاحقاً بالتفصيل.
عزفوا على أوتار أمراضهم النفسية، فأقنعوهم بأن ما تمثله هذه الأيقونة هو وحده ما يتطابق بدقة مع تراث النبي وأصحابه، الذي تمت أيقنته أيضاً في عبارة "السلف الصالح" ولذلك أطلقوا على مذهبهم: "السلفية". فأقنعوهم بأن كل ما عداه لا ينتمي إلى ملة الإسلام (كلها في النار). فخلقوا لديهم القناعة بأن أبناء القومية العشائرية هم فقط شعب الله المختار، وأن كل ما ومن عداهم لا قيمة له عند الله. هذا تحديداً ما عناه قائد المعسكر بعبارة "هذا يكفي". فالرجل قالها عفوياً دون تفكير، فاخرج بها شعباً كاملاً يفوق تعداده العشرة ملايين إنسان من الملة بكلمة واحدة، وحكم عليهم بالكفر، ليس لأنهم مشركين، بل فقط لأنهم يسبلون أيديهم في الصلاة. أي لأنهم يقفون في وضعية تختلف اختلافاً ضئيلاً جداً عن الوضعية التي اعتاد رؤيتها في أيقونة الشماخ بدون عقال. وكلمة "كافر" عندهم تعني "غير موجود" "حلال دمه وماله وعرضه" "ليس له أي قيمة اعتبارية كإنسان، أو حتى كحيوان" "ليس له دية، فقتله أهون عند الله من قتل ذبابة".
هل نستطيع التكهن بأن ما يحدث اليوم أمامنا في اليمن كان مبيتاً ومعداً له سلفاً منذ ما يربوا على الثلاثة عقود؟ هل يمكن ربطه بحالة العداء الشديد والسافر التي كانت تحكم العلاقة بين يهود اليمن ومواطنيهم من أتباع المذهب الزيدي؟... مجرد تساؤل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و