الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة إحادية

خالد صبيح

2016 / 7 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


ليس هناك هدية يمكن أن تقدم لداعش وأخواتها أثمن من الإدعاء بأنها تمثل الإسلام الحقيقي، فهذا من أعز الأشياء إلى نفس أي داعشي أو سلفي لأنه يمده بالشرعية والقوة أمام نفسه وأمام مؤيديه.

وهذا الإدعاء لاينطوي فقط على مغالطة تاريخية ومنهجية في فهم داعش والاسلام معا، وإنما، وبدرجة أهم، هو خطأ سياسي وتكتيكي أيضا، لأن من يخوض حربا" سياسية وأمنية" ضد جماعة ما عليه أن يقوّض اسسها لا أن يمنحها ماتبحث عنه وما يقوي شكيمتها.
يبني مروجو هذه الفكرة موقفهم على بضعة حجج رفعوها الى مسلّمة لكثرة تردادها وتتلخص في: أن كل ما تقوم به داعش من أعمال وحشية قد استلهمته من التاريخ الإسلامي، وأن جذورها الفكرية والعقائدية له أصول مبثوثة في التراث الإسلامي، ليستخلصوا بعد ذلك علاجا سهلا لمواجهة التوحش الداعشي " بعد أولوية المواجهة الأمنية طبعا" بمنع تدريس مواد معينة من التراث في المناهج التعليمية الدينية منها وغير الدينية.

صحيح أن الحجج التي يقدمها أصحاب هذه الاطروحة، بعد تبسيطها، مبنية على وقائع حقيقية، لكن النقيصة الجوهرية لإطروحتهم، تاريخيا ومنهجيا، هي أنها تستل هذه الوقائع والأفكار من سياقها الزمني والثقافي وتزج بها في سياق زمني وثقافي آخر، هو زمننا الحاضر، له أسس ثقافية وحضارية مختلفة بحكم تطور الزمن، ليحاكموها، بل ويحاكموا التراث كله، وفق رؤيتهم تلك. وبهذا هم يوقعون انفسهم في فخاخ نظرة لا تاريخية تنفي فكرة التقدم، لأن نصوص التراث الاسلامي " المدانة" لها سياق وُجدت وتفاعلت سياسيا وإجتماعيا في داخله، وهي لاتمتلك قوة سحرية تجعلها تقدم نفس المفاعيل في كل زمان وكل مكان. ( لاتنسوا أن أعز شيء على نفس أي سلفي، متطرف وغير متطرف، هو فكرة أن الاسلام يصلح لكل زمان ومكان).

يذكر الكثيرون أن في المرحلة الاولى من عمر الثورة الايرانية، أيام كانت جميع الاتجاهات الممثلة لها والتي أسهمت فيها تتصارع حول أولوياتها السياسية والفكرية، كان جميع المتنافسين في البرلمان يسندون حججهم والدفاع عنها بنصوص من القرآن والحديث وغيرهما من اصول العقيدة. ومع أنهم كانوا "يمثّلون" ويعبرون واقعيا عن اتجاهات فكرية ومصالح سياسية متباينة ومتعارضة، فقد عثرت كل جهة منهم على مايعزز موقفها في هذه النصوص.

هذا يدلنا منطقيا على أن نصوص العقيدة متباينة لأنها عكست جدلا سياسيا واجتماعيا متنوعا، وعالجت قضايا مختلفة تعارضت مع بعضها بسبب تعدد المراحل وتنوع الظروف التي مرت به دعوة محمد، ثم دولته، التي امتدت فترتها التأسيسية ثلاثة وعشرون عاما.
وكأي فكر مؤسساتي اكتسب الإسلام، مع مرور الزمن وتبدل الأحوال، اجتهادات عبرّت وعكست في معظمها عن شؤون عصرها المختلفة. فبالاضافة الى صراعات السلطة وممارساتها ذات المنحى القاسي والعنيف، كأي صراع سلطة في التاريخ، والتي يركز عليها من يماهون داعش بالإسلام، ويبرزونها على أنها هي الوجه الكلي لهذا التاريخ ولإرثه الحضاري، هناك، مثلا، ظاهرة التصوف في الإسلام، كما ظهرت أيضا أفكارٌ أخرى مثلّت اتجاهات سياسية واجتماعية تعارضت مع خط السلطة، وظهر ايضا المتكلمون ثم الفلاسفة من بعدهم، وكذلك سير وأدبيات الزهد والزهاد. وظهر التنوع والتباين حتى داخل المؤسسة الدينية الفقهية حيث تعددت الإجتهادات، فكان أبو حنيفة الى جانب إبن حنبل. وكذلك كان الأمر في مجال السلطة والحكم: علي بن ابي طالب، الذي أراد أن يكون الحكم تأدية لحقوق الناس، إلى جانب معاوية الذي أراده ملكا عضوضا. أو زهد أبو ذر الغفاري إلى جانب اسراف المتوكل في بذخه ومجونه.

" ذكرت كتب التاريخ ان للمتوكل أربعة آلاف سرية ( أى عشيقة محظية مملوكة ) وطئهن كلهن".

من هنا نرى أن تاريخ الاسلام ومساره الحضاري، كأي ظاهرة تاريخية مركبة، تمتد بالزمان والمكان، ليس له وجه واحد وحيد يمثله ويعبر عن جوهره. كما أنه جاء نتاجا لعصره بكل تلاوينه، بفضائله ورذائله، ولا يمكن معاينته ونقده من منظور عصرنا الذي اختلفت فيه الرؤى بعد التطور النوعي للمجتمعات وللافكار وللقيم.

إن أصحاب هذه الرؤية لتاريخ الاسلام التي لاترى فيه غير وجه واحد يعيد انتاج نفسه بلانهاية، عدا أن رؤيتهم تلك هي رؤية قاصرة، تسطّح الفكر وتسفّه التاريخ. فانهم يلتقون، في الواقع، لقاءً حميما مع السلفيين الذين يدعّون مواجهتهم، فالأولون يحاكمون الماضي بفكر الحاضر، رغم كل التطورات التي رافقت هذا الحاضر وافضت اليه، وبهذا يظلمون الحاضر والماضي معا، والآخرون يحاكمون الحاضر بعقل الماضي ويوصلوننا الى ذات النتيجة.

اسقاط الماضي على الحاضر واسقاط الحاضر على الماضي هما وجهي العملة الصدأة التي يريد التياران اللبرالي والسلفي تصريف مفاعيلها ونتائجها على مجتمعاتنا.

نحن ندرك أهمية استحضار التاريخ لفهم حاضرنا، لكن قراءة الحاضر هي من يضيء لنا واقعنا ويتيح لنا فهمه. وداعش، وكل الإسلام السياسي، مثله مثل غيره، هو ظاهرة بنت زمننا. وعليه، إذا أردنا أن نبحث عن مصادر العقل العدمي الداعشي فعلينا أن نبحث عنه في مجتمعاتنا، التي غدت، في زمن العولمة، مترابطة كونيا، ومفتوحة على بعضها ولاتنفصل فيها ظاهرة عن أخرى، في الأسباب والتداعيات، أينما تموضعت.

لهذا يمكن القول، على سبيل المثال، أن المشكلة ليست في فقه وفكر إبن تيمية بحد ذاته، كما يلّح أصحاب الاتجاه اللبرالي في تقويماتهم، مع عدم تبرئة الرجل باعتباره أحد مصادر الفكر المهمة التي يستنبطها السلفيون اليوم، لكن المشكلة في النظام السعودي ومن يقف ورائه، ومايمثله من مصالح ومواقف ومايؤديه من أدوار في المنطقة والعالم، لانه يعيد إنتاج فكر ابن تيمية، إبن الماضي، في نسخ لانهائية في الحاضر.

من جانب آخر يبنغي التاكيد على أن الخلفية الأيدلوجية الكامنة وراء هذه القراءة، التي تنسب داعش لتاريخ وعقيدة أكبر منها وأوسع من مقاساتها الضيقة، نجدها في تبني واستلهام أطروحة صراع الحضارات، ببعدها السياسي وليس المعرفي. فهذه الاطروحة لم تصغ من منطلق معرفي بقدر ما أنها صيغت، أو قل وظفت، في دائرة الصراع من أجل الهيمنة العالمية التي ازدهرت بالغرب بعد إنتصار النظام الراسمالي على الشيوعية، ووجدت في الاسلام ضالتها باثارة الخوف من عدو، هو ضروري لها، كي توحد المجتمع خلفها. ولا يعني هذا أن ظاهرة الاسلام السياسي وداعش والارهاب، هي ظواهر مصطنعة، فهي ظواهر بنت بيئتها ونمت في تربتها الخاصة، لكن لأسباب تتعلق بمطامح الهيمنة العالمية نُفخ فيها ونُّميت قدراتها لتؤدي وظائف تتجاوز طاقتها الفعلية ضمن سياق اكبر وأوسع من التنظيم ودوافعه.

والخطر الحقيقي لهذا الخطاب لا يكمن في التجاوز على التاريخ حين ينظر اليه بهذه الطريقة غير العلمية. وإنما في خدمته، أيدلوجيا، وفي اصطفافه مع مساعي الهيمنة الرأسمالية. والأخطر أنه يصب في خدمة الإسلام السياسي نفسه، لأنه يقف على أرضية واحدة مشتركة معه من خلال هذه القراءة العرجاء التي تمنحه الشرعية والقوة وتجر اليه المؤيدين.

خلاصة الكلام: لايمكن، بطمئنينة على أقل تقدير، أن تعزى ظاهرة ما، لاسيما اذا كانت لها تأثيرات اجتماعية وسياسية واسعة، الى سبب أو خلفية معينة وجعلها هي الفاعل المطلق. فالظواهر الاجتماعية والسياسية مركبة ومعقدة ولايمكن اعادتها ببساطة الى سبب واحد سواء أكان سببا اقتصاديا أو ثقافيا أو عقائديا، والأتعس الى نصوص مرّ على انتاجها قرون. ناهيك عن الفكرة السقيمة ذات الجذر العنصري، التي تحيل، وبما يتنافى مع معطيات العلم والمنطق، السلوك والممارسات ذات المنشأ الثقافي التاريخي، أي المتغير بحسب الظروف والأزمنة، الى طبائع ثابتة وصفات جوهرية لصيقة بعرق معين أو شعب ما. فلكل ظاهرة، وداعش والتطرف الاسلامي من ضمنها، لها جذور ومحركات متنوعة، وأي اختزال لها في معيار أو مصدر واحد وحيد هو بمثابة الغاء للعقل ومصادرة للمنطق.

واذن، إذا أردنا أن نعالج مشاكلنا بجدية وصدق، وأن لانضلل أنفسنا بالبحث عن الأشياء في غير أماكنها، علينا بالبحث عن عقل الانتحاري وعدمية الداعشي هنا بيننا وفي واقعنا، لا أن نرتكن الى تهويمات تجرّم نصوص عاجزة عن الدفاع عن نفسها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. «بي سبورت» تفتتح فرعها الثالث في مجمع السيف


.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????




.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي


.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي




.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت