الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل نعيش في زمن ما بعد الحقيقة؟

إبراهيم فتحي

2016 / 8 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


شاع في السنوات الأخيرة استخدام تعبير سياسة ما بعد الحقيقة لوصف ظواهر سياسية جديدة مثل صعود نجم دونالد ترامب المرشح الجمهوري الذي جاء من خارج المؤسسة السياسية والاستقطاب الشديد لمؤيدي الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة إلى درجة غير مسبوقة دون أن تطرح المسائل الأساسية التي تتوقف عليها معيشة الشعب والسياسات المؤثرة فيها. ويقتصر الأمر في تلك الحملات على قضايا فرعية وإثارية في معظم الأحوال مثل الإجهاض والحق في حمل السلاح، أو يتحول السباق الانتخابي إلى مبارزة في الشعبية أو حتى انعدامها لا منافسة بين برنامجين فعالين. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي وجِّه اللوم إلى سياسة ما بعد الحقيقة إلى الحملة التي انتهت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تلك الحملة التي تميزت باستخدام أساليب خارجة عن تقاليد الجدال السياسي في الإطار المألوف للديمقراطية البريطانية حيث تراجعت الحجج والحقائق لصالح تحيزات لا أساس لصحتها وفي بعض الأحيان استخدمت أكاذيب صريحة. في الحالتين ساد بدرجات متفاوتة عدم الاعتماد على الحقائق أو الحجج المبنية على دراسة الواقع المؤيدة بالإثباتات. فسياسة ما بعد الحقيقة هي سياسة التخلص من الحقيقة وتجاهلها.
فما هو مصدر تعبير ما بعد الحقيقة؟ في بداية السبعينيات نشر ريتيل وويبر، وهما عالمان في تخطيط المدن في أمريكا، ورقة بحثية في محاولة لفهم الانقسام والاستقطاب في الرأي العام تجاه قضايا مهمة. وأرجع الباحثان انصراف الجماهير عن النخب السياسية إلى عدم الثقة في قدرة خبراء المؤسسات على حل مشاكل اجتماعية وبيئية جديدة أي أن الوفرة وحل المشاكل التقليدية في الخمسينيات قادا إلى ظهور مشاكل جديدة. وفي هذا السياق ميز الباحثان بين ما أسمياه “المشاكل الأليفة” حيث المشاكل البسيطة التي يمكن الاتفاق على طرق حلها مثل الأثر الإيجابي للاهتمام بالصحة والصرف الصحي وتحسين الإنتاجية الزراعية على سبيل المثال، وبين القضايا “الوعرة” التي ظهرت بعد الرخاء مثل قضايا التغيير المناخي وطرق محاربة الجريمة وتجريم العقاقير المخدرة حيث لا يوجد اتفاق على طرق حلها، بل يتوقف تعريف الخبراء لها وآراؤهم فيها على تحيزاتهم ومعتقداتهم الشخصية. وأصبح بإمكان السياسيين أن يجندوا خبراء يقدمون حلولا تتفق مع مواقفهم السياسية. وبذلك انتقلت المعارك الإيديولوجية إلى أرض جديدة وظهر الخبراء كلاعبين أساسيين في المجال السياسي حيث لا يستجيبون للطلب على المعلومات والتحليلات فحسب، بل أصبح لهم مصالح تجعلهم مدافعين عن رؤاهم ومصالحهم بل عن بقائهم ذاته. وشاعت بين الليبراليين والمحافظين في الولايات المتحدة على السواء ثقافة البحث عن معلومات من مصادر إعلامية تثبت تحيزاتهم الإيديولوجية المسبقة ولا تتحداها. ومع خلق عالم من الحقائق المتناقضة المتجاورة أصبح من الصعب على الجمهور أن يفرق بين الكذب المغلف بآراء الخبراء والوقائع المجتزأة من جانب والحقيقة من جانب آخر، وحينما يكون الواقع معقدًا يصبح من الصعب البحث في أسباب التعقيد مما يدفع السياسيين إلى اللجوء إلى الحلول السهلة والتبسيطات المباشرة. وأصبح من السهل في عصر شيوع وسائط الاتصال الاجتماعي نشر إشاعات وحقائق مجتزأة يتم استغلالها من المرشحين للترويج لهم وزيادة شعبيتهم.
تخدم الميديا في العالم مصالح القوى التي تمولها وتسيطر عليها لا عن طريق تدخل تلك القوى السافر بل عن طريق معالجة الأخبار بتقديم “خبراء” لتأكيد التحريف الرسمي لها وانتقاء هيئة من الشخصيات ذات التفكير المطلوب والمحررين والصحفيين الذين هضموا الأولويات والتعريف الرسمي لأهمية الأخبار وتطابقها مع سياسة المؤسسة. ومن المعتقد أن ما يراه الصحفيون جديرًا بأن يكون أخبارًا وما يعتبرونه مسلمًا به كمقدمات لعملهم يفسر غالبًا بواسطة الحوافز أو الضغوط والاضطرار. ومن المؤكد أن التصاق الميديا بجدول أعمال رسمي متفق عليه يؤثر في توجيه الرأي العام للاتجاه المطلوب وقد يخلقه خلقًا. ولكن حيث تبتعد مصالح الجمهور بشدة عن الخط الرسمي وحيث تكون له مصادره المستقلة للإعلام فإن الخط الرسمي يصبح محاطًا بشكوك عميقة، فليست كل دعاية تصدر عن الميديا مؤثرة دائمًأ بالدرجة نفسها. ولكن تمركز الميديا ونمو تكتلاتها المسيطرة على أنواعها المختلفة، ستوديوهات سينما وشبكات تليفزيون ومجلات وجرائد ودور نشر كتب تقوي من تأثيرها، فتلك الاحتكارات تستولي على أنظار ومسامع وأذهان الجماهير بأفلامها وعروض تليفزيوناتها وأغانيها ومجلاتها وجرائدها وكتبها، وتخلق معاني الواقع ودلالاته وقيمه الحاكمة وتقوم بتصنيعها.
وليس مصدر السوء ماثلاً في تعدد ووفرة وسائط الاتصال (الميديا)، فهي ذات فوائد عظمى في توعية الشعب وتثقيفه وتوجيه سلوكه، ولكن الخلل ناتج عن المصالح الضيقة الأنانية للقوى الاجتماعية التي تمولها وتحاول السيطرة عليها. وكلما تعمق نفوذ القوى الشعبية ونفوذ ممثليها السياسيين والفكريين في إدارة الميديا ارتفع مستواها في سعيها للموضوعية والبحث عن الحقيقة والتمسك بالحريات والدفاع عن العدالة الاجتماعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاخ العزيز ابراهيم فتحي
جمشيد ابراهيم ( 2016 / 8 / 15 - 09:38 )
ليست هناك حقيقة بل استنتاجات علمية ليست ثابتة في كل زمان و مكان مع ذلك فاني اتفق معك بان الناس تخدع بمواضيع فرعية بسبب غباء الأغلبية و هذا يدل على سهولة غش الناس. عندما كانت سيجارة مالبورو سيجارة انثوية في الخمسينات هبطت الاربحاح الى درجة غيرت الشركة فقط الاسم الأولى و الدعاية دون تغيير التبغ لترفع الاربحاح الى السماء. هذه هي سهولة غش الناس و الشركات لا تبيع السلع اليوم بقدر بيع الامال. اكذب و قل ان مسحوق معين يرجع شبابك 20 سنة دون ادلة و الناس تصدق
تحياتي

اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر