الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا جدو أبو حيدر -14-

كمال عبود

2016 / 8 / 24
الادب والفن


الساموك!

القريةُ وادعةٌ أمامها البحر ، خلفها أشجار الزيتون وشجيرات السمّاقِ البري ، بيوتُها من اللُبْنِ وأحجار صغيرة مغموسة بالطينِ والقَش ، تورق الأحلامُ فيها زهراً بريّاً وزيتاً وأوراقَ الغار ، على كتفِ الوادي الأيمن أشجار الزعرور والبلوط ... التين وزيت الزيتون وكثيراً من البُرغل هي مؤونة الشتاءات الطويلة...

الآنَ فصلُ الصيفِ ، غبارٌ أبيضُ على طريق القرية التُرابي ، حوافِر خَيلٍ تُثيرُ زوبعةً وحمحمةً قادمة ... ثمة ضابط فرنسيّ وبضعة جنودٍ فوق الأحصنةِ يتقدّمون إلى وسط القر يةِ يسألون عن الشيخ إِبْرَاهِيم ، يُشير أحدهم : هذا هو...

بيتُ الشيخ أبو علي إِبْرَاهِيم كغيرهِ ، غرفةٌ كبيرة ، يتوسّطها عمودٌ إلى سقفِها ، تستندُ عَلَيْهِ أخشابُ السقف الواصلة إلى الجدران ، إنّه ( الساموك) إِنَّهُ عمادُ كُلِّ بيت...

أمام الباب مصطبةٌ للراحة والضيوف ، على المصطبة يجلس الشيخ إِبْرَاهِيمَ ... يدخل الضابط وجنوده الدار ، تدخلُ المرأةُ الى البيت ، يبقى الشيخ جالساً ...
يتقدّم رجلٌ هو مُترجم للضابط : أبوعلي عندك ضيوف ...؟
أبو علي لا يردْ!
يا شيخ إِبْرَاهِيم، الضابط يريدك ....
يُتمتم أبو علي دون النظر إلى الضابط ... تسري همهمة بين الجنود ، يتبادل الضابط والمترجم الكلام ... تمرّ دقائقَ ... يحرِّكُ الشيخُ رأسهُ...

ماذا تريدون؟ يقول الشيخ.
يسألني الضابط لماذا لم ترد؟
كنت أقرأ القرآن الكريم ... يسأل الضابط بعد أن ُتُرجِمَ له :
أين الكتاب ..؟
يستمرّ الرجلُ في الترجمة...
هُنَا ، يُجيب الشيخُ ويشير إلى رأسه ، إنَّني أحفظ القرآنَ غيباً... نحفظه من مئات السنين...

أنت تعرف القراءة إذن : يقول الضابط.
الشيخ يقول : لا ، لا أعرف القراءة ولا الكتابة، ولكني أحفظ القرآن وكتب الشعر والقصصِ...
تتسع حدقتا العينين للضابط : نُريد بيتاً كي نجعله مخفراً للأمن في القرية!

ينزل أبو علي عن المصطبة ، يشير بيده الى البحر : ابنوهُ هناك ... بيوت القرية لأهلها ... مع السلامة.

قال الضابط : هل يتطوّعُ أحداً في جيشِ فرنسا ..؟
قال الشيخ : شبابنا للكروم والحقول .. مع السلامة.
قال الضابط : سأنتظرك في ( السراي ) بعد شهرٍ من الآن...
---
بعد شهر ، كان الشيخ أبو علي على الطريق إلى السراي ، مع صياح الديكةِ وحيداً يمشي ... يفكّر .. يُقلّبُ أفكاره .. يُدقّقها...
وصل الى السراي في مدينة اللاذقية ظهراً ، لقد أخذ مِنْهُ التعب مأخذاً.

قال المترجم الذي لاقاه : الصحافة في فرنسا تكتب عنك : في قرية لا يوجد فيها كتابٌ واحدٌ ثمةَ رجل يحفظ غيباً القرآن وكتب كثيرة ... انتظر هنا ...

أدخلوه الى مكتب الضابط ... قال الضابط : أهلاً ياشيخ ، هل بيت المخفر جاهزاً ... وهل سيتطوّع أحداً؟
لا ، ردّ الشيخ...

هل تُريدُ راتباً ... هل تُريدُ حصاناً؟
لا هذا ولا ذاك ، أريد شيئاً آخر
ماذا .. ماذا تريد؟
أريد مطبعة ، تطبعُ كتباً و قراطيس ...

قال الضابط مندهشاً : أنا عسكري ، ليس لدي ماتريد ، انتظرني قليلاً
بعد ساعةٍ كان الشيخُ ابراهيم يحمل هديّة من الضابط ... نسخة مطبوعة من القرآن كتب عليها بالفرنسية ( هكذا عرف من المترجم) :
(إلى وجيه قرية الشبطلية )

بعد أيام قلائل كان الشيخ يوزّع في القرى المجاورة عشر نسخٍ من القرآن مطبوعةٍ في فرنسا وردته قائلاً للشباب: تعلموا وأقرؤوا...

قالت أمرأة الشيخ أبو علي ابراهيم حين توفي :
لقد رحل الشيخ ...
رحل ساموكَ العلم والبيت.

*****
اللاذقية، القنجرة، 2016  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما