الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية الانفجار العظيم والشكوك حولها (1)

يحيى محمد

2016 / 8 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تاريخ النظرية وأدلتها
تصف التصورات الفيزيائية منذ قرون وحتى بداية القرن العشرين ان الكون يمثل قبّة ضخمة ساكنة وانه لا يتعدى مجرتنا (درب التبانة)، ولم يتخيل احد بان هناك ما يزيد عليها باعداد كبيرة جداً تصل اليوم الى اكثر من (400 مليار مجرة). واول فلكي استطاع اظهار أن كوننا لا يقتصر على مجرة (درب التبانة) هو إدوين هابل الذي كشف عن الكثير من المجرات خلال العشرينات من القرن الماضي. بل زاد على ذلك اكتشاف تباعد بعضها عن بعض وازدياد سرعاتها بما يصل الى سبع سرعة الضوء، حيث عرّض بعضاً منها الى الفحص والاختبار للتعرف على مسافاتها؛ معتمداً في ذلك على شدة اضاءاتها، فكلما كان الضوء الواصل منها خافتاً كلما دل على كونها بعيدة، ومن حيث الدقة يتناسب السطوع عكساً مع مربع المسافة. وصنف هابل مجراته المكتشفة الى صنفين رئيسيين: منتظمة وغير منتظمة، والمنتظمة تنقسم الى حلزونية واهليلجية. وهناك عناقيد المجرات البعيدة جداً، وهي ليست موزعة بانتظام، بل انها على صورة نموذج شبكي على سطح فقاعات هائلة الحجم؛ مؤلفة مما يبدو انه فضاءات فارغة.
لقد تغيرت النظرة نحو الكون بحسب هذه الاكتشافات، فمن كون سكوني يحمل مجرة واحدة فقط الى كون دينامي لا يستقر على حال ويحمل في جعبته مئات المليارات من المجرات. ويعتبر هذا التغير الجذري ثاني اعظم تغير في الفيزياء بعد ثورة كوبرنيك.
ان كوناً يبدي تباعداً واتساعاً مضطرداً، كما بينت الكشوفات الفلكية، لا بد من ان يوحي بانه قد بدأ من نقطة مضغوطة اطلق عليها المفردة (singularity)، فمنها بدأ تشكل الكون عبر افتراض وجود انفجار هائل جعل الكون يتسع ويتمدد، لذلك تم اطلاق نظرية الانفجار العظيم (big bang) على هذه الفكرة التي ترى ان الكون آخذ بالتوسع منذ بداية هذا الانفجار. وقد دلّت النظرية بداية الامر على مجرد التوسع الكوني (cosmic expansion)، لكنها تعدلت منذ ثمانينات القرن الماضي لتدل على التضخم الكوني (Cosmic inflation) وليس مجرد التوسع فحسب.
والى يومنا الحالي لا يعرف على نحو التأكيد سبب هذا الانفجار الضخم. وهو انفجار مخصوص دون ان يكون عادياً بالمعنى المألوف، فهو ليس كالانفجارات التي نسمع عنها او نشهدها كل لحظة ودقيقة عبر الاعلام على مدار الساعة. لا اقصد بخصوصية ضخامة الانفجار التي لا توصف بلا حدود، بل من الصعب تسميته انفجاراً، فهو انفجار فيه كل الخير بما لا يتفق مع مفهومنا عن الانفجار المقترن بالموت والدمار، انه بحسب تعبير البعض انفجار ناعم جداً جداً، او ان الاشعاع الناتج عنه منتظم بدرجة تدعو للدهشة، رغم انه لا يرد في مخيلتنا كيف يكون الانفجار ناعماً ومنتظماً؟ فكل الانفجارات التي نراها هي مدمرة وخشنة وعشوائية وليست ناعمة ومنتظمة، ولو كان ناعماً ومنتظماً بالفعل لبدى مشفراً سلفاً لينبئ عن احداث عظيمة ما زال العقل حائراً في وصفها وفهمها، وذلك على شاكلة ما تصفه الاطروحة الاصلية للمبدأ الانثروبي (Anthropic Principle‏).
لقد عبّرت مقالة الانفجار العظيم عن الفوضى العارمة، فليس من المعهود ان يصنع انفجار نظاماً قط، وهو بطبيعته يتنافى مع مبدأ الانتروبيا او القانون الثاني للثرموداينميك. فالانفجار هو تناثر عشوائي سريع المدى وليس من المتصور ان يكون نظامياً وهادئاً ومسالماً ومثمراً في الوقت ذاته.
تصورْ لو قيل لك بانه شوهد انفجار اخذ يتفاعل ببطئ شديد استمر لمدة يوم كامل وسط ركام من الاشياء المختلفة، فبدل من ان يعمل على تناثرها في كل اتجاه بعشوائية تامة؛ اذا به يصنع منها شيئاً جميلاً ومنظماً مثل زهرة تسرّ الناظرين.
من الطريف حقاً ان يكون اصل مصطلح (الانفجار العظيم) جاء من فلكي شديد المعارضة قيل انه استهدف بهذا اللفظ تسخيف النظرية والسخرية منها. فقد نقد الفيزيائي المعروف فريد هويل هذه النظرية وعبّر عنها بهذا المصطلح بما يبدو منه الحطّ من شأن فكرة التوسع الكوني التي تفترض وجود نقطة محددة بدأ منها التطور، لكنه نفى – فيما بعد – ان يكون قصده السخرية من النظرية، فهو اول من صاغ المصطلح في برنامج اذاعي على شبكة الاذاعة البريطانية (عام 1949). لكن المصطلح اخذ يشيع حتى استقر كدلالة على تلك النظرية الى يومنا هذا.
لم تكن نظرية الانفجار العظيم مقنعة في بداية ظهورها، ولم يعطَ لها شيء من الاعتبار الا بعد اربعينات القرن الماضي، حيث حدثت مراجعة جذرية لقياس المسافات. وابرز سبب جعلهم لا يعولون عليها يتعلق بقياس ثابت هابل الذي قيس خلال الثلاثينات والاربعينات، وكان يقدر حينذاك بحوالي (170 كم في الثانية). فاعتماداً على هذا الثابت تم استنتاج ان عمر الكون يساوي اقل من ملياري عام، طبقاً للقانون المعتمد عليه وهو مقلوب ثابت هابل. في حين ان اعمال رذرفورد حول النشاط الاشعاعي اظهرت بان عمر الارض حوالي (4.6) مليار سنة، مما يعني ان عمر الاخيرة اقدم من عمر الكون. وحتى عندما تمّ تعديل هذا الثابت وتخفيضه خلال خمسينات القرن الماضي فان عمر الكون قد قارب عمر الارض، فيما قياسات اخرى كانت جارية انذاك تبدي ان عمر بعض المجرات اكثر من عشرة مليارات سنة، اي انها أكبر من عمر الكون. وهذا ما ادى الى الشك في دلالة ما اتى به هابل حول عمر الكون او التمدد، سواء ما يتعلق بقانونه وثابته، او ما اعتمد عليه حول ظاهرة دوبلر والازاحة الحمراء، كما سنرى..
على ذلك كانت فكرة وجود كون استقراري ساكن هي المعول عليها لدى الكثيرين حتى بعد ان شاعت اكتشافات هابل خلال ثلاثينات القرن الماضي. وفي نهاية الاربعينات اعقبتها فكرة اخرى جذبت الفيزيائيين، وتدعى نظرية الحالة الثابتة (Steady State theory) او الثبات الكوني، وهي لعدد من العلماء من أمثال توماس جولد وفريد هويل وبوندي ونارليكار. فقد وجد فيها الفيزيائيون ضالتهم المنشودة والند الذي قد يتفوق على نظرية الانفجار العظيم. ولم ينحسم التنافس بينهما الا عند منتصف الستينات بعد ان تم اكتشاف اشعاع الخلفية الكونية المايكروي (Cosmic Microwave Background)، اذ كان لنظرية الانفجار العظيم الانتصار الحاسم، رغم انها ظلت تواجه مشاكل كثيرة، اهمها انه تم مؤاخذتها على تخبطها في تقديرات عمر الكون، كما ان لها دلالة على العشوائية الواضحة، اذ كيف يمكن لانفجار عشوائي ان يخلق لنا نظاماً دقيقاً؟ كما كيف يمكن التوفيق بينها وبين مبدأ الانتروبيا والقانون الثاني للثرموداينميك، إن لم يكن هناك منظِّمٌ هو من قام بالنفخ في النار؟ على ذلك تظهر فكرة الثبات الكوني اكثر قبولاً ومنطقاً، فهذه النظرية تفترض ان الكون يتمدد في فضاء وزمان غير متناهيين من دون انفجار، ويبقى يمتلك نفس الخصائص الكونية الثابتة رغم مرور الزمن. ويكون معدل التمدد ثابتاً ايضاً. وهي تفترض وجود مجال لخلق المادة بمعدل ثابت لتبقى كثافة الكون ثابتة عند التمدد، وتسمى العملية بالخلق المستمر، حيث يتم خلق حوالي هايدروجين واحد لكل متر مكعب على مدار عمر الكون.
هكذا بحسب هذه النظرية ان الخلق مستمر من دون حاجة للبداية ولا الانفجار، او ان المادة ليس لها بداية ولا نهاية. ففي الكون وسيلة ثابتة لتزويد نفسه بالطاقة الى الابد، بحيث يبقى متوسط كثافة الكون ثابتاً. فتتكون المجرات وتموت ويعاد تكوينها وهكذا دون انقطاع. وقد قام فريد هويل بدعم هذه الفكرة نظرياً، واعتبرت طوال اكثر من عقد بانها المنافس الندي لنظرية الانفجار الكبير.
لقد اصبحت نظرية الثبات الكوني جذابة عند ظهور اختلاف مقادير عمر الكون بين فترة واخرى الى ان حلّ منتصف الستينات من القرن العشرين، حيث تبين خطأ النظرية تبعاً لاكتشاف اشعاع الخلفية الكونية (CMB) لما لها من دلالة على اختلاف ظروف بداية الكون عما عليه الان. وبالتالي اعتبرت متناقضة مع مقاييس علم الفلك. لذلك تم التخلي عنها، لكن هويل لم يتقبل ما افضت اليه نتائج الاكتشاف المتعلق بهذا الاشعاع، بل عزا ذلك الى مسببات اخرى، وظل على رأيه حتى مماته. واليوم حاول البعض ان يجد فيها او في نموذج اخر على شاكلتها بديلاً عن نظرية الانفجار العظيم مثل نظرية البلازما الكونية كما سنعرف..
ولا عجب من ان يؤيد بعض اللاهوتيين الغربيين نظرية الحالة الثابتة دفاعاً عن الخلق المستمر من قبل الله دون انقطاع ولا بداية، مع تجاهل إلحاد اصحابها. وعلى الصعيد الاسلامي انها تنسجم مع فكرة الاله الفعال: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))، وقد كان ابن تيمية من اللاهوتيين المسلمين يعتقد بهذه الفكرة، وهي ان الله فعال وخلاق أزلاً وأبداً من دون انقطاع، فهو يحيي ويميت على الدوام، وهي النظرية التي أكّد عليها الفلاسفة القدماء. وحتى فكرة ان الكون في بدايته يختلف عما عليه الان لا يتضارب مع اصل فكرة دوران الخلق واستمراريته ازلاً وابداً، فالاختلاف الذي يلاحظه العلماء ضمن زمن محدد يقارب (14 مليار سنة)، انما يعبر عن دورة كونية قد سبقتها دورات بلا بداية، وستتلوها دورات بلا نهاية. وقد يشار الى هذا المعنى بما جاء في النص القرآني: ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)).
ومن حيث التفصيل يمكن تحديد الادلة التي اعتمدتها نظرية الانفجار العظيم بثلاثة اساسية هي كالتالي:
1ـ دليل ازاحة دوبلر
وهو دليل تباعد المجرات باضطراد بعضها عن بعض بتسارع يعتمد على طول المسافة فيما بينها، ومن ذلك التباعد الملاحظ من الارض اعتماداً على اكتشافات هابل اواخر عشرينات القرن الماضي. وقبل ذلك تنبأ فريدمان بتوسع الكون (عام 1922)، بل ورأى ان المناطق البعيدة في الكون هي اسرع من غيرها، وان العالم متماثل في جميع الجهات. وجاءت هذه التنبؤات قبل اكتشافات هابل بخمس سنوات. وقد طرح ثلاثة افتراضات متنافسة حول شكل ما يتصف به الكون، فهو اما ان يكون مفتوحاً كسرج الحصان فيستمر التمدد فيه الى الابد، او مغلقاً على الطريقة الاينشتاينية فيفضي به الى الانسحاق من جديد، او مسطحاً يتراوح بين الانفتاح والانغلاق.
لقد اعتمد هابل في اكتشافاته على ازاحة دوبلر، وهي الظاهرة المكتشفة على يد الفيزيائي النمساوي كرستيان دوبلر (عام 1842) والذي طبقها على كل من الصوت والضوء باعتبارهما أمواجاً متنقلة، لكنه أخطأ التطبيق فيما يخص الامواج الضوئية عندما ارد ان يفسر سبب ظهور الكواكب ملونة، فظاهرة دوبلر لا تتبين من خلال العين المجردة قط، وهي بذلك تختلف عن التطبيق المتعلق بالامواج الصوتية. فبحسب الاخيرة تتصف الظاهرة بانها مألوفة تماماً، فاذا كان هناك مصدر متحرك يحمل صفارة صوتية، كما في حالة سماعنا لسيارة الاسعاف، فاننا ندرك من خلالها اقتراب المصدر او ابتعاده، فاذا زادت حدة الصوت المسموع باضطراد فسيدل ذلك على اقتراب المصدر منا، وعندما تنخفض هذه الحدة او تخفت باضطراد فانه يتباعد عنا. كذلك هو الحال مع الضوء، فلو كان هناك مصدر يبتعد عنا بسرعة فائقة فان الضوء الذي سيصلنا منه سيبدو احمر، ويزداد الاحمرار كلما ازداد بعداً، ولو اقترب المصدر منا فسيبدو ازرق، ويزداد زرقة كلما اقترب اكثر فاكثر باضطراد. وتفسير هذه الظاهرة هو ان الامواج الضوئية في حالة الابتعاد تزداد طولاً؛ لذلك تبدو حمراء، فيما تتقلص اكثر فاكثر عند الاقتراب فتبدو زرقاء. وبالتالي يحدث الانزياح نحو الاحمر بسبب تمدد الضوء فيتطلب زمناً اطول ليصل الينا، فيما يحدث الانزياح نحو الازرق بسبب انضغاط الطول الموجي للضوء فيتطلب زمناً اقصر ليصل الينا.
وربما يكون وليم هايجنز هو اول من وظّف هذه الظاهرة في معرفة ابعاد النجوم واتجاه حركاتها، ففي (عام 1868) اثبت بان الخطوط المعتمة في اطياف بعض النجوم الاكثر لمعاناً منحرفة خفيفاً نحو الاحمر او الازرق تبعاً لاوضاعها الطبيعية في الطيف الشمسي، وقد فسّر ذلك تبعاً لابتعاد او اقتراب النجم. فمثلاً ان طول موجة كل خط من الخطوط المعتمة في طيف النجم كابيلا هو اكبر من طول موجة الخط المعتم الموافق له في طيف الشمس، وذلك بنسبة (0.01%)، مما يشير الى انه يبتعد عنا بنفس هذه النسبة من سرعة الضوء.
وقد صاغ هابل مع مساعده الشاب ملتون هوماسون (Milton Humason) قانونه استناداً الى هذه الظاهرة ، فاستنتج بان هناك علاقة مضطردة عكسية تربط بين السرعة والمسافة بين المجرات، فكلما كانت المسافة بعيدة كلما كانت اكبر سرعة، الى درجة ان بعضها تكون لكثرة البعد ذات سرعة كبيرة تقارب سبع سرعة الضوء. وتبين فيما بعد ان بعضها يسير باكبر من (90%) من سرعة الضوء، واليوم تقدر سرعة بعض المجرات البعيدة بانها اكثر من ذلك، حتى ان الكثير افترض بانها تنتهك سرعة الضوء وتتجاوزه. وبذلك توصل هابل الى ان المجرات تتباعد عنا بسرع متفاوتة اعتماداً على بعدها عنا. وهذا ما دعاه الى تحديد نسبة ثابتة بين المسافة والسرعة سميت )ثابت هابل(. ومعلوم ان هذا الثابت يتغير مع تغير الزمن طالما ان الكون في تطور وحركة اتساع. لكن تغيره لا يحدث الا ضمن فترات طويلة جداً، وبالتالي يعتبر ثابتاً بالنسبة لنا.
وبحسب هذا الثابت يمكن قياس سرعة ابتعاد المجرة، حيث تساوي ثابت هابل (H0) مضروباً في المسافة (D) بيننا وبين المجرة، ومن الناحية الرياضية تكون معادلة قانون السرعة (V) كالتالي:
V = H0 D
والمهم في الامر هو انه رغم اهمية اكتشافات هابل الا انه لم يربط بينها وبين التمدد الكوني، فلم يتصور ان لذلك دلالة على التوسع والتمدد، فكل شيء يتباعد عن كل شيء باضطراد. لكن اول من وظف هذه الاكتشافات في اثبات هذا التوسع هو الفيزيائي والقس البلجيكي لومتر، ورتّب على ذلك انه لا بد من ان يكون الكون قد بدأ من نقطة تمثل بداية الانطلاق والتوسع. ففي ورقة نشرها (عام 1927) فسّر فيها ازاحة دوبلر الضوئية بانها دالة على تمدد الكون، اذ عمل على حل معادلات النسبية العامة لاينشتاين، وتنبأ بان الكون يتمدد، وبدت الفكرة غريبة حتى نقل عن اينشتاين بانه احتج وقد احمرّ وجهه بتصريح مفاده : >معادلاتك الرياضية صحيحة، لكن فيزياءك فظيعة<. وفي (عام 1930) اقترح لومتر بان كوننا المتمدد قد بدأ من نقطة متناهية في الصغر اطلق عليها الذرة الاولية، وهي المسماة فيما بعد بالمفردة والتي منها بدأ الانفجار العظيم ثم اخذ بالتمدد والتوسع كما يفسره قانون هابل. وقد كان لومتر يرى ان بداية تاريخ الكون تتصف بالبرودة، لكن عدداً من الفيزيائيين منهم رالف الفر وجورج جاموف قاموا بطرح نموذج بديل يتحدث عن بداية حارة للكون، فهي تمثل فرناً بدئياً للتخليق النووي.
وكثيراً ما يمثل على هذا التوسع وعلاقته بتباعد المسافات بالبالون المنقّط، واول من فعل ذلك هو عالم الفلك البريطاني ادنجتون (عام 1931)، فكلما زاد نفخه زاد تباعد المسافات بين النقاط باضطراد. وهي تعني تزايد سرعة تباعد النقاط البعيدة عن مصدر النفخ مقارنة بالقريبة ضمن نسبة ثابتة. كما كثيراً ما يشار الى ان هذا التباعد يعبر عن تمدد الفضاء وليس ابتعاد المجرات ذاتها، مثلما هو الحال مع البالون المنقّط.
2ـ دليل الخلفية الاشعاعية CMB
يفترض هذا الدليل ان الكون نشأ وهو مليء بالاشعة الحارة جداً قبل تشكل المادة عبر الذرات، ومع مرور الزمن أخذ الكون يبرد شيئاً فشيئاً، وعند حد معين تمّ لهذه الاشعة ان تنفذ وتسافر في الفضاء بحرية، فاخذت حرارتها تنخفض باضطراد الى ان وصلتنا بعد رحلة طويلة استغرقت مسافة تُقدر حالياً باكثر من (13 مليار سنة ضوئية)، فاصبحت درجة حرارتها منخفضة للغاية وقريبة من الصفر المطلق. ان سفر الاشعة وامتدادها عبر هذه المليارات من السنين مع انخفاض درجة حرارتها لها دلالة على التمدد الكوني.
فعلى خلفية نظرية التوسع الكوني تنبأ كل من ألفرد وهيرمان (عام 1948) بتدبر فكرة وجود خلفية اشعاعية كونية قوية في حقبة التخليق النووي، اذ لو كان هناك توسع بالفعل لكان يفترض ان يصلنا منه اشعاع يبلغ من البرودة اقصاه، وهو ما قدّره هذان الفيزيائيان بدرجة حرارة (5 كلفن)، وذلك قبل اكتشافه خلال الستينات صدفة. فقد لفت انتباه هذين العالمين ان هناك وفرة كثيرة من الهليوم ما لا يكفي ان تكون النجوم قد قامت بتخليقه من الهايدروجين. فالهليوم المصنع داخل النجوم يبقى حبيساً فيه، مع انه منتشر في كل مكان. وبالتالي افترضا ان الهليوم مخلق في الاساس قبل تكون النجوم والمجرات، وانه من المتوقع على هذا الاساس ان يكون هناك ما يدل على هذه العملية عبر الاشعاع الواصل الينا منذ تلك الفترة البدائية. لذلك تمّ افتراض وجود خلفية تحمل بصمات ما كان عليه الكون في البداية، اي تحمل بصمات الهايدروجين والهليوم.
وتبدأ قصة اكتشاف هذه الامواج الراديوية او الاشعة المايكروية عبر نوع من الضجيج (عام 1965). فقد كان الفلكيان الشابان بنزياس وويلسون يستخدمان هوائي امواج راديوية للاتصال مع اول قمر صناعي حديث للاتصالات، وعندما وجدا مجموعة غامضة من الامواج المشوشة، ظنّا في البداية انه قد يكون هناك راديو بالقرب من نيويورك او فضلات طيور تغطي هوائي الامواج الراديوية الخاص بهما، وبعد اشهر من الحيرة والارتباك في البحث والتدقيق تمكنا من الكشف عن اهم ظاهرة كونية بعد اكتشاف هابل لتمدد الكون، رغم انهما لم يعلما اهمية هذا الاكتشاف.
لقد تم تفسير اشعاع الخلفية الكونية بانه اشعاع جسم اسود تبلغ درجة حرارته اقل من (3 كلفن). فهو طويل الموجة، وهو اشعاع حراري بارد جداً يصدر عن جسم اسود لان فيه كل صفات الاشعاع الحراري المنطلق من فرن درجة حرارته بالغة الضآلة، اذ له طيف يعبّر عن طريقة تغير لمعان الضوء حسب تغير طاقته، لذا ينطبق عليه صفات هذا الجسم.
وفي اوائل التسعينات وصل القياس بواسطة القمر الصناعي لمسار ارضية الكون من ناسا ذروته، وقد اكد الفيزيائيون والفلكيون بدرجة عالية من الدقة ان الكون مليء باشعاعات مايكروية درجة حرارتها حوالي (2.7) فوق الصفر المطلق البالغ (-270 درجة مئوية). وبذلك يكون اشعاع الخلفية الكونية ابرد شيء في الطبيعة. فالامواج المايكروية هي ضوء غير مرئي يميز الاجسام الباردة للغاية. والذي جعلها تتصف بذلك هو سفرها الطويل الصادر منذ نشأة الكون، اذ تمثل صدى لحظة الانفجار العظيم، وبالتالي فهي موجودة في كل مكان، فكل متر مكعب من الكون يحتوي في المتوسط حوالي (400 مليون فوتون). ومن اثار هذه الاشعة ما يظهر في التلفزات القديمة من تشويش ملفت للنظر قبل وبعد البث المباشر، حيث يوجد ما يقارب (1%) منها ضمن هذا التشويش الضوضائي.
هكذا لم يجد الفيزيائيون فرضية افضل من ان يفسروا فيها طبيعة الاشعاع المايكروي طبقاً لافتراض انه صادر منذ زمن سحيق ضمن رحلة طويلة حتى انتهى الينا، وذلك خلال مدة تزيد على (13 مليار عام). وهو يكشف عن ان الكون قد بدأ ساخناً ثم تمدد ونما في الحجم حتى برد شيئاً فشيئاً بدلالة هذا الاشعاع الكوني الذي وصلنا. فهو الاثر البارد لآخر اشعاع تشتت بواسطة الالكترونات في حقبة اعادة الاتحاد الذري.
اما لماذا لم يصلنا هذا الاشعاع منذ بدء الانفجار العظيم؟ فسبب ذلك يعود الى انه لم يُتحْ له التحرك بحرية بداية نشأة الكون بسبب معوقات التفتيت الاشعاعي، وذلك قبل تشكل الذرات والمادة. ومعلوم انه خلال الدقائق الاولى من عمر الكون تكونت انوية العناصر الخفيفة ضمن ما يسمى بالتخليق النووي البدائي. فقد كانت الحرارة والكثافة الجسيمية وقت الانفجار العظيم عالية جداً، وكانت الفوتونات تواجه مشكلة في حركتها لشدة صدامها بفعل هذه الكثافة الجسيمية، حيث يجد الفوتون في طريقه الكثير من الالكترونات الحرة او المتأينة التي تعمل اما على امتصاصه او نثره وتشتيته. فكان الحال اشبه بثقب اسود يمنع فوتونات الضوء من التحرر، فلكونها ذات طاقة ضخمة اتصفت بهيجان عشوائي عنيف منعت من خلاله اي فرصة لتخليق الذرات، وذلك بفعل اصطداماتها العنيفة بالالكترونات وغيرها. لهذا كانت الهيمنة والغلبة للاشعاع على المادة لتفتيته لها ومنعها من التجمع والتماسك. لكن مع مرور الزمن ضعفت طاقة الفوتونات من ان تمنع تجمع المادة وايقاف التأين، واختفت بذلك الالكترونات الحرة بعد ان صارت انوية العناصر الخفيفة تقتنصها لتشكل بذلك اولى الذرات المتعادلة الشحنة. ويؤرخ لهذه المرحلة عادة بحوالي (380 ألف عام) بعد الانفجار، وذلك عند درجة حرارة منخفضة تقدر بحوالي (3000 كلفن). وتعتبر هذه الحقبة مفصلية بعد الدقائق الاولى من عمر الكون. فبحسب التقديرات الفيزيائية انه لم يحصل هناك شيء ذو اهمية يمكن ان يشار اليه بعد الدقائق المحدودة من عمر الكون حتى جاءت هذه الحقبة المفصلية من الزمن، فقبلها كان الكون معتماً ومليئاً بحساء متأين وخليط من المادة والاشعاع من دون تمايز، ثم اصبح الكون منذ تلك الحقبة شفافاً امام الاشعة المتحررة من العتمة الخانقة، والتي وصلتنا على هيئة اشعاع الخلفية الكونية، فيما تركت خلفها الذرات الاولية التي اخذت بتجميع بعضها الى البعض الاخر تبعاً للجاذبية فيما بينها، فتكونت منها عناقيد المجرات بالتدريج، وبذلك تمت هيمنة المادة وغلبتها بكثرة ما انتجته من المجرات وعناقيدها.
لقد اُعتبر هذا الاشعاع اقوى دليل على نظرية الانفجار العظيم، حيث اُستبعد ان يكون مصدره نابعاً من مجرتنا، باعتباره يتصف بالانتظام، في حين ان مصادر مجرتنا ليست منتظمة، او ان درجة الانتظام فيها لن تكون موزعة بالتساوي في السماء. وعليه استنتج الفيزيائيون ان هذا الاشعاع يأتي من خارج مجرتنا باعتباره متماثلاً في جميع نقاط الارض ولا يتأثر بالفصول ولا بالليل والنهار.
ورغم ان الفيزيائيين اعتبروا اكتشاف هذا الاشعاع خلال منتصف الستينات اعظم دليل على نظرية التوسع الكوني، لكنهم واجهوا فيما بعد صعوبة في تفسير حالة الكون غير المتجانسة. فرغم ان صفات هذا الاشعاع دالة على التوسع الكوني؛ لكنها في الوقت ذاته لا تتسق مع ما يتصف به الكون من عدم التجانس. فهناك مناطق مكتظة بالمجرات وعناقيدها، فيما هناك مناطق اخرى فارغة، فكيف يمكن تفسير وجود هذه التجمعات الضخمة من دون ان يكون هناك شيء من الاثر الحاصل على الخلفية الاشعاعية، بمعنى انه لا بد ان يكون في بداية الكون شيء من التفاوت في الكثافة هي ما تبرر وجود المجرات وعناقيدها الضخمة، ولا بد ان يكون هذا التفاوت قد نقلته الخلفية الاشعاعية بشيء من التفاوت ايضاً.
هكذا يلاحظ ان الخلفية الاشعاعية التي جعلها الفيزيائيون اعظم دليل على نظرية التوسع هي ذاتها أثارت امامهم – فيما بعد - مشاكل لم يتمكنوا من حلها. ففي البداية وجدوا في تجانس اشعاع الخلفية ضالتهم المنشودة؛ فهللوا لهذا الاكتشاف باعتباره الدليل الذي كانوا ينتظرونه للعودة بهم الى بداية الانفجار العظيم قبل تكون المجرات والمادة. لكنهم واجهوا فيما بعد مشكلة تتعلق بان هذا الدليل ينبئ بكون مبكر متجانس تماماً طالما ان الاشعاع الذي اكتشفوه يتصف بالتجانس، وهو بهذا الحال عاجز عن ان يفسر كيف ظهرت المجرات الضخمة من كون متجانس؟ وهذا ما دفع الفلكيون الى ان يبحثوا عن شيء خلاف ما ارادوه في البداية. فقد كان تجانس الاشعاع الخلفي ضالتهم على التوسع الكوني، فيما تمنوا بعد ذلك ان يعثروا على اشعة خلفية تظهر بعض الفروقات التي يمكن من خلالها تفسير تكون المجرات.
لقد تغيرت ملامح نظرية الانفجار العظيم من اطارها القديم المتمثل بالتوسع الكوني الى اطار جديد مفترض سمي بالتضخم الكوني (Cosmic inflation)، وقد بدأ طرح هذا الاطار الجديد في مطلع ثمانينات القرن الماضي وهو يتنبأ بوجود مثل هذه الفوارق لدى اشعاع الخلفية الكونية. لكن كلما بحث الفلكيون من خلال الاقمار الصناعية وغيرها وجدوا ان الخلفية الاشعاعية ما زالت تنبؤهم بالتجانس مع فروقات ضئيلة جداً لا تقوى على تفسير هذه المجرات وعناقيدها الضخمة، كما سنعرف فيما بعد..
3ـ دليل العناصر الخفيفة
هو دليل يتعلق بتكون العناصر الخفيفة خلال الدقائق الاولى من عمر الكون، وهي ثلاثة: الهايدروجين والهليوم والليثيوم. اما العناصر الاثقل منها فتكونت جميعها بعد نشأة النجوم. اذ افترضت نظرية الانفجار العظيم ان الكون مكون في الاساس من الهايدروجين وبحوالي (23%) من كتلة الهليوم. وقد قدّر بعض الفيزيائيين ان هذا الحساب صحيح. وبحسب الفيزيائي بيبلز (peebles) كان الكون في الدقائق الثلاث الاولى مليئاً بالاشعاع الذي يمنع من تشكل زيادة هامة في العناصر الاثقل من الهايدروجين . فالاشعاع كان يملأ الكون وله حرارة مكافئة بالغة الارتفاع، وطول موجته قصيرة جداً. لكن درجة حرارته المكافئة اخذت بالهبوط مع توسع الكون باستمرار؛ الى ان ظهر حالياً على شكل ضجة خلفية راديوية تملأ جميع الاتجاهات بالشدة نفسها. ولاحظ بيبلز انه لو لم توجد خلفية شديدة للاشعاع خلال الدقائق الاولى للكون لحدثت التفاعلات النووية بسرعة تكفي لان يتحول قسم كبير من الهايدروجين الى عناصر اثقل، وهو خلاف الواقع، حيث يشكل الهايدروجين ثلاثة ارباع الكون.
وتم افتراض ضرورة ان تكون بعض النظائر الخفيفة قد تشكلت قبل تكون المجرات والنجوم بزمن بعيد طبقاً لهشاشتها وانها تحتاج الى حرارة قوية للتكون، كما هو الحال مع الديوتيريوم الموجود بقلة في الكون مقارنة بالعناصر الخفيفة الاخرى، وهو هايدروجين ثقيل يتكون من النترون المتحد مع البروتون. اذ لوحظ بان نواة الديوتيريوم هشّة لا يستقر صنعها في النجوم، خلافاً للهليوم والليثيوم. فما يجري في النجوم هو تدمير الديوتيريوم بمعدل يفوق معدل انتاجه، لأن المجالات الاشعاعية القوية داخل هذه الاجرام تكسّر الديوتيريوم الى مكوناته الاصلية من البروتونات والنيترونات، وبالتالي لا بد ان تكون وفرة هذا العنصر قد تم تخليقها قبل ولادة النجوم والمجرات. فعندما كان الكون في بدايته حاراً جداً فان أنوية الديوتيريوم المخلقة كانت تتمزق وتتفكك بفعل الاشعاع الى بروتون ونيترون منفصلين. وهكذا تُدمّر هذه الانوية بمجرد تخليقها، ويطلق على ذلك اسم (عنق زجاجة الديوتيريوم). وما دام هذا الاختناق المروري النووي موجوداً فانه لا يمكن تخليق اي ذرة هليوم. لكن حين قلّت درجة حرارة الاشعاع عن المليار درجة فانه لم يكن للاشعاع القوة الكافية لتفكيك الديوتيريوم. ومن الممكن ان تتلاحم ذرتا الديوتيريوم لتكوين (الهليوم -3) مع اطلاق نيوترون، ثم يستطيع هذا الهليوم اقتناص نواة الديوتيريوم وتكوين ذرة (هليوم -4) مع اطلاق بروتون، وهو الهليوم المتوفر في الطبيعة بما تقدر كتلته بحوالي (25%) مع بقاء اثار بسيطة للديوتيريوم و(الهليوم -3).
لقد كان تأثير القوة النووية الشديدة خلال الدقيقتين الاولتين من عمر الكون بارزاً في تكوين انوية الهايدروجين وغيرها. فبعد دقيقة واحدة بدأ الكون يبرد بما يكفي لاندماج البروتونات والنترونات مكونة انوية الذرات. وأول ما نشأ من الانوية هي تلك المتعلقة بالديوتيريوم، حيث فيه بروتون واحد مع نترون واحد. ولما انخفضت الحرارة لما دون عتبة الاندماج النووي كان قد نتج هليوم واحد مقابل عشرة انوية للهايدروجين، وقليل جداً من عناصر اخرى. اي تمخضت العملية عن تكوين (90%) من الهايدروجين مع (10%) من الهليوم وقليل جداً من الديوتيريوم والتريتيوم والليثيوم. وسبب توقع هذا التقدير يعود الى وجود هذه النسبة في النجوم، فعشر مكوناتها من الهليوم. لكن بقي الاخير يتخلق بنسبة قليلة جداً في هذه الاجرام نتيجة الاندماج النووي للهايدروجين، حيث يميل الديوتيريوم الى الاندماج فيها بسرعة الى الهليوم إن لم يتحطم بفعل الاشعاعات النجمية المتوالية.
للبحث صلة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: مقتل مسؤول في منظومة الدفاع الجوي لحزب الله بغارة إسر


.. قبيل عيد الفصح.. إسرائيل بحالة تأهب قصوى على جميع الجبهات| #




.. مؤتمر صحفي لوزيري خارجية مصر وإيرلندا| #عاجل


.. محمود يزبك: نتنياهو يفهم بأن إنهاء الحرب بشروط حماس فشل شخصي




.. لقاء الأسير المحرر مفيد العباسي بطفله وعائلته ببلدة سلوان جن