الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُطَّلِب: إِلَهٌ في نَسَب مُحمَّد (3)

ناصر بن رجب

2016 / 9 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هُويّة المُطَّلب:
بطبيعة الحال، نوابغ المسلمين وجهابذة علمائهم لم يتعرّضوا لهذه المسألة إلاّ بمقدار يسير جدًّا، ولذلك فهذه الحادثة لم تكن شعبيّة أبدًا في يوم من الأيام. فشخصيّة "المُطَّلِب"، فيما عدا هذه القضّية التي طرحناها، وقع تحجيمها وتقزيمها إلى أقصى درجة، خاصّة إذا ما قارنّاها بشخصيّتي إخيه هاشم وابن أخيه شَيْبة. فهو، في حقيقة الأمر، موجود فقط لِتَكْنيَة ابن أخيه وذلك بأقصى شكلٍ من الأشكالِ عبثيَّةَ ورُعُونَة بُنِيَ على مجرَّد سوء تفاهم وحَماقة قوم من قريش.

تاريخ الطبري هو المصدر الذي يُعطينا الأخبار الأكثر دِقّة حول شخصيّة المُطَّلب بالرّغم من أنّ هذه الأخبار، في محصِّلتها النهائية، ليست ذات قيمة كبيرة (27). المُطَّلب هو أصغر أبناء عبد مناف من زوجته الأولى [عاتِكة بنت مُرّة السُلَميّة]. وقد حَصَل لقريش على معاهدة مع ملوك حِمْيَر لتأمين تجارتهم في اليمن، وباقي إخوَتِه فعلوا ذلك أيضا مع أقاليم أخرى (28). وآلت إلى المُطَّلب رِفادة وسقاية حجيج مكّة. وكان يُكَنّى (اسمُه القَبَلي) أبو الحارِث (29). وهنا يزداد الغموض كثافة إذا علِمنا أنّ كُنية ابن أخيه عبد المُطَّلب هي نفسها تماما. فالطّبري يؤكِّد هذا عندما يكتب: "كُنِّي بذلك [أي عبد المطَّلب] لأنّ الأكبرَ من وِلْده الذكور كان اسمه الحارث" (30).

وابن سعد، في الطّبقات، يذكر هو أيضا شخصيّة العمّ، ولو بعجالة، وروايته تحتوي على تناقضات مع الأخبار التي يرويها الطّبري:
"كان المُطَّلب بن عبد مناف بن قُصَيّ أَكبَرَ من هاشم ومن عبد شمس، وهو الذي عقَد الحِلف لقُريْش من النّجاشيّ في متْجَرِها، وكان شريفًا في قوْمه مُطاعًا سيِّدًا. وكانت قريش تُسمِّيه الفَيْضَ لسماحَته، فوُلِّيَ بعْد هاشم السِّقاية والرِّفادة" (31).

كما نرى هنا مثلا، ابن سعد يقدِّم المُطَّلب على أنّه أكبرُ سنًّا من أخيه هاشم، هذا مع أنّ هاشم هو الذي كان سيِّدَ القَبيلَة ومالِكَ زِمام أمورها فقد كانت له السّقاية والرّفادة قبل أن يتسلّمها بعده المطَّلب.

ويُضيف الطبري حادِثة في سيرة حياة المُطَّلب وقعت بعد قصّة وصول ابن أخيه، وهي حادثة صُنِعت لكي تُقوِّي الإنطباع بروح التّضامن التي كانت تربط بين الشّخصَيْن: فقد تنازع مع أخيه نوفل بن عبد مناف بخصوص عقّار له اغتصبه منه فساند عبد المّطَّلب عمَّه المُطَّلب ودعا أخْوالَه من بني النّجّار في يثرب لنُصرتِه على عمِّه نوفل بعدما رفض شيوخ قريش التّدخُّل في القضيّة، وحتّى مونتغومري واط، فإنّه يشكّ هو أيضا في صحّتها ويفترِض أنّها وقعت بعد ذلك بكثير (32).

ثمّ أنّ وفاة المطَّلب تمّ التعرُّض إليها بعُجالة كبيرة في بضعة أسطر تروي الخبر كما هو لا أكثر ولا أقلّ. فقد وردت عند ابن سعد كالتّالي: "وخَرَج المُطَّلب بن عبد مناف تاجِرًا إلى أرض اليَمَن، فهَلكَ بِرَدْمَانَ من أرض اليمن" (33).

ورواها ابن هشام على النّحو التّالي: "ثمّ هَلك المطّلب بردْمان من أرض اليمن، فقال رجلٌ من العرب يَبْكيه:
قَدْ ضَمِئَ الحَجيجُ بعد المُطَّلِب بعد الجِفانِ والشَّرابِ المُنْثَغب
لَيْتَ قُرَيْشًا بعْدَه على نَصَب" (34).

وبعد وفاته لم يبق أيّ أثَر لزعامته وقوّة نفوذه. ويُقال أنّه كوّن عشيرة بني المُطَّلب، وبنو المُطَّلب هؤلاء مذكورون بطبيعة الحال في القوائم الرّسميّة لبُطُون قبيلة قريش التي كانت تتكوَّن من خَمْسة وعشرين بَطْنًا (35).
والغريب أنّ النّبي لم يذكرهم في حديثه عندما نادى كلَّ بطون قريش، كلّ بإسْمِه، يدعوهم للنّجاة من النّار: "دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قُريشًا، فاجْتمَعوا. فَعَمّ وخَصّ. فقال: يا بني كَعْب بن لُؤَي، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا بني مُرَّةَ بن كَعْب، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا بني عبد شَمْس، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا بني عبد مَناف، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا بني هاشِم، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا بني عبد المُطّلِب، أَنْقِذوا أَنْفُسَكم من النّار. يا فاطِمة، أَنْقِذي نَفْسَك من النّار. فإنّي لا أَمْلِك لكُم مِنَ الله شيئًا، غير أنّ لكم رَحِمًا سَأَبُلّها بِبِلا لِها" (36).

ولم يذكرهم ابن هشام في سيرته النّبويّة حين يسرد أسماء المُطْعِمين من قريش، أي مَن تولّى منهم السّقاية والرّفادة لحجيج مكّة:

"وكان المُطْعمون من قريش: من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطُعيمة ابن عدي بن نوفل. ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد. ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة ابن عبد مناف بن عبد الدار. ومن بني مخزوم بن يقظة: أبا جهل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. ومن بني جمح: أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح. ومن بني سهم بن عمرو: نُبَيْهًا ومُنَبِّهًا ابني الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم. ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر" (37).

وسوف يذكرهم ابن هشام فقط بمناسبة حديثه عن خبر الصحيفة وتآمُر قريش على مقاطعة النّبي وأصحابه: "فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المُطَّلب، على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة" (38).

فكلّ الروايات تُعطي الإنطباع بأنّ المُطَّلب لا معنى لوجوده سوى إضافة حَجَر إلى البناء الرئيسي ألا وهو سلسلة نسب نَبيّ المسلمين وإثبات وجوده وهو الذي يحضى بكلّ أشكال الطّاعة والخشوع. كلّ الأشخاص الآخرين مُسخَّرون لهذه القضيّة، ولكنّنا هنا أمام حالة جليّة للعيان لأنّ المُطَّلب موجود فقط لتفسير إسْمِ شخص آخَر. ففي كلّ مصنّفات الحديث، بالرّغم من أنّها مُفعَمة بالأسماء، لم أعثُر إلاّ على "مُطَّلب" واحد في سلسلة الأسانيد: "حدَّثَني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن السّائب بن يزيد، عن المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَةَ السَّهْمِيّ..." (39).

في أكبر خَزين للنّقوش في شمال وجنوب شبه الجزيرة العربيّة لا يوجد بين الأسماء العربيّة التي عُثر عليها أيُّ مُطَّلِب واحد. فلو كان الأمر مُقتَصرًا على الأدب فقط، فإنّه يحُقّ لنا الاعتقاد بأنّ المأثور الإسلامي سارع بمحو آثار كلّ ذِكر لإسم "المُطَّلب" حفاظًا على وِحدَة وتماسك نسب نَبيِّه. ولكنّ المصدر النقشي هو أقلّ خضوعًا للرّقابة من غيره من المصادر: فعلى امتداد ملايين الكيلومترات المربّعة وعلى امتداد قرون كان من المفروض أن يظهر هذا الإسم في مكان مّا.

نحو إماطَة اللّثام عن إلَهٍ جديد وسط الجزيرة العربيّة:
باختصار شديد، هذه الشّخصيّة هي ظِلٌّ يُخفي وراءه حقيقة، شائبة، وصْمَة، أمرا مُشينا: وقد حاولت الأخبار والرّوايات تغطيّة ذلك حتّى لا تنتقل عدواها إلى الشّخصيّة النّقية، شخصيّة محمّد بذاتها. فكلّ مُطَّلِع على سيرة النّبيّ، وخاصّة في فترة صِبَاه، ما قبل الإسلام بطبيعة الحال، يُدرِك مدى العناية الفائقة التي وقع اتّخاذُها لكي يُبْعد عنه أيّ احتكاك بشعائر آلِهَة النّظام القديم وذلك باستخدام أساليب قد تبدو في بعض الأحيان مضحِكة. إنّ معرفة هل كان محمّد، قبل مَبعثه ونزول الحي عليه، مُشْرِكًا أم لا، تظلّ إلى يوم النّاس هذا مسألة حارِقة في العالم الإسلامي قد تصل إلى درجة الهوَس. إنّنا لم نزل بعد في صُلب المشكِلة مع مسألة "المُطَّلِب". فقد كان من الضروري على الإطلاق، حتى ولو تطلَّب الأمر استخدام حكايات شاذّة، تحوير معنى "عبد المُطَّلب"، جاعلين منه عبْدًا لإنسان عوض خادِمٍ لِصَنَم. فقد كان من الواجب تجنيب محمّد الوقوف أمام الملأ ويُعلِن أنّه ابنُ عبدِ إلَهٍ قديم (صنم من أصنام الجاهليّة)، كما سبق ورأيناه يفعل ذلك في المعركة مع هوازِن. وكان من الواجب أيضا تجنّب أن يُعْتَبَر نفس هذا الـ"عَبْد" أبًا فعْليًّا له، خاصّة عندما يقدِّمه، وهو لا زال صبيًّا، إلى ربِّ الكعبة: "فَيَزْعُمون أنّ عبد المُطَّلِب أَخَذَهُ فدخَلَ به على هُبَل في جَوف الكَعْبة، فقام عنْدَه يدعو الله ويَشْكُر ما أعطَه" (40). أو أيضًا في رواية أخرى: "فيزعُمون أنّ عبد المُطَّلِب أخذَهُ، فدخل به الكَعْبة؛ فقام يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه" (41).

هذا بالإضافة إلى انّ الوضعيّة تتعكَّر أكثر إذا ما ثبتت الرّوايات بأنّ عبد المُطَّلب كان عابدًا حقيقيًّا للأوثان وأنّه أخذ الرَّضيع بين يديه ومسّه.

عندما يُوشْوِش مونغومري واط، بين سطور مقالته في دائرة المعارف الإسلاميّة، بأن اسم "المُطَّلِب" له معنى دينيّ، فإنّه يقول ذلك بكل احتشام. يجب علينا الآن أن نجْرُأَ على إعلان ذلك بصوت أعلى: المُطَّلِب لم يكن إِنْسانًا ولكنّه كان إلَهًا، إلهٌ لا نعرفه إلاّ بفضل رجل يُكَنّى به، كما يقول هو ذلك بنفسِه "عَبْدِي"، "عبد لي"، "عبد المُطَّلِب". ولكنّ هذا ليس استِثْناءً، هناك العديد من الآلهة العربيّة القديمة لم يستطع العلم الحديث التّعرُّفَ عليها إلاّ من خلال علم أسماء الأَعْلام، بواسطة الأسماء التي تحمل آلهة (42). ففجأة، ومن خلال اكتشاف إسم واحد منقوش على الحجارة إلاّ ويَبْرُزُ من العدم إلَهٌ عَربيّ.

الديانة العربيّة القديمة هي ديانة وثنيّة تحتوي على العديد من الآلهة العامّة أو المحلّية التي يمكن أن تنحصِر في بيت أو في إطار عائلة واحدة (43). هناك "عبد المُطَّلِب" الذي وُهِب عند ولادته إلى الآلهة ويجد نفسه بحكم كُنيَته مرتَبِطا إلى الأبد بهذه القوّة الخارقة للطّبيعة. ليس بحوزتنا أيّ أثر لوجود مثل هذا الإله في وسط الجزيرة العربيّة. ولكنّ النّقوش في هذه المنطقة نادرة جدًّا، والنّصوص الإسلاميّة دأبت على محو آثارها، إن عثرت عليها. بالمقابل، نجد في جنون الجزيرة، الذي يُحدِّده المأثور الإسلامي، كما سبق ورأينا، كوِجْهَة لرحلات المُطَّلب وكمكان لوفاته، آلهة متواجدة فيه بكثرة تحمل اسم "طَلَب": وظيفة هذه الآلهة كانت حماية أماكن خاصّة (44)، وقبائل مُعيَّنة (45)، وخاصّة حماية قطعان الأنعام (46). وطَلَب هذا مُمثَّل في شكل حيوان هو العَنْز البرّي، والذي نجده منحوتًا على جدران المعابد، كما يمكن أن يُشبَّهَ بالقَمَر وهو موجود في كلّ مكان. ونحن لا نُعطي إلاّ مثالا واحدا مأخوذًا من نقش في صَنْعاء أين يظهر هذا الإسم بشكل مباشر وبكنية تحمل اسم إله:
"وَهْب طَلَب بن هشام يَرْسُمي، عَبْدُ بني سُخَيْم، أهْدى سَيِّدَهُ طَلَب رِيَامْ يَدَهُ اليُمْنى في ضَريحِه ذو القَبَرَات بمدينة ظَفَار من أجل سعادتهم" (47).

وسط الجزيرة العربيّة، حول مكّة، عالَم الآلهة غير معروف كما هو الحال مع آلهة جنوب الجزيرة: ففي هذه المنطقة الاقلّ تَطوُّرًا قدّمت لنا النُّقوش المعروفة قليلا جدّا من الوثائق، والأدهى من ذلك أنّ الأدب الإسلامي قام إمّا بفسخ أو مسْخِ عالم الآلهة الذي سبق مجيء الإسلام. ومعرفتنا به تنحصِر بصورة أساسيّة في كتاب يَتيم هو كتاب الأصنام لابن الكَلْبي الذي لا يذكر أيّ إله يحمل اسم "المُطَّلب". ويبدو أنّ هذا الكاتب كان يعرف جيّدا معنى هذا الإسم، كما كان يدرك تماما أنّه يمسّ هنا حقْلا مليئًا بالألغام. أَلَم يُؤْخَذ عليه تجرُّؤُه حين ذَكَّر في كتابه بأنّ محمّد كان قد قدّم ضحيّة وهو بعْد على دين قريش:
"وقد بلَغَنا أنّ رسول الله صلّى الله عيه وسلّم ذَكَرها (أي العُزَّة)، فقال: لقد أَهْدَيْتُ للعُزَّى شاةً عَفْراءَ، وأَنَا على دِينِ قَوْمي" (48). كما جاء أيضا عند ابن الكلبي: "وكان لأهل كلّ دارٍ من مكَّةَ صَنَمٌ في دارِهم يعبُدونه. فإذا أراد أحدُهم السَّفَر، كان آخِرَ ما يَصنَعُ في مَنْزِلِه أنْ يَتَمسَّح به، وإذا قَدِم من سَفره، كان أوَّلَ ما يَصْنَعُ إذا دخَلَ منزِله أن يتمسَّحَ به أيضا" (49).

منذ فترة وجيزة وقع اكتشاف قَوائِم أخرى بخصوص يَثْرِب (50). "طَلب" أو "مُطَّلب" هما صيغتان من الجذر السّامي "ط/ل/ب". نجد الصيغة الأولى في جنوب الجزيرة العربيّة بشكلها البسيط. أمّا في وسط الجزيرة فقد وقع إضافة الحرف المُتّصل "مُ" الذي يسمح بتركيب اسم الفاعِل واسم المَفْعول.

ولكنّ هذا الجذر نجده أيضا في تركيبة أسماء أخرى مثل اسم عمّ محمّد وحاميه "أَبُو طَالِب"، ولكن في تلك الحالة هو أب لشخص اسمه "طالِب" الذي هو ابنه "علي" كما يقول التقليد الإسلامي. وقد أعطى هذا الجذر كلمات متداولَة إلى اليوم في لغات عديدة من لغات الشعوب الإسلامية من التّركيّة إلى الفارسيّة مرورا بالأفغانيّة أين أعطى "طَلِبان" المتطرّفين ذائعي الصّيت. وقد فهِم المسلمون هذا الاسم بمعنى "طلب المعرفة الدّينيّة"، فالطالب هو الضالع في علوم الدّين والشّغوف في طلبها. ولكي نعود إلى إلَهِنَا الجديد، فإنّ المُطَّلب يُمكن أن يُفْهَم بمعنى "الشخص المطلوب"، "الشخص الذي ننتظر منه شيئا مّا" وذلك بكلّ ورع وخشوع. وهذا الاسم يتماشى بصورة جيِّدة مع إطار نظام دينيّ تَعَاقُدي يكون فيه من الطّبيعي جدًّا أن يَطْلُب المرْءُ من قوّة إلهيّة أن تُغدِق عليه نِعَمًا كثيرة. وللتَّذكير كانت قريش، كما رأينا، تُطْلِق على عبد المُطَّلب لقب "الفَيْض، لسماحته وسخائِه".

إنّ وجود إله مثل هذا في مكّة في بداية القرن السّابع ميلادي، لا يُشكِّل في حدّ ذاته أمرا مُهينًا أو خارجًا عن المألوف. فقد قيل أنّ الكعبة كان يُحيط بها 360 صَنَمًا. كما كانت هناك مئات الأصنام خارج الحرم، داحل وخارج المنازل:"واشتهرت العرب في عبادة الأصنام؛ فمنهم من اتَّخَذ بيتا، ومنهم من اتَّخَذ صَنَمًا، ومن لم يَقْدِر عليه ولا على بناء بيت، نصب حَجَرًا أمام الحَرَم وأمام غيره، ممّا استحسن، ثمّ طاف به كطوافه بالبيت. وسمَّوْها الأنصاب" (51). ولكن هنا، الأمر يتعلَّق بصنم خاصٍّ بالعائلة القريبة من محمّد. وبذلك تقترب فظاعة ودنَس الجاهليّة أكثر من الشّخصيّة النبويّة.

وباختصار، إنّ نوابغ المسلمين، وحتى يتجنّبوا وجود اسم يحمل إِلَهًا قد يتسبّب في تلويث سلسلة نَسبِ النّبيّ الزّكيّة، خلقوا شخصيّة، ولكنّها شخصيّة كانت تمتلك كلّ مواصفات آلِهة قديمة. إلهٌ في نسب محمّد، بإِسمه مباشرة أو بكنية تحمل إلهًا، كان هذا من شأنه أن يُحدِث تشويشًا جسيمًا، ولذلك كان من الواجب تدارك الأمر. لقد انْطَلَت هذه الحيلة على عامّة المسلمين طيلة قرون لأنّها كانت أيضا تقوم على التخويف والتّرهيب: ولكن، قد آن الأوان اليوم للخوض في هذه المسائل بحرّية دون تحفّظ أو وجل.


(انتهى)
_____________

الهوامش:
* هذا النّص صدر بالفرنسيّة تحت عنوان:

« AL MUTTALIB : la présence d’un dieu dans la famille de Mohomet »
Par Gilles COURTIEU
Professeur à l’Université de Lyon III

27) الطّبري، الأخبار من 1089 إلى 1091.
(28) الطّبري، نفس المصدر: "فكانوا أوّل من أخذ لقريش العِصَم [الحِبال، ويُراد بها العهود]، (...) فأخذ لهم هاشم حَبْلاً من ملوك الشأم الرّوم وغسّان، وأخذ لهم عبد شمس حبلاً من النّجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السّبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نَوْفل حبْلاً من الأكاسِرة، فاختلفوا بذلك السّبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المُطَّلب حبلاً من ملوك حميَر، فاختلفوا بذلك السّبب إلى اليمن، فجبَّر الله بهم قريْشًا، فسُمُّوا المجبِّرين".
(29) نفس المصدر.
(30) نفس المصدر.
(31) ابن سعد، الطبقات، ص 62.
(32) يعلِّق مونغومري واط في الصّفحة 11، هامش 12، من الطّبعة الإنجليزيّة لتاريخ الطبري قائلا: "من الواضح أنّ هذه القضيّة وقعت بعد وفاة المُطَّلب عندما أصبح نوفل هو آخر من بقي على قيد الحياة من ولد عبد مناف...".
The History of al-Tabari, vol. V Muhammad at Mecca, p. 11.
ويكتب ابن سعد، لتوطيد اللُّحمة بين المّطّلب وعبد المطَّلب، مُضيفًا: "فبنو هاشم وبنو المطَّلب يَدٌ واحِدةٌ إلى اليوم، وبنو عبد شمس وبنو نوفل ابنا عبد مناف يدٌ واحدةٌ إلى اليوم". الطبقات، ص 61.
يبدو أنّ مؤلِّف المقال بالفرنسيّة اعتمد في فهمه لهذه القّصة على مونتغومري واط. ولكن هذه الأخير فهمها خطأ. فالخلاف ليس بين المُطَّلب وأخيه نوفل ولكن بين نوفل وعبد المطّلب ابن أخيه وذلك لقول شيوخ قريش، لمّا جاءهم عبد المطّلب يريد منهم التّدخل لكي يردّ له عمّه ما اغتصبه منه: "قالوا لسنا بداخِلين بينك وبين عمِّك"، عندها كتب عبد المطّلب إلى أخواله يطلب نجدتهم فأنجدوه وقدموا في ثمانين راكِبًا يقودهم أبو أسعد بن عدس النّجّاريّ، ويُكمِل الطّبري الحكاية: "فأقبل حتّى وقف على رأسه [وكان نوفل جالس مع شيوخ قريش] ثمّ استلّ سيْفَه، ثمّ قال: وربِّ هذه البَنِيَّة [البناء = الكعبة] لَتَرُدَّن على ابن أُختِنا رُكْحَه أو لأَمْلأَنَّ منْكَ السيف، قال [نوفل]: فإنّْي وربِّ هذه البنيّة أردُّ رُكْحَه...". ج 2، ص249، خبر 1085.
(33) ابن سعد، المصدر نفسه.
(34) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 68.
(35) المسعودي، مروج الذّهب: "وقُريشٌ خمسةٌ وعشرون بَطْنًا، وهم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو عبد المُطَّلب بن عبد مناف...".
(36) صحيح مُسلم، الكتاب 1، ص 115-114، دار طيبة، 2006.
(37) سيرة ابن هشام، المصدر، ص 379.
(38) سيرة ابن هشام، "خبر الصحيفة وائتمار قريش بالرسول"، 187.
(39) موطّأ مالك، ج 5، حديث رقم 309 "ما جاء في صلاةِ القاعِد في النّافِلة".
(40) الطبري، تاريخ، عدد 969.
(41) سيرة ابن هشام، المصدر نفسه، ص 160.
(42) للحصول على قائمة الآلهة وآثار وجودهم، أنظر الموقع الإلكتروني: http://www.islam-documents.org
خصوصًا القسم 4 الذي يجمع الوثائق ويقدّمها بشكل مقبول: «Dictionnaire des dieux arabes»
وقد حاولت الدخول إلى هذا الموقع ولكن يبدو أنّ قراصِنة الأنترنيت المُتعصِّبين مرّوا من هنا وعطّلوه بالكامل ولم يعد بالإمكان استغلاله والاستفادة منه إطلاقا.
(43) أنظر:
M. Lecker, « Idol Worshop in pre-islamic Medina (Yathrib) », Le Museon, 106, 1993, p. 331-346.
(44) A. Jamme Sabaean and hasaean in-script-ions from Saudi Arabia, Rome, 1966, p. 273.
(45) بخصوص قبيلة حَمْدان، أنظر: G. Ryckmans Les religions arabes pré-islamiques, Louvain, 1971, p. 39.
(46) A.F.L. Beeston, « The Talab lord of pasture texts », BSOAS 19/1955, p. 154-6.
(47) أنظر:
Ch. Robin, L’Arabie antique de Karil’îl à Mahomet. Nouvelles données sur l’histoire des Arabes grâce aux in-script-ions. 1992, p. 143.
كما هو معروف عندنا اليوم، وكما كان فعلى مرّ الزمن، اليد اليُمنى هي رمز الحماية. واليد ترمُز أيضا إلى نشاط الإنسان ولسانه يرمز إلى علاقاته مع الآلهة والمجتمع الذي يعيش فيه. وقد جاء في كتاب الأصنام ما يلي: "وكانت لقريش اصنام في جوف الكعبة وحولها. وكان أعظَمُها عندهم هُبَل. وكان فيما بلغني من عَقيقٍ أَحمَر على صورة إنسان، مَكْسورَ اليَدِ اليُمنَى. أدْرَكَتْه قُرَيش كذلك، فجعلوا له يَدًا من ذَهَبٍ"، ص 26. ألا يُذكِّرنا هذا بشدّة بالإله الحِمْيَري "وهب طلب بن هاشم" الذي أهدي يَدَه اليُمْنى إلى سيّده!
(48) ابن الكلبي، كتاب الأصنام، ص 19.
(49) المصدر نفسهن ص 33.
(50) M. Lecker, « Idol Worship in pre-islamic Medina (Yathrib) »
(51) كتاب الأصنام، ص 33.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العربان والتراث البدوى
على سالم ( 2016 / 9 / 2 - 05:19 )
استاذ ناصر , من المؤسف ان يمتد عمر الاسلام الى اكثر من الف وربعمائه عام وانا حزين لهذه الكارثه , السبب الرئيسى فى هذا هو توارث هذه الافكار الميتافيزيقيه البدويه الاجراميه جيل بعد جيل وايضا سيف التكفير المسلط على الرقاب والخوف من الخروج عن القطيع , يبدو ان المعادله سوف تختلف بعد ثوره المعلومات والنت والفضائيات , الاسلام يعيش على الارهاب والتهديد وقطع الرقاب , لن يستطيع الاسلام الصمود والبقاء ازاء المعطيات المستجده , رحله النهايه لهذا الاسلام قد بدأت بالفعل بعد ان اصبحنا نعيش فى قريه صغيره


2 - الحيوانات التافهة تصنع التاريخ
ناصر بن رجب ( 2016 / 9 / 2 - 13:45 )
شكرا أستاذ علي على المرور والتعليق. نعم، معك حقّ، تخلّص العالم من خرافات الأديان بدأ مع أوروبا النّهضة وبدايات الإكتشافات والإختراعات العلميّة. وسوف يستمرّ هذا المسار الجارف كحتميّة تارخية لتطوّر المجتمعات والأفكار. والإسلام ليس بمنآى عن هذا المسار الذي سوف يخلّص البشرية من كلّ هذه الخرافات التي لم تعد تنطل على من له عقل سليم يفكّر على غرار -الحيوانات الغربيّة التافهة-، كما قال الأخ المعلّق على الفيسبوك، والتي هي اليوم، أحبّ أم كره الحاقدون الراقدون في سباتهم العميق، من يصنع التاريخ ويقود البشرية في كلّ ميادين العلم والثقافة والفنّ والتكنولوجيا. أمّا -الحيوانات الأخرى الذكيّة- الموجودة عندنا فهي لا تعرف غير السّب والشتم والعيش على فُتات ما يجود به الغرب. المثل الشعبي يقول ما مفاده -العجوز يحرفها التّيار العارم وهي تضحك فرحًا وتقول: هذه السّنة سيكون الحصاد جيّدا-. لا بدّ لهذه الشعوب أن تستفيق يوما وتخلع عنها جلابيب هذه المعتقدات التي عفا عنها الزمن.

اخر الافلام

.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-


.. #shorts - 14-Al-Baqarah




.. #shorts -15- AL-Baqarah


.. #shorts -2- Al-Baqarah




.. #shorts -20-Al-Baqarah