الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الاقتصاد السياسى إلى الاقتصاد الخالص

سمير أمين

2016 / 9 / 7
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


هناك مادة غريبة الشكل أصبحت موضوع التدريس فى جميع جامعات العالم المعاصر، عُنوانها «علم الاقتصاد» ومجال أبحاثها تلك المظاهر التى يتجّلى من خلالها وجه هام للحياة الاجتماعية الحديثة : الأجور وتطوّرها، معدل نموَ الانتاج، حجم ونسبة الاستثمارات فى بناء قدرات إنتاجية، التصدير والاستيراد، الأسعار والتضخّم...الخ...

فلن يندهش احد من تلك الأهمية التى يعلَقها الجمهور على هذا العلم حيث ان الظواهر المذكورة تتحكم فى الحياة اليومية للجميع. والنتيجة ان الطلب على دراستها العلمية أصبح مرغوبا ومرحبًا به حتى صار الجمهور ينتظر من علماء الاقتصاد ان يقدَموا تفسيرا مقنعا للأوضاع بل وحتى اجابات لتساؤلاتهم عما يجب اتخاذه من اجراءات لاصلاحها اذا لزم الامر ودفع التطور الى الأفضل. فيضفى ذلك لتدريس علم الاقتصاد أهمية ذات أولوية قصوى شأنه شأن التعليم العام والصحة والبحث فى علوم الطبيعة وفى تطوير التكنولوجيات. فيقال بهذا الصدد ان ضمان صلاحية وفعالية حكومة الاقتصاد لا تقل أهمية عن توفير الصحة الطيبة ووسائل المعيشة الحديثة. ويقول الجمهور : الوطن فى حاجة لا غنى عنها لتوفير خبراء الاقتصاد اصحاب الكفاءات، وعلى الحكومة ان تعبئهم لضمان صلاحية ادارة المجتمع.

لن أناقش فى هذا المقال البديهيات، بما فيها من بعض التعبيرات الساذجة. سوف أركَز فى تحليلى على سؤال اخر هو : هل وفّى علم الاقتصاد بوعوده؟

بل واكثر من ذلك : هل يستطيع هذا العلم ان يفى بوعوده على أساس المنهج المتبع فى أبحاثه؟ واذا كانت اجابتى بالنفى ( وهى كذلك ) فما هى الأسباب التى أراها مصدرا لفشله؟

اتحدث هنا عن «علم الاقتصاد» كما هو مطروح فى التعليم الجامعى المعاصر. واقصد ذلك العلم الذى نشأ تدشينه فى بعض الجامعات الامريكية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ثم غزا أوروبا الحديثة انطلاقا من سبعينيات القرن الماضى حتى اصبح الان ينفرد فى التعليم الجامعى على صعيد عالمي.

كان هناك قبل انتصار «علم الاقتصاد» هذا مادة أخرى يجرى تدريسها، وكان عنوانها « الاقتصاد السياسي».

فكان الفكر الفلسفى السائد فى أوروبا والمصاحب لتكوين الحداثة الرأسمالية الطابع انطلاقا من أواخر القرن الثامن عشر يقوم على التمييز بين مجال علوم الطبيعة ومجال علوم « الانسانية» - التى كان يطلق عليها لهذا السبب بالتحديد اسم « العلوم الاخلاقية والسياسية». علما بان مصطلح « السياسي» فى القرن التاسع عشر كان يحمل معنى أوسع من معناه المعاصر؛ فلم يُختزل مجاله على ظواهر ادارة سلطة الحكم بل كان مرادفا للمصطلح المعاصر «المجتمعي». وبالتالى كان يفهم دراسة ظواهر الحياة الاقتصادية على انها جزء لا يتجزأ عن دراسة أشكال تشغيل الآليات المجتمعية بجملتها. ومن هنا الاسم المختار لعنوانها وهو «علم الاقتصاد السياسي».

اما علم الاقتصاد الحديث المعنى هنا فيدعى انه «لا سياسي»، أى انه «موضوعي»، غير منحاز للنظريات الايديولوجية واستراتيجيات العمل السياسي. ولذلك يضاف الى عنوانه صفة علم الاقتصاد الخالص»، علم طهّر نفسه من تلوَث السياسة!

على سبيل المثال يفتتح «سامويلسون» كتابه المشهور للتدريس والذى يستخدم فى جميع كليات العالم لطلبة السنة الأولى فى علم الاقتصاد، بما مفاده الآتى :

يسعى هذا الكتاب الى رصد الظواهر الاقتصادية، ثم، على أساس تحليلها، استخراج قوانين «موضوعية» (التشديد من عندي) تفرض عملها على المجتمع فرضا بصورة مستقلة عن ارادة الناس!

ما هو المنهج المتبع فى رصد الظواهر المعنية وتحليلها واستخراج تلك القوانين الاقتصاديةالتى تتحكم فى المجتمع؟

ينطلق علم الاقتصاد الخالص من تعريفه للمجتمع واختزاله على مجموع الأفراد الذين يتكون منهم. ثم يضيف تعريفا للفرد المعنى بأنه « انسان اقتصادي» يحكم سلوكه بالاختيار الرشيد لما يخدم مصلحته.

لا يقوم هذان التعريفان على مستوى عالٍ من التجريد فحسب، فهما تعريفان غير واقعيين، بدون جدوى للتوصل الى ما يقرب من معرفة الواقع القائم. اذ يعلم الجميع ان المجتمع جسم مُرَكب وان عناصر تركيبه عديدة ومختلفة. فالانسان لا يرى نفسه فقط بصفته مستهلكا بل ايضا بصفته مواطنا فى دولة معينة، ومنتميا الى طبقة او فئة اجتماعية محددة، ولعله يرى نفسه ايضا بصفته عضوا فى جماعة معينة، دينية او لغوية او فكرية او سياسية. لذلك كثيرا ما يتحدث مستخدما تصريف الفعل بالجمع، فيقول « مصلحتنا» قاصدا مصلحته بصفته مواطنا او عاملا او صاحب أموال...الخ...

كانت علوم المجتمع القديمة ( العلوم الأخلاقية والسياسية بما فيها علم الاقتصاد السياسى ) تعترف بالبديهيات وتسعى الى عمل حساب لها فى محاولة تفسيرها للواقع المرّكب بما فيه أسباب خيارات مختلف الأطراف المكونة للمجتمع المدروس. وبالتالى كانت هذه العلوم تسعى الى ان تكون علمية بالمعنى الصحيح والكامل حيث انها انطلقت من ملاحظة الواقع القائم بالفعل.

أما التعريف الذى يعتمد عليه علم الاقتصاد الخالص فهو تعريف غير علمى من الأصل. أقول انه تعريف ايديولوجى خيالى بحت. ولذلك أقول ان هذا الخيار المنهجى هو مصدر عبث اعمال علماء الاقتصاد الخالص.

فيحمل علم الاقتصاد الخالص مغزيَ ملتبسا : أينوى ان يطرح صورة للواقع القائم الناتج عن تفاعل التصرفات الفردية المعنية بحيث ان تكون هذه الصورة مقاربة للحقيقة؟ ام يسعى الى هدف آخر ألا وهو اقتراح نموذج معيارى لما يجب ان يكون المجتمع المثالي، المكوّن من أفراد دون توسط انتمائهم الى طبقات وجماعات وأمم...الخ...؟

ان محاولة اخفاء المشروعية على نقطة الانطلاق الوهمية هذه تفتح الباب لوابل من الخطب المدهشة. فيضطر فون هايك على سبيل المثال ( وهو المرشد الروحى للاقتصاد بين الليبراليين فى عصرنا ) ان يعترف بوجود أمم وشعوب وطبقات. ولكنه ينظر اليهم ك»بؤر لاعقلانية»!

الكائن البشرى هو بالطبع حيوان عقلانى ويمكن على الأرجح تفسير تصرفاته، حتى أكثرها غرابة. بشرط ان توضح العقلانية المعنية فى اطار يتيح آلياتها. ولكن مذهب علم الاقتصاد الخالص يتجاهل تعدد أوجه العقلانية التى يدعو الى تناول مغزاها فى تفسير تصرفات العاملين فى مجال الساحة الاقتصادية. حتى يخترع لها وجها وحيدا الا وهو تصرف المستهلك فى اختياره بين سلع مختلفة معروضة للبيع. فالانسان «النموذجي» فى هذه النظرة المبتورة هو انسان مستَلب، بمعنى انه يرى فعلا فى آليات ما يبدو له على انها «قوانين الاقتصاد» فعل قوى موضوعية تفرض فعلها عليه فرضا. حتى يقبل هذا البشر ان يظل دون حول، عاجزا عن ان يساهم فى تشغيل المجتمع وبالتالى ان يصبح صانع تلك القوانين التى تتحكم فى مسيرة حياته.

خلاصة القول ان مذهب علم الاقتصاد الخالص يتجاهل تماما آلية الاستلاب السلعى وهى ظاهرة حديثة بزغت مع تكوين الرأسمالية وخلاصة لها.

لا ينكر احد الحقيقة البديهية بأن الأفراد يشكلون العناصر القاعدية لأى مجتمع. ولكن لأى سبب يجب ان نقبل فكرة ان المجتمع الحقيقى هو ناتج التصادم المباشر بين الأفعال الفردية وحدها؟ أليس المجتمع بناء اكثر تعقيدا دون قياس، تتصارع فيه طبقات وأمم ودوّل وشركات ومشاريع مجتمعية سياسية وأيديولوجية؟

سأضرب هنا مثلا هزليا : هل يمكن تصوَّر نوع من الطب يريد اعادة بناء وظائف الجسم البشرى على قاعدة عمل الخلايا وحدها - وهى العناصر الأولية - ويتجاهل وجود أعضاء مثل القلب والكبد والدماغ مثلا؟ لحسن حظنا لم يخترع الأطباء « الطب الخالص» على غرار الاقتصاد الخالص.

ثم يؤول تجاهل الطابع المرَكب للمجتمع الى اعتبار تلك «القوانين» التى يستخرجها علم الاقتصاد الخالص من تحاليله لما يبدو له «الواقع» على انها قوانين ذات طابع أبدي، تحكم مجتمعات الماضى والحاضر، حيث ان مجتمع الماضى كان يتكون هو الآخر من أفراد كما هو الشأن عليه فى الحاضر.

فيتجاهل هذا العلم تنوَع أشكال تنظيم المجتمعات المتتالية عبر التاريخ. ولا يرى فرقا بين نظام المجتمع الأوَلى ( وادارة شئونه الاقتصادية ) القائم على هيمنة القرابة (العائلية والقبلية)، والمجتمع الاقطاعى («الخراجي» فى النظرية التى قدمتها أنا بهذا الصدد) القائم على الحكم المطلق مدعم بتأويل مناسب للعقائد الدينية، والمجتمع الرأسمالى الحديث واقتصاده. لدرجة ان كلمة «الرأسمالية» لا وجود لها فى كتابات علم الاقتصاد الخالص. يقوم الاقتصاد الخالص باسقاط تعسفى لظواهر الحاضر على ماض كان يتجاهلها.

ان اختزال منهج الاقتصاد الخالص على تحليل تصرفات هذا الانسان الاقتصادى المبتور ومحاولة اكتشافه قوانين الاقتصاد الأبدى على أساسها يغوص بِنَا فى هروب الى الأمام لا نهاية له ودون جدوي. فبما ان الانسان كائن ذكى وعاقل، فانه يحدد تصرفاته وفق ما يتصوره من ردود فعل الآخرين. لذلك على الاقتصاد الخالص ان يبنى نموذجه لا على أساس مقتضيات عقلانية فورية ومباشرة ( اشترى اكثر اذا انخفض السعر) ولكن عقلانية توقيتية تتوسط فى حسابها ردود فعل الآخرين (امتنع عن الشراء الفورى اذا كنت أظن ان السعر سيستمر فى الانخفاض).

وهنا وصلنا الى كشف مدى «شعوذة» هذا «العلم»

اذ يستطيع الباحث ان يتخيل ما يشاء فيما يتعلق بالتوَقعات المعنية. علما بأن النتائج المستخلصة بعد اعتبار التوقعات المذكورة وادخالها فى اطار نموذجى هى عينها منوطة بمضمون التوقعات المتخفية. «فالنموذج» قادر على ان يثبت ما تشاء ان تثبته! ويمكن دائما مواجهة نموذج يأتى بنتائج لاترضيك بتخيَل نموذج آخر قائم على توَقعات مختلفة سيؤدى الى نتائج أخرى قد تكون عكسية! العملية شبيهة يما يقدمه « قارئ الطالع» : شعوذة.

على هذا العلم ان يفكّ لغزا محيّرا : كيف يمكن اثبات ان تفاعل تصرفات الأفراد «العقلانية» بالمعنى المذكور من شأنه ان يحقق توازنا عاما أى نظاما واحدا قابلا للتوصيف، بمنظومة أسعاره وتوزيع الدخل ومعدل النمو...الخ...؟

فاذا فشل المنهج المتبع ان يثبت ذلك لكان معناه انه عاجز عن تفسير الواقع. فالأطروحة التى تفسر كل شىء وعكسه لا تفسر شيئا.

لم يطرح علم الاقتصاد السياسى على نفسه هذا التساؤل، ولم يبحث عن حالة استقرار قائم على انجاز توازن عام ثابت، بمعنى تعادل الطلب والعرض على مختلف المستويات. فكان رواد هذا العلم ( آدم سميث وريكاردو) ومن بعدهم «ماركس» ينظرون الى المجتمع على انه فى تحرَك وتحوَّل دائم لا يميل الى حالة استقرار ثابت،. فتنتقل المنظومة من حالة «الف» الى حالة «با» ثم الى حالة « ج»بلا نهاية. فالتساؤل هو حول السمات التى تتصف بها حالة «الف» ثم بيان القوى التى تدفع التطور من حالة «الف» الى حالة «با».

ويشارك المجتمع والكون فى هذه السمة : الحركة الدائمة.

فلا يتساءل عالم الكون ـ أكان حول الكون بجملته ام حول قسم منه مثل الكرة الارضيّة - عن امكان وشروط التوصل الى حالة ثابت وهمي. بل اكتفى بوصف سمات المراحل المتتالية فى الحركة الدائمة للكون المدروس.

لقد اثيرت اشكالية اكتشاف شروط انجاز التوازن الثابت فى مجال الاقتصاد بعد «ماركس». وذلك من اجل اثبات الطابع الدائم للنظام الرأسمالى بصفته منظومة اسواق معمَمّة، واستبعاد أطروحة «ماركس» القائمة على بيان تلك التناقضات التى يستحيل حلها فى اطار النظام، وبالتالى اعتباره نظاما تاريخيا له بداية ولا بد ان يكون له نهاية تتيح حل تناقضاته من خلال اختراع نظام جديد، آخر وأكثر تطورا.

لقد قام «والراس» بأولى المحاولات (فى أواخر القرن التاسع عشر) التى تسعى الى اثبات ان فعل الاسواق المعمَمّة يُنجز توازنا عاما بمعنى تفاعل الطلب والعرض لكل من السلع المنتجة وعوامل الانتاج فى العملية. و... فشل « والراس»، بل اعترف بفشله. اذ توصل الى نتيجة غريبة غير متوقعة منه أصلا. والأدهى ان التوازن لن يتحقق من خلال فعل المنافسة التلقائية فهو مشروط بتواجد سلطة مركزية (شخص اطلق عليه «والراس» اسم «مدير المزاد») يعلن النتيجة الصادرة عن حلّ مسبق لمنظومة المعادلات التى تعبر عن تداخلات المشتروات والمبيعات لكل سلعة على حدة. ثم - وبعد ذلك الاعلان - قيام أطراف الأسواق بالشراء والبيع بالأسعار المعلنة!

ثم أُنسِيَت اعمال «والراس» حتى مجيء «سرافا» فى عشرينات القرن العشرين وعاد الى معالجة نفس الاشكالية بأدواتٍ رياضية متطورة. و...فشل «سرافا». وقد تناولتُ هاتين المحاولتين العظميين وتوضيح أسباب فشلهما فى كتابى المعنون « قانون القيمة المعولمة». فلن ارجع هنا الى تفاصيل مناقشتى بهذا الصدد.

ثم ظهر مذهب الاقتصاد الخالص فاضطر هو الآخر ان يثبت انجاز التوازن العام فى منظومة أسواق معمَمّة، وذلك من خلال فعل المنافسة الحرة فى تلك الأسواق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سلسلة ممهمة من عالم الإقتصاد السياسي
حميد خنجي ( 2016 / 9 / 7 - 13:29 )
شكرا لمن يختار هذه السلسلة لأحد أهم الاقتصاديين العرب (سمير أمين). ولكن أين المعنيين والمهتمين والمعلقين الجادين؟

اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024