الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شتات يأبى التشتت – قراءة في رواية -شتات نينوى- للروائية العراقية غادة صديق

كلكامش نبيل

2016 / 9 / 14
الادب والفن


لم أفارق الكتاب - الصادر عن دار الفارابي في حزيران 2016 - منذ أن بدأت القراءة، ذلك الكتاب الذي إختزلت فيه الروائية غادة صديق حكاية العراق المعاصر من خلال حديثها عن الموصل، مدينتها أم العلا كما تحب تسميتها، فبدأت الحكاية من العصر الملكي وحتى حقبة الظلام الداعشي. تبدأ الحكاية بالحديث عن أسرة أحمد وشقيقه اللدود عباس الذي إختارت غادة أن يكون أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر. ستقرأ عن هذه الأسرة وجيرانها، ومحلتهم، فتأخذكم في رحلة عبر الزمكان، فتحب الشخصيات وتحزن لرحيلها تباعاً.

في الرواية شوق وحنين لعراق الماضي، عراق السلام والأمن، وحزن مبكي على ما آل إليه وضعه الحالي. تختصر الرواية كل شيء، حكاية وطن بأكمله، وتصور تنوعه الذي بناه التاريخ تباعاً في سطورها التي تمتاز بلغة مؤثرة وجميلة. سيحب هذه الرواية كل من يشتاق لوطنه، ويفتقد ماضيه الجميل، وسيبكي – كما بكيت – كثيراً، لكنه لن يتركها بالتأكيد.

في الرواية أيضاً، كنايات عن الصراع بين الحداثة والرجعية، من خلال الحوارات بين أحمد – الذي يميل لأفكار اليسار – وشقيقه عباس – الذي أجبره العمى في بيئته المنغلقة على أن يختار ما بين الشحاذة أو قراءة القرآن، لأن خيار الموسيقى غير متاح في بيئته – فنقرأ عن الإنسان الحقود الذي أصبحه عبّاس وكرهه لشقيقه ومقاطعته به ووشايته به بعد سنين طويلة. فضلاً عن محاولاته لعزل إبنة خال والدته "زينة" ومنعها من الدراسة، لكن تأثيره كان محدوداً في العراق ذو الطابع العلماني في فترة ما قبل التسعينات. تزخر الرواية أيضاً في مناقشات تدعو للتسامح وإختيار أحمد لصداقته بخضر مفضلاً إياها على تشدد أخيه عباس، فيما قاد الظلام الفكري عباس لمقاطعة شقيقه والتبرؤ منه على مدى أربعين عاماً لدرجة أنه رفض دخول منزل شقيقه "غير الطاهر" حتى عند وفاة والدتهما.

تتكلم الرواية عن محلة الشيخ فتحي ورمزيات ذلك المكان وألم فقدانه، وتقرأون فيها تفاصيل حقيقية عن معاناة العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الكويت، وملجأ العامرية، والحصار الإقتصادي، ومعاناة سنوات الإرهاب بقصصه المرعبة في السنوات الأخيرة. ستقرأون عن أسباب تنامي الإرهاب السياسية والإجتماعية وكيف ساهم الجميع في قتل هذا الوطن المنكوب بالجيران والأبناء. الرواية تتكلم عن الجميع وتدينهم لأن ولاءها الأول هو العراق وشعبه بكل أطيافه. سيزداد وقع الألم والفراق في نهاية الرواية، وأرجح أن دموعكم لن تتوقف وأنتم تقرأون عن تهجير خضر أول مرة، وتهجيره للمرة الثانية بعد إحتلال داعش لبغديدا "الحمدانية"، وستقرأون قصص مرعبة وحقيقية عن معاناة الأيزيديين، ولكن الكاتبة تصر على أن المختطفات قد نقلن إلى الرقة وتم توزيعهن بين الإرهابيين ولم يكن هناك مزاد علني لبيع الرقيق. وسنقرأ عن المعاناة القاسية لتلك الفتيات الجميلات في مستشفى إبن سينا. وههنا ستكرهون عباس أكثر عندما تقرأون عن دوره مع التنظيم الإرهابي، وتعرفون عندها بأن الكلب "سبع" أفضل من ذلك الشقيق الشرير بكثير. تدين الكاتبة كل ما قامت به الأحزاب – بمختلف مشاربها – ودورها في تخريب الوطن، وإنتشار الفساد بقصص واقعية نعرف جميعاً بحدوثها لكن أحداً لا يتكلم عنها.

إن تقنية السرد مبتكرة وتشوق القاريء لأنه سيكتشف أموراً جديدة في النهاية لم يكن ليتوقعها، كما أن اللغة مناسبة وسهلة لكنها مؤثرة جداً وهو السبب الذي جعلني أفسد بعض الأوراق بسبب الدموع على دمار العراق، وفراق الأصدقاء والأحبة، وشتات وطن وشعب بأكمله. هنالك روحانية في الرواية ممثلة بقصة دفن أحمد حياً – وهي قصة حقيقية كما علمت من حواري مع الكاتبة – فضلاً عن شخصية عزيز. ويكمن ذكاء الكاتبة في تصوير كل ما هو مثير للجدل وقوي على لسان الأطفال الأبرياء والأشخاص شبه المجانين لتمنح الرواية طابع الغموض والتشويق.

تستذكر الكاتبة الموصل – مدينة للتعايش – وتصر على أن تحتفظ بذلك، من خلال صداقة أحمد وخضر وبقاءها معاً للنهاية، وأن التهجير نفسه لم يفرقهما، قبل أن يجتمعا في قبرين متجاورين تحت سماء تركيا – في منفاهمنا الذي حرمهما من التراب والسماء الأثيرين لديهما. تجاور الهلال والصليب في تلك البقعة وجاء حاخام ليصلي على القبرين، فهزمت صداقتهما الحقيقية حروب السماء على الأرض.

ختاماً، إنها حكاية وطن بأكمله، وحكاية مدينة سلبوها هويتها وكيانها وأهلها الأصليين، إنها حكاية تغصّ بألم الواقع وألم الحنين للماضي. لم أكتب هنا عن كل الرمزيات القوية والذكية التي وردت فيها لكي لا أحرمكم متعة القراءة. إنها رواية بلسان عراقي حقيقي لا يروق له كل من مرّ على حكم هذه البلاد، لا قديماً ولا حديثاً، لأن العراقي الحقيقي المخلص للوطن وحده سيتمكن من تحديد دور كل هؤلاء في خراب وطنه. إقرأوا عن قصة العراق النقي ومحاولات تشويهه، ولا تنسوا المناديل لأنكم حتماً ستبكون وسط إبتساماتكم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق