الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/2

حسني إبراهيم عبد العظيم

2016 / 9 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية 2/2


ثانيا: نماذج من الفكر الاجتماعي في الحضارة الرومانية:


لم ترق النهضة الفكرية إلى مستوي ما وصل إليها اليونانيون, وإنما كانت قاصرة علي ترجمة الرومان لبعض الآثار الفكرية والأدبية لدى اليونانيين, وقد ظهر من بين الرومان بعض النوابغ من المفكرين والشعراء والخطباء والمؤرخين, وسوف نتناول بإيجاز اثنين من هؤلاء النوابغ المعروفين في تاريخ الفكر الاجتماعي, وهما : "لوكريتوس , وشيشيرون".

أـ كاروس لوكريتوس:

يعد لوكريتوس (99 ـ 55 ق.م) واحداً من أشهر المفكرين الرومان, وقد تأثر بالمدرسة الأبيقورية اليونانية, التي ترى أن اللذة هي أساس الأخلاق, فاللذة وحدها هي غاية الإنسان, وهي وحدها الخير, والألم وحده هو الشر الذي يفر الإنسان منه ويتجنبه, والفضيلة ليست لها قيمة ذاتية, وإنما قيمتها فيما تشتمل عليه من اللذة, ولا تقتصر اللذة على الناحية الحسية, وإنما تتضمن اللذة العقلية أيضاً, وأن خير لذة يتطلبها الإنسان هي هدوء البال وطمأنينة النفس.

كان لوكريتوس شاعراً كبيراً, وله كتاب يحوي أشعاره وأفكاره الاجتماعية عنوانه " في طبيعة الأشياء" In the nature of things الذي ترجم إلى الإنجليزية عام 1951 يتكون من ستة فصول متضمناً العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية التي اصطبغت بصيغة الحادية واضحة.

قام بدراسة مقارنة للشعوب البدائية عن طريق ما كان ينقل عنها شفوياً, وما كتبه الباحثون والفلاسفة القدامى عنها, وقد تمكن من خلال هذه الدراسة أن يخرج بنظرية عامة عن التطور الاجتماعي, وفكرة بقاء الأصلح، ويري بعض علماء الأنثروبولوجيا أن لوكريتوس استطاع أن يحدد المراحل التاريخية التي مر بها المجتمع الإنساني بداية من العصور الحجرية, ثم عصور المعادن المشتملة على عصر البرونز ثم عصر الجديد.

كما تطرق لوكريتوس للأفكار المتعلقة بنشأة اللغة, ونشأة الدولة عن طريق العقد الاجتماعي, ونظام الملكية, والدين, والعلاقات التجارية, والعادات والتقاليد الاجتماعية , وأنواع الفنون المختلفة, والأزياء وغيرها من القضايا.

وقد غلب الطابع الإلحادي على فكره, حيث كان يدعو لدراسة الطبيعة دراسة علمية, الغرض منها إثبات أن ما يحدث في الطبيعة ليس نتيجة أي تدخل إلهي معجز , وإنما هو نوع من الحتمية الطبيعية, فالنار قد جاءت نتيجة تأثير حرارة الشمس في الأعشاب الجافة, أو نتيجة لاحتكاك بعض الأشجار ببعضها أثناء العاصفة, ولكنها ليست هبة من الإله " بروميثوس" إله النار أو أي إله آخر, وعلى ذلك فلا صلة لها إطلاقاً بالدين، كما يذكر لوكريتوس.

ويؤكد "لوكريتوس" في النهاية أن التفسير الصحيح للطبيعة يخلص الإنسان من التفكير الديني, وما يرتبط به من تعلق بعالم ما وراء الطبيعة, وينتهي من كل ذلك بأن الفهم الحقيقي للأشياء يحرر عقل الإنسان, ويجعله يعيش مطمئناً.

يتضح مما سبق أن لوكريتوس قد تناول العديد من القضايا المطروحة في علم الاجتماع الأنثروبولوجيا في الوقت الراهن, وإن اتسمت بطابع إلحادي حاد.

ب ـ شيشيرون:

عاش "شيشرون" (106 ـ 43ق.م) أثناء تحول النظام السياسي الروماني من النظام الجمهوري إلى النظام الإمبراطوري (كان ذلك تحديداً في عام 27 ق.م) وقد عاصر اتساع الفتوحات الرومانية التي شملت شعوباً وثقافات متباينة, وأقاليم مترامية, وعايش كذلك الصراع الاجتماعي والاقتصادي بين طبقات الشعب الروماني, والصراع بين قواد الجيش الروماني على تولي السلطة السياسية في الدولة.

وعلى المستوي الفكري عاصر الصراع الحاد بين تيارات الفكر اليوناني, والفقه القانوني الروماني, وكان طرفاً في هذا الصراع, حيث مال إلى الفلسفة الرواقية, وقد درس شيشرون التاريخ الروماني والفلسفة الرواقية, والفكر اليوناني بشكل عام بعقلية قانونية يقظة, إذ أنه كان فقيها قانونياً, ورجلاً سياسيا, ومصلحاً اجتماعياً, وخطيباً مفوهاً بليغاً.

من أهم مؤلفاته كتاباه "الجمهورية" و " القوانين" حاول من خلالهما أن يقدم تفسيراً للواقع الذي عاصره, وأن يضع الأسس التي تمثل ركيزة النظام السياسي, وقد ظلت أفكاره السياسية مؤثرة علي مدار قرون طويلة.

تدور أفكار شيشيرون حول ضرورة تحقيق القيم الأساسية للإنسان, بصفته إنساناً, وليس لأية اعتبارات آخري, وأهم هذه القيم العدالة والحرية, فالإنسان وفقاً لهذه النظرية يكتسب حقوقه باعتباره إنساناً, وبناءً علي هذه الرؤية فقد تناول شيشيرون قضيتين أساسيتين , تمثلان ركيزة النظم السياسية المعاصرة, وهما:

1ـ فكرة القانون الطبيعي.
2ـ فكرة الشعب مصدر السلطات

1ـ فكرة القانون الطبيعي:

يري شيشيرون أن القانون ليس مجموعة من القواعد المكتوبة التي وضعها الناس في فترة زمنية محدودة, وإنما هو شيء أبدي وطبيعي, أي أنه نابع من الطبيعة, ثابت لا يتغير, بتغير الناس والمجتمعات, هذا القانون هو مجموعة القواعد الإنسانية العامة, التي لا يختلف حولها البشر, يدركها التفكير المنطقي السليم, فهو يتضمن القيم الإنسانية الأساسية كالعدل والحرية والمساواة بين البشر دون أي اعتبارات دينية أو عرقية أو اجتماعية، وقد انتقد شيشرون عنصرية أفلاطون, والرق عند أرسطو, فالعدالة تقوم علي أساس وحدة الإنسانية وتنبع من مبادئ القانون الطبيعي.

وينبغي أن يتفق القانون الوضعي المكتوب مع هذا القانون الطبيعي, فإذا لم يتفق, لا يكون ملزماً للإنسان, وبناءً علي ذلك , فإن الجريمة crime هي كل فعل يتعارض مع قواعد القانون الطبيعي, وتسمي الجريمة الطبيعية , وهي بطبيعتها لا تتغير بتغير الزمان والمكان فهي ثابتة في كل العصور وكل المجتمعات.

ويؤكد شيشيرون أن الناس سواسية أمام هذا القانون , فلا تمييز بينهم, وبمقتضاه يؤدي الناس ما عليهم من التزامات, ويحصلون علي مالهم من حقوق ويمتثلون بما فيه من أحكام ناهية تعمل علي تنظيم المجتمع وحفظه ويؤكد أيضاً علي أنه لكي تكون القوانين المكتوبة, والأعراف الاجتماعية صالحة يجب أن تكون مطابقة للقانون الطبيعي, فالطبيعة هي منبع الحقيقة والعدالة والفضيلة, التي يستطيع الإنسان التوصل إليها بالعقل السليم, فالناس متساوون في امتلاكهم العقل.

ولد أدي تأسيس شيشيرون لفلسفة القانون الطبيعي, إلى نتائج هامة علي الفكر السياسي والاجتماعي فيما بعد, حيث أسهمت في صياغة مواثيق حقوق الإنسان, وهي تلك الحقوق التي يحصل عليها الإنسان من الطبيعة بمجرد بمولده, فالناس يولدون أحراراً, متساوون في الحقوق والواجبات, علي أساس مبدأ الوحدة الإنسانية، وبذلك يكون شيشيرون هو الذي وضع بذور المواثيق الحديثة لحقوق الإنسان والتي تبلورت في أوربا في نهاية القرن الثامن عشر عقب اندلاع الثورة الفرنسية.

2ـ الشعب مصدر السلطات:

تمثل هذه القاعدة السياسية الثابتة حجر الزاوية للشرعية في النظم السياسية المعاصرة, وقد أرسي أصولها شيشيرون بقوة ووضوح, فالسلطة مصدرها الشعب, فهو الذي اختار الحاكم بإرادته, وبالتالي يجب أن تكون لديه القدرة على عزله إذا تجاوز, والشعب ليس مجرد مجموعة من الأفراد لا رابط بينهم ، بل هو مجموع الناس الذين اتفقوا على أن يعيشوا معاً في ظل مبدأ العدالة, وأن يتعاونوا من أجل تحقيق الصالح العام والخير المشترك.

وبناءً علي ذلك, فالسلطة لا يمكن أن تتصف بأنها شرعية إلا إذا ارتكزت علي إرادة الشعب, فهي في الواقع تعبير عن قوة الشعب الجماعية , والحاكم عندما يمارسها, إنما يمارسها بناءً علي تحويل الشعب له.

وقد نالت قاعدة (الشعب مصدر السلطة) تأييداً كبيراً بعد فترة قصيرة من دعوة شيشيرون إليها, وظلت من بديهيات الفلسفة السياسية خلال عدة قرون, ففي الوقت الراهن تزداد الدعوة كذلك لقوة القانون الذي لا يميز بين البشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب