الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نُخب الاستبداد ومستقبل الديمقراطية

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2016 / 9 / 17
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


بعد تجربتي المتواضعة في صفوف اليسار. وبعد إقامتي بالغرب مدّة متواضعة أيضًا. وبعد أن التقيت عددا كبيرا جدًّا من المناضلين والنّشطاء والسّياسيين، وخصوصًا رفاقي في الوطد بكلّ ولايات الجمهوريّة. أقف اليوم أمامكم لأبوح لكم بأنّ في بلدنا طاقات وطنيّة جبّارة، وعقول وقّادة، وكوادر علميّة وإداريّة وإرادات كفاحيّة من النّساء والرّجال يصعُبُ وجود أمثالهم في بعض البلدان الأروبّية.

في المقابل، من واجبي أن أفضح الأمر الأكثر ايلاماً وإثارة للغضب ألا وهو استفحال الاستبداد في العقول. الاستبداد الذي سقط من رأس الدّولة يوم 14 جانفي 2011. واستمركالعنكبوت يسكن الضمير العام كذهنيّة مقيتة تُحدّدُ سلوك الأفراد وعلاقتهم بالآخر وبالدّولة وبالأسرة وبالحياة عمومًا.
هذه قضيّة معقّدة ومحزنة جدًّا من حيث كونها تؤشّرُ على أنّ الثّورة تعثّرت ثمّ تراجعت لأنّها مجرّد موجات غضب، وسلسلة من الاحتجاجات العنيفة بلا قيم ثوريّة ولا أفكار مؤسِّسَة للحرّيّة.
ولأنّها ثورة فقراء يتيمة، استولى على نتائجها سياسيون بوجوه جديدة تختزن نفس عقيدة الاستبداد. وكأنّها عمليّة "دياليز" جدّد بها الاستبداد جلدهُ فقط.
فالذين كانوا يجابهون الاستبداد قبل 14 جانفي، وانفتحت أمامهم مساحات الحرّيّة، بدلًا من الشّروع فورًا في ترسيخ قيمة الحرّية، ومساعدة المجتمع على تقبّلها بمسؤولية الذّات المستقلّة المتحرّرة من الإكراه. وتشجيع الأفراد على التعبير عن آرائهم والانخراط في الحياة العامّة، تخلّوا عن هذه المهام، وانبروا يُعزّزون آلياتهم الخاصّة في احتكار جزء من الاستبداد الذي سقط من قصر قرطاج، وانهمر في الشّوارع بلا رقيب.

لا يكفي أن نكون مناضلين. ونتبنّى برنامج الحزب. الأهم من ذلك أن نُفكّر بتغيير عقلية النّاس في اتّجاه رفض الخضوع والتّبعيّة تمهيدًا لتقبّلهم للمضمون القيمي للحرّية.
الأهمّ من ذلك هو أن نُقاوم تأليه القيادة، وتحويلها إلى مُعطى ربّانيًّا فوق النّقد والمحاسبة.
الأهمّ من ذلك هو أن نمنع ولادة مستبدّين جدُد يتلاعبون بعواطف الناس. ففي التّاريخ، وفي هذا الزّمن الذي فيه نعيش، هنالك آلهة آدميّة صنعتها الموالاة والتسلّق والعبوديّة السّاكنة بين أضلع الأنصار التّافهين. آلهة آدميّة خاضت مغامرات انتهت بدمار دُوَلٍ، تحت أغطيّة سطحية يراد للناس ان تتحول معها الى قردة وجرذان اختبار، فتتقبلها وتصفق للزعيم الاوحد، حتى وهو يقود البلاد نحو العار والخراب.
أليس من الحكمة أن نسأل لماذا نحن على خلاف بقيّة شعوب الأرض نعيش وسط الأمراض والتخلّف؟
لماذا انتفضت تونس، ثمّ انتفض العربُ جميعًا؟
ألم يكن ذلك بسببِ الاستبداد؟
ألم يرهقنا الاستبداد والتسلّط؟
ألسنا ضحايا فضائح الاستبداد وجرائمه؟
أليس الفساد نابعا من الاستبداد؟
أليس الاستبداد هو الذي مهّد الطّريق للطّائرات والدبّابات الأطلسيّة؟
وأخيرًا، أليس من واجب الرّفاق أن يُعيدوا الاطّلاع على نظرية "الانعكاسات الشرطية" للعالم الروسي "بافلوف" وتجاربه التي أجراها على الحيوانات، تلك النّظريّة التي طوّرها "غوبلز" فجعل التخويف والاثارة واستثمار العواطف الجياشة، سبيلاً للتضليل والتخلص من الخصوم، وتكميم الافواه وحشد الأنصار لجرائم الفساد وجرائم قهر الناس وسلب إراداتهم؟

النّظام العربي الرّسمي اقتدى في سياساته بنفس النظرية. وبدأ بالتلاعب بما يُسمّى "عواطف السّطح" فالتّونسيون مثلًا أو الجزائريون وطنيّون. واستثمارًا لتلك الوطنيّة الرّاسخة، فإنّ الاتهام بـالخيانة الوطنيّة، تجعل المواطن البسيط يوافق بشكل لا مشروط على كلّ عمليّات البطش التي يمارسها النّظام ضدّ خصومه. فدفع الوطن هنا وهناك وما زال يدفع ثمن تلك السّياسات المتحيّلة والإجراميّة.
فكيف نستسهل اليوم ولادة هذا الاستبداد بيننا؟ وكيف نُصفّق له ونعتبرُ أنفسنا ثوريين؟
بسببِ ذهنيّة الولاء، تمّ السّكوت عن مظالم صغيرة. وبسبب استسهال تلك المظالم الصّغيرة وتكرارها، انسلّ الجاني من حضيرة البشر العاديين، ووقف فوقهم برجليه، فوق أعناقهم وفوق كرامتهم وأعراضهم. وبسبب استمرار الصّمت قُتِلَ وسُجن وهُجِّرَ الملايين. ودمرت بلدان. فدفعت الشّعوب الثّمن، ومازالت تدفع. وبنفس السلوكيات، ولنفس أسباب الطّاعة والاصطفاف والولاء، اضطهد أشرف النّاس. وامتلأت بهم السّجون والمقابر السرّيّة.. ومن وسط كل ذلك القيْح المتراكم، خرجت داعش وعاد الاستعمار .. وها نحن نعيش في أسفل سلّم الحضارة الإنسانيّة.

وتستمرّ لعبة استغلال عواطف السطح وذاكرته القصيرة، داخل أحزاب اليسار بإقصاء المناضلين والتّحريض عليهم وهتك أعراضهم. حتّى وصل الأمر ببعض القياديين إلى تمرير مراسلة داخليّة تُحذّرُ المناضلين والمنخرطين من مجرّد سماع رأي فلان! ولحسن الحظ أنّ هؤلاء القياديين، لا يملكون أسلحة وسجونًا، وإلّا لكانوا غيّبونا، وما كان بإمكانكم أن تقرؤوا هذه الشّهادة المُرّة على الألم.
بنفس الخلفيّة، ونفس اللّعبة، يقوم بها الارهاب حين يُجنّد الاطفال والمراهقين في عمليات قتل يومية، سالت وتسيل بسببها دماء عزيزة ..
وتستمر اللعبة من وسائل اعلام تعمل ليلا نهارا على استغلال المشاعر والمخاوف والنزعات السطحية، وترويج الاكاذيب، وتضليل الشّعب، متناسية أن الشعوب ليست حيوانات وقردة تجرى عليها التجارب، بل بشر وعقول تمتلك تحت ذاكرتها السطحية ذاكرة أخرى أعمق، تختزن فيها ردود فعل تناقض تماماً ردودها الخائفة والارتزاقية.

منذ 14 جانفي عمومًا، ومنذ اغتيال الزّعيم الكبير وصاحب المشروع الوطني الشّهيد شكري بلعيد، وإلى يومنا هذا، نواجه تحديات و إرهابا و عنفا و شحنا عاطفيًّا و احتلالا ايديولوجيًّا شنيعًا، وتدخلات أجنبيّة. وتجرّع شعبنا المرارات والغصّة والدّموع بكافة شرائحهِ وقطاعاته المدنية والعسكرية.. كلّ ذلك بسببٍ نخبة سياسيّة مستبدّة وفقيرة الوطنيّة والضّمير. نخبة تعيسة نجحت في إعادة تجميع الاستبداد وإصلاحه وتقاسمه. ثمّ نجحت في كسر إرادة الشّعب وإقصاء وعيه المتجذر العميق عبر سياسات قديمة واضحة ومدروسة.

ما يجري الآن، وُلِدَ ممّا جرى سابقا. والجميع يشرب من نفس الماء. وأمّا العراك الإيديولوجي الفضفاض والمنفصل عن الواقع الذي يتابعه التّوانسة على البلاطوات، فليس إلّا تغطية وإشغال للنّاس عن التفكير في قضاياهم، ودفعهم الى قفص العزلة والتقوقع، بعيدا عن حقائق سرقة الإرادة، وسرقة الثّروات التي هى هدف المشروع الاستعماري العدواني المُعِد للمنطقة بِرُمتِها. كلّ هذا يتمّ تحت شعارات سخيفة، فهذا يُدافع عن النّبيّ وكأنّه صلّى الله عليه وسلّم محاصرٌ في واد الزّرقاء. وذاك يُسبّحُ باسم الحبيب بورقيبة ليلًا نهارًا بدعوى دفاعه عن مشروع "الحداثة". ورفاقنا يُردّدون مخطّطات خماسيّة سوفياتيّة لا يفهمها حتّى أصحابها بدعوى الدّفاع عن العمّال والفلّاحين الفقراء، فيما أحزابهم لا يدخلها إلّا المُطيع والموالي وابن العشيرة.

هذه النّخب العليلة، بذهنيتها هذه، وبممارستها هذه، سواء كانت في المعارضة أو في الحكم لا يمكنها أن تنتج إلّا نزوع متزايد عند الدولة إلى التغول على المجتمع والاستهانة بإرادته، واستغلال انقسامه، وانعدام عصب تماسكه، لبناء نظام تسلطي يستخدم المؤسّسات الرّسميّة وسيلة للسيطرة، بأسلوب مُخاتل ولطيف في البداية تحت راية الثّوريّة والتقدم التي ترفعها نخبة استبدادية عقائدية إسلامية كانت أو يساريّة أو ليبيراليّة ثم بأكثر الأساليب قُبْحًا وصلافة، فيما بعد، باسم سيادة الدولة وهيْبتها وشرعيتها ... وبالنّتيجة سيجدُ المجتمع نفسه أعْزلًا في مواجهة نخبةٍ تحتكر وحدها، من دون رقيب أو شريك، سلطة القانون والمال والسلاح والإدارة والإعلام، وتجعل من البلاد مزرعتها الخاصة، ومن الدّولة جملة من الأجهزة العاتية للتحكّم في المجتمع وتأمين إخضاعه وتجريده من أية قدرةٍ على المُمانعة أو المطالبة بالحقوق الإنسانيّة الدّنيا.

إنّ هذا التسليم الكامل للدولة والانسحاق أمامها، بسبب ما مثلته من وعود، وما ملكته من قدرات للقهر. ناجمٌ في الأصل على ذلك التّسليم الكامل لما يُقرّره رئيس الحزب باسم "النّضال" و"احترام الهياكل" . غير أنّ ذلك الوعي القطيعي سيتحوّل زمن الحكم إلى عبادة السّلطة والتسبيح بحمد القائمين عليها، وتبجيلهم والركوع أمامهم واستجداء عطفهم ورضاهم. وهكذا، تُصبح الدولة "الثّوريّة" أو "الدّيمقراطيّة"، التي نشأت لتحرير المجتمع، أداة رئيسيّة لقهره وتبديد إمكانياته الإنسانيّة.

في هذا الجو الرّخو المملوء بقلّة المسؤوليّة الوطنيّة، حال البلاد كحال مريض أجريت له عمليّة جراحيّة منقوصة. فشُقَّ من الحلق إلى السرّة، واختصم الجرّاحون ومساعدوهم فيما بينهم. وبقي المريض بين الحياة والموت.
خذوا حاجة واحدة من حاجات البلاد المستعجلة. وانظروا سلوك الطّبقة السّياسية تجاهها. أنظروا موضوع المصالحة مثلًا. إلى اليوم مازلنا لم نرَ سياسيين وطنيين سواء في المعارضة أو في السّلطة، يؤمنون حقيقة بحاجة البلاد الى مصالحة عميقة غير مغشوشة، تنزع الوجع من قلوب التّوانسة. وتبدّد شكوكهم. وتُهيّأ المواطنين للاستثمار المعنويّ والأخلاقيّ لبناء بلدهم على أساس صيانة الحقوق وترسيخ شروط العيش المشترك.
نحن نرى فريقا في الحكومة يتحيّل لتمرير مشروع انقسام جديد لا مشروع مصالحة. وفي المقابل، نلاحظ فريق آخر هو خليط من المجانين والمُزايدين يستخدم قضيّة المصالحة جسْر عوْدةٍ الى الواجهة عبر الصراخ والعويل ونشر التخوين بين كل مناصري المصالحة. وتونس غريبة بين الفريقين.
بعض النّاس للأسف، لا يُدركون أنّه دون مصالحة حقيقيّة ستظلُّ البلاد عبارة عن جسمٍ فقد جلدهُ وبقيت أعضاؤه عارية وجراحُه مفتوحة، تتعرّضُ يوميًّا لكلّ أنواع الجراثيم والتعفّن.
وبهذا المعنى تُصبحُ حماية البلد من الضّياع بين الفريقين واجبا وطنيا وأخلاقيا. إذ يتعيّن على المواطنين مواجهة المصالحة المغشوشة، وفي نفس الوقت مواجهة ذهنيّة العناد الطّفولي والرّفض الأعمى للمصالحة.
إذًا تونس تحتاج نساءًا ورجالًا كأبناء يخافون على أمّهم، ويُضمّدون جراحها، ويحمونها بجلودهم، بدءًا بالدّفع نحو مصالحة حقيقية تنقذ اقتصاد البلاد وتضمن الاستقرار. وبعد ذلك لكلّ حادثٍ حديث.

أنتهي الآن إلى ترككم تستلّون العبرة، لترسموا صورة ما يجري اليوم، من خلال فضاعات ما جرى سابقاً. دون أن أنسى الإشارة إلى عجز عقلاء هذه البلاد عن فعل شيء لوقف مهزلة إصرار هذه النّخبة السّياسية بيمينها ويسارها على تجديد بذور الاستبداد داخل الأحزاب، ومن ثمّة في الدّولة والمجتمع.
نعم هناك دوما عقلاء في بلادنا، لديهم براعة في فضح المخاتلة والخداع. ودوما كان العقلاء يمتلكون عشرات الأسباب للبقاء مكتوفي الايدي.

لكلّ هذه الأسباب سنعلن قريبًا عن ولادة حركة شعبية ديمقراطية، منفتحة على الشّباب وعلى عموم شرائح وفئات الشّعب التّونسيّ في الوطن وفي المهجر. ونحن بصدد التّشاور وتوسيع المشاركة في كلّ الجوانب السّياسيّة والعملياتية للحركة.
نريدها حركة وطنيّة بالفعل، ديمقراطيّة بالفعل، ومنفتحة على نخبة البلاد الشابّة، وتحمِلُ مشروع حكم عقلاني في خدمة المواطنة.

سانت إتيان في 15 سبتمبر 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال


.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري




.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا


.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.




.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي