الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وحي العيد

كمال عبود

2016 / 9 / 18
الادب والفن


هَدْهَدْتْهُم بيديها الحنونتين ، مَسحتْ على رؤوسِ الأطفال ، كان صوتُها هادئاً ، يحمل نسمةَ أملٍ وحُب ، ابتسمتْ بوجههم:
تأخرتم في السهر يا أولاد ، اذهبوا للنوم ، ستأكلونَ لحماً في العيد هذا وعد لكم.
قال الصغير ذو الخمسة أعوام : ماما ، من زمان .. من العيد في السنة الماضيه لم نأكل لحماً.
قالت الأم: في العيد ستأكلون، ثلاثة أيام ستأكلون ، تصبحون على خير.

نام الأولاد الأربعة على فرشات إسفنجيات وأغطيةٍ خفيفه يلتحفون بها ، جلست الأم على حافّةِ الفراش ... جالت نظراتها على الأولاد ، وفي أرجاء الغرفة واستقرّتْ هناك عند الزاوية حيثُ أواني الطبخ القليلة .. غاز صغير ومقلاة وبضعة صحون ، وعلى الجانب طنجرة الطبخ وهو قِدرُ نحاس لم تحمل سواه على رأسها حين أجبرتهم الحرب على الهرب ، وترك منزلهم والرحيل مساء يومٍ أسود ، يوم اختفى زوجها العسكري بعد أن جاءتهُ رسالةً من ميليشيا الحي : تتركْ الجيش أو نقتل أهلك وأخيه الأسير ..

يومها اختفى الزوج وهاجر السكان ومعهم أم عبدو الحي والدار...

قالتْ : سأبيعه غداً في سوق الجمعه ، سأجعل الأولاد يفرحون .. سأشتري بثمنه لباساً وفراريج للعيد ...
تذكرت أم عبدو قصة المرأة آلتي أوهمت أبناءها أنها تطبخ لهم طعاماً ، و في الحقيقة كانت تطبخ ماءً فقط ، قالت : سأبيع القِدْر ، والله يعوضني.

ثُمَّ قَالَتْ لنفسها : آهٍ على أعيادٍ مضت ، كنّا نضحي بخروف كل عام ، يجتمعُ الشمل في العيد ، نتزاور ، تمتلئ الشوارع بهجةً والنفوس.. يمتلئ الفضاء بالفرح وضوضاء الأطفال الجميلة ... هذه القِدْر الموروثة غالية على النفس ، هي تاريخٌ رافقني وقصص جميلة كانت بحضرته وحوله ، وقالت :
يقول المثلْ : شو اللي أجبركْ على المُرْ إِلَّا اللي أمَرُّ منه.

في الصباح والأطفال نيام ، خرجت أم عبدو إلى سوق الجمعة ، وصلت حاملةً قِدرَ النحاس ، وضعتهُ على الرصيف أمامها وانتظرتْ.

كانت رائحة السوق - رائحةُ الفقرِ تملأ المكان .. كانت أصوات الناس غيوم عوز وفاقَه ... أشياؤهم المبعثرة يعلوها الصدأُ والغبار كالصدأ الذي يُغلِفُ أيامهم ، يلبسهم القرف والتذمر .. أشياؤهم - كنوزهم - التي يعرضونها لا للترف أو التسلية ، هي تجارة تعيسةٌ بائسةٌ بين الفقراء فقط ، وهو سوقٌ تختلط فيه المراوغة والسرقات والاحتيالات الصغيرة ... يختلط فيه الحديد والنَّاس والخشب المكسور والزخارف القديمة والعُدد والألبسة المستورة وروائح الأشخاص الذين لم يغتسلوا وبول الاطفال الناشف على الجدران وفي شقوق الأرصفة ...

بقيت أم عبدو على الرصيف حتى الزوالْ ، لم تُبِعْ قِدْرها .. فرِغَ السوقُ إِلَّا أقلّهُ وَلَمْ تُبِعْ ..
جَاءَ كثيرٌ يتفرّجون وقليلٌ يساوِمون ..
أعطاها بعضهم ثمناً بخساً ..
استهزأَ بها آخر ...
قالت إحداهن : أين زوجك..؟
قال أحدهم لمرافِقهِ : هذه سرِقَه ..
رجلٌ ذي خبره أخرجَ عدسةً من جيبه وراح يفحص الجودة وقال : نحاس أصلي مئه بالمئه ،.. لكنّه لم يشترِ.
حاول مراهق مغافلةَ أم عبدو وسرقة القِدْر فأدركته وفشلت السرقة
جاء رجلان قالا لها : نحن من الجنائية ، من أين لكِ هذا ،هل تدفعين لنا كي لا نعتبرك سارقة ..؟
رجلٌ حدّقَ في جمالها : هل تذهبين معي ..؟ أعطيكِ ضعف الثمن.
رجلٌ رأفَ لها : لا تَبقِ إلى المساء ... أولاد الحرام صاروا كتار ..

تضاءلَ حلم أم عبدو بالبيع ... اختفى أمل شراء ثلاثة فراريج لأيام العيد الثلاثة ... وتراءت لها صورة الحزن على وجوه الصغار .

رجعت أم عبدو منهزمة ، تثاقلت خطواتُها .. وهنَتْ وجلستْ عند زاوية الشارع المُؤدي إلى بيتها ... وهناك حدث الانفجار ... انفجارٌ صمَّ الآذان .. تطايرت الأسقف وهوتْ الجدران .. سحب الدخان والغبار غيّمتْ فوق المكان .. لم تعد تعي أم عبدو أو تسمع من يناديها ... الشارع أضحى كومة من خراب .. ونفرٌ من الناس يتراكضون دونما هدف وفي كل اتجاه .

قال شاهد عيان : رأيت أم عبدو تسعى نحو الأنقاض .. تبحثُ وتُخِرج غازاً صغيراً للطبخ توقِده وتضع فوقَه قِدْراً من النحاس وقليلاً من الماء وأشلاءً بشريّه لأطفال لوثَ الغبار دماءهمْ وتُدندنَ ببلاهة :
بكره الأضحى .. بكره العيد
بكره الأضحى .. بكره العيد ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .