الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد مقولة ثبات الثقافة

سمير أمين

2016 / 9 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


اود فى هذا المقال مناقشة مقولة “الخصوصية الثقافية” ولا سيما تلك الخصوصية المنسوبة لاصولها الدينية. فلا ينكر احد واقع التباين الثقافى وان للعقائد الدينية وقعا ملحوظا فى المجتمعات. ولكن الاطروحة التى ساقوم بنقضها تقول اكثر من هذه البديهية،
اذ تزعم ان الخصوصيات المعنية ثابتة ودائمة. اما انا فأرتئى ان هذه المقولة لاتأتى بجديد، فهى فكرة سابقة شائعة لدى جميع الشعوب وفى جميع الازمان.

ينطلق النقد العلمى فى مجال دراسة المجتمعات من بيان ان التاريخ يناقض نظرة ثباتية الثقافة بل التأويل الدينى نفسه، ثم طرح السؤال عن الاسباب التى تدفع انعاش فكرة الثباتية الخاطئة فى ظروف معينة حتى تكتسب طابعاً سياسيا غالبا، كما هو الامر عليه فى المرحلة الراهنة فى بعض مناطق العالم.



تمثل هذه الإشكالية معضلة معقدة من التساؤلات الفرعية تفترض الإجابة عنها نظرية عامة للثقافة قائمة على مفاهيم صلبة ومتماسكة، كما يجب ربط هذه النظرية للثقافة بالأوجه الأخرى للتحليل الاجتماعى، إذ أن المجالات المختلفة التى يتشكل منها الواقع الاجتماعى (الاقتصاد، والسياسة والثقافة ... الخ) تؤثر بعضها على بعض بشكل جدلى.

وفى هذا الإطار أزعم ان النظريات التى تكرس فكرة ثبات الخصوصية الثقافية هى خادعة بقدر ما تنظر الى التباين على أنه يمثل القاعدة، بينما تعتبر تجليات التشابه ناتج مجرد الصدفة. ولكن ماذا يحدث إذا أخذنا بالمبدأ المعكوس، أى بفرضية أن الميل للتشابه هو القاعدة فى تاريخ البشرية وأن الاختلافات فى مسيرة التطور جزئية ونسبية؟ فالنعد إلى نظريات الخصوصية الثقافية. ولننظر على سبيل المثال إلى مقال هنتنجتون المشهور عن “صراع الثقافات”. يقول الكاتب الأمريكى أن للتباين الثقافى طابعاً “جوهرياً”، “لأنه يمس العلاقات بين البشر والآله والطبيعة والسلطة”. لا يفتح مثل هذا “الاكتشاف” عدا أبواب مفتوحة تماماً، إذ يجعل المعضلة الثقافية ترادف العقيدة الدينية – بل يفترض بالإضافة، أن طروحات مختلف الأديان فى الشؤون المعنية متباينة من حيث الكيف. وذلك بالرغم من أن التاريخ الحقيقى يثبت أن هذه المفاهيم الدينية قد تمتعت فى واقع الأمر بدرجة عليا من المرونة، الأمر الذى أتاح اندراجها فى نظم ايديولوجية تطورت فى اتجاهات، بعضها متقاربة والأخرى متباعدة، طبقاً لظروف مستقلة عن هيكل المفاهيم الثقافية المعتبرة.

فالخصوصية التى تفسر كل شىء لاتفسر شيئاً. وكان أنصار النظرة الثقافوية قد نسبوا تخلف الصين إلى ثقافتها الكونفوشيوسية، وذلك قبل نصف قرن فقط، ثم انقلب هؤلاء فى رأيهم، فأصبحوا ينسبون الآن “نجاح” الصين إلى هذه الثقافة عينها؟ ألم يعلن الجميع، أن العالم الإسلامى فى القرن العاشر ميلادى قد بدا لعديد من المؤرخين أكثر تقدماً من أوروبا المسيحية فى العصر نفسه وحامل احتمال تطور لامع؟ ماهى إذن الأسباب التى أدت إلى انقلاب الوضع؟ هل هى أسباب ترجع إلى سمات العقيدة الدينية أو إلى التفهم الاجتماعى لها أو إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بالمجال الثقافى؟ وماذا كان العنصر الفاعل المحرك الأساسى، إن وجد؟ تظل النظريات الثقافوية صامتة تماماً فى مواجهة هذه الأسئلة،

ثم يبقى أن نتساءل، ما هى الأقاليم الثقافية المعتبرة فى هذا الخطاب؟ أهى أقاليم يحددها الاختلاف فى العقائد الدينية، أو فى اللغات، أو فى القوميات، أو فى الظروف الاقتصادية، أو فى النظم السياسية؟ اختار هنتنجتون الدين أساساً لتقسيم العالم إلى سبع مناطق: الغرب (الكاثوليكى والبروتستانتى)، الإسلام والكونفوشيوسيه (ولو أن الكونفوشيوسية ليست عقيدة دينية!)، اليابان (ويبدو أن هنتنجتون لا يعرف كيف يميز بين الكونفوشيوسية والشنتوية!)، الهند, عالم البوذية، عالم المسيحية الارثوذوكسية.

يلائم هذا التبويب، إلى حد ما، وصف العالم المعاصر. لذلك يفصل هنتنجتون اليابان عن العالم الكونفوشيوسى، والمسيحيين الارثوذكس عن غيرهم من المسيحين. هل السبب فى هذه التفرقة الأخيرة، هو أن السياسة الأمريكية تخشى اندماج روسيا فى أوروبا؟ ثم الغريب فى التبويب هو أنه يتجاهل تماماً وجود الأفارقة – ومنهم مسيحييين ومسلمين ومنتمين إلى أديان افريقية – ولو أن ثمة عدداً من السمات مشتركة فى ثقافات افريقيا. هل هذا سهو دال تنعكس فيه العنصرية الشائعة فى الولايات المتحدة؟ ولماذا لم يذكر امريكا اللاتينية؟ هل شعوب هذه القارة تنتمى إلى “الغرب” بسبب كونها مسيحية؟ وفى هذه الفرضية ما هى أسباب تخلفها؟ إن قائمة العبث فى عرض هنتنجتون لا نهاية لها!

هكذا توصل هنتنجتون إلى تلك الخلاصة المدهشة التى مفادها أن ستة من الأقاليم السبعة تجهل القيم الغربية، علما بأن المؤلف الأمريكى يدمج هنا تحت هذا العنوان مجموعات متباينة من القيم، بعضها متعلقة بالرأسمالية (السوق) والأخرى بالديمقراطية. ولكن: هل السوق أقل فعالية فى اليابان غير الغربية، عما هى عليه فى امريكا اللاتينية أو فى افريقيا المسيحية؟ ألا يعلم الجميع أن آليات السوق وممارسات الديمقراطية هى ظواهر حديثة فى الغرب نفسه؟ هل كان من الممكن أن أحداً من مسيحيى أوروبا فى القرون الوسطى قد استطاع أن يعرف نفسه بواسطة هذه القيم المزعومة “غربية”؟

لا ريب أن الايديولوجيات – وخاصة الديانات – ظواهر اجتماعية مهمة. على أن الاعتراف بهذا الأمر لا يمثل عدا بديهية – فالصعوبة الحقيقية بالنسبة إليها هى فى تناول دورها فى التاريخ، بالأدق دورها فى مختلف الأزمان والأماكن وعلاقاتها بالنظم الاجتماعية العامة السائدة فى تلك العصور. وهنا نجد -على سبيل المثال – أن مختلف الديانات كما فهمتها الشعوب المعنية فى العصر السابق على الرأسمالية الحديثة قد قامت بأدوار متشابهة إلى حد بعيد. فالمنهج العلمى يستهدف كشف أوجه التشابه، بالرغم من تنوع الخصوصيات. وعلى هذا الأساس سنستطيع أن نحدد بالفعل الأقاليم الثقافية القديمة، وأن نبين أوجه التشابه بينها، وأن نضع خصوصياتها فى مكانها الحقيقى. ولا شك أنه – ظاهرياً على الأقل – لا يزال لهذه الأقاليم وجود فى العالم المعاصر. إلا أن آليات فعلها قد تحولت تماماً بسبب تأثير الشروط التى تفرضها الرأسمالية عليها. أقول هنا الرأسمالية ولا أقول الغرب، عن قصد. إذ أن التحليل التاريخى العلمى يؤدى بالضرورة إلى اعتبار أن ما يسود حالياً وعالمياً إنما هو “حضارة وثقافة رأسمالية الطابع بالأساس” وليست “الغرب”. كما أن هذه السيادة هى المسئولة عن التحولات التى حدثت فى جميع أقاليم العالم، والتى أفرغت من مضمونها الأصلى جميع الثقافات السابقة، بما فيها ثقافة “الغرب” الاقطاعية. وعلى هذا الأساس سوف نكتشف معيار التبويب الصحيح الذى يتصف به عالمنا. فهناك مناطق، حيث حلت الثقافة الرأسمالية محل الثقافات السابقة تماماً، وهى المناطق المكونة للمركز الرأسمالى، أى أوروبا وامريكا الشمالية (المسيحية فى أصولها) واليابان (الكونفوشيوسى اصلاً). هذا بينما انتشار الرأسمالية لم يلغ تماماً أثر الثقافات القديمة فى مناطق الأطراف، ولم تفلح الرأسمالية فى توظيف الثقافات السابقة توظيفاً شاملاً وفاعلاً كما صار الوضع عليه فى المراكز. هل يرجع هذا الاختلاف إلى “خصوصيات ثقافية”. أى إلى قدرة الثقافات “غير الغربية” على الصمود مثلاً؟ أم يرجع إلى أشكال التوسع الرأسمالى الذى أنتج تفرقة أساسية جديدة، وتضاداً بين مراكز المنظومة وأطرافها؟

لقد أدى التوسع الرأسمالى إلى ظهور تناقض جديد بين طموحات ايديولوجيات النظام وإعلانها بالعالمية من جانب وواقع الاستقطاب الذى ينتجه هذا التوسع من الجانب الاخر – فيفرغ هذا التناقض القيم التى تدعو اليها الرأسمالية الحديثة (وهى الفردية والديمقراطية والحرية والمساواة والعلمانية ودولة الحقوق .. الخ) من كل مضمون ملموس حقيقى، حتى تصبح فى عيون الشعوب ضحايا النظام، أكاذيب أو على الأقل قيماً “خاصة بالغرب”. لهذا التناقض طابع دائم يصاحب تاريخ التوسع الرأسمالى منذ نشأته – ولكنه يتفاقم بقدر ما تتقدم مسيرة العولمة ليتخذ فى مراحل الأزمة، مثل مرحلتنا الراهنة، شكلاً قاطعاً متطرفاً. وفى مواجهة هذا التناقض الشنيع، يلجأ النظام إلى جميع الوسائل التى يمكن توظيفها من أجل إدارة الوضع، معتمداً فى ذلك على منهجه البرجماتى التقليدى.

وفى هذا الإطار يصبح مبدأ تعظيم “الاختلاف” مفيداً، طالما أن الإعتراف بالاختلاف يرافق تنازل ضحايا النظام عن طموحاتهم فى مجالات الديمقراطية والحرية والمساواة والفردية وإحلال “قيم خصوصية” مزعومة محلها، تؤدى دائماً إلى أن تكون مضادة للأولى! هكذا يستبطن الضحايا موقعهم المرؤوس، الأمر الذى يتيح استمرار الاستقطاب دون أن يتصدى لعائق يذكر.

أزعم إذن أن النزعة الثقافوية تخدم أهداف الاستعمار. فالخطابان الاستعمارى والثقافوى يسيران جنباً إلى جنب دون تناقض بينهما. من جانب يعلن خطاب الاستعمار بغطرسة كون المعادلة التى اكتشفها “الغرب” (فالاستعمار يفتخر فعلا “بغربيته”) من أجل إدارة الاقتصاد والسياسة، معادلة نهائية حتى يتعذر تجاوز حدودها. ويجهل هذا الخطاب التناقضات الحقيقية التى يمكن ملاحظتها فى كل مكان. أو ينسبها إلى قوى “غير عقلانية” لأنها ترفض العقلانية الرأسمالية. وفى هذا السياق تصبح الشعوب غير الغربية أمام خيار ثنائى الأطراف- لا احتمال ثالث لهما – فإما أن تقبل “القيم الغربية” كما هى فى الرأسمالية القائمة بالفعل، أو أن تنغلق فى خصوصياتها الثقافية الموروثة من تاريخها السابق – أى بمعنى آخر يحدد خطاب الاستعمار شروط الخيار بحيث يضمن لنفسه الإنتصار فى جميع الفرضيات، إذ أن إنغلاق الشعوب غير الغربية على خصوصياتها الثابتة المزعومة، يجعلها غير قادرة على مواجهة تحدى العصر. يستبعد الخيار الثنائى المطروح الحل الثالث الصحيح، أى أن تشترك شعوب “الشرق” فى تجاوز حدود الرأسمالية من خلال تطوير مفاهيم نضالية فى مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة معاً.

على أن خطاب المركزية الأوروبية هذا، لا يقدم إجابة لمن يطرح الأسئلة التى طرحناها أعلاه، والتى تخص العلاقة بين مجال الثقافة والمجالات الاخرى للحياة الاجتماعية. إذ أن هذا الخطاب يتجاهل هذه الأسئلة تماما، ويكتفى بإعلان الطابع الثابت المزعوم للثقافة الغربية وكذلك للثقافات الأخرى (الشرقية بالجملة!). ومن الجانب الآخر تشارك الثقافوية “المضادة” ظاهريا – خطاب المركزية الغربية فى اعتبار أساس مفاده، أن الثقافات متباينة بشكل جوهرى عبر التاريخ. لذلك أقول – ويشارك آخرون رأيى – أن الثقافوية ليست إلا “مركزية أوروبية معكوسة”.

لا يدعو “رفض الحداثة”، من قبل ضحايا التوسع الرأسمالى، إلى نضال ضد الرأسمالية على أرضية الرهائن الحقيقية، بل ينقل الصراع إلى سماوات الأوهام الثقافية. ولذلك فهو خيار يفيد تماماً أهداف استراتيجية الإستعمار. فبالنسبة إلى هذا الأخير لا مانع أن يحكم نظام “إسلامى” أو غيره قطراً، ما طالما أن هذه السلطة تقبل وضعها المرؤوس فى التراتبية الرأسمالية العالمية. وهذا هو وضع النظم “الإسلامية” القائمة بالفعل، التى أثبتت عجزها التام فى مواجهة تحديات العصر على أرضية رهائن المنافسة الاقتصادية والعسكرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد