الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنه ..القطار ..؟

سيمون خوري

2016 / 9 / 24
الادب والفن




كانت الأشجار وأعمدة الكهرباء، تعدو مسرعة نحو الخلف. مثل زمن شرق أوسطي معاصر، توهم أنه قبض على التاريخ والمستقبل معاً.
اقترحت رفيقتي ، وإحدى الحفيدات الصغيرات، القيام برحلة بالقطار نحو الشمال اليوناني الجميل .
إذن، إنه القطار..
القطار ؟؟
واو.. واو.. صرخت الصغيرة فرحة.
إنها الطبيعة، الذين يعرفون معنى الحب، وحدهم يعرفون معنى الطبيعة. فإذا لم نستطع تذوق معنى الحياة، أعتقد أن حياتنا، حينئذ تبدو مجرد عبث لا قيمة لها.
إنه القطار ..
نودع الكتل الأسمنتية، والتلوث، وصخب المدن الكبيرة، و" راشيتات " الأطباء، وفواتير عالقة في منتصف الطريق دون دفع ، لبعض الوقت.
سرحت ذاكرتي، نحو قطار الكاتبة الراحلة " أغاثا كريستي " في رواية " قطار الشرق السريع " . و قطار الصعيد في الأفلام المصرية القديمة . حيث تتقاسم الفراخ أطراف الحديث مع الركاب . أو قطار هندي امتطى صهوته مئات الفقراء.
وكطفل صغير، ارتدت أحلامي القديمة ثوب الحاضر. إنه صفير القطار.. بوم...بوم ، وصوت عجلاته الحديدية، وهي تتزلج على سكتين متوازيتين ... توكو ...توكو ، وسائق القطار الذي اتشحت ملامحه ، وملابسه بدخان القطار الأسود .
لا دخان أبيض، وقطار الشرق السريع لم يحمل يوماً دخاناً أبيضاً... بل جنوداً واحتلالاً.
قطارنا الحالي، كهربائي " اكسبريس ". بح صوته واختفت صورته القديمة.
وكذا مقاعده الخشبية القديمة، ونوافذه. وارتدي " نيو لوك " جديد . فقد تغلغلت التكنولوجيا في كافة " زوا ريب " حياتنا وفي أدغال جملتنا العصبية.
وفي الزمن القادم، يبدو أن الإنسان نفسه على وشك السقوط في متاهة تعقيدات التكنولوجيا. ربما يختفي صوته وتتبدل ملامحه.
ذاك بقرون استشعار، وأخر بخرطوم فيل. مثل أفلام الخيال العلمي..
أو مثل " كيندفرو " جسد حصان ورأس إنسان، كما في الميثولوجيا الإغريقية القديمة .أو أن يمتلك " ثرثاراًَ " لساناً طويلاً خارج فمه . أو أن تصبح " الأذن اليمني “ لمخبر أمني مثل صحن الرادار..؟
ترى هل ستختفي في المستقبل وظائف دماغنا الحالية..ربما ؟؟!
عندها سيتحول الإنسان الى حالة جافة، بلا مشاعر كتلة لحم، أشبة بالمسخ في رواية " فرانز كافكا ". خال من كافة الصور الذهنية، التي تملئ عقولنا الراهنة. ربما هذا ما يعيب أيضا تلك الحالات المتطرفة في سلوكها، وهو غياب المشاعر الإنسانية. فإذا لم تكن تنتمي الى عصرك فإلى أي عصر تنتمي ؟
لا نملك الزمن، بل هو الذي يملكنا، ويفرض غموضه على مستقبلنا. والماضي لا يمكنه تقرير مستقبل الغد.والمنتمي الى عالم الماضي، هو أشبه بالسجين الذي لا يسمح له سوى بالسير الدائري، الممل الرتيب كما في السجون العثمانية.
ثم ماذا بعد ..
لازالت في القطار، وقرب النافذة ...
حفيدتنا الصغيرة، تملئ ذاكرتها بصور شتى ،ودياناً وجبالاً . وبدورها سرحت رفيقتي في مكان ما من ذكرياتها . أسوة بكافة المسافرين الى منطقة " فولوس " التي تبعد حوالي 500 كلم عن أثينا.
ترى ماذا يجول في رأس كل راكب من أفكار..؟ تخيل لو أن العلم توصل الى مراقبة
" أحلام اليقظة " مثلاً؟. وماذا يجول في عقل الأفراد ...على محطات المواصلات وفي العمل والمنزل . والأهم الموقف من السلطة " البنكية " الحاكمة في هذا العالم ..؟!
عندها سنترحم أو سيترحمون على أيام خرافة " الملائكة " كما يترحم البعض الأن على أيام الراحلين " القذافي " أو "صدام " ، أو " ياسر عرفات ".
مصيبة أن تصل الحضارة الى هذا المستوى من التشويه للإنسان .
لا بأس.. قطارنا.. على كلا الحالات، ليس قطار الأحلام القديمة. ولا قطار الزمن القادم، لكنه قطار.
أزرف ..آه حزينة على زمن مضى، أو قطار مضى..
لا فرق كلاهما اختفيا مع ما مضى. وبقي الحاضر الذي يستعد للرحيل، الى مينا " عكا " وزوارقها النائمة في حضن السور.
في محطة مدينة " لاريسا " كان علينا الانتقال الى قطار أخر .
كلاجئين معاصرين، حملنا حقائب الظهر، نبحث عن عربتنا..
صرخ مراقب حركة القطار ..هيا اصعدوا بسرعة..
تدافعت كافة الحقائب البشرية للصعود.
وهرولت كسلحفاة عجوز، تحمل قواقع سبعين عاماً عجاف من اللهاث خلف قوس قزح. محاولاً الصعود وسط هذا الزحام ..
مراقب القطار، أعطى إشارة السير للسائق ..؟؟!
صرخت رفيقتي ..انتظر.. توقف .؟
سقطت حقيبتي من يدي ..ثم لم أعد اقوي على المسير.
.توقف القطار، بعد صراخ عدد أخر من الركاب.
في مقعدي الجديد، انكمشت وانزويت أبحث عن صفحة خالية، ترتاح فيها نفسي المتعبة.
آه يا وجع السنين.
عندما جرى ترحيلنا من " فلسطين " عنوة، لم تكن هناك حقائب ظهر. ولا خرائط أو
" جي بي اس " للعالم الخارجي . حملت النساء" بقجة " أو صرة من الثياب سيراً على الأقدام ،على أمل العودة بعد أيام .. طال الزمن، واستطال طولاً وعرضا، ونمت طحالب وكبر العفن، وأرخى عصر الخرافة ظلاله على كل الأشياء الجميلة.
ثم ... أعتقد لا داعي لسرد ما بعد " ثم “.
قالت رفيقتي، أين سرح خيالك ..؟ مرة أخرى نحو ذكرياتك ؟؟
مرة أخرى أنا خارج النافذة ، كل شئ يركض نحو الخلف ، وجسدي يهرول نحو المستقبل.
ما أجمل الإحساس بالحياة، وأنت تراقب كيف يسابق الزمان المكان، من عربة قطار تحملك نحو الطبيعة.
هناك سيغسل البحر والجبل، خطاياي الصغيرة القديمة.وسأعترف في حضرة " بوسيدونيا " إله البحر ، أني أحببت زهرة عباد الشمس، وزهور الدفلة في وادي الأردن والحب والخمر والنساء والطبيعة والموسيقى. ويرقص قلبي فرحاً لفرح الأطفال والكلاب، والقطط الصغيرة.
وسأصرخ في وجه البحر..
يا بحر.. غرق البحر في بحرك، وفي المساء، سأستلقي على ظهري فوق الأعشاب مثل حمار قروي. أعد النجوم دون خوف من "بثور التالول ".
ونحن صغاراً، قالوا لنا إياكم وعد النجوم ففي الصباح ستمتلئ وجوهكم وأيديكم بثوراً ...؟!
في البداية صدقنا الرواية، مثل كل قصص الممنوعات الأخرى، خوفاً من غضب “الإله ".. لكن اكتشفنا فيما بعد، كم كان هذا " الإله " مظلوماً. وأن " الخرافات " الصغيرة ولدت خرافات أكبر، وأصبحنا ضحية هذا الكم المرعب من الخرافة والتقاليد.
أحياناً كنا ننام فوق السطح، بسبب الحر أو ازدحام الغرفة.وأحياناً كثيرة عندما يحين موعد ممارسة الحب بين الكبار.
ويتسامر القمر والنجوم.هناك سقطت نجمة، وهذا شهاب أخر يلاحق " عفريتاً " هارباً! من الجحيم . حتى في العقائد الدينية كانت " العسس " الإلهية جاهزة للمراقبة والمتابعة وإحصاء الأنفاس.
نعد النجوم ثم نغفو قبل الوصول الى الخمسين ..خمسين ؟؟
كلا عشرين فقط.
نتثاءب في حضن الكون، ونسرح مع القمر في رعي النجوم في الفضاء.
كنا أطفالا صغار، نتوق للفرح، للحياة التي حرمنا منها قطار " أغاثا كريستي ".
فجأة دخل عربتنا، مفتش التذاكر. وبصوت أشبه بصوت عجلات القطار صارخاً " من فضلكم بطاقاتكم ". ولا أدري لأي سبب طلب مني قبل الآخرين بطاقات التذاكر. كان أشبه " بشرلوك هولمز " مفتش البوليس الانكليزي. لكن دون معطفه الكبرديني . منظره غير مريحاً، ونظرته استعلائية.
قلت في نفسي، ربما بسبب شاربي..وملامحي الشرقية، رغم أن الشيب غزا نصفه.
ترى هل علينا تغيير جلودنا أسوة بالمغني الراحل " مايكل جاكسون " ؟؟!
...بيد أن اليونانيين ليسوا من ذوى البشرة الشقراء، ولا البقرة الضاحكة. فهم من شعوب المتوسط.
أصبحنا مثل الطوابع البريدية.. هناك مثل شعبي لدينا يقول " الذي على رأسه ريشه " الجميع يعرفه..؟
قال، كم راكب أنت..؟
عبست اللحظة في عيني، وارتفع ضغط الدم في عروقي وفجأة استيقظت شرقيتي من سباتها.
أشرت له بقرف ، بأصابع يدي، ثلاثة. فقد أدركت ماذا يجول في خاطره. ثم توجه نحو العائلة هل هو معكم؟؟!
أجابت رفيقتي بامتعاض ، بل نحن معه يا سيد ..
هكذا تصبح مشبوهاً، بسبب ملامحك الشرقية. لأن هناك قوى عصابية متغربة في داخلها ومنحدرة من ثقافة إقصائية ، اتخذت العقيدة ذريعة لتدمير كافة الأشياء الجميلة . ووطنت الخوف، في مخيلة الأخر المختلف .
المهم بعدا ست ساعات، وصلنا مكان إقامتنا. وتدعى " المياه العذبة "وهي منطقة سياحية جميلة، هادئة تتميز بخضرتها وأشجارها الباسقة وطيورها. هناك تصالحت مع الطبيعة، وعدت الى الجذور. امضي سحابة يومي بين الأشجار، وعلى شاطئ البحر..بانتظار فنجان قهوة أخر في مقهى الحياة .

سيمون خوري
فولوس 1/9/2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أخي الغالي
عدلي جندي ( 2016 / 9 / 24 - 22:34 )
أوقاتك سعيدة
حفظتك آلهة الحب والجمال
تحياتي


2 - قطار العمر
شاكر شكور ( 2016 / 9 / 25 - 06:16 )
لقد تألقت فعلا استاذ سيمون بهذا الوصف الرائع لرحلة القطار وجعلتنا نرتوي من المياه العذبة التي زرتها ، أنا ممن يخاف من ذكر رحلة القطار ، قد يكون ذلك هاجس يذكرني برحلة قطار العمر ، ذلك القطار السريع (الأكسبرس) الذي لا يهجع ولا يتوقف الا في الصافرة الأخيرة التي تنذر بقرب الوصول الى المحطة الأخيرة التي فيها يحين وقت النزول والتحضير لكتابة الوصية ، فكلما اسرعت عجلات ذلك القطار الخبيث كلما شعرنا ان هناك من يغافلنا لقضم قطعة اخرى من عمرنا ، فأحيانا نريد ان نمسك بعجلات ذلك القطار ليبطئ قليلا ولكن دون جدوى ، كم كنا سعداء في صبانا حين لم نكن نبالي الا بصافرة بدء حركة القطار ، تلك الصافرة المفرحة التي كانت تشعرنا بقرب لقاء الأحبة ، ومع تقدم العمر وقيام معول الزمن بحفر اخاديد في وجوهنا اصبحنا نخشى الصافرة الأولى للقطار خوفا ان لا تأتي بعدها صافرة الوصول الى المحطة الأخيرة ، اخيرا .. ان اجمل ما في متعة السفر في القطارات قديما هو وقت الفطور في مقطورة الطعام فهناك نشاهد جمال الطبيعة الذي يتبدل كل لحظة وهناك يتمنى الأنسان ان يولد من جديد ولكن ليس عدلا ان نعيش عمرنا وعمر الآخرين ، تحياتي استاذ سيمون


3 - اخي عدلي
سيمون خوري ( 2016 / 9 / 25 - 10:59 )
تحية لك وشكرا على زيارتك للصفحة امل ان تكون بخير


4 - اكتشفتُ من كلماتك أني فعلا أعرف معنى الحب
ليندا كبرييل ( 2016 / 10 / 11 - 10:27 )
أبدأ أولا بمعانقة أخينا الحبيب سيمون وأشكر كل من له يد بيضاء على صحته
الأطباء،الممرضات،عمال النظافة،الأهل،الطبيعة الساحرة،وأخيرا الشمس التي تهدينا كل صباح حياة جديدة

إذاً.. أنا أعرف معنى الحب جيداً !

أهيم بالطبيعة أستاذنا،أراقب الفجر والغروب كل يوم كأني أراهما لأول مرة في كل مرة
أعانق الأشجار،وخصوصا شجرة جوز الهند عناقا حقيقيا كعناق الأحبة
لا أحد يدري بأسراري إلا بوسيدون إله البحر
هو وحده الذي استأمنه على عواطفي
فشكرا للطبيعة التي تنشر الحب والسلام في قلوبنا

لا يوجد مكان لكلمة(ربما)
سقط الإنسان حقا في التكنولوجيا فتغير صوته وملامحه وشكله الظاهري
ودليلي مايكل جاكسون ووجه هيلاري كلينتون ومؤخرة كردشيان التي عرضها ميل كمقعدة حورية

أما الأصوات فإن التكنولوجيا تعدّل فيها فلم يعد لها بصمة كما كانت أيام زمان بلا مايكروفون ولا آلات تطفى على العيوب

أيها الشاب ابن السبعين
لا تحزن من تصرف مفتش التذاكر
نحن نضيع بسبب الأموات الذين لا يعرفون معنى الحياة وبنشر الإرهاب يعيشون

من حقه أن يشك بنا،وليته يشك في كل واحد حتى لو حمل سمات الأوروبي الأشقر الأزرق

ننتظر وقفة جديدة لك قريبا فلا تتأخر علينا


5 - تحية شكر
سيمون خوري ( 2016 / 10 / 11 - 11:40 )
اختي العزيزة ليندا تحية لك وشكرا على زيارتك للصفحة وكلماتك الوردية التي اعتز بها ومشاعرك الانسانية ونحن بإنتظار مقالاتك الجميلة على صفحة الحوار


6 - شكرا أيها العاشق الأبدي
حميد خنجي ( 2016 / 10 / 11 - 23:18 )
شكرا زميلي على هذه الخواطر الآسرة. بتقديري لا توجد سفرة أجمل من رحلة بالقطار. أبدا عشقت القطار والسفر فيه وبه. كل ما وصفته كان جميلا وتلقائيا وعميقا. و لو أن تصرفات مفتش التذاكر كانت الغيمة الكالحة في سفرك القصير! صار لي كم سنة لم أر أي قطار.. أصلا لم أسافر.. أضحيت أشبه ببحيرة آسنة، أنا الذي كنت مولعا بالأسفار، بالقطارات خاصة. مازلت أذكر عندما ركبنا (أصدقاء العمر الثلاثة/ أحدنا رحل قبلنا من سنوات قريبة خلت) قطار الشرق السريع (لم يكن سريعا على الإطلاق) من بغداد، بغية إكتشاف أوروبا -قلب العالم- في أكتوبر 1970، حيث رئينا بلدات وقرى وثقافات وبشرا.. الخ، لم تكن في حسبان مخيالنا اليافع.. حتى وصلنا برلين، بعد أسابيع. ثم لندن في ديسمبر! أتمنى أن أفعل شيء مثله في سانحة قريبة، كمشروع أخير، وأنا أناطح خريف العمر، قبل الرحيل النهائي (من برلين إلى الشرق- فلاديفاستوك)! أما العودة.. أفكر بالحافلات والقطار أيضا، عبر بحيرة بيكال (مشروع يداعب خيالي المريض منذ مدة طويلة)! شكرا عزيزي سيمون.. متمنيا لك الصحة والعمر المديد (ولا شيء أهم منهما). أعرف جيدا الشمال اليوناني وسحر طبيعته وسحنة جباله وألق صباحاته


7 - ما هذا الوصف الرائع
سيمون خوري ( 2016 / 10 / 15 - 12:57 )
اخي حميد المحترم تحية لك وشكرا على زيارتك بل شكرا على هذه الاضافة الجميلة لرحلة القطار او رحلة العمر وكلاهما يتشابهان خاصة في المحطة الاخيرة
اخي حميد اتمنى لك سفرة سعيدة اخرى واعتقد ان الزمن لا زال في صالحنا وهناك أشياء يمكن أن نفعلها ومنها الرحلة التي تبدد حالة الإكتئاب أحيانا. . فلا شئ أجمل من الإحساس بما حولك من طبيعة وحياة .
تحية لك مع تقديري واحترامي

اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ