الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من مفكرة دراسة اجتماعية : تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق 2

عبد الرحيم العطري

2005 / 12 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من مفكرة دراسة اجتماعية
تفاصيل رحلة نحو المغرب العميق - 2 -
عبد الرحيم العطري
على امتداد أربعة شهور من سنة 2001 كان السؤال الشقي يتأجج في الأعماق بحثا عن إجابات ممكنة و مقنعة لكل هذا اليأس المعتق ، و لكل هذا البؤس المجتمعي الذي " يرفل " فيه هذا المغرب غير النافع ، كنا نعانق الألم الباذخ و الجرح الغائر لواقع يرفض الارتفاع ، و نحن نشارك في استشارة وطنية للشباب بجهة عبدة دكالة .
كنا نرتحل عبر الأزمنة و نحن نعاين الفداحة القصوى ، نصل إلى قرى و هوامش خذلها الجميع ، و تركوها تنتحب و تبكي حظوظها التعسة ، و ننتهي بعدئذ إلى أقاصي الرفاه و الثراء ، لنغوص مجددا في رحلة أخرى أكثر عجائبية ، نبحث على طول الطريق عن حبات فهم تجعلنا نهضم هذه المسافات الضوئية بين مغارب اليوم ، لكننا نعجز عن الفهم .
هذه إذن أشياء و أشياء سقطت سهوا و قصدا من مفكرة بحث وطني حول الشباب ندعوكم لمعانقتها بكل امتلاء .
الحبة الحرام
في الهامش تنكشف الحقائق من غير زيف ، في الهامش يلوح الواقع العنيد ملء الانكسار و التشظي ، و يصير ضروريا التحرر من كل حكم مسبق لم يختبر واقعيا ، و في ذات الهامش المفتوح على كل الاحتمالات كان لنا موعد مستمر مع ظواهر و مواقف تستعصي على الفهم ، ففي إحدى الأزقة المتفرعة من حي سيدي عبد الكريم بأسفي ، بدا أن الكثافة السكانية مرتفعة للغاية ، و أن الأطفال قد ملأوا الزقاق عن آخره مع العلم أن مرورنا لم يكن مصادفا لأية عطلة مدرسية تبرر استعمار هؤلاء الصغار لهذا المجال .
قليلة هي الأبواب التي شرعت في وجهنا من هذا الزقاق ، كان الجواب الجاهز الذي يأتينا من وراء الباب " مول الدار ما كاينش "، و حتى الأبواب التي انفتحت بعد لأي فقد فتحتها في وجهنا نساء لا يبدو منهن أي شيء ، حسبنا أنفسنا في دولة أخرى غير المغرب ، لباس أسود داكن و فتحة تكاد تبين تلوح منها عين منقوعة في الهم و الألم " الله يخليك إلا جا راجلي راه غادي ينوض شي صداع " ، تأكدي أيتها السيدة بأننا لا نريد أن نجلب لك أية متاعب ، كل ما نريده هو استقصاء آرائك بخصوص جملة من القضايا " إذن سربي دغيا قبل ما يجي ".
تواترت الأسئلة و انكشف الحزن الغائر في الأعماق ، فالسيدة انفرض عليها فرضا الانخناق وسط ثوب خشن باهت اللون، و انفرض عليها أيضا أن تكون مثل الأرانب لا تنتهي من حمل إلا لتنخرط في آخر ، فقد ولدت لحد ساعة ملء الاستمارة ستة أطفال أكبرهم لم يتعد الثانية عشرة من عمره ، كان من بين الأسئلة سؤال عن استعمال وسائل منع الحمل ، قالت بصدده أن زوجها الفقيه في أمور الدين يقول بأن تلك الحبوب هي حرام حرام ، و كل النساء اللواتي يستعملنها سيدخلن جهنم ...
هذا هو اعتقاده الراسخ ، و هذا ما فرض عليها كرها و قسرا ، مثلما انفرض عليها الانسجان في قفص يقال أنه ذهبي ، استحالت معه إلى آلة بيولوجية تختص في تفريخ أطفال لا مجال أمامهم غير ذات الزقاق النتن ، و الحبة الحرام تتحمل المسؤولية التاريخية في كل ما وقع و ما سيقع .
تركنا الزقاق المتخصص في إصدار فتاوى التحريم و التحقنا مجددا بعوالم أخري تحكي مغربا بالغ التعقيد يحتضن مغارب شتى تتنافر و تتجاور بشكل سوريالي ، فما الحرام ؟ الانتهاء من العمل كآلة بيولوجية ؟ أم تفريخ الإعاقة الاجتماعية ما دام كل وارد جديد هو في البدء و الختام و وفقا لشروط الولادة ، هو مشروع معاق اجتماعي سيساهم بدوره في توسيع خريطة الفقر و لما الإجرام و العنف .
مائة درهم
بالمعاشات قريبا من أسفي كان لنا أكثر من لقاء مع شيب و شباب يشكلون الاستثناء ، ربما الأمر راجع إلى ما يحكى عن هذه القبيلة من حكايا يتداخل فيها الأسطوري و الواقعي، فالمعاشات في المخيال الجمعي القروي يؤشرون على انتماء قبلي يتخصص المتحدرون منه في علاج الحيوان بل و حتى الإنسان الذي أصيب بالسعار ، و بلغة المعاشات فهم يعالجون الحيوان " المجهول " أي المصاب "بالجهل " ، و أكثر من ذلك فلحم البقرة التي فرط أصحابها فيها إلى ألم بها السقم اللعين ، يأكلونه و لا يحدث لهم أي شيء ، فما هذا هل صرنا بطبنا الشعبي التقليدي أكثر تقدما على آل الشمال الذين ما زالوا لحد الآن يبذلون قصارى الجهود من أجل إيجاد لقاح ناجع لمرض جنون البقر ؟
الأمر إذن يستدعي دراسة أنثروبولوجية معمقة ، و لما استعمالا لمنهج الملاحظة بالمشاركة كما اقترحه مالينوفسكي ، فالظاهرة مثيرة للغاية ،و الانفتاح عليها ستكون له فوائد كثيرة ، لكن ما مطامحنا المعرفية تتحقق دوما ، فالظواهر الاجتماعية تستغرق المرء و تأخذه من حقل لآخر ، الشيء الذي يجعل كثيرا من الدراسات مجرد مشاريع مؤجلة أو عناوين مكتوبة أسفل المذكرات .
و ما دام حقل المعاشات حابلا بالغرائبي ، فإن إجابات كثير من الشباب المعاشيين ، كانت تحمل كل أوجه الغرابة و العجائبية ، فجوابا عن سؤال يتعلق بالراتب الشهري الذي يريد أن يتقاضاه ، أجاب أحد الشباب المتعلمين بأنه لا يريد أكثر من مائة درهم في الشهر ، أي نعم يريد مائة درهم فقط ، إنه يحلم بهذه الورقة النقدية فقط، يكفيه هذا الراتب البخس لهزم كل إكراهات اليومي المتناسلة بغير انقطاع .
كم هي صغيرة و عادية أحلام الهامش ؟ فقط نريد كساءنا و خبزنا ثلاث مرات كما دعا المسيح يوما ، و لا نريد لا إعادة لتوزيع الثروة من جديد و لا حلولا راديكالية كتلك التي يكتبها آل اليسار النبيل ، هذا هو لسان حال الشباب في تلك المنطقة النائية ، فلماذا نحول بينه وبين ما يحلم به و لو كان عاديا جدا ؟
تبا لنا من باحثين و تبا لنا جميعا من أفراد وطن يئد الأحلام و يبخسها مهما كانت صغيرة و عادية ، ألا يمكن لكل هذه المؤسسات و الهياكل الرسمية و غير الرسمية التي بات يختنق بها المشهد العام ، ألا يمكنها و هي التي تتبجح دوما بالانحياز لللقابعين في الأسفل أن تحقق و لو جزءا ضئيلا من هذه الأحلام العادية ؟فمتى يحدث ذلك إن جاز لنا أن نحلم مثل المعاشيين بمثل هذه التفاصيل العادية ؟


ضريبة الإصلاح
لما وصلنا إلى الجديدة وجدنا تؤبن ثلاثة من عمال بلديتها رحلوا عن زمنها المعطوب اختناقا بسبب غازات سامة متسربة من إحدى البالوعات التي كانوا يهمون بإصلاحها ، كانوا يريدون تسليك مجاري المياه و علاجها من الاختناق ، فماتوا بالاختناق ، أهذا هو قدر كل من يريد إصلاح العطب ؟ أن يكون أول مكتو به و أبهى ضحاياه ؟
خرجت المدينة تبكي الراحلين خطأ ، ترفض التلوث الذي يقذفه إليها معمل الخميرة ، و خرج الراكبون على مثل هذه القضايا لتلميع صورهم و الظهور بمظهر المدافعين عن مصالح الناس ، و قليلون جدا هم الذين تفضلوا بعيادة آل الضحايا و مساندتهم في هذا المصاب الجلل ، حتى البلدية ذاتها لم تعترف بأن الموت يدخل في خانة حادثة الشغل إلا بعد لأي ، كان بعض جهابذتها يريدون ربط المسألة بعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة . المهم في النهاية الكل يتهرب من المسؤولية و يلقي اللوم على الأقدار و الحظ التعس و سوء الطالع و ظروف الطبيعة ، هكذا نحن ندس الرؤوس في الرمل ، و نتهرب من مواجهة الحقيقة .
لم يكن ممكنا و الحالة هذه أن نحمل أقلامنا و استماراتنا و نتوجه إلى أحياء المدينة، فالكل منشغل بهذا الموت الفجائعي ، انتظرنا بضعة أيام حتى بدأت المياه تعود إلى مجراها الطبيعي و انطلقنا من جيد نتسكع في مغارب المغرب ، من دور مهددة بالانهيار و أناس شبه ميتين بسبب الفقر و الضياع إلى عوالم من ألف ليلة و ليلة و مواطنين من الدرجة الأولى ، و إلى جماعات منسية و أخرى تعتبر الأولى على صعيد المغرب من حيث مداخيل الميزانية .و على امتداد الرحلة كلها كانت ضريبة الإصلاح تعنف التفكير ، هل كل راغب في إصلاح العطب يكون أول المكتوين بذات العطب ؟
طبعا فالعطب يتمكن من التجذر في المكان الذي يكون فيه ، و بالتالي فهو بآلياته و المستفيدين منه بالدرجة الأولى يرفضون أي وارد جديد و أي راغب في التغيير و الإصلاح ، و منه تنطلق المقاومات ومحاولات الاحتواء و التدجين و ، عندما تفشل صيغ الترغيب و الترهيب الأولية ، تحسم النهاية لصاح الأقوى الذي هو العطب في مجتمع مجبول على العطب ، لهذا تكون ضريبة الإصلاح في الغالب باهظة و مؤلمة بالنسبة لمن يحمل لواء الإصلاح و التغيير . فها العمال السماكين أرادوا إصلاح الاختناق فماتوا اختناقا.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم