الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة السوداء

محمد الدحاني

2016 / 10 / 2
الادب والفن


الذاكرة السوداء
تقرأ معناه أن تعاقب نفسك ! ارتبط عندنا نحن المغاربة أبناء المغرب العميق، التعليم بالضرب؛ أي بالعصا، حتى استبطنا أن الضرب هو الآلية الفعالة للتعلم، ونسجت مخيلتنا حوله أحكاما شعبية من قبل أن أب التلميذ يقول للمعلم: "قتل وجبلي ندفن"، أو "انت ذبح وأنا نسلخ"…، وكأن العملية التعليمية التعلمية أصبحت مسرح للجريمة مباح ومتفق عليه بين والي التلميذ ومعلمه، وكلهم يظنون أن الضرب سيجعل من هذا التلميذ/ الضحية، نخبة المستقبل وأنه بقدر ما "أكل "من العصا، بقدر ما سيجني مكانة ووظيفة محترمة ترتقي به وبمكانة عائلته الاجتماعية، في هذا الصدد يقول الشاعر الذي لا أتذكر اسمه:
لا تحزننا على الصبيان إن ضربوا فالضرب يبرا ويبقى العلم والأدب.
الضرب ينفعهم والعلم يرفعهم لو لا المخافة ما قرؤوا وما كتبوا.
لو لا المعلم كان الناس كلهم شبه البهائم لا علم ولا أدب.
من هذه الأبيات نلاحظ أن الجميع كان متواطئ في جريمة الضرب التي كان يتعرض لها التلاميذ، ابتداء من المخيل الشعبي، مرورا بالأدب والشعر وانتهاء بالنظام التعليمي الذي كان يتبنى مقاربة التدريس بالأهداف، سأعود للتعليق عليها لاحقا، بعد أن أنقل لكم هذا المشهد المرعب الذي يعود بي الى بدايات الألفية الثالثة، وبالضبط في مستوى الثالث ابتدائي، هذا المشهد الذي حفر في عمق ذاكرتي، واسمحوا لي أن أنبه أنه لا يجوز قراءة وتتبع المشهد من طرف الذين عاشوا وترعرعوا داخل المدارس الخصوصية، في حضن المغرب النافع...بعد التنبيه لكم المشهد:
"إنه فصل الشتاء والجو شديد البرودة، وأسناننا تصطك من شدة البرد، قطعنا خندقين (عبارة عن وديان صغيرين تزداد خطورتهما بتزايد نسبة وكمية المطر التي تعرفها المنطقة. وسبق أن راح ضحيتين غرقا من أبناء الدوار فيهما)، قطعنا مسافة تقارب كيلومترين حافيين القدمين بسبب "الغيس"، (أي الطين الذي يرتوي بالماء ويصبح يشكل صعوبة في المشي بالأحذية، وأي أحذية، كانت أحذيتنا ثلاث أنواع: إما "صندالة من الميكا" أو بطا خنيز "نوع من الحذاء يشبه الحذاء الذي يلعب به كرة القدم، وكنا نقول عنه ثمنه رخيص ورائحته كثيرة، لأنه يطلق في الجو الساخن رائحة كريهه، أما النوع الثالث كان نادرا والمسمى ب"البوط" هو عبارة عن حذاء يفوق الكوعين بحوالي عشر سنتيمترات، وأغلب هذه الأحذية تكون مثقوبة من الأسفل وتسمح بمرور الماء، لذلك كنا نلجأ الى وضع الميكا في أرجلنا للحد والوقاية من البرد"، رغم أن هذه التجربة عديمة المفعول. بعد هذه المعركة مع الحياة التي تتكرر كل يوم وعلى طول فصل الشتاء وصلنا الى المدرسة، دخلنا القسم، قمنا جميعا ورددنا التحية بالفرنسية كما علمنا أستاذ الفرنسية "bonjour monsieur"، كعادته معلمنا لم يرد التحية، يعلمنا الأدب وهو يفتقده، والمعلوم عندنا أن إلقاء التحية غير واجب، لكن ردها واجب ومع ذلك لم يكلف نفسه لكي يرد علينا التحية ولو فقط بمثلها وليس بأحسن منها كما يحث على ذلك القرآن، ومن المعروف أن التحية هي بمثابة اعطاء الآمان للذي أمامك، وكذلك من يردها عليك يبادلك هذا الآمان وهذا ما لم يفعله معلمنا الذي يدعى "السي كمال"، فملامح وجهه لم تكن تبشر بالخير كما لم تكن تزرع الآمان في نفسنا نحن الصغار، السي كمال، كان مكلف بتدريس الفرنسية والمواد المبرمجة معها كالرياضيات كما هو معلوم عندنا في المستوى الابتدائي. معلم الفرنسية هذا كما كنا نسميه، كان قد كلفنا بقراءة نص من " livre le" وهو اسم كنا نطلقه على كتاب الفرنسية المعتمد في مستوانا. النص كان يمتد على طول صفحتين. سأل معلمنا سؤاله الكلاسيكي "شكون قرا النص وشكون اللي مقرهش؟"، فعلا سؤال معلمنا له طابع إشكالي ويتضمن مفارقة، وكل شق من المفارقة يقتضي أن يكون له نصيب من المعقولية و المحدودية، وهذا ما كان يرفضه "السي كمال"، بحيث كان يرفض أن يكون جوابك، مثلا أن تقول "شوية"؛ بمعنى أنك قمت بمجهود، ولكن لم تتوفق في اتقان القراءة، هذا الأخير كان يعني في تمثلنا آنذاك القراءة السريعة والصحيحة للنص، ولا أدري ما مصدر هذا التمثل، ومن أين أتينا بهذين المعياران كشرط للإتقان. السي كمال لم يراعي الشروط الموضوعية التي كانت تحول بيننا وبين اتقان القراءة بالفرنسية، فضلا عن الظروف الطبيعية، كنا عند الانتهاء من القراءة نعين أسرتنا إما في تربية الماشية/السروح، أو في جلب الماء...، بالإضافة أننا لم يسبق أن درسنا الفرنسية من قبل، كما أنه لا يوجد أحد في العائلة يعرف الفرنسية حتى يساعدنا على قراءة النص، لذلك كنا نقول بكل جرأة وصراحة في الرد على سؤال معلمنا "شوية". السي كمال لم يكن يراعي كل هذه الشروط الموضوعية، بل واختزلها في شروط ذاتية، ولمعالجتها شمر على ذراعيه، وكأنه داخل الى ساحة الحرب، بدأ بضرب/تربية؛ من لم يقرؤوا النص، لم أكن شخصيا من هذه الفئة، لكن حتما سيأتي دورنا نحن لا محالة، فالسي كمال لا يجد متعته إلا إذا ضرب جميع التلميذات والتلاميذ، وهذا ما شجع الكثير منا على ألا يلتزم بوصايا المعلم في الاستعدادات القبلية، لأنه "سيأكل" نصيبه من العصا ولا بد، لذلك ما فائدة المجهود والاجتهاد إذ لم يكن سينجيك من عصا السي كمال؟.
انتهى الشوط الأول من القتل العمد والمبرر في اعتقاده، جاء دورنا نحن "المجتهدين"، أؤكد من جديد أن النص المطلوب قراءته طويل ويمتد على طول صفحتين، بدأ يوزع علينا القراءة، أنت تقرأ وفجأة يقول لتلميذ آخر أو تلميذة أكمل، وإذا لم تكن على بال ومتابع مع القارئ، ستقدم نفسك "للقتل" المجاني، ثم يعود السي كمال ليقول للأول: أكمل القراءة، والعجيب أن حتى الذين صرحوا من قبل أنهم لم يقرؤوا النص، ونالوا عقوبتهم عن "طيب خاطر"، أقول عن طيب خاطر لأن معلمنا إذا قلت له: أنك قرأت النص، واكتشف أنك لم تقرأه، يكون حضك من الضرب مضاعف مرات ومرات عن الذين قالوا أنهم لم يقرؤوه.
فجأة جاء دوري، طلب مني قراءة النص، عنوان النص كان يبدأ ب "...recherche"، كانت لدي مشكلة في مخارج الحروف بالفرنسية، وخاصة حين يقترب في كلمة واحدة حرف "الشين" "che"، كما هي كلمة "recherché"، حاولت بسذاجتي أن أنطق عنوان النص بصوت منخفض وأمر بسرعة الى قراءة النص، كشكل من أشكال المراوغة والتغطية عن مشكلتي في مخارج الحروف، كانت كل مشكلتي هي عنوان النص، أما النص فمتمكن منه، أي أني متمكن من قراءته بشكل صحيح وبسرعة، وهذين هما المعياران اللذين قد أنجو بهما من عقوبة "سي كمال"، في مراوغتي هاته، قاطعني السي كمال، وقال بنبرة صوتية مفعمة بالغضب: "عاود"، لم تنجيني حيلتي، وفعلا تلعثمت في العنوان ووجدت صعوبة في النطق، فقال لي: "لموك العنوان ومعرفوش"، نظرا لعبقريته الفذة، عرف أني لم أقرأ النص، ولم يعرف أن لي مشاكل في مخارج بعض الحروف، نعم السي كمال، ظن أني من الفئة التي كانت تود الافلات من العقاب بالحيلة، حاولت أن أدافع عن نفسي، وأترجاه لكن دون فائدة، كنت من القلائل الذين يترجون السي كمال ويدافعون عن أنفسهم، وذلك ليس شجاعة مني، وإنما كنت أصغر تلاميذ القسم، ولا أتحمل الضرب نظرا لبنيتي الجسمية الضعيفة، المعلم ذو البشرة السوداء لم يبالي برجائي. نعم بدأت ارتعد، أي الارتعاد من الدرجة الثانية، بعد الارتعاد من البرد، لا أدري لماذا وكيف تحكمت ولم أتبول على سروالي؟ فكل الشروط كانت متوفرة لهذا الطارئ الناتج عن شدة الرعب والخوف، بدأت المجزرة، العداد متوقف؛ أقصد الصديق الذي كان مكلف طواعية بحساب عدد الضربات التي قدمها السي كمال لأحد طيور الجنة. صديقي كان قد تناول حصته قبلي، وهذا ما جعله لا يقوى على حساب عدد الضربات منذ االبداية. وأنا أتناول جرعات الموت في ذلك الصباح الواحدة تلو الآخرى، فإذا بصديقي يسترجع قوته فهو شخص متفان في عمله، وبدأ الحساب بعدما قطعت مراحل مهمة في "القتل"، فأحصى فقط الجزء المتبقي من حصيلتي التي وصلت 18 ضربة. فالسي كمال كان يصل أحيانا الى 70 ضربة لبعض التلاميذ.
عدت لمكاني، لم يتركني السي كمال، "أتلذذ" بألمي، وذلك عبر قبض العمود الحديدي من الطاولة بيدي، كنا نعتقد أن لمس العمود الحديدي البارد يخفف من شدة الألم. السي كمال طلب مني قراءة النص من جديد، قلبي كان يعتصر ألما وكبدي تسيل مرارة وعيني تجري مدرارا ومغزارا من شدة الألم الذي تعرضت له، من جديد تعثرت في النطق، فالمشكل خارج عن ارادتي، لكن بعد محاولتين، نطقته بشكل صحيح خوفا من تكرار العقاب، وأكملت قراءة النص بسرعة وقرأته قراءة سليمة وصحيحة وسريعة فالسرعة مطلوبة في فصل السي كمال بل ضرورية، عند قراءتي للنص لم يطلب السي كمال من أحد أن يكمل كما فعل مع الزملاء من قبلي، وبعد انتهاء النص، عوض أن يشجعني أو يعترف على الأقل بمجهودي، قال قولته العصماء: "شفتي لموك لعصا شنو كدير"، هذه الجملة لازالت غصتها في حلقي الى حد كتابة هذه الذاكرة، وربما ستعيش معي الى أخر لجظات حياتي، اللهم إذا أصبت يوما ما بفقدان الذاكرة أو بالزهيمر.
السي كمال كان عامل أساسي في الهدر المدرسي بمدرستنا "فرعية مجموعة مدارس عقبة ابن نافع بالحناوات"، بحيث سبب للعديد من زملائي وزميلاتي في الانقطاع عن المدرسة، لأنهم لم تبقى لهم/ن القدرة على تحمل ذلك الكم الهائل من الضرب والقتل والسب، والعجيب أن السي كمال أخذ شهرة بأنه معلم "كيقري مزيان" حسب تعبير أغلب آباءنا وأمهاتنا.
لا أخفيكم سرا، أنه لم يسبق لي أن كرهت أستاذا أو معلما ، كما كرهت السي كمال، بل وصل كرهي له أني نظمت حملة لجمع التبرعات من تلميذات وتلاميذ القسم، وحددت قدر المساهمة في درهم ونصف لكل تلميذة و تلميذ، وكان الهدف من هذه الحملة جمع مصاريف التنقل لمعلمنا حتى يسافر إلى أهله يوم السبت وألا يدرسنا، على الأقل سنرتاح منه يومين في هذا الأسبوع؛ السبت والأحد، لأن السي كمال كان إذا لم يسافر يدرسنا حتى يوم الأحد، وقد يكون هذا ما جعل آباءنا وأمهاتنا يقولون عنه :"معلم كيقري مزيان". فعلا قمنا بتلك الحملة التي تزعمتها شخصيا، كل التلاميذ أدوا الثمن على الفور، وكيف لا ونحن نشتري حريتنا وفرحتنا التي تعادلها فرحة الخروج من الفصل حيث ننطلق نجري ونصرخ كما ينطلق عصفور من قفصه ويطير في السماء ويبدأ يزقزق كما كنا نحن نهلل فرحا وكأننا خرجنا للتو من قفص أو من سجن، وكيف لا نفرح ولا نصرخ ولا نهلل ولا نجري....وحريتنا لا ثمن لها. شهرة السي كمال زادت من كرم أهلنا لما أخبرناهم بأنه سيسافر الى أهله في نهاية ذاك الأسبوع، لم يكتفوا أهلنا بإعطائنا مقدار المساهمة، بل أعطونا معها البيض والحليب البلدي ومشتقاته وزيت العود. والعجيب أن معلمنا فرح بهذه الحملة التي كنت أعتبرها مغامرة، وفعلا ذاك السبت لم يدرسنا إلا ساعتين دون أن يضرب أحدا منا، وفي الحقيقة لم يدرسنا، وإنما كان ينتظر التلاميذ الذين ذهبوا لجلب البيض والحليب والزيت، بعدما جمع غنيمته كلف أربع تلاميذ وهم الأكبر سنا وقوة بيننا أن يحملوا معه غنائم حربه الى محطة المسافرين بسد الوحدة نواحي مدينة وزان. لا ننسى أن نذكر أن المعلم من نواحي مدينة سيدي قاسم وكان في السنة الأولى من تعينه في مهنة التدريس.
كبرنا وعلمنا أن الضرب الذي تعرضنا له في الصغر على يد السي كمال كان مبررا في العملية التعليمية التعلمية، ويتجلى ذلك في اعتماد بيداغوجية التدريس بالأهداف في النظام التعليمي بالمغرب، هذه المقاربة التي تستمد جذورها من النظرية السلوكية، وجوهر هذه المقاربة يستهدف ذاكرة التلميذ، دون مراعاة بنية العقل الأخرى كالذكاء و المخيلة. والخطأ فيها يأخذ بعدا أخلاقيا أي الخطيئة، بمعنى إذا لم تستطع ذاكرتك تخزين ما تلقيته من معارف ومعلومات، حتما ستعجز على استردادها، أي استرداد تلك المعارف التي تلقيتها من معلمك/السي كمال نموذجا، وإذا عجزت عن استردادها يعني أنك ستتفوه بكلام لم يقله المعلم، والذي سيعتبره خطأ، وهذا الأخير يعتبر كذبا على المعلم ومن تم مشروعية عقابك بالضرب، لكن الغريب أن نحن جيل السي كمال درسنا المستوى الثالث ابتدائي سنة 2002، أي بعد التخلي والاستغناء عن مقاربة التدريس بالأهداف بسنتين من طرف النظام التعليمي المغربي وتم اعتماد بشكل رسمي مقاربة التدريس يالكفايات، هذه المقاربة كما هو معلوم عند كل مهتم بعلوم التربية تمنع وبالجزم ضرب التلميذ أو طرده من القسم.. إذن فلماذا درسنا السي كمال بالأهداف ونحن أبناء الكفاية؟. لم أجد جوابا يشفي غليلي عن هذا السؤال، إلا بعد أكثر من عقد قضيته في كراسي الجامعة، بين سجل الكتب والروايات والمجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية حتى قرأت يوما حوار أجرته يومية "الأحداث المغربية" مع المؤرخ والروائي والفيلسوف عبد الله العروي سنة 2013، الذي قال في رده على أحد الأسئلة عن التخلف: أن تخلفنا هو تخلف فكري، اي أن المعارف والأفكار تصلنا من الغرب متأخرة، وهذا التأخر هو عذر السي كمال، ربما لم يكن يعلم أن النظام التعلمي بالمغرب بدأ العمل بالكفاية وتخلى عن الأهداف، وخاصة السي كمال قد عيين بالمغرب المنسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى