الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكمساري (قصة قصيرة)

احمد الباسوسي

2016 / 10 / 8
الادب والفن


الحافلة شبه خالية، فقط بضعة ركاب مبعثرين داخلها لايلوٌن على شيء. الصخب والوجوم يضفيان على الميدان مسحة عبثية مجنونة حيث تربض الحافلة انتظارا لدورها في الانعتاق، صعد رجل نحيل، يرفل في بدلة قديمة رمادية اللون، واسعة، سأل عن وجهة الحافة، لم يهتم أحد بالاجابة على سؤاله، ولا حتى بالنظر الى هيئته التي تبدو فوضوية مثل الميدان. ملامحه المكرمشة تشي إنه ستيني، وإنه اعتاد ارتداء البدل والإصرار على ركوب موجة التأنق رغم انكماش الجسد والأطراف، ونضوب الصحة والمال. أعاد سؤاله لأحدهم كان يدفن رأسه خارج النافذة جوار أحد المقاعد القريبة من مقعده، " لو سمحت يابني الاتوبيس ده رايح المنيب"؟. عاد الشاب من شروده في تكاسل، احتوت عينيه اللامعة هيئة الرجل الفوضوية الحائرة، أجابه من دون مبالاة، " لا أعرف، لما ييجي الكمساري ابق اسأله". التفت الرجل حواليه، لم يظهر امامه سوى الغموض والحيرة، وركاب عجائز رجال ونساء يحجلون حتى يتسلقون سلم الحافلة المرتفع عن الآرض للصعود الى احشائها التي بدت خربة وغامضة، سألوا جميعا نفس سؤال الرجل، وتلقوا جميعا نفس الإجابة "لا أعرف"، ورغم ذلك استلقوا على مقاعدهم يلفهم القلق والحيرة ومحاولة اصطياد شخص ما يخبرهم بالاجابة. لحظات قليلة مرت قبل أن يصعد رجلان، أحدهما بدين، هيئته تبدو مثل هيئة الميدان الصاخب المزدحم بالفوضى، توجه مباشرة نحو مقعد القيادة، كان متبرما، حانقا، والآخر ضئيل الحجم يمسك أوراق التذاكر في يده، مضى في ذيل الأول يحاول احتوائه بكلمات غريبة، لكن السائق البدين مايزال يسب ويلعن كل شيء، وأي شيء. جاء سؤال سيدة من الركاب جالسة في ظهر السائق مباغتا مثل طعنة في ظهره، " الاتوبيس دوة رايح الجيزة يا اسطى؟". وجاء جوابه سريعا عاصفا من دون ان يلتفت ناحيتها " أيوه رايح المخروبة، ملعون ابو الاتوبيسات على الي بيسوقوها على اللي بيركبوها". احتجت السيدة وبعض الركاب، ارتفعت وتيرة التلاسن داخل الحافلة أثناء تحركها مغادرة الميدان، والكمساري يحاول احتواء الأمر والركاب الثائرين، ولما فشل توجه نحو باب الحافلة المجاور للسائق، طفق مثل المعتاد ينادي بأعلى صوت " جيزة، منيب" لعله يلتقط آخرين من الشارع يزيد بهم غلته من محصول اجرة التذاكر المباعة للركاب، ثم أدار وجهه داخل الحافلة حتى اصبح في مواجهة صاحب الوجه المكرمش والبدلة الواسعة، طالبه بالأجرة، نبشت اصابع الرجل داخل جيوبه ثم خرجت بحافظة نقود خاوية، رمق الكمساري المتحفز الرجل نظرة العالم ببواطن الأمور، والمطلع على الالعيب اولئك المتسكعين في الشوارع والراغبين في أن يعيشوا "سفلقة" على حساب الدولة من دون حساب، لكن الرجل لم يحرك ساكنا، لم يكن يردد سوى كلمة واحدة بمنتهى الوهن والاستكانة والتوسل "معاييش يابني، والله لو معايا كنت اعطيتك"، اتسعت نظرة الكمساري للعجوز المتأنق المنكسر لتصير شرارا لايمكن احتماله. الحافلة تخترق الشوارع في صخب لافت، والركاب الذين تكاثر عددهم داخلها انشغلوا بالتسابق على المقاعد القليلة الفارغة أو الحملقة في الشوارع خلال زجاج النوافذ للهبوط لاعمالهم ومصالحهم، لكن أحدا لم يهتم بمتابعة الأمر الذي يجرى بين الكمساري والرجل صاحب البدلة الواسعة والمحفظة الخاوية. عقيرة الكمساري انطلقت غاضبة ضد الرجل الذي ابلغه توا إنه لايملك ثمن التذكرة، انتفخت اوداجه، إكفهر وجهه، خرجت عبارات سريعة، حادة، منفلتة هتكت ستر العجوز الذي غرق في بدلته القديمة، وتفتت هيئته، وتناثرت اشلائها، بينما انشغل غالبية الركاب بعدم الاكتراث سوى راكبين اثنين تابعا النقاش وانصرفا لحال سبيلهما حينما طالب الكمساري السائق ان يتوقف لطرد الرجل من الحافلة لأنه لا يريد أن يدفع ثمن التذكرة. أخيرا خرج العجوز من دهشته، تمكن من البكاء، ومن الحديث، خرجت كلماته واهنة، مترددة، " هذه حافلة الشعب، ومن حقي ان اركبها حتى لو لم يكن معي نقود". طفق يردد هذه العبارة وهو يسير في اتجاه باب الخروج بعد ان اوقف السائق الحافلة لطرده. لم يعد بمقدور العجوز ان يلتفت الى عيون مشفقة، أو مترصدة قاسية، أو حتى الى تلك المرأة السمراء البدينة التي عنفت الكمساري بقوة، وطالبته بتذكرة على حسابها للرجل الذي كان قد اقترب من الباب ولم يعد يلتفت للنداءات التي انطلقت من خلف ظهره تطلب منه البقاء في الحافلة، لأن ثمن التذكرة قد سددته المرأة التي كانت تجلس في المقعد الأخير.
اكتوبر 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81