الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-نكبة- الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة

خالد الحروب

2016 / 10 / 9
الادب والفن




ليس ثمة جديد في الإشارة إلى الأدوار المُعقدة والمُركبة التي تلعبها الاسطورة في تشكيل الهويات القومية الحديثة. كل قومية إثنية او دينية إحتاجت وتحتاج إلى جملة من الاساطير كي تبني عليها هويتها: تهاجر إلى الماضي، حتى لو كان ماضياً قريباً، لتبحث في اركيولوجيا التاريخ المنسي عن حدث هنا، او بقايا معركة هناك، فتجلبها إلى الحاضر بكل قوة ومبالغة، وتحولها عماداً لما تريد تعزيزه وادلجته. فجأة تصير لملمة شظايا وقائع وشبه وقائع متناثرة مكانياً وغير مترابطة زمنياً "تأريخاً" عضوياً ومتسلسلاً مكرساً للقومية المعنية، او للايديولوجيا، او للفكرة المتوترة التي تبحث عن عراقة وشرعية مفقدوتان. كتابات المفكرين الذين تأملوا في الآليات المدهشة لتصنيع الهويات، منهم جان لوك، ارنست رينان، بندكت اندرسون، هيو سيتون واتسون، ارنست غلنر، اريك هوبوزبوم، تشير كيف يُفبرك التأريخ المُتخيل امجادا وبطولات وهويات لا قاسم بينها سوى الإصطناع والإنتقائية والعلوية المُفترضة. من دون إختراع وإعادة إختراع أساطير الماضي، البعيد والقريب ايضاً، لا تقوم قوميات وهويات الحاضر، وعلى وجه التحديد الصلدة منها والمتوترة. هذه الأخيرة على وجه التحديد لا تعتاش إلا على تخليق عدو خارجي تظل تستثمر تهديداته سواء الحقيقية او المتخيلة، كما نظر يوهان فيخته البروسي في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وذلك بهدف استنفار ميكانزمات الدفاع الجمعوي لقومية معينة بما يبقي هويتها دائمة الحضور وحادة القسمات.
المثال الابرز سطوعاً هو القومية والهوية "الإسرائيلية" التي نبش مخترعوها ولا زالوا ينبشون كل زوايا التاريخ لتخليق علاقة قوموية وهوياتية ودينية وإرتباطية بفلسطين. الفلسطينيون لم يحتاجوا إلى ذلك الرحيل المضني في التاريخ لإثبات ذاتهم الجماعية وعضوية علاقتها بالارض. لمن يكن هناك هوس مرضي بقصة الهوية والقومية، وغياب ذلك الهوس هو البرهان الاكثر سطوعاً على عفوية وعمق العلاقة بالمكان. ضربة محراث الفلاح البسيط في الارض كانت تختصر الحكاية، فيضيق صدر المهاجر اليهودي الاوروبي الذي يلبس بدلة وربطة عنق ويراقبه من وراء السلسلة الحجرية، فيشعر بالغربة والسرقة: من توصيف، على سبيلة الأمثلة فقط، اميل حبيبي في المتشائل" إلى المشاهد الأخاذة لإبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء"، وليس إنتهاءاً بإلتقاطات ربعي المدهون في "كونشيرتو النكبة والهولوكوست". في مشهد دراما المقارنة الجماعية هذا لم يكن الفرق الرهيب بين "حداثة المهاجر" و"محلية" الفلاح ليبعث على الإطمئنان الهوياتي في دواخل اليهود الاوروبين، رغم ما يوفره هذا المشهد من إحساس حاسم بالتفوق المادي والعسكري. في قلب المحلية وعفوية الارتباط بالارض وربما اللامبالاة الساذجة إزاء الغرباء والتي وسمت الفلاح كان ثمة تجذر عميق أقلق ديفيد بن غوريون وعذبه، وهو يجول في الارض مُدعيا تملكها الحاضر وامتداد ذلك التملك في التاريخ. كان مشهد الفلاحين الفلسطينين وهم يحرثون ارضهم، بلبساهم التقليدي، ومحارثيهم البسيطة، لا يحتاج إلى تقعر تاريخي واسطوري ينتحر يأساً لتأسيس علاقة عضوية بفلسطين. بن غوريون قادته الرغبة الفاضحة في الإلتفاف على القلق الوجودي الذي بعثه فيه مشهد فلاحيي فلسطين إلى إطلاق مقولة مُنهِكة ومُنتهِكة للتاريخ بشكل فج ملخصها ان فلاحيي فلسطين واباءهم واجدادهم وكل اسلافهم ليسوا إلا يهوداً قدامى، تعود جذورهم "لليهود الاصليين الذين كانوا في فلسطين" لكنهم تحولوا إلى العروبة والاسلام في مراحل لاحقة من التاريخ!
في التأريخ للهوية الفلسطينية الحديثة تأتي النكبة لتلعب دوراً ملتبساً في إعادة التشكيل، ليست اسطورة، وليست ماض بعيد، او تاريخ مشكوك فيه. حدث حقيقي، ممهور بالدم والمأساة والحسرة، ثم الثورة. على عكس الاسطورة الماضوية المُستدعاة قسراً لتخليق هوية راهنة، تحضر النكبة كواقع تاريخي طازج وحار يفيض بالراهنية، ويعمل على تشكيل وإعادة تشكيل هوية استفزت للدفاع عن حضور اصحابها. على هذا تتموضع النكبة كواقعة وسيرورة وكارثة ورافعة تاريخية في قلب كل ما له علاقة بفلسطين الحديثة، وفلسطينيها، وتاريخها، وتحولاتها. وفي كثير من المقاربات تواجهنا مفارقة حقيقية ذلك اننا كلما اعتقدنا تعقلاً اعمق لواقعة النكبة، كحدث مأساوي مؤسس في التاريخ الفلسطيني، والهوية الفلسطينية، والتاريخ العربي الحديث، والهوية العربية، كلما اكتشفنا خطأ ما اعتقدناه.
النكبة تحولت إلى شيء معقد في الوجدان والوجود الفلسطيني: وهي خليط من أشياء. هي حدث حقيقي تناسل عنه واقع وترتب عليه هجرة وتهجير، وقيام دولة للعدو الذي تسبب في النكبة. وهي زمن بواباتي مركزي اغلق حقبة وفتح حقباً اخرى تختلف تاريخياً، وسياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، ووجدانياً. هي اهزوجة حزينة للجيل الذي ذاق مرارتها مباشرة. وهي الترتيل الليلي لفاجعة جماعية على وطن ضاع. هي الصدمة النهارية الدائمة للواقع الجديد. ثم هي بداية التمرد على الذات الجمعية التي سلمت قرارها لقيادات رخوة محلية او عربية، فكان ان اكتملت الكارثة على ايديها. بذلك التمرد تحولت كارثية وتحسرية النكبة إلى طاقة فدائية وثورية ارادت ان تمحو العار، وتعيد صوغ الزمن. لكن تذرى جزء كبير من تلك الطاقة، او كمن. صارت النكبة صندوق الذاكرة المليء بالمتناقضات: بالحنين إلى ماض لا يعود، بالهزيمة، بالتراخي، بالبساطة والسذاجة، بالجهل والتسرع في مغادرة الوطن، بجلد الذات ولومها وتحميلها جزء من مسؤولية ضياع البلاد، وبالنقمة على الشقيق الذي تخاذل عن المناصرة، او قدمها مشلولة وشالة.
تولد عن النكبة عشية وقوعها احد اكثر الوجوه الملتبسة والمكثفة والمحيرة في السردية الفلسطينية: المخيم. المخيم في لحظة ولادته كان عملياً إبن السفاح للجريمة التاريخية، كريهاً ومنقوماً عليه. كان البديل البشع والكالح للأمس الجميل والبرتقالي. إتساع افق البيارات والبحر والقرى والجبال أُغلق فجأة وانحشر هو والناس في خيم ضيقة كئيبة، باردة، وغريبة. ظل المخيم وساكنيه محقونين بالصدمة والحزن والنقمة. بعدها بسنوات انتفض المخيم على ذاته التراجيدية التي لم يكن هو السبب في نشوئها، وفي قلبه تولدت الفدائية والثورة، ربما بمنطق ديالكتيك هيغلي مُدهش. انتفض اللقيط على من تسبب في مصيره، وصار المخيم في الوجدان الفلسطيني صنو الكفاح والصمود وإعادة تشكيل الذات. كاد المخيم ان يستولي على الهوية ويتماهى معها، رغم انه كبنية ثقافية وتاريخية واجتماعية واقع طارىء يجب ان يزول. لكن الإلتباس ظل قائماً حتى هذا اللحظة. لنتأمل وقع وجرس اسماء المخيمات: مخيم الدهيشة، مخيم الامعري، مخيم الجلزون، مخيم الشاطىء، مخيم جباليا، مخيم البقعة، مخيم الوحدات، مخيم صبرا، مخيم شاتيلا، مخيم تل الزعتر، مخيم اليرموك. لنستمع ثانية لجرس، او هل اقول موسيقى، تلك الاسماء ونتأمل الإلتباس الذي يتركه والتداعيات التي تولدها في دواخلنا.
امام كل هذا الالتباس النكبوي وما تولد عنه من التباس مخيماتي وقف الإبداع الروائي الفلسطيني يتأمل ويفكك وينخرط. مركزية النكبة في اوجه الإبداع الفلسطيني لا تحتاج إلى تدليل او شواهد، وكذا مركزية ابنها المخيم: اللقيط اولاً والمنتزع شرعية الإبوة ثانيا. توزع معظم ذلك الإبداع على مقاربة جوانب الكارثية، والحزن، والحنين، واقله على جوانب النقمة والتأمل في المسؤولية الذاتية، والثورة على الذات والآخر. وقصر كثيره في الغوص في محرمات "نكبوية" ما تزال بحاجة إلى جرأة للتناول مثل هجرة ولجوء اهالي قرى وارياف عديدة من دون اي صدامات عسكرية بل خوفاً من وصول المنظمات العسكرية الصهيونية وجنودها، مضحين بالارض حفاظاً على العرض! تناول تلك المحرمات روائياً ودرامياً صار امراً ضرورياً لأن فيه درس راهن كبير يشير إلى ضرورة البقاء، البقاء في الارض رغم اي حدث واي نكبة.

** مساهمة في ندوة بنفس العنوان في معرض عمان للكتاب الدولي، بتاريخ 30 سبتمبر 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با