الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثمانون عامًا تمر دون حل لغز مقتل الشاعر الأسطورة غارثيا لوركا

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2016 / 10 / 25
الادب والفن


"لكنها تدور...."

ثمانون عامًا تمر دون حل لغز مقتل الشاعر الأسطورة غارثيا لوركا

خالد سالم
لئن اعتقد حسنو النية أن حلول الديمقراطية يحل ألغاز الاستبداد ويكشف ما خفي من جرائمه بغية محاسبة المسؤولين عنها فإن هذا يُعد ضربًا من ضروب المستحيل وسرابًا يرى فيه طيبو القلب صورًا لتحقيق العدالة، ضمن مدينتهم الفاضلة التي تصوروها في لحظات التحول الفارقة بلدانهم. كان هذا جزءًا من سراب ذهني شهدته غالبية الإسبان بوفاة الجنرال فرانكو، مهندس الانقلاب على الجمهورية الوليدة واشعال الحرب الأهلية الإسبانية 1936/1939، التي راح ضحيتها مئات الآلاف وخربت البلاد، وأجبرت صفوة مثقفي إسبانيا على المنفى وتفككت أوصال أعظم جيل شعري إسباني في القرن العشرين، جيل ألـ 27، الجيل الذي برز بين أعضائه الشاعر الأسطورة فدريكو غارثيا لوركا.
هذه السنة تحل الذكرى الثمانين لمتقل هذا الشاعر الغرناطي دون فك طلاسم الجريمة، والمكان والدواعي الرسمية لاغتياله على يد اليمين في مدينة غرناطة مع اندلاع الحرب الأهلية. إنها أغرب جريمة إغتيال أشهر شعراء اللغة الإسبانية مند أو ولدت في القرن العاشر. ولا يزال بلا إجابة نهائية السؤال الذي طُرح منذ صيف 1936 حول هوية الذين قتلوه ودواعيهم رغم عشرات الكتب والبحوث والمقابلات التي نُشرت حول هذه القضية.
يبدو أن أيادٍ خفية تحول دون فتح ملفات جرائم كثيرة ارتكبها نظام الجنرال فرانكو، من بينها مشروع "الذاكرة التاريخية"، التي كانت أحد أسباب الاطاحة برئيس الحكومة الإشتراكي رودريغيث ثباتيرو لصالح اليمين ممثلاً في الحزب الشعبي، ومعه دُفن المشروع الذي كان سيعني نبش ملفات جرائم تلك الحقبة.
من بيدهم المال والسلطة، ورثة حقبة الجنرال فرانكو، لا يغفرون لليسار، ورثة الجمهورية المَوْؤُدَة، وقوفهم في وجههم دفاعًا عن نظام اختاره الشعب مسقطًا الملكية. لا يزال ورثة ذلك النظام الفاشي يسيطرون على خيوط القوة والسلطة في البلد رغم عودة الديمقراطية والحريات منذ أربعة عقود، إذ بدأت شكليًا بوفاة فرانكو ووضع دستور 1978. مجموعة فرانكو لا تزال لها الكلمة الأولى في الاقتصاد والسياسة.
في بداية دراستي الجامعية كنت قرأت تقريرًا حول كتاب لناقدة أميركية مفاده أن الحقد والغيرة كانا وراء مقتل ذلك الشاعر في ريعان شبابه، 38 عامًا. لم استوعب الفكرة من منطلق إنساني، وقصر تجربتي. ومع مرور الأيام والسفر إلى إسبانيا للدراسة ترددت على إميليو غارثيا غوميث، شيخ المستعربين سنتئذ، في منزله وفي أكاديمية التاريخ التي كان يرأسها. في كل مرة كنا نتحدث فيها عن الموريسكيين وتأثير كتابه "قصائد عربية-أندلسية"، كان على رأيه لا يحيد، رغم أن الفارق بين أول وآخر لقاء عقد من الزمن. وضمن ما أكده إن الحقد المحرك الرئيس لمقتل غارثيا لوركا، فهذا الشاعر لم يتحزب، مع قربه من الفكر الإشتراكي، الجمهوريين. ومن بين ما قاله إنه آسف كثيرًا لكون الشاعر الغرناطي لم يشر إلى تأثره بكتابه قصائد عربية أندلسية. إلا أن رفائيل ألبرتي أكد لي أن الشاعر الغرناطي لم يمهله الاغتيال للاعتراف بأشياء كثيرة، من بينها تأثره بالشعر العربي الأندلسي.
أما زميله وصديقه الشاعر رفائيل ألبرتي فقال أسر لي أن قصيدة له كانت سبب جريمة اغتياله، كتبها ألبرتي ورددتها الإذاعة، هاجم فيها الانقلابيين وشحذ همم الجمهوريين، فظن اليمن أن مؤلفها غارثيا لوركا، وعندما كُشف عن مؤلفها الحقيقي كانت قد وقعت الواقعة، وانتهى الشاعر الأسطورة.
هناك رأي آخر للشاعر ماريو إرنانديث، الأستاذ في جامعة مدريد أوتونوما وأحد أبرز المتخصصين في أعمال غارثيا لوركا وجيله، مفاده أنهم قتلوه للاعتقاد بأنه كان شيوعيًا ولوطيًا. اوهي المقولة التي نتشرت لاحقًا ولم تُثبت.
هذه الآراء لا تعدم الوجاهة، إلا أن مقولة الجاحظ بمقولة حقد الصنف، القائم على عناصر إجتماعية من الموروث الريفي وصراعاته الزراعية والاقتصادي، تبدو الحصان الرابح، إذ كان والد الشاعر يتمتع بنفوذ اقتصادي ووجاهة اجتماعية في منطقة غوطة غرناطة، نظرًا لامتداد ممتلكاته الزراعية، إلى جانب عائلتي ألبا ورولدان المشهورتين في المنطقة ذاتها.
كان والده كبير عائلة تنتمي إلى البرجوازية البازغة التي كانت تتنافس مع العائلتين الأخريين في شراء ممتلكات طبقة النبلاء المتهالكة في الغوطة. وأضيف إلى هذا أن الشاعر الشاب استلهمها في عنوان آخر مسرحياته، بيت برناردا ألبا، ما أجج حقدهم المتوارث عليه. ويقال إنها القشة التي قصمت ظهر البعير في آخر أيامه، إذا أعدتها عائلة ألبا إهانة لها أن تحمل بطلة المسرحية المتسلطة لقبها.
وفي تلك الظروف التاريخية، ضياع آخر مستعمرة إسبانية كوبا عام 1898 وانقطاع شحنات السكر الكوبي إلى إسبانيا، سجلت مزارع بنجر السكر رواجًا لم يكن في حسبان تلك العائلات الريفية، ودخل والد الشاعر شريكًا في مصنع السكر عام 1904، واشترى مزيدًا من الأراضي، لكن أل رولدان وقفوا له بالمرصاد واتهموا المصنع بتلويث مياه الري في المنطقة، وتمكنوا من وقف انتاجه لمدة عام.
كان أفول الإمبراطورية الإسبانية وانكفائها على الذات سببًا في حدثين تركا بصماتهما في حياة فدريكو الذي ولد في السنة نفسها. فأمام فاجعة انحسار الإمبراطورية الإسبانية ولد جيل من كتاب البلد ومفكريه أطلق عليه جيل الـ 98، السابق لجيل فدريكو ومجايليه الذين ثاروا على جيل "العواجيز" سنة 1927. ومع ضياع كوبا لصالح الولايات المتحدة انقطعت شحنات السكر عن إسبانيا، فراجت صناعة السكر من البنجر.
في تلك الأثناء كان فدريكو - فدريكو غارثيا رودريغيث- عضوًا في المجلس المحلي للمحافظة، ما أتاح له المشاركة في لجنة سياسية ألغت انتخابات محلية أجريت سنة 1918 اعتراها تزوير بغية تمكين كبير عائلة رولدان من الحصول على عضوية المجلس البلدي. وكبرت الأحقاد وترصدت العائلة المنافسة لوالد غارثيا لوركا وقلدت خطاه في انتقاله مع أسرته إلى العاصمة وادخال ولديه، فدريكو وفرانثيسكو، في كلية الحقوق. كل هذا نسج خيوط مقتل الشاعر الذي كانت هده الأحقاد سببًا فيه.
ويؤكد الباحث الإسباني ميغيل كباييرو في كتاب أصدره بعنوان "الساعات الثلاث عشرة الأخيرة من حياة فدريكو، أن العائلات الثلاثة كانت في الماضي متأزرة، تثبت جذورها ووجاهتها من خلال توسيع رقعة ممتلكاتها من الأراضي الزارعية، وانتشرت بينها مصاهرات مصلحة منعًا لتفتيت الملكيات على العائلات الفقيرة!
وفي هذا السياق يبرز الباحث الأيرلندي المشهور إيان جيبسون - من أفضل من كتب عن سيرة غارثيا لوركا وأعماله، وهو أكثرهم انتاجًا في هذا المضمار- تميز أسرة الشاعر بطابع فني، يعود إلى الأب الذي كان ذا عقلية منفتحة، بلا قيود دينية، ودماثة خلق، لكنه كان ماهرًا وعصاميًا في دنيا الأعمال، بينما كان البعض يرى فيها اقطاعيًا إشتراكيًا.
في تلك الأثناء كان الشاب فدريكو يتنقل بين غرناطة والريف ومدينة الطلاب في مدريد حيث تعرف إلى ثلاثة من أبرز مثقفي وفناني إسبانيا في القرن العشرين، السينمائي لويس بونيول، والمصور سلفادور دالي، والشاعر رفائيل ألبرتي. كان دائم الهرب من غرناطة الجميلة والمكبلة للحريات بسبب البرجوازية الرثة التي كانت تتحكم فيها، حسب الشاعر نفسه.
نأى فدريكو دائمًا عن محرقة السياسة، في وقت كانت إسبانيا تموج فيه بصراعات سياسية واجتماعية خانقة، كان يرى أنها في النهاية ستؤدي إلى دماء وجثث تملأ مزارع طفولته التي حفرت وجودها في أعماله. لكن هذا لا يعني أنه كان بلا أيديولوجية، فلم يعش قط في برج عاجي رغم أنه كان من أسرة غنية، ولد ووجد نفسه محاطًا بكل ما تتمناه النفس البشرية من أشياء مادية، إضافة إلى ما جاء به مسرحه وشعره ومحاضراته.
ومع هذا صاحبه ألم طوال حياته، حسب مجايليه، يُتم لا تفسير له، عاش يتألم لألم الأخرين في هذا العالم، وهو ما تنضح به أعماله. ومن شعوره بمعاناة الآخرين، ومعاصرته لأنواع شتى من الظلم، حملت أعماله نبرتها الثورية، الثورة من أجل تغيير العادات والتقاليد البالية.
من هذا الألم ورفض الظلم كتب ديوان الأغاني الغجرية، العمل الذي لم جعل جهاز الحرس المدني ينظر إليه بريبة، وديوان شاعر في نيويورك الذي رافعًا فيه إصبعه ضد البابا وضد الإمبراطوية الجديدة، وأثار نزاعًا غير معلن بين العشق والقمع في مسرحه، عرس الدم ويرما. وكان قبل مقتله يكتب مسرحية حول إجبار الشباب على المشاركة في الحرب، وهي دعوة مبكرة للامتناع عن أداء الخدمة العسكرية، وهو ما أصبح واقعًا في إسبانيا في نهاية القرن العشرين.
ويقول ميغيل كباييرو إن غارثيا لوركا لم يبرأ من هجوم الصحافة المحافظة عليه، إذ كانت ترى في مسرحياته التي تعالج مشكلات إجتماعية قائمة بأنها تؤدي إلى معاقبة المؤلف بموجب القانون الجنائي، وتطبيق عقوبة الإعدام عليه، ولا يمكن لسيدة وقور أن تشاهد هذه الأعمال الفاضحة. هذا الهجوم موثق في مجلة فاشية عنوانها Gracia y Justicia في تقرير تقرير حول مسرحيته الشهيرة "يرما" عام 1934. كل هذا كان تعبئة، عن دراية أو دونها، لما سيحدث للشاعر في صيف 1936.
وبعد عامين من تلك الواقعة وضع غارثيا لوركا اللمسات الأخيرة على مسرحيته الأخيرة "بيت برناردا ألبا"، في مطلع يوليو 1936، بعد أن قرأها في دوائر مقربة في مدريد وغرناطة، وكان يستحق عليها عقوبة الموت وفقًا لليمين الإسباني. كان الحنرال فرانكو على وشك القيام بالانقلاب واشعال الحرب الأهلية.
كانت الأجواء متلهبة في أنحاء إسبانيا كافة، ففكر فدريكو في أن غرناطة ستكون أكثر أمانًا من مدريد رغم نصائح أصدقائه بأن مسقط رأسه سيكون أسوأ حالاً. في هذا السياق يضيف ميغيل كباييرو معلومات جديدة كثيرة ومثيرة حول الساعات الأخيرة من حياة الشاعر الغرناطي. من بينها أن أشخاصًا من عائلة رولدان شاركوا في هذه المسيرة السوداء، أبرزهم أوراثيو رولدان.
وفي اليوم الأول لاندلاع الحرب الأهلية قبض قوات حزب الكتائب على زوج شقيقة فدريكو وقتلته ثم اقتفت أثره في القرية إلى أن عرفوا أنه يختبئ في منزل صديقه الشاعر لويس روساليس. ولم يغفر له أنه كان في منزل أسرة تنتمي إلى هذا الحزب اليميني، وحملوه في الليل إلى أطراف غرناطة مع خمسة موقوفين آخرين حيث قتلوا الستة.
لا يزال العثور على رفات غارثيا لوركا يمثل هوسًا اجتماعيًا وثقافيًا. هناك رأي يفيد أنهم لن يعثروا عليها فقد عُثر عليها عام 1986 عندما كانوا يشنئون طريقًا وحديقة عامة في المكان الذي أعدم فيه هو ورفاقه. وبدلاً من أن يطالبوا بتحقيق قضائي في تلك الرفات دفنوها في مكان آخر رغم أن البلد كان ينعم بالديمقراطية.
بقي أن أشير هنا إلى أن فدريكوغارثيا لوركا كان الكاتب الإسباني الأبرز بين الإسبان لدى كتاب وقراء العربية، ولا يتفوق عليه في شغل مساحة عريضة في الوطن العربي سوى الأندلس. لقد وصل التأثر به ذروته في جيل الخمسينات، ويشاع أن صلاح عبد الصبور كتب بعض مسرحياته مستلهمًا أعمال الشاعر الغرناطي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انتشار وشهرة لوركا
أحمد فالح ( 2016 / 10 / 27 - 06:10 )
الكاتب الكريم. أشكرك على هذا النوع الجديد من الطرح في قضية اغتيال الشاعر الأندلسي الفذ فيديركو كارثيا لوركا. الآن أفهم سبب قتله على يد الحرس الأسود، الحرس المدني، بأمر من اليمين الإسباني العفن. كم المعلومات التي أشرت إليها من مصدرها، من شيخ المستعربين الراحل، مذهلة.
لي سؤال: هل لو عاش غاارثيا لوركا لكان اخذ ما أخذ من شهرة؟ أم أن اغتياله في تلك الظروف العالمية رفع من أسهمه في الانتشار والشهرة؟
أكرر امتناني وتحياتي.


2 - كان مبدعًا عظيمًا!
خالد سالم ( 2016 / 10 / 28 - 07:22 )
الأستاذ فالح، أنعمت صباحًا أينما كنت.
هذا السؤال، لب مداخلتك، طرحته على نفسي وعلى أستاذي لي في جامعة مدريد، من أهم من درسوا جيل غارثيا لوركا، ولا أزال على قناعاتي بأنه رغم أن الشاعر الغرناطي كان فذًا فإنه لو قُتل في ظرف تاريخي مختلف، بعد انحسار اليسار في العالم مثلاً، أو لو عاش ومات في سريره، لما أخذ هذه الشهرة العالمية. هل يعني هذا أنني أنقصه حقه في أنه كان من أعظم شعراء الإسبانية؟! بالطبع لا، فالسياق يلعب دورًا مهمًا في صالح المضمون أو ضده.
وفي رأيي أنه لو ولد في السياق العربي والعالمي الراهن لما لقي ذاك الإهتمام في عالم اليوم. هل هذا يغمطه شئًا مع جلال إبداعه؟ بالطبع لا. تأمل كم من دراسات واستلهام عربي لشعره ومسرحه تمت في الوطن العربي!
إسبانيا بلد يعج أدبه بعظام كثيرين منذ أن ولدت اللغة الإسبانية لكن ظرف وسياق إغتيال فدريكو أضاف زخمًا محليًا وعالميًا إلى نتاجه الرائع، وجعل كل سطر كتبه مقدسًا. كان مبدعًا عظيمًا!

اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة