الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفكيكية والثورة المصرية .. نقد مقدمة محمد نعيم –أو – نقد أسئلة التيه

احمد حسن

2016 / 10 / 27
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


هاجس أولى

(الإجهاز على الإرث الأيديولوجي، ابن عوالم ما بعد هزيمة يونيو 1967)

إن ما استوقفه ابتداء ليست الناصرية وسلطتها العسكرية، أبنة انقلاب 1952 ، ليست مفاهيم وقيم الستينات ونظامها الاقتصادي، أبنة النظام الناصري، ليست أيدلوجيا الشمولية ومصادرة الكل بسم الصالح العام التي انجبها نظام 1952، إن النواتج الفكرية والأيدلوجية التي انجبها وضع ما بعد 1967—في افضل المقاربات هو—الانتقادات التي وجهت للسلطة، الشك في مشروعيتها ومشروعها، انطلاق حركة احتجاجية جديدة بوسم اليسار ،المطالبة بإطلاق الحريات العامة، الدعوة إلى حرب وطنية وتشكيل جيش شعبي.. تلك هي أطر الأيدلوجيات التي خلقها ظروف ما بعد هزيمة 1967.. الأهم من ذلك كله انه جرت مياه كثيرة منذ 1967 تجعل هذه الصيحة حرب ضد أشباح أخري.

أسئلة التيه

في مبادرة – ليست الأولي من حيث موضوعها، وهي الدعوة إلي مراجعة المواقف والرؤى السياسية من الثورة المصرية قام الكاتب / محمد نعيم . بنشر مقال في "مدى مصر " في 18 أكتوبر الجاري ، تحت عنوان- أشباح يناير التي تنتظر النقد الذاتي والمراجعة – أشار أنه جزء من "كراس عن المشهد المصري الحالي"، مقدمة لكراسته التي اختار لها أن( تنشغل بالحديث عن النقد الذاتي وصعوباته وشروطه ) .

رغم انه اعتبرها مقدمة إلا انه قدم فيها تصورا منهجيا لمساءلته أفكار ومنظمات ووقائع الثورة، مقترحا فيها أسلوبا، وأسئلة، وإطارا، وترتيبا معينا، وقدم أسسا لمنظوراته العامة بما يكفي لمساءلتها هي نفسها، إذا ما كانت تقترح نهجا قادرا على توليد معرفة، إن كانت أسسها قادرة على إنشاء بنية إجابات علمية يمكن أن تكشف عن مناطق مجهولة أو مسكوت عنها، بما يضيئ أمام قوى الثورة إعتامات المشهد. إلى أي حد مست أسئلته الأمور الهامة في – تعثر ودفع المسار الثوري -. وغير ذلك مما يمليه فعلا – المشهد المصري الحالي.

بداية ﻻ بد أن يلفت نظرك العنوان - أشباح يناير... - حيث يحيلك تلقائيا، وربما بلا قصد، إلى كتاب جاك دريدا الشهير.. أطياف ماركس. قد يكون ذلك نوعا من التصور أو الوهم بسبب تلك القرابة بين، الأطياف.. والأشباح. ومن ثم يكون النفاذ إلي المسرح النصي هو القادر على كشف اللعبة، أي النص ذاته، لنري هل يحاول نعيم فعلا استعارة دريدا، مستخدما منهج التفكيك في النظر إلى تعقيدات ومسارات وﻻ عبين ثورة يناير ، أم أنها مجرد عملية تقاطع عابرة بين مجازين.

أن أول ما نلاحظه حول النص انه نص مراوغ، ﻻ ينفذ إلى ما يرغب أن يقوله بسهوله، وربما حتى ﻻ تعرف ما الذي يريد أن يقوله فعلا، هذه سمة تفكيكية أساسية، حيث ﻻ معنى للبحث عن معنى محدد، وحيث تطارد أشباح ربما عليك أن تصرفها بينما استدعيت لإحضارها. هذا الأسلوب وسم إلى حد كبير كتاب الأطياف لديردا. انه يفتش من البداية عن إجابات لأسئلة (إما قُدمت إجابات لها بشكل مبتسر ومخل، أو خُنقت بذخيرة من قنابل الدخان السياسية والإعلامية التي أعمتها وهمَّشتها) تماما كما كان دريدا يستجوب ماركس، بينما يقرر سلفا إنه ﻻ توجد إجابات نهائية مقبولة، وان كل الإجابات محل استجواب، وإن تفكيك الإجابة فحسب هو مهمة منهجه.

يقترح نعيم أن تلك الأسئلة – التي سيقترحها هو (هي أسئلة طرحتها ثورة يناير المغدور ة، سواء كانت أسئلة طرحتها أحداث الثورة أو شعاراتها ). اكثر من ذلك انه يقترح أيضا ( أسئلة إضافية) وهى أسئلة اقرب إلى لعنة لحقت بالثورة والثوريين، أشبه بعقاب أنزلته الأشباح بمن احضرها، فهي ليست ناجمة مباشرة من سياق وتناقضات الأحداث، أو مشكلات الشعار والواقع، بل (أسئلة إضافية فرضتها " النوائب والمصائب" .. الناتجة عن عدم الإجابة عن الأسئلة التأسيسية الأولى ).

وبغض النظر عن دلالة مفردات مثل " النوائب والمصائب"التي ستتكرر في مقاله، ضمن بحث يتعلق بقضايا الثورة واستجوابها، والذي يحتاج إلى رسم سياق مختلف متعلق بالمنطق أو بعلم التكتيك السياسي أو بالخبرات التنظيمية لدى اللاعبين، أو حتى بأساليب الثورة المضادة، لكننا نتوقف هنا عند اعتبار أسئلة ما " تأسيسية "، نفهم وجود أسئلة أساسية تتعلق بجذر الموضوع أو اهم ملابساته، أما التأسيس فهو شأن أخر ، هو مشروع او فكرة، وليس سؤالا بأي حال، فمثلا ليست مداولات واستجوابات أعضاء الأممية الأولي تأسيسا، يمكن اعتبارها خطوة "قبل " تأسيسية، استجلاء بواسطة استجوابات نظرية وسياسية لحقيقة الوضع وشروطه، الأمر الذي مهد لخطوة " تأسيسية " تجسدت في بيان الأممية، البيان الشيوعي .

هكذا وفق للمقال – تعرضنا لعقاب فرض علينا أسئلة إضافية – ذات طابع قدري .. مصائب ونوائب .. وذلك لأننا تأخرنا في الإجابة عن الأسئلة الأولي .. هذا العقاب سيستمر ( طالما استمر إنكار إجابة أسئلة الثورة المركزية بالشكل العميق والصريح والحاسم والمطلوب) .

نحن هنا أيضا في لبس .. إنكار الإجابة ، أم التأخر في الإجابة .. ما نعاقب عليه؟

فضلا عن .. كيف ووفقا لأي معايير يمكن أن نقيس الإجابات لنقرر ما إذا كانت - بالشكل العميق والصريح والحاسم والمطلوب، أو لا؟ . خاصة وان اغلبها يخضع لتقديرات نسبية ومنظورات سياسية ليست بالضرورة محل اتفاق من يستجوب.

يقول في صيغة جازمة (لا يمكن عزو الأمر للضربات الأمنية والسعار الفاشي الحالي وحسب) أي أمر فنحن ﻻ نعرف، هل هو غياب الأسئلة، أم لعنة تأخر الإجابة، أم النوائب والمصائب؟

يجيب نعيم في لغة هاملتيه ( أن لكل طرف نصيبه من المسؤولية عن مصيره، مهما كان مؤلمًا أو غير عادل) .

حسنا .. سنحاول أن نفهم في وقت أخر ، ولنمضي قدما مع المقال.

على من نطرح الأسئلة

لقد رأينا أشباح الأسئلة ، حيث ﻻ أسئلة حتى الآن، وهى تحوم حول أزمنة الثورة، الآن تطارد تلك الأشباح بشرا، تستجوبهم، المشكلة هي أن يحدد السؤال المستجوب، تلك الأسئلة رغم أنها تحوم فوق أحداث شارك بها الملايين، لكن المستجوب ليس كل من شارك.

يشير نعيم إلى أن (عملية المراجعة والنقد الذاتي) التي يدعو إليها، مسالة صعبة ، و ( من الخفة والتفاهة ، رهنه بامتلاك الإرادة والشجاعة فقط ) ذلك لأن أسئلة المراجعة والنقد الذاتي لها شرط محدد(هو امتلاك تجربة تنظيمية وحركية وسياسية جماعية تترتب عليها أفعال وقرارات وانحيازات- وذلك حتى-يطلق صاحب النقد مراجعته منها).

يحدد المقال نوع المستجوبين (الجماعات المنظمة التي لها تجربة ما ، ولها مرجعية ما ، وتبنى مواقفها وانحيازاتها على ضؤ أفكارها وتجربتها ، وتنطلق من تلك الأرضية لنقد ومراجعة تصوراتها) .

انه يستبعد في مقاله شهود وفاعلين يمثلون الأغلبية الساحقة، الجمهور بكليته، والفاعلين الفرديين مهما امتلكوا من وعى أو تجربة.

لم يذكر المقال أسبابا لاستبعاد الجماهير كليا، دون حتى محاولة استقراء تجربتهم من سياق الأحداث والانعطافات، يستبعد الفاعل الأصلي والهام دون أن يكلف خاطره أي جهد في مجرد الإطلال عليهم.

إلا انه ذكر أسبابا في استبعاده للفاعلين الأفراد (انهم من أحاد الناس، مما يصعِّب بشدة الحديث باسم الجماعة أو التيار أو "ال نحن").

(حين يكون الكلام عن أفراد وآحاد، تصبح إمكانية المراجعة البناءة أمرًا شديدة الصعوبة، نظرًا لعدم اتساق وتناغم مواقف الفرد الواحد على طول الخط – مقارنة ب - الخط العام لرواية الإحداث من قبل التيار الواحد - ما يصعّب بدوره من وجود رواية متماسكة التفاصيل).

ولأن (في ظل وطأة الهزيمة وثقل آثارها على المستويات العامة أو الخاصة، يمكن للمراجعات الفردية أو الخاصة للنشطاء أو آحاد الثوار أن تتحول إلى مناسبة لإنكار التجربة بمجملها، إما عن طريق إدانة الذات وجلد خياراتها مقابل تقديس التجربة بشكل شبه صوفي، أو العكس، إدانة المجموع والتجربة بالكلية والنزوع للتطهر الغائي ولإثبات صحة وسلامة موقف الذات في كل محطة دخلها الفرد، أو اعتبار الانخراط في التجربة محض سذاجة ومراهقة من الأصل) .

لكنه يقبل المراجعة الفردية إذا كان الفرد – داخل تنظيم - (حيث يستطيع الفرد تقييم تجربته داخل تنظيمه أو حركته ومراجعة مواقف قياداته، وكذا مراجعة مواقفه هو كقائد). بغض النظر عن عدم وضوح إذا ما كان المقصود – قائد داخل التنظيم … ويصعب تصور كل الأعضاء المسائلين.. قادة.. والمقال لم يحدد انه يسأل فقط – القيادات فى التنظيم ، أم انه قائد جماهيري؟ لا نعلم، ولم يوضح.

انه يستبعد الأفراد بهدف – توحيد الرواية- عند الجماعات المنظمة.

هنا تثار أسئلة ضرورية عن – توحيد الرواية – لنعرف المقصود منها، هل يسعى لاستجواب منظمات، حيث الضمير – نحن – وحيث المرجعية والتجربة.. الخ. ومن ثم يسعى للإجابة الرسمية المعبرة عن " كل أعضاء" الجماعة، أم يستجوب أفراد داخل منظمات؟ هذا الأمر أيضا ملتبس في المقال .. فالرواية الرسمية لدى الجماعة المنظمة تظل واحدة بخصوص كل مشهد عبرته الثورة، أما لدى الأفراد – ولو كانوا في تنظيم واحد، ﻻ يمكن أن تكون واحدة، لأنها تتعلق بزوايا مختلفة من المشهد الثوري سكنها كل فرد أثناء الأحداث، فعلى سبيل المثال يمكن في اليوم الواحد أن يكون فرد – من التنظيم – في مكان لم يشهد صدامات، والأخر عكسه، انطباع كل منهم عن أحداث اليوم سيكون مختلفا بالضرورة، وكذلك شهادته.

ولو تعلق الأمر بشهادة أفراد لما كان هناك معنى لاستبعاد الغير منظمين، بل قد تكون شهادتهم اكثر أهمية في بعض الأحوال، فضلا عن إغفاله إمكانية وجود أجنحة بتصورات مختلفة داخل التنظيم الواحد.

هل يريد الكاتب راوية أم وجهة نظر تتضمن تقييما ومراجعة ؟

أن أشباح المقال تهيم بدون خريطة واضحة.

يقول (يظل مبتغى توحيد الرواية وتعضيد تماسكها هو الوقوف على إجابة أسئلة مثل "ماذا فعلنا؟" و"ماذا فعل الآخرون؟" و"ما الذي كان يمكن فعله ولم نفعله؟"، أو "ما الذي فعلناه ولم يجب فعله؟"، و هذا كله، رغم جوهريته وأهميته السياسية والتكتيكية، إلا انه يفترض ابتداءً وجود أهداف متناغمة للحراك ومساراته) .

نحن إذا أمام شهادة مستجوب عن نفسه -"ماذا فعلنا؟ الخ . وشهادته عن مجمل من هم غيره – الآخرون - " ماذا فعل الآخرون؟ علما بأنه يستبعد من استجوابه – هنا على الأقل – فاعلون آخرون في منتهى الأهمية في التأثير على الأحداث وفى إنتاج الرواية (روايات الثورة المضادة متنوعة الضلال والانحطاط والجنون، وروايات الإخوان المسلمين المبتور بعضها والمأفون غالبها) .

لكن الآخرون أيضا – بالنسبة لكل جماعة منظمة، يشملون حتى كل من هو في معسكرهم العام، اليسار مثلا، كل الجماعات الأخري، هكذا أي "جماعة" في مواجهة كل الجماعات الأخري . دون مؤشر يقود الشبح أو إطار محدد لنوع الجماعات المستجوبة – مثلا .. يسار – قوميين – ائتلافات – جماعات بلاك بلوك أو مثيلها – إسلاميون خارج الإخوان – جبهات.

جماعة منظمة، رغم هذا المطلب الأولي ستسعي أشباح التفكيك إلى تذرير ال – نحن – يجب تفكيك كل شيئ كي تمرح الأشباح بحرية .. حتى المنتمين لتجارب ولجماعات منظمة، ممن يمكنهم الشروع في عملية المراجعة مباشرة.

نزلت أل – نحن – إلى مستوى حالة الأفراد، لقد انهالت عليهم لعنة الأسئلة قبل إنشاء الاستجواب (أصابتهم ضربات أيديولوجية وأسئلة وجودية تجعلهم في حال أشبه بحال الأفراد) إنهم مستدعون بأيدلوجيات معطوبة ومصابة، أسئلة لاحقتهم – قبل الاستجواب فككت – أل نحن – إلى أفراد، وان احتفظت لهم بحالة افضل قليلا من الأفراد الآخرين.

مرة أخري نحن في التيه

فجأة يقرر شبح الاستجواب أن يكسر عنق كل المستجوبين، قبل أن يستجوبهم، بعد الإطاحة بالجماهير، واستبعاد المشاركين الفرديين، يتم تفكيك أل – نحن - .. إعطاب الأيدلوجيات، لا يكفي ذلك، أشباح الاستجواب ترغب أن تمرح، لا تستطيع الأشباح أن تمرح بين كائنات حية معينة، أماكن مأهولة بشخوص وأفكار، أنها تحتاج إلى خرابات، أو ستمارس هي تحطيم الابنية والعقائد لتنشئي مسرحا تمرح فيه .. (احتاج الأمر لكثير من الوقت والكوارث والنوائب، خلال تجربة الثورة وبعدها، لإدراك انحطاط مصداقية كل مستوى أيديولوجي، ظن الكافة أنه مرجعهم ودليلهم، ولإدراك تضعضُع حدوده، وكان الانكشاف الأيديولوجي للتيارات السياسية المصرية وهشاشة خيالها وتداعي عقيدتها، هو ما جعل من ثورة يناير المرجعَ الأمَّ لتأسيس الانحيازات في السياسة.)

هكذا تحولت الجماعات إلى أفراد – بأفضلية ما – ثم تم تعطيب الأيدلوجيات، بعد ذلك تم سحب أو تدمير المصداقية، وسيتم تنصيب الحدث – ثورة يناير – ليحل محل المنهج وا لأيدلوجيا، كمرجع أساسي في تحديد الانحيازات … لسنا إذا أمام دعوة تسائل فيها المناهج والمرجعيات نفسها، وتراجع دورها من منطلق أفكارها، لكننا أمام أفراد جردوا تماما من كل شيئ، وكمن ولد فجأة في غمرة الأحداث ستقرر له تجربة المشاركة كل ما يتعلق بتوجهاته أو انحيازاته -( ثورة يناير المرجعَ الأمَّ لتأسيس الانحيازات في السياسة.) … لاحظ انه " لتأسيس " وليس " لمراجعة " .

ننعطف الآن إلى حركة الأشباح في جولتها التالية .. أنها الآن تصنع نوعا من التحديد، فلا يمكن لشبح أن يمرح وهو يضرب في تيه بلا أي معالم، فتلك ستكون لعنة وليس مرحا.. إذا سيتم التفكير حول - ما الذي سنراجعه ….؟ وهو سؤال يدعى إليه المستجوبين تحت مطارق انهم تأخروا، وانهم محطمين تماما تقريبا أو على وشك ذلك.

(هل نراجع مواقفنا السياسية وتكتيكاتنا الحركية على مقياس انحيازاتنا وثوابتنا الأيديولوجية، أم أن المراجعة، التي تفرض شروطَها قسوةُ الواقع ويعجز عنها الجميع، هي مراجعة لجوهر الانحيازات والثوابت وصدقيتها من الأصل؟)

أننا للمرة الثانية نرقص الرقصة الشبحية التي هدفها خلع كل شيئ، انه تحدى ماكر ( يعجز عنه الجميع ) مراجعة (لجوهر الانحيازات والثوابت وصدقيتها من الأصل) هل نملك تلك الشجاعة التي يقترحها الأشباح – مراجعة ما نعتبره ثوابت سواء في الأفكار أو الانحيازات . الشك في صدقيتها. لنتعرى تماما حتى نبدأ الرقص مع الأشباح في حفلتها الصاخبة .

( ربما يذهب السؤال إلى أبعد من ذلك ليطرح شكوكًا بشأن وجود تلك الثوابت والانحيازات، ما يمنعها من استحقاق اسمها)

يقف العراف على رأس حفلة الأشباح ليمارس قسوة اشد على روح ضحايا أشباحه .. (أجد ذهني ووجداني يطرحان سؤالًا آخر هو - لماذا نراجع أنفسنا أصلًا لو كانت انحيازاتنا وتمثلاتنا الأيديولوجية يشبها الافتقار للأصالة والصدقية بالشكل الذي تستحق معه مكابدة التأمل.)

ثم يعلن.. (هناك إجابة قاسية على السؤال الأول، تقول إنه لم يعد هناك ثمة شيء ليراجَع وإن مستوى التشظي والتفكك الأيديولوجي والوهن العقائدي للقوى الموجودة يتجاوز بكثير قدرتها على مراجعة ما كان لديها بالفعل )

ويقرر في يقين العارفين (أغامر بالقول إن ما جرى تصوره لسنوات طويلة كمشاريع وتمثلات أيديولوجية، ينتظم تحت لوائها أفراد وجماعات، كانت بنت بيئة آسنة ميتة لم تختبر مقولاتها قط، ولم تضعها على محك التجربة والممارسة، ولم تلفحها شمس الواقع الاجتماعي المادي وأسئلته) … معمقا فكرته " ككل منتجات ربع قرن من حسنى مبارك "

(ظني أيضًا أن محك الاختيار لم يكن قسوة عالم ما بعد 30 يونيو 2013، بل كان ثورة يناير 2011 نفسها، والتي وجد الفاعلون السياسيون أنفسهم بعدها في حيرة بين أنساقاهم الأيديولوجية غير المختبرة، وبين جوهر انتماءاتهم الاجتماعية والطبقية التي تصوغ وعيهم الصادق بشأن ما يجرى حولهم وما يترتب عليه من مواقف)

قد تستحق تلك النقطة الأخيرة بعض النقاش .. مدى التجانس بين حامل أيدلوجيا، وانتماءه الطبقي.. وان كانت نقطة كلاسيكية أثيرت منذ اكثر من 100 عام، ربما منذ ارتباط دكتور الفلسفة والحقوق ماركس، ونجل رجل الأعمال فريدريك انجلز بالفكرة الاشتراكي . ومن ثم ﻻ معنى لإثارتها مجددا الآن، إلا ربما في حالات خاصة بأفراد محددين لم يحسموا أمر انحيازهم حسما فعليا. غير انه من المؤكد أن أسئلة ثورة هي أمر اعقد من هذا بكثير .. أن الأشباح تمارس فحسب قدر اكبر من التفكيك، حتى ﻻ يبقي حجر على حجر، وﻻ كيان في الكيان، وﻻ أيدلوجيا أو انحياز أيدلوجي. انه صخب الحفلة الشبحية ﻻ غير.

حتى الآن ﻻ تقودنا الأشباح إلا إلى الفراغ ، وحين اقتربت من ضرورة التجسد قدمت جملة من الملاحظات البسيطة والأولية والمتداولة …

(أصحاب تصورات ليبرالية يسحقون قيم حرية الفرد والسوق والاختيار، وقوميين عربًا ينحازون لعملاء الإمبريالية ولأصدقاء إسرائيل، ويؤيدون بعنف محطمي الوجود والأقطار العربية من بابه، ووجدنا ماركسيين يعطلون أسئلة العدالة الاجتماعية والحرية لصالح الأمن والاستقرار وبقاء دولة يتصورنها مدنية بينما هي دولة دينية معاصرة، ووجدنا بالطبع إسلاميين يتماهون بانتهازية مع كل معنى وفكرة، بغية الوصول إلى سلطة لا يعرفون تحديدًا ماذا يريدون منها وفقًا لمازورة صبرهم الإسلامي الطويل)

وهي ملاحظات وليست أسئلة أو استجوابات… إلا أنها تدور على هامش الحدث، على النتائج المرئية وليس القضايا الأكثر عمقا ، تنقد انحرافات اليسار – أي الجزء المنحرف منه – وكأنه اليسار، والإسلامين وكانهم الإخوان فحسب. وتندهش من تصرفات الليبراليين المصريين في سنوات 2011 وما بعدها وكأن بينهم فولتير أو جاك روسو.

تلك الممارسات – أو الملاحظات - ( كشفت وأطاحت بأسئلة الحلي الأيديولوجية التي تعطى لأصحابها صورة وميزة المثقفين وأصحاب الحيثيات الأدبية في بلد جهول .)

أن العراف ﻻ يطلق أشباحه باتجاه المستجوبين .. انه في الحقيقة لا يستجوب بل يجرد، يشكك في كل الأيدلوجيات – دون أن يقترب من أي أيدلوجيا فعلية – ويعلن من علياء عالمه أننا – في بلد جهول - طبعا عدا عرافنا.

وقبل أن ينصرف من حالة التجسد – التي لم تسفر عمليا سوي عن ملاحظات عادية ومرتبكة ، يقترح إجابة أخيرة .. : (إجابة أخرى وأكثر عملية، وإن سكنتها معاني الذلة والهزيمة المضاعفة، وهى أن عملية المراجعة، إن لم تأت بإرادة أصحاب المشروع السياسي المهزوم لتجاوز عثراته نظرًا لتضعضعه وانتفاء معناه، فهي قد تأتى كنتيجة لقيام السلطة السياسية والأمنية بفتح نافذة ضيقة للحوار قد تؤدى إلى حلحلة عقلانية للوضع، لتخفيف القبضة وتحسين شروط القمع، وإن عملية المراجعة هي جزء من استحقاقات هذا القرار وشرط له. بمعنى آخر فإن الكرة في ملعب السلطة، وليست في ملعب المعارضة المحطمة)

فيما يبدو انه – فيما يري العراف – ستقود السلطة عملية المراجعة الأيدلوجية والانحيازات، ورغم أنه يعتصم بيناير – كأساس للمراجعة والتحديد - ، ستفتح السلطة " نافذة ضيقة للحوار قد تؤدى إلى حلحلة عقلانية للوضع" .. ولن نسأل كيف أو لماذا تهتم السلطة – بإيجاد " حلحلة عقلانية للوضع" وهو الذي ﻻ شك سيضعها هي ابتداء موضع مساءلة ، كوضع غير عقلاني ومحل شك ، رغم أنها تنتقم ومسيطرة وتعاقب .. الخ . فهو يري أن ذلك سيكون بهدف - ( تخفيف القبضة وتحسين شروط القمع ) نحن سنقف أمام تلك العبارة " تحسين شروط القمع " كمن يقف أمام طلسم قديم .. انه يري أن قمع مصحوب بحوار .. تفرضه السلطة .. هو قمع محسن . لن نتوقف كثيرا هنا ، فهو يضيف ( إن عملية المراجعة هي جزء من استحقاقات هذا القرار وشرط له. بمعنى آخر فإن الكرة في ملعب السلطة، وليست في ملعب المعارضة المحطمة).

يبدو أن مخيلة العراف استدعت حال الجماعات الإسلامية في سجون مبارك في التسعينات، حيث فرضت الدولة فعلا عليهم القيام بمراجعات فكرية، وحسنت شروط حياة المراجعين " داخل السجون " كانت الكرة فعلا في ملعب السلطة، لكن لم تكن نافذة ضيقة بل كانت بوسع ساحات السجون، واحيانا الإعلام، ولم يحدث أن خفت القبضة الأمنية بسببها. ولكن ما وجه المقارنة بين أوضاع التسعينات، ومجمل سياق ثورة يناير، من أين اشتق خيال العراف تلك النبؤة السياسية في ظل ديكتاتورية عسكرية سافرة، ﻻ يرغب رمزها الأعلى في سماع صوت أحد سواه، ولو كان عضوا فى سلطته؟

بعد أن أجهزت الأشباح على كل الفاعلين – جمهورا وأفرادا وجماعات وأيدلوجيات وبنى تنظيمية، ﻻ يتبقى لنا سوي الحدث مجردا " ثورة يناير" الذي اعتصم به العراف باعتباره - المرجعَ الأمَّ لتأسيس الانحيازات في السياسة- بغض النظر عن مشكلة الصياغة ومدلولاتها.

الحدث … الأشباح ترغب في التجول الحر.. في التحرر التام من التنظيم والأيدلوجية والانحيازات المسبقة والجمهور، ومن ثم فالحدث يقيدها بصورة ما، أنها تطالب العراف بإطلاقها صوب الحدث / الثورة .. بحمل معولها لفكه وهدمه هو الأخر، وليس أمام العراف التفكيكي سوى الاستجابة لأشباحه.

هكذا يتلونبؤته التالي - يناير نفسها تحتاج لمراجعة!

أن نقطة انطلاقه الأولي صارت هدفا لأشباح هدمه الآن، قد يكون صحيحا أن - يناير نفسها تحتاج لمراجعة - إذا كان ذلك بهدف فهم أعمق لمسارها، مشكلاتها وعقباتها، تناقضاتها، استخلاص دروسها السياسية والاجتماعية. لكن ليس ذلك ما ترغبه أشباح التفكيك – أنها تقدم أولا مدخلا مراوغا ( لكون يناير بتداعياتها أصبحت من وجهة نظري هي المرجع التأسيسي للسياسة والاجتماع في مصر)

وهو قول في منتهى الإرباك أن نظرنا إليه من وجهة نظر علمي الاجتماع أو السياسة، كأن نيزكا سقط على الكرة الأرضية أعاد رسم قوانين الطبيعة فيها، وليست ثورة سبقتها ثورات تشبهها من النواحي الجوهرية في اغلب معطياتها. وبدلا من تقوم العلوم بتطبيق واختبار مفاهيمها على حدث الثورة ، ستحول الحدث إلى مرجع – فوق علمي .. لتأسيس تلك العلوم؟

وذلك لأن يناير – كما يري – طرحت فيوضا من الأسئلة – مثل .. (أسئلة كعلاقة الحرية بالأمن وتناقضاتها، وحدود تصورات الحرية كجوهر وممارسة ومن الجدير بها، أو أسئلة الملكية وعلاقاتها وتوزيع الثورة، تلك التي قُتلت بالصمت أو بالضجيج، أو أسئلة الفجوات الجهوية وآثارها على الاجتماع العام، أو أسئلة عما يريد هذا المجتمع من نسائه غير ملاحقتهن بالإدانة، أو أسئلة الفساد وحدود محاربته، وبالطبع أسئلة مواقع الدين والجيش الملتبسة داخل الدولة، وفى أذهان الناس أيضًا. كل ما سبق كان بعضًا من أسئلة طرحتها يناير بإلحاح شديد الوطأة، يختلف عن أي طرح سابق لها في زمن آخر، و كان طرحًا يتطلب إجابة حاسمة كمرشد ودليل عمل، ويتطلب أيضًا، وبنفس القدر، تأصيلًا فلسفيًا يتجاوز البرامجية السياسية).

يبدو أن العراف يلعب علي ضعف ذاكرة الجمهور، فكل الأسئلة التي اقترحها كمثال قد قتلت بحثا ونقاشا قبل يناير2011 ربما بعقدين على اقل تقدير، وطبعا في سياق ثورة تكون ذات الأسئلة اكثر إلحاحا لأنها اقرب إلى التجسد في مؤسسات أو قوانين، هذا أمر اقل من بديهي في كل الثورات. وﻻ يعنى أنها كانت أسئلة غائبة أو أن جوهرها اختلف . إلا أن التأصيل الفلسفي المقترح ﻻ يحدث في لحظة الثورة ، الثورة تطبق برنامجيا ولا تقعد لتنظير الأمر وفلسفته، والمنطقي والعملي أن قضية تلح على جمهورها تكون قد تعرضت لنقاشات وتأصيل قبل أن تقترب من التطبيق بسنوات عديدة . ناهيك هنا عن أن الأسئلة طرحت بقدر ملحوظ من التبسيط أو السطحية : (ما ذا يريد المجتمع من نسائه غير ملاحقتهن بالإدانة، أو الفساد وحدود محاربته)

بالنظر إلى الثورة / الحدث / المرجع المؤسس .. (تجربة فتية مبتورة كانت بمثابة الحجر الذي هوى من أعلى على معابد الطين الأسن، ولكنها كانت هي الأخرى حجر طفل من طين، ما أن وقع في النهر حتى بدأ في الذوبان.) … (، حطمت ثورة يناير القديمَ، وكشفت حقيقة كونه فراغًا تافهًا، ثم ما لبثت هي نفسها أن أصبحت فراغًا ) … من ثم نصل إلى أن (المشهد بالكامل في فراغ موحش) .. طبعا بعد أن تم هدم الفاعلين والأفكار والتنظيمات والأيدلوجيات .. كل ذلك بسم الثورة ، وفي الخير تفكيك وتحطيم الثورة نفسها وتحويلها إلى فراغ ، أو حجر طفلي ذاب وتحلل في الماء.

تبقي ملاحظتان هامتان – أن المقال موجه إلى قوى الثورة ، وفي ذات الوقت إلى الدولة .. التي تقع في حكم الثورة المضادة فعليا ، دون تباين أو تمايز ، كحكيم للأمة يظهر العراف ، يخاطب الجميع ، كل التيارات والتنظيمات ، يستبعد من شاء .. خوفا من اختلال روايته ، يطرح الأسئلة الشبحية على الجميع ، ثورة ودولة معا … " التحقق في أسئلة يناير التي طُرحت كأساس لتأسيس جديد، والسعي لإجابتها، وفى هذا الصدد فالكل متساو بين ثورة ودولة، لأن أسئلة يناير طرحها الواقع على الجميع بحد سواء " هكذا الكل متساو أمام حكمته ومحكمته . أنها أسئلة – هي ذاتها .. طرحها الواقع على الجميع بحد سواء. هل نسجد شكرا أم نقول أمين ؟

الثانية هي اعتذار لدريدا وكل منظرين التفكيكية، كانوا انعكاسا حقيقيا لأزمة مست الحداثة الرأسمالية، وعالم – ما بعد الحرب العالمية الثانية – الذي كان يتفكك بصورة متسارعة، وقد عبروا عن حيرة منهجية في كتاباتهم. كانت أطياف مار كس تضطر لملامسة اللحم والأسئلة العميقة، حاولت بالفعل أن تهدم الأيدلوجيات، لم تنجح في المحاولة العملية فانصرفت على اثر ما قدم لها من نقد ، وتركت مسرح التاريخ لفاعلين يستكملون تجربتهم.

لكن الأشباح التي نراها هنا تثير من الرثاء اكثر بكثير مما تثيره من تفكير، علت حتى لامست السماء، ومن ثم قدمت" من أعلى" تعميما ميتافيزيقيا للأيدلوجيات ، دون أن تجرؤ على الاقتراب من مكونات أيا منها، بالغت في التفكيك دون أن تفكك شيئا واحد، لأنها لم تمس لحم حي واحد، سواء تنظيمي أو أيدلوجي، أهدرت كل ما حولها في التاريخ وفى الواقع وتبقي لها حفلتها الخاصة تمرح فيها مع نفسها.

فلتسعد الأشباح بحفلتها، والعراف بأشباحه، ولأشرب قدحا من الشاي وأحاول قراءة شيئ مفيد.

ملحوظة : جميع الجمل بين قوسين مقتطفه من مقال نعيم .

رابط المقال - http://www.madamasr.com/ar/2016/10/18/opinion/u/%d8%a3%d8%b4%d8%a8%d8%a7...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي