الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين القدوة و الانقياد

رياض محمد سعيد
(Riyadh M. S.)

2016 / 11 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بين القدوة والانقياد
عندما نستعرض تاريخنا القريب والبعيد ، فأن أول ما يخطر على بالنا هو ان حاضرنا مليء بالفساد ، وانه مخجل بين انعدام الاخلاق وسوء التدبير والتسابق في السلوك السيء واعلاء شأن الفاسدين وتمجيدهم وجعلهم قدوة للناس . لسنا نتجنى على حاضرنا بهذا الوصف ولا نتهم الناس جزافا ، فالدلائل والاثباتات متاحة ومتوفرة للجميع والامثلة كثير ويصعب احصاءها لكثرتها . واذا كنا نتفق في عدم تعميم ذلك على كل المجتمع فأننا نعلم ان هذه الصفات السيئة سريعة الانتشار وذات تأثير سحري على الناس ، فهي عادة او مرض خبيث تنتقل عدواه بسرعة كبيرة نتيجة الاغراءات والانانية وضعف الايمان وفقدان التربية الاسرية والوطنية .
لقد عانى الشعب العراقي الكثير من المظالم والصعوبات في الحياة امتدت على طول تاريخ العراق الطويل لألاف السنين ، شهد خلالها العراقيون عهود وعصور تنوعت وتغيرت بين الازدهار والرقي والتقدم وبين البؤس والشقاء والفقر والاضطهاد رغم ان عهود وعصور السواد والاضطهاد اكثر بكثير من زمن الرقي والازدهار ، فقد تسيدت في حياة العراقيين ولازمته مشاعر الحزن الشديد شهد لها التاريخ لقسوتها حتى سميت بعض العهود بالفترة المظلمة بعد الاحتلال المغولي ثم العثماني ، اما تاريخنا القريب الحديث فقد تميزت العقود الاخيرة منه انها امتدادا لخلافات تركزت في المعتقدات السياسية اكثر من كونها دينية ، رغم ان المجتمع العراقي متميز بتنوعه العرقي والاثني والديني ، ومع ذلك لم تطفو على السطح كخلافات في عقود القرن العشرين بل كانت الخلافات سياسية عقائدية مليئة بالنضج الفكري ولم تكن للشعارات الدينة الاولوية في الخلافات السياسية . لكن ومن المثير للانتباه ان الفترة الاخيرة لسنوات مطلع الالفية الجديدة كانت متميزة في انتشار تحضيرات احياء الفتنة الطائفية التي كانت قد غطت في سبات عميق لسنوات طويلة ، ولا احد يستطيع تشخيص الاسباب الحقيقية لظهورها من جديد وبقوة بين اوساط المجتمع العراقي ، وإن كانت ايران هي المتهم الاول في ايقاظ فتنة الطائفية في العراق واستفحال الخلافات الى الحد الدموي بين افراد المجتمع الذين كانو قد انصهروا في نسيج اجتماعي متداخل عائليا ودينيا وسياسيا وطغى مظهر الاعتدال في الفكر الديني والتوجه نحو مواكبة التقدم العلمي في العالم واللحاق بالركب العالمي للحضارة ، وقد امتازت سنوات ما بعد سقوط الملكية بدمويتها والتي اعقبتها نكبات دامية تكررت في الاعوام 1958 ثم 1963 و 1968 . الا ان خطط الاعمار ومسيرة البناء والتقدم في العراق لم تتوقف ولم تعقها عثرات الاحداث الدموية رغم ضخامتها ، وبدا ذلك جليا و واضحا من خلال الانجازات على مستوى التعليم والصحة والصناعة والزراعة والبنى التحتية الخدمية من طرق و شوارع ومواصلات واتصالات وجامعات وابنية خدمات ومشاريع وخطط تنمية هائلة عبر اكثر من 50 سنة مرت من تاريخ العراق الحديث قبل و بعد سقوط الملكية في العراق .
لكن الانهيار بدأ مع مسبباته مطلع عام 1980 وبعد اعلان الدولة الاسلامية الايرانية الجار المهم للعراق الذي بدأ فور اعلان دولته الاسلامية عدائه للنظام في العراق وكأن عيون وافكار القادة الجدد في ايران مسلطة على العراق ثم ما لبثوا ان نقاوا صراعاتهم الى داخل المجتمع العراقي واصبح العراق ساحة لتصفية الخلافات الدينية والعرقية والاثنية واثارة الفوضى بينما تمتع الداخل الايراني بصفاء وهدوء نسبي مع استمرار عجلة البناء والتنظيم حتى اختتم السيناريو الايراني للعراق بالحرب ثمان سنوات بدوافع دينية ، وقد كانت حرب ايران في العراق تمثل من وجهة نظر العلمانيين (اطماع توسعية) الا انها كانت في رأي الاسلاميين (اطماع طائفية) ، بينما كانت هذه الحرب عبارة عن استنزاف لطاقات البلدين وهدر لثرواتهما وقتل لشعبيهما دون منتصر حقيقي ، وخسر البلدين مواردهما لصالح الغرب الذي يقدم السلاح للطرفين لأطالة امد الحرب بين بلدين نفطيين مهمين لا يطيق بعضهما الاخر .
من هذه الصراعات والتناقضات الممزوجة بخلافات عقائدية سياسية ودينية تولدت الاحقاد وانغرس في نفوس الناس الكره والبغضاء بين الشعبين ، و نتج عن ذلك خلاف عراقي داخلي بين فئات موالية لأيران وبين فئات اخرى ترى ان الولاء يجب ان يكون للعراق اولا ، وكان امتداد ذلك ظهور التبعية المذهبية وتجلي الولاء المذهبي العراقي لأيران و بالعداء الطائفي بين السنة والشيعة في العراق ، وطبعا المستفيد في كلا الحالين ايران . خصوصا ان هذا العداء والخلاف تزامن مع احداث الكويت وتدخل الاحلاف الدولية لتأديب العراق وتدميره واخراجه من الكويت ضعيف مهزوم ، وكان أنهيار العراق دولة وحكومة ومؤسسات فرصة لتمرير مخططات الاكراد الذين استغلو الفرصة في ضعف وانحلال النسيج الاجتماعي للدولة العراقية واحياء المحاولات الكردية المستمرة الهادفة لتدعيم ركائز ومقومات انشاء الدولة الكردية وقد نجحو في بناءها الى حد كبير و مقبول اقليميا ودوليا. هذه الضروف مجتمعة كانت بيئة مثالية لنشوء الفساد وانتشاره .
ولنعود الى تسليط الضوء على الفساد وانتشاره وتأثيره على سلوك واخلاقيات المجتمع متمثلة في القيادات والمناصب العليا ، فقد نشأت قيادات هشة وصلت الى مراكز القيادة دون مقومات حقيقية او خبرة ، واصبحت تلك القيادات اوساطا خصبة لنشر الفساد حين وجدت نفسها قادرة على ان تتحكم بثروات الوطن ، علما ان هذه الثروات هي المصدر الذي يكاد يكون الوحيد في العراق لأيرادات الدولة من بيع المصادر الطبيعية لخيرات هذا البلد المسكين . وكما اسلفنا فأن اولى بذرات الفساد نتجت عن انحراف التربية الوطنية وتأثيرها على السلوك الاخلاقي للمواطنة والتفكك والتفتت الخلقي الناتج عن ضعف اهمال الارشاد الاسري في زرع مقومات حب الوطن ، وزاد من ذلك التعصب الديني المبني على اسس المذهب والعرق ، كل ذلك سبب ضعف في شعور الفرد بانتمائه للوطن والارض . هذه الشعور خطير جدا ، اذ انه كان السبب الذي دفع الافراد الى سرقة المال العام والى تدمير و تخريب البنى التحتية للخدمات التي لا يشعر الفرد بعائديتها له . وللاسف فأن هذا الفساد ما بعده فساد ، فهو خراب النفوس وضياعها وفقدان الاخلاق والمثل العليا التي يتوارثها الشعب ليحافظ عليها من جيل لأخر ، وفقدانها ليس سهلا والاصعب منه استعادتها .
كثيرين من ذوي الخبرة والاختصاص ابعدو عن مناصبهم وغيبت ادوارهم في الادارة والقيادة والتوجيه لأسباب طائفية وحرصا على ان يكون الهيكل الاداري للدولة المتحكمة بالسلطة من طائفة المستفيد او المتنفذ في المنصب الحكومي الاعلى . وجرت على هذا المنوال كل الاحزاب العراقية حتى صار المعتقد الديني المذهبي هو السمة الاساسية للاحزاب و البديل القوي لأفكار وعقائد التنظيمات السياسية بحلتها الدينية الجديدة ، واحتلت العمامة الرتبة السياسية الاعلى في القيادة والتخطيط بفكرها السياسي المتواضع و ظهورها بالزي الديني من اجل ان تحظى بالقبول الشعبي نتيجة ميل البسطاء للدين اكثر من السياسة.
ان استفحال الفساد مع التغيرات السياسية في احلال الزي الديني على مظاهر المحافل السياسية العراقية وممارسة الفساد من قبل القيادات الدينية الحزبية والسياسية وتبنيها لرجال الاعمال الفاسدين والاجراميين من اجل نهب ثروات الوطن ، جعل من عملية الاصلاح المرتجية والمرتقبة من قبل المصلحين ودعاة الانقاذ امر تعجيزي واقرب ما يكون الى المستحيل ، مما دفع بالكثير من المخلصين من ذوي الخبرة والاختصاص من التكنوقراط الى الاعتذار و الابتعاد عن الاضواء والامتناع من استلام مراكز ادارية وقيادية لتحسين اداء الحكومة وتقليص فجوات الفساد فيها ، وهم معذورون في هذا الامتناع بسبب انتشار واستفحال الفساد الى صغار الموظفين مما جعل اي تعديل في الهيكل الاداري بقصد الاصلاح عملية فاشلة من البداية. رغم اننا جميعا متفقين ان هذا الحال لا يعبر عن حقيقة المجتمع العراقي ويشهد على ذلك تاريخنا الطويل وما يرويه الاجيال من قصص وروايات واحداث سجلها رجال قادة و حكماء وعلماء كانو قدوة للمجتمعات في سلوكهم واخلاقياتهم ،على عكس ما نراه اليوم ، وعلى ذكر مواقف الرجال والرجولة واعلاء صوت الحق على همسات الفساد اروي لكم هذا المثال من الجزائر العربية من اجل ان نعرف كم ابتعدنا عن الاصلاح او حتى الامل في الاصلاح في المنظور القريب.
ذات يوم من ايام اواخر الستينات في الجزائر وصل تقرير مفصل من المخابرات العسكرية الجزائرية انذاك الى مكتب الرئيس الراحل هواري بومدين يخبرونه فيها بتورط وزير النقل بقضايا فساد وكان الاتهام مدعم بالوثائق والدلائل والمستندات حول استغلال الوزير لصلاحياته والاستفادة من امكانات الوزارة في بناء بيته الفخم في منطقة بن عكنون ، فرد بومدين في حينه بقرار استغرب له ضباط الاستخبارات حيث امر بأن يتركوه يكمل البناء براحته ولكن عندما يكمل تشييد الدار يتم اشعار بومدين . وبعد عدة شهور بلغ بومدين بان الوزير اكمل بناء داره الفخم ، فأمر بومدين باستدعاء الوزير مع كافة الوثائق التي تثبت ادانته ، قابله وسأله عن طريقة بناء البيت ثم طلب منه مفتاح الدار وابلغه انه محال الى دار العدالة بتهمة استغلال منصبه الوظيفي لمنافع شخصية واصدر امره بمصادرة الدار وتحويله الى املاك الدولة ، ولازال الدار موجود في شارع مختار دودو على الطريق المؤدية لكلية الاعلام والعلوم السياسية .
هذا مثال واحد من امثلة كثير واقعية نتذكرها حين نحاول مقارنة الفساد والفاسدين بما كان عليه الرجال وكيف كانت المثل العليا حاضرة في سلوكهم ليكونو قدوة لمن بعدهم من الناس وليقتدي بهم جيل المستقبل . تنقل لنا هذه الروايات صدق ما قاله الكاتب والاديب الامريكي الساخر (صمويل لانغهورن كليمنس) والمكنى (مارك توين) عندما قال (لا يمكن التخلص من العادات السيئة برميها من النافذة، يجب أن تجعلها تنزل من الدرج خطوة بخطوة) ، مؤكد ان زمن العزة والكرامة قد انحسر بعيدا عن رجال السياسة والقيادة في العراق ، وان هؤلاء الفاسدين هم قدوة لبقية الموظفين والتابعين لهم ، يقلدوهم ويتبعوهم ويحموهم ويدافعو عنهم ، وليس لنا الا ان نحلم في ماض عشناه وتاريخ قرأناه لنحافظ على ما بقي في عقولنا ونتحلى بالصبر وندعو الله ان يتم محاسبة الفاسدين والمجرمين بحق هذا الوطن وشعبه الصابر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية


.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في




.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك




.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر