الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريق اليسار 90

تجمع اليسار الماركسي في سورية

2016 / 11 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


طريق اليســـــار
جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 90 تشرين ثاني / نوفمبر 2016 - [email protected] E-M: *


* الافتتاحية *
- التلاقيات السياسية -
بعد شهرين من نشوب الأزمة السورية بدءاً من درعا18آذار/مارس2011قال معارض سوري ،قضى في السجن أكثر من عقد ونصف بين الثمانينيات والتسعينيات، العبارة التالية:"اللوحة السورية تلخص بثنائية السلطة والاسلاميون،والأولى أهون الشرَين".توزع الكثير من نزلاء السجن السياسي السوري في فترة1976-2000من اليساريين العروبيين والماركسيين في (الخط الثالث) عند (هيئة التنسيق)،الذي رفض (الاستعانة بالخارج)و(العنف المعارض)ونادى بالتسوية السياسية الانتقالية،وفي (الخط الثاني)عند (المجلس الوطني)و(الائتلاف)،ولكن كان الكثير منهم أيضاً في (مرحلة مابعد درعا)في إطار خط (أهون الشرَين).
قاد خط (أهون الشرَين)إلى تلاقي سياسي لمعارضين سياسيين شرسين في فترة16تشرين ثاني/نوفمبر1970- 18آذار/مارس2011مع السلطة وإلى انتقالهم عملياً خارج خندق المعارضة:تم الأخذ عند أنصار هذا الخط بدرجتي السلم التي تقاس فيها المراحل السياسية عند الماركسيين: (التناقض الرئيسي)و(التناقض الثانوي).قال هؤلاء بأن التركيز يجب أن يكون على (هزيمة الفاشية الاسلامية)،باعتبارها "التناقض الرئيسي"للمرحلة ،بينما موضوع (دحر الديكتاتورية السياسية عند السلطة)هو "في مقام التناقض الثانوي"ويمكن تأجيله.عملياً ذهب هؤلاء إلى حلف غير معلن مع (الخط الأول) السلطوي ولكن واضح التلاقيات والتقاطعات معه.إذا تفحصنا مجرى تحولات الرأي العام السوري في السنوات الخمس ونصف من عمر الأزمة فإنه يمكن القول بأن خط(أهون الشرَين)قد امتد إلى مستويات اجتماعية عديدة خارج تخومي(الموالاة)و(المعارضة):المترددون الذين لايروق لهم حزب البعث والطاقم الحاكم ضمن الفئات الوسطى المدينية في دمشق وحلب وحمص واللاذقية،النازحون من مدينة حلب ومن محافظة ادلب نحو الساحل الذين جرَبوا حكم الفصائل الاسلامية المعارضة المسلحة،حيث يقارن هؤلاء الأخيرين بين وضعهم تحت الخيمتين هناك وهنا عندما لم يقدم الاسلاميون في الأرض التي سيطروا عليها بمحافظات سورية عديدة بديلاً أفضل من السلطة في طريقة التعامل مع المحكوم ولافي الخدمات الاجتماعية ولافي درجة الأمان الشخصي ولافي الفساد كماأنهم دخلوا في قضية لاتدخل بها السلطة مسَت حرية المواطن في المشرب والزي وعادات التدخين وهو ماصدم حتى متدينين سوريين غير اسلاميين وهم غالبية اجتماعية.منذ تفجيرات باريس التي تبنتها (داعش)،يوم الجمعة13تشرين ثاني/نوفمبر2015،دخل الغرب الأميركي- الأوروبي في خط (أهون الشرَين)في النظر إلى الأزمة السورية،وخاصة لمالمس من التحقيقات بأن فتيل تفجيرات باريس(وبعد أربعة أشهر في بروكسل) يبدأ من الرقة:كانت واشنطن سابقة لباريس في ذلك عملياً منذ القرار الدولي2170في 15آب/أغسطس2014الذي شرعن حرب التحالف الدولي على(داعش)و(النصرة)،وعملياً كان فرانسوا هولاند آخر المتشددين الغربيين في المسألة السورية وآخر الملتحقين بخط(أهون الشرَين).دونالد ترامب ليس فقط من نظرية (أهون الشرَين)بل يتلاقى مع فلاديمير بوتين في النظر إلى الاسلاميين بوصفهم في موضع"التناقض الرئيسي".
عند الشيوعيين الجزائريين والليبراليين العلمانيين وعند الفرانكوفونيين وأيضاً لدى الحركة الأمازيغية البربرية:"التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"بقيادة سعييد سعدي،كان خط (أهون الشرَين)،وعلى الأرجح منظور(التناقض الرئيسي )،وراء وقوف كل هؤلاء مع انقلاب الجنرال خالد نزار بيوم11يناير1992الذي أوقف فيه العسكر مسار الانتخابات البرلمانية بجولتها الثانية بعدفوز(الجبهة الاسلامية للإنقاذ)بغالبية كاسحة من المقاعد المتنافس عليها(188مقابل 25لجبهة القوى الاشتراكية بزعامة حسين آيت أحمد و16مقعداً لحزب جبهة التحرير بقيادة عبدالحميد المهري)في الجولة الأولى وماكانت تقوله المؤشرات لفوز الاسلاميين بالجولة الثانية بغالبية مقاعد البرلمان البالغة430مقعداً.سكت وتواطأ كل هؤلاء مع ديكتاتورية العسكر ومذابحهم ،وأيضاً اسدالهم الستار على (الديموقراطية) ودفنها، من خلال نظرية (أهون الشرَين)و(التناقض الرئيسي).مارس الشيوعيون التونسيون والليبراليون الشيء ذاته ضد اسلاميي (حركة النهضة)بزعامة راشد الغنوشي منذ عام1991في وقوف من قبلهم مع نظام زين العابدين بن علي،وهو مافعله أيضاً حزب الوفد الليبرالي في مصر وكذلك (حزب التجمع)اليساري الماركسي في وقوفهم مع نظام الرئيس حسني مبارك ضد الاسلاميين بطبعتيهم الإخوانية والجهادية منذ التسعينيات وحتى انتخابات 2010قبل شهر ونصف من ثورة25يناير2011.لم يظهر (الخط الثالث)في البلدان الثلاثة سوى عند حسين آيت أحمد وعبدالحميد المهري حيث عقدا مع (الجبهة الاسلامية للإنقاذ)اتفاق "عقد روما"،الذي رعته منظمة سانت ايجيديو الكاثوليكية بالشهر الأول من عام1995،ولكن انتهى هذا الخط إلى الفشل وسط قعقعة السلاح عند متطرفي العسكر ومتطرفي الاسلاميين الذين عامت (الجماعة الاسلامية المسلحة)عندهم على حساب(الجبهة الاسلامية للإنقاذ)في مرحلة مابعد وقف المسار الانتخابي تحت شعار:"لايفل الحديد إلاالحديد"أمام تطرف العسكر المدعومين من اليساريين والعلمانيين وأنصار الحركة الأمازيغية الذين وضعوا عصابة على أعينهم لكي لايروا مايفعله العسكر بالاسلاميين تحت القناع النظري:"أهون الشرَين"و"التناقض الرئيسي"،في مجابهة ذهب ضحيتها خلال عشرية من السنين مابين100و150ألف جزائري.
في آب/أغسطس1937ألقى ماوتسي تونغ محاضرة أمام كوادر الحزب الشيوعي الصيني تحت عنوان:"في التناقض"،لكي يفسر التحالف مع الخصم الصيني :"حزب الكومينتانغ"،الذي كان قد ذبح الشيوعيين قبل عشرة أعوام في شنغهاي وهو موضوع رواية أندريه مالرو:"الوضع البشري"،ضد المحتل والغازي الياباني للأرض الصينية.مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1945بهزيمة اليابانيين عاد التناقض الأساسي أوالرئيسي ليظهر مع حزب الكومينتانغ حتى سيطرة الشيوعيين على كامل البر الصيني ونزوح مهزومي الكومينتانغ إلى جزيرة تايوان في 1تشرين أول/اوكتوبر1949.في آب/أغسطس1917تحالف بلاشفة حزب لينين مع حكومة كرنسكي ،التي سجنت قادة من البلاشفة ولاحقت لينين الذي لجأ للتخفي في الشهر السابق،ضد عصيان الجنرال كورنيلوف الذي أراد الإطاحة بكرنسكي وإعادة الحكم القيصري .بعد شهرين أطاح لينين بكرنسكي بعد أن اجتمعا ضد ذلك الجنرال وهزماه.يمكن من خلال منظار(التناقض الرئيسي)و(التناقض الثانوي)تفسير المعاهدة النازية- السوفياتية عام1939عند ستالين وخاصة بعد أن أحس بتراخي الغرب البريطاني- الفرنسي أمام هتلر في(مؤتمر ميونيخ)عام1938وتضحيته بتشيكوسلوفاكية من أجل ابعاد هتلر عن الغرب ودفعه شرقاً للتواجه مع موسكو.كان تلاقي ستالين مع تشرشل وروزفلت بعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي عام1941من خلال (التناقض الرئيسي).لم يكن الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بعد عام1972مرتاحاً لتحالف الشيوعيين الفرنسيين بزعامة جورج مارشيه مع الحزب الاشتراكي بقيادة فرانسوا ميتران ضد الديغوليين لأنه كان يرى التناقض الرئيس ليس من خلال (اليسار واليمين)بل من خلال الموقف من (حلف الأطلسي)حيث كان ميتران ميالاً للعودة إلى الإنتظام فيه بعد أن جمد الجنرال ديغول العضوية الفرنسية في الجناح العسكري للحلف في عام 1966.
ليس التناقض الرئيسي ، في الأزمة السورية،كمنظار بعيداً عن الخطوط السياسية:(الخط الثاني):خط الائتلاف وقبله المجلس ومعهما المسلحون الاسلاميون:التناقض الرئيسي ضد السلطة،(الخط الثالث):التناقض الرئيس هو الانتقال من الأزمة إلى نظام سياسي جديد متجاوز لأوضاع ماقبل 18آذار/مارس2011، (خط أهون الشرَين):التناقض الرئيسي ليس مع السلطة بل هذا ثانوي أمام التناقض مع الاسلاميين.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------
مقال:

الليرة السورية .. هل من أمل؟
يزن زريق

جريدة "الأخبار"29/11/2016
في اذار 2012 ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة السورية متجاوزا ال 95 ليرة سورية و هي ضعف ما كانت عليه في اوائل عام 2010 حين كان الدولار يساوي47.5 ليرة ، أي ان الدولار ارتفع في ذلك الحين و في قفزة استثنائية في تاريخ العملات بنسبة 100%!.
لقد تبخر في ذلك اليوم نصف مدخرات كل السوريين بالليرة السورية. لم يعي الكثيرين من الناس (بما فيه اعضاء الفريق الاقتصادي القائم على ادارة اقتصاد البلاد) اهمية و نتائج الحدث الذي قصم ظهر العملة السورية.و تماما كما يحصل حين يقع الزلزال فالهزة الاولى هي الاقوى و هي ذات الاثر التدميري الاسوأ اما ما يأتي بعدها فيكون بمثابة هزات ارتدادية لا تكون مطلقا بنفس قوة و خطورة الهزة الاولى .ف
بينما ادت الخمسين ليرة الاولى التي ارتفع فيها الدولار امام الليرة لخسارتها 50% من قيمتها الاصلية فان الخمسين الثانية أخسرتها فقط 16,6% بينما الخمسين الثالثة اخسرتها 8,4% واما الرابعة فستخسرها فقط 5%من قيمتها ..وطبعا قام البنك المركزي بمواجهة الموضوع متبعا سياسة business as usual أي كأن امرا لم يكن . ثم بعد فترة قصيرة و بعد ان ثبت ان التصريحات و المداورات و المراوغات و نشر الشائعات لم تنفع ، و لم يعد بالإمكان متابعة سياسة طمر راس النعامة , عمد الفريق الاقتصادي الحاكم الى سياسة جديدة الا وهي التسهيل الكمي او quantative easing أي طباعة العملات و ضخ السيولة واغراق الاسواق بالأوراق النقدية الفاقدة القيمة , لينشأ لدينا حالة مشابهة لحالة الخطوط المتوازية في الهندسة- لايلتقيان- احدهما يعبر عن " السعر الرسمي" لليرة السورية و الاخر سعرها الحقيقي في "السوق السوداء" أي في حركة السوق الواقعية و اليومية .
لإدراك مدى سوء الاوضاع نعود الى تقريرللبنك الدولي حمل عنوان " مينا ايكونوميك مونيتور " يقول فيه ان احتياطي المصرف السوري من العملات الاجنبية قد بلغ اليوم حدود الانهيار متراجعا من 20 مليار دولار عشية الازمة الى نحو 700 مليون دولار(مع احتياطي من الذهب بالغ حوالي 25 طن تم تسييل اغلبه عن طريق عمليات التدخل الايجابي و طرح كميات دولارية معينة في اوقات معينة للبنك المركزي عبر شركات الصرافة ) . مع بلوغ سعر الصرف ارقاما قياسية حيث يتجاوز 462 ليرة بحسب بيانات بورصة دمشق اما في السوق السوداء فيتراوح بين 525 و 550 ليرة للدولار الواحد، " هذا معناه بوضوح ان الاحتياطي قد جف" كما قال الخبير الاقتصادي جهاد اليازجي لوكالة فرانس بريس. كل ذلك في ظل ارتفاع العجز في الميزانية ليبلغ حوالي 20 % من اجمالي الناتج المحلي الذي يتراجع بمعدلات سنوية بلغت في 2015 نسبة 19%.
بعد ان قمنا بقراءة في الارقام لابد من اجراء محاولة في قراءة الاسباب .
تعتمد الحكومات عادة واحدة من الطريقتين لضبط اسعار عملاتها , اما عن طريق تحديد اسعار الفائدة فيتم تحديد السعر التوازني لليرة بما يزيد عن معدل التضخم بنسبة 2 الى 3% من بين امور اخرى . وفي الحالة السورية نجد ان سعر الفائدة مثبت نسبيا عند حدود 10% في حين ان معدلات التضخم خلال السنوات الخمس السابقة تتحرك ضمن متوسط يتجاوز 100% , فأبقى المركزي على اسعار الفائدة ثابتة نسبيا بينما حلقت الاسعار و نحقق الركود العميق في الاقتصاد .
اما الطريقة الثانية في ضبط أسعار العملات فهي التحكم باحتياطيات البنوك أي تحديد الاحتياطي الادنى الذي يجب على البنوك امتلاكه لتقوم بالإقراض وهو ما يسمى ب"الاحتياطي الالزامي ", و قد قامت الحكومة السورية بتحديد احتياطي الزامي بالغ الانخفاض (حوالي 5%) و هي نسبة قليلة اعطت المجال للبنوك في التوسع بالإقراض الرخيص (المنخفض الفائدة على البنك والمقترض )مما أدى الى ارتفاع جنوني في معدلات التضخم و انخفاض قيمة العملة في ظل طوفان ازدياد المعروض النقدي الحاصل .
خلال هذا الوضع تصبح تدخلات المركزي السخية ذات اثار محدودة ووقتية تلبي حاجات السوق لأيام قليلة ثم سرعان ما تعود الاسعار الى الارتفاع لان اسباب و جذور تدهور العملة المحلية لازالت قائمة .
السياسات المالية و ظروف الحرب و تجار الازمات , كل ذلك يساهم بشكل يومي في تغذية الانهيار الداخلي للاقتصاد السوري عموما وانهيار العملة المحلية خصوصا التي فقدت حتى الان ما يقارب 90% من قيمتها , لكن الاسوأ لم يأت بعد ..اذ من المتوقع ان الليرة السورية ستواجه ايضا انهيارا حادا بمجرد ان يلوح أي حل للازمة السورية , فعودة المهجرين الى مناطقهم التي تركوها سيسبب ازدياد استثنائي على طلب الحاجيات الاساسية بما فيها الاحتياجات المتعلقة بالطعام و الشراب , التي لاتنتج محليا اليوم ولا باي شكل من الاشكال,بفعل البنية التحتية المدمرة بشكل شبه كامل , فان ذلك سيؤدي الى ضرورة استيرادها بالدولار في ظل خزائن الدولة الشبه فارغة و هو ماسيدفع بالعملة السورية لمزيد من الانتكاس , وليصبح سيناريو التعويم اللبناني و العراقي شبه حتمي .
ان تشظي البلاد و توقف معظم حركة الانتاج السورية بسبب التدمير الواسع للمدن الصناعية في حلب و ريف دمشق و حرق المحاصيل الزراعية و انخفاض انتاج النفط من نصف مليون برميل يوميا ال 17 الف برميل يوميا و الكهرباء التي كانت تصدر الى لبنان و اليوم تعاني من العوز الشديد .. كل ذلك يشير الى حركة تقلص الصادرات الوطنية بشكل كبير سيؤثر على مدى عقد او أكثر ( بافتراض حل سريع للازمة في البلاد ) على حجم الايرادات من القطع الاجنبي وقيمة الليرة السورية التي تعاني من ضربة عميقة الاثر ستستمر حتما لأجيال.

رحيل
فيديل كاسترو في التاريخ
فواز طرابلسي
باقة ورد حمراء ودمعة لفيديل، الثوري الكبير والانسان الكبير.
«فيديل كاسترو واثنا عشر من رجاله ومع الحرية هبطوا على الشاطيء»، هكذا كتب بابلو نيرودا شعراً في وصف بداية ملحمة الكفاح المسلح التي انتهت باسقاط الدكتاتور الكوبي باتيستا في اول العام ١٩٥٩.
واول انجاز لفيديل كاسترو ورفاقه انهم حوّلوا الى وطن مستعمرة اميركية تنتج المنتوج الاوحد: السُكّر، وتخدم كملهى ونادي قمار ومبغى للاثرياء وزعماء المافيات. هو وطن اراده فيديل قبل اي شيء آخر مستقلا كريماً في مواجهة العداء الاميركي السافر الذي واجه الثورة منذ ايامها الاولى بالحصار ومحاولات خنق انفاسها التي الهبت جماهير اميركا اللاتينية وحجز تأثيرها في سائر العالم الثالث. واجه فيديل كاسترو ورفاقه عشرة رؤساء تعاقبوا على حكم الجار الامبراطوري مواجهة الندّ للندّ فأفشلوا غزو عملاء السي آي اي في خليج الخنازير العام ١٩٦١، وخرجوا سالمين من ازمة الصواريخ السوفييتية العام ١٩٦٢ وقضوا على عناصر الثورة المضادة الداخلية من اتباع الدكتاتورية التي جيّشتهم السي آي اي.
وقد تطورت المجابهة مع الولايات المتحدة بحيث دفعت وطنيين وديمقراطيين وتقدميين كوبين الى التجذّر فكرا وممارسة وصولا الى تبني الماركسية وتأسيس حزب شيوعي العام ١٩٦٥. اعطى النموذج الكوبي وجها جديدا للماركسية واسهم في اطلاق يسار عالمي جديد عبر العالم. بالاشتراكية حرر فيديل كاسترو الكوبيين السود من التمييز العنصري، ومنح النساء حقوقا واسعة ودورا اكيدا في الحياة العامة، وأدخل شعباً باكمله في المدارس بعد القضاء التام على الامّية وبنى أنجح انظمة الرعاية الصحية في اميركا اللاتينية، مفاخرا بأن كوبا بلد يموت فيه الناس بسبب تقادم العمر لا بسبب المرض، وحقق اقتصاده درجة الصفر في نسب البطالة، واعاد توزيع الارض والثروة فيما تسجل له احصائيات الامم المتحدة ادنى معدلات التفاوت الطبقي في العالم.
في الدائرة الاميركية اللاتينية كان الدور الابرز للثورة الكوبية هو في تحرر شعوب اميركا اللاتينية من الاوليغارشيات والدكتاتوريات العميلة للولايات المتحدة، وهو المسار الذي تعمّد بدم رفيقه تشي غيفارا في بوليفيا. ورغم التشديد المبالغ فيه للكاستروية على الكفاح المسلّح لم يتردد فيديل في تقديم الدعم الكامل لتجربة بناء الاشتراكية سلميا التي جسدّها سلفادور الييندي في التشيلي والتي لم تلقَ إلا تكالب الاحتكارات الاميركية والسي آي إي على إغراقها بالدم، وقتل رئيسها المنتخب ديمقراطيا، في انقلاب بينوشيه العسكري وطغمته الفاشية الدموية. ولا تزال بذور ما زرعته الثورة الكوبية تتفاعل في انماط متجددة من الحركات الشعبية واليسارية عبر جنوب القارة الاميركية ليس اقلها تجربتا البرازيل وفينزويلا.
ولا بد ان يذكر لفيديل جهوده الخلاقة للمصالحة بين الماركسية والدين عبر تغذية ودعم تيار «لاهوت التحرير»، داعية الحق في الثورة ولو بالسلاح على الحاكم الظالم، الذي حرّك وحشد ملايين الكاثوليكيين في اميركا اللاتينية تحت رايات التحرر الوطني والمساواة والعدالة الاجتماعية. وقد واكب فيديل كاسترو وحزبه إعادة الاعتبار لهذا التيار في الآونة الاخيرة التي توجّت بزيارة البابا فرانسيس الاخيرة الى هافانا.
اعطت الثورة الكوبية للتضامن بين الشعوب احد انبل معانيه: تضامن الفقراء مع الفقراء، والمناضلين من اجل الخبز والحرية مع اقرانهم. فاسهمت الوحدات الكوبية المقاتلة بدورها في غير ساحة من ساحات الحرية في في الكونغو وغانا ونيكاراغوا وانغولا واثيوبيا واليمن، وذروة ذلك الدور الاسهام في اسقاط نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا. وفي السلم مارست الثورة الكوبية تضامنها من خلال الاطقم الطبية والتعليمية العاملة على مكافحة الاوبئة والامراض والامية في غير بلد من القارة الافريقية.
يأخد نقاد كاستروعليه الانفراد في الحكم، وهم داعمو الكثرة الكثيرة من طغاة العالم او متغاضون عن جرائمهم وانظمتهم التسلّطية. ويتهمونه بتصفية خصومه، وهم مسؤولون عن ٧٣٦ محاولة لاغتياله على ايد عملاء الدولة التي تدّعي انها زعيمة «الحرب الكونية ضد الارهاب». والنظام الكوبي متّهم بوجود سجناء سياسيين لديه، وعلى الارض الكوبية المحتلة يقع معتقل غوانتنامو الاميركي الرهيب!
نعم، لقد بنى فيديل كاسترو سلطة للحزب الاوحد في ظل حكم فردي ازداد اتكالا على الامن والعسكرة والتسلّط البيرقراطي. وهذا تشوّه كبير لمشروع تحرر الوطني حاول تجربة جديدة في الديمقراطية التشاركية. ولكن الا تقع اية مسؤولية في ذلك على نحو نصف قرن من الحصار الخانق والتجويع والعزل والتحريك الذي لا ينقطع للتمرد الداخلي المسلّح لتأديب جزيرة رفض اهلها الاستمرار في لعب دور القاصر والتابع للإدارة الامبراطورية الاميركية؟
باكراَ، التقط فيديل كاسترو الطور النيوليبرالي المتعولم الذي دخلته الرأسمالية. ونشراكتشافه على العالم في خطاباته الشهيرة. وبعد تنحيّه عن السلطة ظل القائد المشاغب ينتقد حتى النظام الذي بناه محذّراً من إعلاء السوق على الانسان وتنصيب الحقوق الفردية والشخصية في وجه الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ومحاربة الحق في المساواة بإسم الحرية.
في خطاب امام المحكمة التي قضت يسجنه ١٥ عاما بتهمة رفع السلاح ضد النظام الدكتاتوري، ختم المحامي الشاب فيديل كاسترو كلامه بعبارة «ان التاريخ سوف يبرئني!».
لقد دخل فيديل كاسترو التاريخ. والتاريخ سوف يبرئه.


العدد ٣٠٤٤ الاثنين ٢٨ تشرين الثاني ٢٠١٦
جريدة"الأخبار
فيديل كاسترو: أن تعيش عزيزاًَ أو تموت كريماً


جعفر البكلي
كان تشي غيفارا يقول إنّ نقطة التحوّل في حياة كلّ إنسان تجيء في اللحظة التي يقرّر فيها أن يجابِه شجاعاًَ خيارَ الموت، بدلاً من أن يهرب منه ذليلاً جباناًَ. إنه في اللحظة التي يعزم فيها على أن يقف صلباًَ في سبيل قضيته، ويرضى أن يدفع حياته ثمناً لموقفه، وأن يواجه حتفه - لا أن يفرّ منه - يكون قد تحول بطلاً، سواءٌ نجا من الموت، أو لم ينجُ.
بهذا المعنى كان غيفارا بطلاً... وبهذا المعنى كذلك كان رفيقه فيديل كاسترو بطلاً. فأنْ تقرّر إشعال ثورة مسلحة ضد عملاء الإمبريالية، وأن تقلب موازين المجتمع الراسخة منذ قرون، وأن تفتكّ امتيازات الإقطاعيين المتخمين وتهبَها للفقراء والمحرومين، وأن تؤمّم مصالح المُستعمِرين، وأن تخوض كفاحاً ضد الجهل والتخلف والأمية والفقر، وأن تواجه - بعد كل ذلك، لا بل قبل كل ذلك - أميركا فتضع رأسك برأسها، وعينك بعينها، وأنفك بأنفها... فأنت إذاً بطل!
لم تكن كوبا أمام أميركا إلّا سمكة صغيرة تجابه حوتاً فاغراً فاهُ يريد ابتلاعها. وإنّ من ينظر إلى الخريطة، يرى أنّ خليج المكسيك هو فم ذلك الحوت المفتوح، وأن جزيرة كوبا ليست أكثر من سمكة تجابه قدراً، بكبرياء وإباء... وأن تواجه الموت الأميركي شجاعاً - لا فرّاراً - تلك هي البطولة!
فتافيت معاهدة «دفاع مشترك» مع أميركا
حينما هرب من المواجهة عميلُ أميركا في كوبا الجنرال فولغنسيو باتيستا، يوم 1 كانون الثاني 1959، وهو يحمل في حقائبه 40 مليون دولار نهبها من البنك المركزي الكوبي (وكان ذلك آخر قرار اتخذه الرجل قبل أن يلوذ بالفرار إلى جمهورية الدومينيكان)، فإن هذا لم يكن إلّا مآل كل جبان. ويوم وصل موكب فيديل كاسترو إلى هافانا، ظافراً يوم 8 كانون الثاني 1959، بصحبة غيفارا وراؤول وثلاثمئة من الرفاق الذين خاضوا حرب تحرير شعبية من جبال سييرا مايسترا، فقد كان ذلك هو نهاية الفصل الأول من ملحمة مجابهة الموت بعزة وشجاعة.

لم تغيّر زينة السلطة
وبريقها شيئاً في
معدن الرجال

لم تغيّر زينة السلطة وبريقها شيئاً في معدن الرجال. ولم تهادن الحكومة الثورية الجديدة في مجابهة «الحوت»، منذ يومها الأول في الحكم. بدأ كاسترو بنوادي القمار التابعة للمافيا الأميركية، فأقفلها. ثمّ أخذ جميع ممتلكات الإقطاعيين الأجانب والمحليين، فردّها إلى الدولة. ثم وصلت يده إلى شركة «الفواكه المتحدة» كبرى شركات الأميركيين المحتكرة لمزارع كوبا، فأمّمها. وفي شباط 1960 أكمل كاسترو المجابهة الكبرى بتأميم المصافي الكوبية التي تسيطر عليها الحكومة الأميركية نفسها... وكذلك استرجع كاسترو في ظرف عام واحد من الثورة، ما قيمته 25 مليار دولار أميركي من ممتلكات بلاده (يمكن مضاعفة هذا الرقم عشر مرات إذا احتسبنا الفارق بين قيمة العملة الآن، وقبل 57 عاماً).
كان من الطبيعي حينئذ أن لا تصمت الولايات المتحدة على هذا المروق. والأنكى من مصادرة كاسترو «لأرزاق» أميركا في كوبا، أنه أظهر تحدياً آخر في السياسة، حين طالب بجلاء القوات الأميركية عن قاعدة «غوانتنامو»، ورفض القبول بسياسة تأجير الأراضي الكوبية لواشنطن، وأبى أن يأخذ المقابل المالي لهذا الإيجار الذي سنّه باتيستا. وفي اجتماع عام أمام حشد من الجماهير، أمسك فيديل كاسترو بمعاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة التي استندت إليها واشنطن لرفض مغادرة «غوانتنامو»، فمزقها قطعاً صغيرة، ورمى ببقايا الأوراق الطائرة في الهواء. فكان ردّ أميركا على هذا العصيان إعلان محاصرة لكوبا، والعمل على قلب نظام الحكم فيها، وإصدار أوامر جازمة إلى محطة «السي آي إيه» في هافانا بالعمل على تصفية فيديل كاسترو بكل الوسائل.
في حفظ ماركس ورعايته
لم تدّخر «السي آي إيه» جهداً لتصفية كاسترو، فتعاونت مع المافيا ومع المنشقين الكوبيين ومع العسكريين، ومع القتلة المحترفين، بل وحتى مع المومسات... لكن كل المؤامرات على كاسترو لم تنجح في القضاء عليه! ومن الطريف أنّ المحاولات الأميركية وصلت إلى مستويات جنونية، فقد تفتقت «عبقرية» البعض من عملاء «السي آي إيه» حدّاً جعلهم يحشون بالمتفجرات أصداف شاطئ، كان فيديل يمارس على رماله رياضة الركض.

«الجيش الثائر لن يترك أبداً مواقعه
في لا سييرا مايسترا، إن لم يكن للتقدم نحو باقي أراضي الوطن. الموت أو النصر هو البديل الوحيد الذي نتقبله. من دون حرية ووطن، لا يريد أحد منا الحياة»
(من مقابلة مع صحافي فنزويلي خلال الحرب)
وكان المأمول أن تفجَّرَ الأصداف الملغومة باللاسلكي عند وصول الزعيم الكوبي إلى الشاطئ في الصباح. غير أنّ المتآمرين وجدوا أنفسهم بعيدين جداً في عرض البحر، ولم يروا الأصداف، ففجروها عشوائياً، ونجا الزعيم الكوبي. وفي مرة أخرى جنّدوا طالباً كوبياً ليغتال فيديل كاسترو في حرم الجامعة عبر مدفع «بازوكا»، وقُبض على الطالب قبل تنفيذ عمليته. وفي مرة ثالثة أرسلوا إلى كاسترو بذلة غوص مسمّمة. وفي مرة رابعة أهدوا إليه - عبر أحد العملاء - علبة شوكولا مسمومة... ولم تنجح كل تلك الوسائل في قتله، فمن الواضح أن كارل ماركس كان يشمل كاسترو بحفظه ورعايته!
والمفارقة أنه بدلاً من أن تختنق كوبا وتضمر، وتموت بفعل الحصار القاسي الذي فرضته واشنطن من حولها، فإنها صمدت، بل وقويت وتمددت أيضاً، إلى درجة جعلت نائب مدير «السي آي إيه» في السبعينيات الجنرال فيرنون والترز، يقول ساخراً وحانقاً: «تبدو لي كوبا كأكبر بلد في العالم: عاصمتها في بحر الكاريبي... شعبها في فلوريدا... جيشها في أنغولا... حزبها في موسكو... لغتها في مدريد... وكاسترو وحده في هافانا».
إلا أنّ محاولات الاغتيال المادية لكاسترو عاضدتها حملات أخرى لاغتياله معنوياً، ووصل الأمر بالصحافة الأميركية إلى أنها اختلقت أكاذيب رخيصة للنيل من الرجل. فيوم زار فيديل الأمم المتحدة في 20 أيلول 1960 لإلقاء كلمة بلاده أمام الجمعية العامة، زعمت الصحف الأميركية أن أفراد الوفد الكوبي كانوا لا يأكلون من مطعم فندق «شلبرون» في نيويورك، خشية أن يكون الطعام مسموماً. وأنهم كانوا يحضرون الدواجن إلى غرفهم في الفندق ويذبحونها في الحمّام، ويرمون بريشها في المراحيض، ثمّ يطبخونها في بيوتهم، ويلتهمونها. وفي وقت آخر، جاءت الأوامر لإدارة فندق «شلبورن» لكي يطردوا زبائنهم الكوبيين. وتعمدت إدارة الفندق إهانة الزعيم الكوبي عبر مطالبته بتقديم تعويضات عمّا ألحقه مرافقوه من الأذى بأثاث النزل! ولم يجد كاسترو من بدّ سوى مغادرة فندق لا يرغب بوجوده، والإقامة في «بنسيون» صغير في حيّ «هارلم»، حيث يقطن الزنوج في نيويورك.
النصر أو الثورة أو الموت
مضت كل تلك الأيام، ولم تقدر أميركا بكل جبروتها، أن تصنع لرجل يتحداها شيئاً. وأما رفيق الكفاح تشي غيفارا، فقد ودّع صديقه فيديل قبل أن يذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فكتب إليه رسالة قال فيها:
«إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. إننى أشعر بأنني أنجزت ذلك الجزء من عملي الذى كان يربطني بالثورة الكوبية، وإن بلاداً أخرى في هذا العالم تحتاج إلى جهودي. وأظن أنني أستطيع القيام بما لا تستطيعه أنت بسبب مسؤولياتك في قيادة كوبا. أجل لقد حان وقت الرحيل والافتراق، وأريدك أن تعرف أنني أرحل بمزيج من الغبطة والألم. فإذا جاءت ساعتي تحت سماءٍ أخرى، فإنك والشعب الكوبي ستكونان في خاطري قبل أن ألفظ نفسي الأخير... النصر أو الثورة أو الموت».
"

-----------------------------------------------------------------------------------


بمناسبة رحيل المفكر الوطني بامتياز صادق جلال العظم نستذكره بشيء من مواقفه
(1)
قال المفكر السوري صادق جلال العظم إن ما يجري في سورية اليوم هو ليس حرباً أهلية معمّمة، مقارنة مع "الحرب الأهلية اللبنانية الجارة" و"الحرب الأهلية العراقية القريبة"، موضحاً في في حوار أجرته جريدة "المدن" أن "في سورية اليوم لا نجد طوائف معبّأة عسكرياً بعضها ضدّ بعضها الآخر أو جاهزة للولوج في صراع مسلّح في ما بينها، باستثناء العمود الفقري للسلطة والدولة وأجهزة الأمن والقمع أي الطائفة العلوية من جهة والعمود الفقري للثورة أي الأكثرية الشعبية السنّية من ناحية ثانية". وأوضح "العظم" أن اندلاع الثورة في سورية هو الذي استجلب الصراعات الدولية والإقليمية القائمة أصلاً إليها وما يجري في سورية اليوم هو انتفاضة بالتأكيد، أخذت تشبه في كثير من ملامحها ومسارها حروب التحرير الشعبية طويلة الأمد ضد سلطة جائرة وقاهرة ومتجبّرة لم تعد الأكثرية الشعبية في البلد تطيقها. وأكد العظم أن ما يجري في سورية هو ثورة أيضاً، لكون الهدف هو الإطاحة بالنظام القديم المهترئ والمتداعي والذي لم يعد قابلاً للحياة. ثورات العصر الحديث كانت دوماً تهدف إلى الإطاحة بنظام قديم ما، لصالح نظام جديد يتطوّر ويتبلور من رحم الثورة نفسها ولايمكن البتّ بخصائصه بصورة مسبقة. وعن حقيقة وجود "بعد طائفي" في سورية من جهة النظام والمعارضة، رأى "العظم" أنه "يوجد أبعاد طائفية متعدّدة لما يحصل في سورية اليوم على الرغم من المحاولات الكثيرة لإنكار ذلك.. وجميع الاجتماعات والمؤتمرات التي شاركت فيها خلال السنوات الماضية كانت تتهرّب عمداً من الاعتراف بوضوح بالأبعاد الطائفية للصراع في البلد وكأن ذكر الشيء يجلبه وعدم ذكره يبعده"، مشيراً إلى أنه "من الأفضل للثورة أن تعي نفسها جيداً بلا تورية وأن تصارح نفسها علناً .. فالثورة رفعت غطاء الطنجرة (كما نقول باللغة الدارجة) فظهرت التشقّقات المجتمعية وظهر العفن الطائفي الذي خلفه النظام بعد حكم نصف قرن". وأكد "العظم" أنه "لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته بدون سقوط العلوية السياسية تماماً كم أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها بدون سقوط المارونية السياسة (وليس الموارنة) في لبنان". وعن سؤاله حول رؤيته لـ "الحل" في سورية، أجاب: "الثورة بحاجة إلى مساعدة خارجية للإطاحة بالنظام. وهذا غير مستغرب لأن حركات التحرّر الوطنية الشعبية كان لها دائماً أصدقاء يساعدونها، هذه تجربة القرن العشرين. في سورية، قد يحصل وقد لا يحصل. يصعب التنبؤ. محال أن يحكم آل الأسد سورية بعد الآن. إذ لا فائدة منهم لا بالنسبة للإيرانيين ولا للروس ولا لجميع الأطراف". وعبّر "العظم" عن تخوّفه من تنظيم "داعش" و"يجب التخلص منها" إلا أنه اعتبرها امتداداً للنظام وسترحل مع رحيله.
ب

نستذكر مواقف العظم مع الاصدقاء (2)
صادق جلال العظم: موقف أدونيس من الثورة السورية لم يفاجئ أحدا
قال إنه استكمال لمواقفه الخمينية التاريخية
لندن: «الشرق الأوسط»
اعتبر المفكر السوري المعروف الدكتور صادق جلال العظم موقف أدونيس المناهض للحراك الشعبي الذي تشهده سوريا منذ 9 أشهر والمطالب بالحرية والكرامة والمواطنة الكاملة منسجما مع مواقف أدونيس التاريخية من حراك السوريين ومن نضالاتهم المديدة ضد القمع.
جاء كلام العظم في معرض رده على سؤال عن رأيه في مواقف أدونيس من الثورة السورية على هامش محاضرة ألقاها العظم بدعوة من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
وقال العظم: «في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ سوريا استفاقت (شيعية) أدونيس وأرجع ذلك إلى مرحلته الخمينية مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، واستمرار موقفه حتى فترة تسعينات القرن الماضي كما ظهر في قضية سلمان رشدي الذي حكم عليه الخميني بالإعدام (تلفزيونيا) وحينها لم ينطق أدونيس ببنت شفة دفاعا عن حرية الكاتب وحقه في الحياة والاستمرار في الكتابة على الرغم من أن قضية رشدي سيطرت ثقافيا على عقد التسعينات». واعتبر العظم أن موقف أدونيس من الثورة السورية استمرار لمواقفه في مرحلته الخمينية.
وانطلق العظم في نقاشه حول تقييمه لموقف أدونيس على أساس القيم والمثل التي رفعها أدونيس في مجلة «مواقف»، والتي حملت شعار «مواقف من أجل الحرية والتفكير والإبداع».
وقال العظم: «عندما بدأت الحرية تقترب من سوريا، وسوريا تقترب من الحرية وعندما اقتربت سوريا من التغيير، والتغيير اقترب من سوريا، أخذ خطاب أدونيس يتلعثم ويتأتئ ويفأفئ، وبدلا من أن يكون خطابا واضحا وصريحا، أخذ شكل: نعم ولكن أو نعم وإنما.. وكان يوزع نصائحه على الطرفين في سوريا، وكأن طرف الشعب الثائر يساوي الطرف العسكري المضطهد.. أي المساواة بين الجلاد والضحية».
الجدير ذكره أن الدكتور صادق جلال العظم أحد أبرز رموز ربيع دمشق، والذي اتخذ موقفا مبكرا مؤيدا للثورة السورية.

نستذكر العظم بمواقفه (3)
صادق جلال العظم
سوريا في ثورة
فاجأتني انتفاضة الشعب ضد النظام العسكري والدولة الأمنية لعائلة الأسد في سوريا. كنت خائفاً في البداية من أن النظام سيسحقها في لحظة بدايتها تقريباً، آخذاً في اعتباري الضراوة والقمع الأسطوريين المعروف بهما. مثل مثقفين سوريين آخرين، أحسست بعجز شامل أمام هذا الوحش الفاغر فاه، الذي يمنع أي فكرة قادمة، أو حتى ممكنة، لقول “لا” جماعية. كنت متفاجئاً بالثورة، لكن ما كان يجب أن أتفاجأ. التجارب اليومية والملاحظات المتكررة كانت تنبئ بكارثة حاول الكثير من السوريين أن ينكروها. بعد القمع العنيف لربيع دمشق عامي 2001-2002 وكذلك بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق حريري في بيروت عام 2005، والتي قادت الى الانسحاب المهين لقوات الأسد من لبنان، انتشر القلق في سوريا.
كنت أعمل في دمشق حيث كان الذعر ناطقاً بشكل خاص. بدت البلاد كأنها تترنّح على حافة الهاوية. لكن الحياة كانت تمضي بشكل روتيني على السطح. الحديث عن الوضع علناً لم يكن ممكناً. حتى التلميح إليه كان خطراً. عندما كان أحد ما يتكلم، كان الآخرون يغيّرون الحديث مباشرة. كانت مؤامرة الصمت هي النظام اليوميّ للأمور.
هذه المرحلة طبعت انحطاطاً واضحاً في العلاقات بين السوريين. الخنادق الطائفية توطدت، مقوّضة صداقات طويلة الأمد، مؤثرة في الانسجام بين زملاء العمل والتفاعل اليومي بين المواطنين.
حتى طرقنا في المزاح تغيّرت. مثل الكثيرين في دمشق، وجدت نفسي أبدأ، بطريقة لاشعورية، بوزن كل كلمة أقولها لتتناسب مع الانتماءات الدينية للمعارف الهامشيين كما للأصدقاء المقربين. فقدت اللقاءات الاجتماعية عفويتها. الثقة بالنفس وبالآخرين تلاشت، وكان رفض النقد يجري بسرعة أشدّ من قبل. تسارعت جرعة الاشتباه إلى داخل تقاليد التضامن ضد القمع بين أفراد الإنتلجنسيا السورية. خلال عامي 2009-2010، كان مستحيلاً أن يمر يوم من دون أن تسمع من الناس العاملين معنا أقوالاً تتكرر مثل “كل ما تحتاجه هو كبريت لتشتعل”، “شرارة واحدة ويشتعل كل شيء”، و”الأمر بحاجة إلى مفرقعة نارية لينفجر”.
الناس الأعلى تعليماً، وخصوصاً المثقفون منهم، كانت لديهم استعاراتهم ومجازاتهم التي يفضلونها. الاستعارة التي كنت أفضلها كانت طنجرة الضغط عندما تزداد الحرارة فيما صمامات الأمان مدمّرة. ياسين الحاج صالح، وهو سجين سياسي سابق وأكثر النقاد السرّيين أهمية فيما يخصّ التعليق على مجريات الثورة، إضافة إلى كونه كاتباً مبدعاً في أدب السجون، أطلق إنذاراً للناس أنهم إذا لم يعبّروا عن “سوريّتهم” فإن البلاد ستمضي نحو الأسوأ. رسام الكاريكاتير علي فرزات قال عام 2007 في مقابلة مع مجلة “نيوزويك”، “إما الإصلاح أو الطوفان”. هوجم علي فرزات عام 2011 من قبل بلطجية النظام وتُرك ليموت مرميّاً في الشارع، لكنه نجا من الموت. زميل بارز وصديق لي في قسم الفلسفة شدد على أن لا مفرّ من الحرب الأهلية لأن الأسوأ قد حصل فعلاً، قائلاً إن النزاع السني العلوي صار أمراً واقعاً. الحرب كانت محتومة. البعض الآخر حافظ على رأيه في النظام معتبراً أنه هو الأمر الوحيد الذي يمنع السوريين عن قتل بعضهم البعض. لو أن أحداً سألني ماذا كان سيحصل لو أن التسونامي الذي ضرب تونس وصل إلى سوريا لكنت أجبت: السنّة في حماه سيسنّون سكاكينهم وسيهاجمون القرى العلوية المجاورة للانتقام من اغتصاب وتدمير مدينتهم على يد قوات الأسد عام 1982. لكن المذبحة الطائفية لم تحصل. بدلاً من ذلك حصل ما لم نفكر به: ثورة شعبية ضد النظام.
كيف فشلنا بشكل ذريع في التنبؤ بهذه النتيجة؟ لم يكن الإنكار هو العامل الوحيد؛ عدد من الأفكار والأسئلة كانت تدور في البلاد خلال هذه المرحلة الحاسمة، في كل الأوساط الاجتماعية. الكثير من هذه الأفكار، خصوصاً بين المثقفين والنخب، كانت خاطئة. البعض أحس أن تحالف الطبقات العليا بين السنة والعلويين سينتهي، مما سيؤدي إلى إضعاف النظام في غياب أي ثورة. سمّيت هذا التحالف مرة تحالف المركّب العسكري التجاري؛ جيل جديد من الناشطين والمحللين يصفون المركب العسكري التجاري بالمركب الأمني المالي. هذه هي الطبقة الحاكمة. كل دمشق تعرف ان الجيش، حزب البعث، وجهاز إدارة الدولة – كلّه تحت سيطرة العلويين – يمثل جانباً واحداً من هذه التركيبة. الطرف الأخر– رجال أعمال مدنيون– يسيطر عليه السنّة. الناس الذين يديرون هذا المركّب شكّلوا عبر السنين نخبة فاسدة ومتغطرسة. كان هؤلاء يديرون أوضاع سوريا اليومية، وفي أوقاتهم الخاصة يوقّعون الصفقات، ويتفاعلون اجتماعياً، ويرتبون الزيجات بين أولادهم. كانوا يحضرون حفلات بعضهم البعض، ويرتادون المطاعم والنوادي نفسها. زوجاتهم، أمهاتهم، أخواتهم، وبنات أعمامهم وأخوالهم يتواجدن في الحفلات الخيرية والثقافية نفسها. كل طرف من الطرفين يحتقر الآخر، لكنهم يخففون من كراهيتهم لبعضهم لأن علاقاتهم مفيدة لهم، معاً. كانت التجارب اليومية تنبئ عن أزمة يحاول أغلب السوريين أن ينكروها. والإنكار هو ما فعلناه.
بحسب المحللين الحاليين الأصغر سناً، فإن التئام الطرفين حوّلهما إلى طبقة متغطرسة تشبه طبقة البراهما الهندية. طبقة تعتبر نفسها خارج أي محاسبة، وتملك حقاً لا ينازع في حكم الناس العاديين، الذين تعتبرهم من طبقة دنيا– جاهلة، متخلفة، وغير مؤهلة للديمقراطية، ولا تستحق أي شكل من أشكال الحرية. كل طرف من الطرفين قوي في قدرته على هزّ المؤسسة لكنه ضعيف في قدرته على البناء، ولذلك فهما يجتمعان معاً في وجه أي معارضة محتملة.
قبل الانتفاضة، اعتقد المثقفون، مخطئين، أن الطبقة البرجوازية السنية سوف تشدّ السلطة من الطرف الآخر، لإنهاء هذه العلاقة المكلفة. وهي مكلفة لأن التجار ملّوا من الابتزاز؛ على شكل أعطيات، سمسرات، رشاوى، دفعات تحت الطاولة ومبالغ للحماية؛ وقبول شركاء مزيفين. غير أن هذه التركيبة أثبتت أنها أقوى من كل التوقعات. “التجارة والسياسة هي جوهر دمشق”، كما لخصها شاعر سوريا الأشهر، أدونيس. الطبقة الصلدة لبرجوازية دمشق بقيت وفية لجوهرها. الاعتقاد الزائف الآخر ضمن النخبة المفكرة كان أن الفساد في سوريا يمكن أن يتراجع لصالح حكم القانون. تدعمت هذه الفكرة بنظرية تقول ان الفساد الوحشيّ في الأعلى هو شكل من أشكال “التراكم الرأسمالي البدائي”، كما شرح كارل ماركس الظاهرة. في نهاية المطاف فإن الأفراد الذين يمارسون هذا التراكم الوحشي يصلون إلى مرحلة تتزايد فيها المصلحة لتأسيس نظام قانوني لحماية غنائمهم التي نهبوها. كانت هذه النظرية تستخدم الأمريكيين الذين لجأوا إلى الغرب الأمريكي كمثال، حيث ذهب رجال العصابات بمنهوباتهم إلى مكان بعيد وأعادوا استثمارها بصفتهم رجال أعمال شرعيين، وأعمدة للمجتمع، ولاحقاً حماة للقانون بأنفسهم. غير أن هذا الافتراض كان خاطئاً.
فكرة أخرى أثبتت خطأها، وهي أن السلطات التي امتلكها النظام عبر التصدّعات التي أسسها في النسيج الأهلي السوري – وهو نظام سابق على النظام الاجتماعي المدني ويشبه نظام “غيمنشافت” Gemeinschaft الألماني – جعلت من أي معارضة شعبية منظمة من قبل هذا النظام الأهلي غير المفكر فيه تتجسد في اللوذ بالعلاقات العائلية وأشكال التنظيم الاجتماعي الأقدم – القرابة، العشيرة، القرية، الإثنية، الطائفة الدينية – بعصبياتها المختلفة. مفهوم العصبية الخلدوني يترجم في اللغات الأجنبية عادة إلى “تضامن الجماعة”. لكن هذه الترجمة ضعيفة؛ ولا تستطيع تفسير التعصب الأعمى ومقاومة تغيير الأفكار الذي يحتويه مفهوم العصبية. شرذم النظام ما بقي من المجتمع الأهلي السوري بإعطاء القوة للعصبيات المجددة. قام بذلك من خلال التحكّم – عبر تأليه العائلة الحاكمة، وباستجرار الزعامات المحلية للجماعات الأهلية المختلفة وبتأجيجهم ضد بعضهم البعض، وبالسماح لبعضهم بالترسمل السريع على حساب الأكثرية، وخصوصاً السنّة.
هكذا تم أيضاً سحق ربيع دمشق بسرعة وبوحشية. سوريون في أعلى مقامات السلطة أحسّوا ربما بالتغيير قادماً، لكنهم لم يرغبوا في تغيير ما اعتادوا عليه. قبل الثورة، تساءل بعض العقلاء الذين لم يصدقوا أن الوضعية المتأججة لم تصل إلى الحلقة الضيقة في المؤسسة الحاكمة، رغم كل مخبريها وجواسيسها، بما فيها أجهزة الأمن التي تبدو موجودة في كل مكان بفروعها وتمدداتها التي لا حصر لها. بعض المتفائلين حسني النية اعتبروا أن السلطات ستستفيق في النهاية وستقوم، في سبيل الحفاظ على نفسها وليس لسبب آخر، بعمل شيء ما لمنع الأسوأ. بعض المثقفين اعتبروا أن الحلقة الضيقة – والمتعاونين معها – ترفض أي شكل من الإصلاح لظنها أن أي تغيير سيؤدي إلى انهيار النظام كله. النخب العلوية كانت تتهامس حول الأهمية القصوى للبقاء. ومع عام 2005 تراجعت وعود الأسد بالإصلاح لتصبح كلاماً غامضاً حول التنمية والتحديث. هذا التراجع تم تلخيصه في ذاك العام بحديث نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري عن “خطة خمسية للخصخصة”، والتي شرحها للسيناتور جون كيري في حفل عشاء في دمشق أقامته السفيرة الأمريكية مارغريت سكوبي. وحين أشار كيري إلى أن الخصخصة والخطط الخمسية لا يعملان معاً، رد الدردري “يجب أن نسميها هذا”. كنت في تلك الفعالية وتدخلت متسائلاً، “لماذا لا تخبرونا، نحن الشعب، ماذا تفعلون بالضبط؟” وساد بعدها الصمت. كان من المفترض أن أفهم أن الخصخصة كانت كذبة لا يفترض بأحد أن يلاحظها. والآن نحن نعلم أن هذه الخديعة فشلت تماماً. خلال العامين الأخيرين، كانت لدي فرصة مناقشة الأزمة السورية مع أفراد من نخبة رجال الأعمال– بعضهم أقارب بعيدون لي– تورطوا بقبولهم أن يكونوا جزءا من الفساد العالي المتزايد سوءاً. وقد اعترف الجميع أنهم، حتى قبل أشهر من الانتفاضة– كانوا متفائلين حول مستقبل البلاد والاقتصاد. كانوا يستثمرون بكثافة، ويتفاوضون حول كل أنواع الصفقات مع المستثمرين الألمان، وينهون عقوداً عظيمة الربحية مع وفود هولندية. باستفادتهم من أعمالهم كالعادة، كانوا يعتقدون أن النظام غير قابل للاختراق وأن إخضاع الناس العاديين الكبير جعلهم غير قادرين على الاحتجاج. رجال الأعمال الكبار هؤلاء قالوا إنهم ما كانوا يعلمون بأي تغيير قادم. كلهم لم يصدقوا ما حصل لهم متأسفين على قصر نظرهم. لقد خسروا الكثير – وأهمه أفضلية التعامل معهم من قبل سوريا الأسد – وسرعان ما هاجروا إلى مراع أكثر اخضراراً. في النهاية، كانت الأكثرية السنية تأمل وتعتقد أن الولايات المتحدة ستساعد في تسليمها سوريا، كما حصل في العراق مع الأغلبية الشيعية. وتهامست دمشق متسائلة: إذا استطاع الشيعة استلام الحكم في العراق، لماذا لا يستطيع السنة استلام الحكم في سوريا؟
في الواقع، فإن القلق الذي حصل بسبب التغيير السياسي في العراق عزّز قبضة الأسد. أما بالنسبة للتوقعات من الولايات المتحدة، فإن سوريا ستكون مخطئة بشكل شديد. حين بدأت الانتفاضة في كانون الثاني/ يناير 2011، قامت تظاهرات صغيرة بكسر الهدوء في سوق مدينة دمشق الرئيسي وباحة جامعها الأموي. غير أن المفاجأة الكبيرة أن الانفجار الحقيقي حصل في الريف الجنوبي لسوريا، في سهل حوران وعاصمته درعا. هذا الإقليم مشهور تقليدياً بكونه “خزّان البعث”، الذي زود الحزب والدولة بعدد كبير من مسؤوليه الأوائل وقادة الدرجة الثانية فيه. كان الحزب قد قدّم نفسه باعتباره حزب العمال والفلاحين، لكن هذه الأفكار المسبقة أثبتت زيفها حين ثار العمال والفلاحون ضد السلطة علانية. لن أعيد هنا قصة درعا، كونها صارت مشهورة وتمت تغطيتها إعلامياً بشكل جيد: تلاميذ المدرسة الذين خططوا شعارات ضد النظام على حائط، اعتقالهم وتعذيب المخابرات لهم، الإهانات التي تعرض لها آباؤهم وأهاليهم. بعد حوادث درعا والقمع والقتل الذي تعرضت له، أغلب سوريا وجدت نفسها في احتجاج شامل وعلني ضد النظام. في البداية، حاولت الأجهزة الأمنية والعسكرية أن ترهب المتظاهرين السلميين باستخدام تكتيكات الصدمة والرعب. هذه المرحلة وصلت ذروتها في حمص، حيث حاول المتظاهرون نسخ تجربة ساحة التحرير المصرية باعتصام حاشد كبير في الساحة الرئيسية للمدينة. واجه النظام ذلك بأول مجزرة كبرى ضد المدنيين السلميين. مع امتداد الاحتجاجات رغم تزايد الضحايا، انتقل النظام إلى ما يمكن تسميته بمرحلة بينوشيه: تحولت المدارس، الملاعب الرياضية، المستشفيات، والمرافق العامة إلى مراكز اعتقال جماعية؛ السجون امتلأت بمعتقلين عشوائيين؛ ووصل التعذيب إلى مرحلة قصوى. حين فشل تكتيك بينوشيه أيضاً حركات التظاهر، انتقل النظام إلى خيار شمشون: محطّماً هيكل سوريا فوق رؤوس الجميع. قرى، مدن، وساحات مدن تم تدميرها وجعلها أنقاضاً؛ محاصيل وغابات تم حرقها؛ مدارس، مستشفيات، جامعات، ومراكز صحية تم قصفها وتدميرها بشكل منهجي. أطباء، صيادلة، ممرضات وعناصر طبية أخرى تم اعتقالهم وقتلهم. وصلت مرحلة شمشون قمتها مع الهجوم بالسلاح الكيميائي على الغوطة، في حركة إجرامية يائسة. هذا القمع الهمجي لم يكن عفوياً بل كان مخططاً له ومتوقعاً. تذكر الكثيرون كلمات بطانة رفعت الأسد في أيام عزّه في سبعينيات القرن الماضي– أن عشيرة الأسد والعلويين اقتحموا دمشق بالقوة، وإذا أراد السنة استعادتها، فسيستلمونها أنقاضاً مدمرة. وهو ما تجسد في شعارات النظام الحالية عن “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو ندمّر البلد”. حين أصبح الحفاظ على حركة موحدة مستحيلاً بسبب القمع الفظيع، اتهم مراقبون الثورة بفقدان القيادة والاستراتيجية. غير أن هذا كان خطأ. قيادة الثورة كانت مختلفة ببساطة عما يتوقعه المرء. الأحزاب المنظمة والشخصيات ذات الجاذبية تم استبدالها بلجان تنسيق محلية. هذه اللجان قادت ونظمت حركة الشارع واستمرت بإدارة ما بقي من الطابع السلمي للثورة. رغم عفوية التنسيقيات، فقد استطاعت خلق شبكة وطنية وبالتواصل مع فعاليات مماثلة لها في سوريا، وفي العالم العربي، والعالم. وبخبرتها المتزايدة، استطاعت استخدام الأكثر حداثة في وسائل التواصل الالكتروني لدفع أجندتها الثورية. استطاعوا، كذلك، أن يحبطوا محاولات النظام العسكرية منع تدفق المعلومات بإنتاج سيل متدفق من الصور الآنية والمعلومات حول ما يحصل حقيقة على الأرض. أضف إلى ذلك العمليات الإبداعية، الموسيقى، الرسوم المتحركة، والتعليقات الساخرة، والغرافيتي الناقد، وكل ما لجأ إليه هذا الجيل الثوري، وسترى ما أسميه أفضل ساعة للمجتمع المدني السوري. الروح الكرنفالية في تلك الفعاليات– بالمعنى الباختيني للسخرية لتنفيس قمع قوى السلطة العليا المدعاة– لم تكن شيئاً معروفاً في الصراع ضد الاستعمار ولكنها صارت سمة قارّة في الاحتجاجات المعاصرة، خلال الربيع العربي. النظائر العسكرية للجان التنسيق انتشرت عبر سوريا كلها، وأجبرت النظام على نشر القوات أيضاً بشكل شرذم هذه القوات وأنهكها من انتقالاتها من درعا في الجنوب إلى الحدود التركية في الشمال ثم لتعود الى إلجنوب من جديد. ولهذا السبب سمعنا أن الجيش اجتاح، احتل، ثم تراجع من درعا أكثر من عشرين مرة خلال أقل من خمسة عشر شهراً. حالياً يبدو الأمر وكأن لا أحد من الطرفين قادر على هزم الطرف الآخر. غير أن هناك أمراً خادعاً حول هذا المظهر. فإذا نظرت إلى أين بدأت الأحداث قبل الانتفاضة، ستجد أن أجهزة الأمن كانت تعتبر نفسها محصّنة من الهزيمة، مثل جدار صلد؛ أي شيء كان يواجهها كان يتحوّل إلى رماد. الكثير من المعارضين الذين سُجنوا ذكروا بعد الإفراج عنهم أنهم خلال التحقيق والتعذيب كان ضباط المخابرات يوبخونهم قائلين: “لماذا تعذّبون أنفسكم بالانتقاد والمعارضة والاحتجاج رغم معرفتكم أنهم لا يمكن هزيمتنا، وأن إرادتنا فولاذية وقادرة على سحق أي شيء أو أي شخص يقف في وجهنا؟ يجب أن تجدوا شيئاً أفضل بدلاً من محاولة المعارضة وممارسة السياسة”. الثورة دمرت هذه الصورة التي لا يمكن كسرها داخل وخارج النظام. هذا ما جعل الأسد يطلب نجدة حزب الله من لبنان والميليشيات الشيعية من العراق وإيران لتعزيز قبضته على البلد. هذا أيضاً ما جعل قواته الخاصة، وحزب الله، وميليشيات أخرى تقاتل فترة طويلة لاحتلال بلدة ريفية صغيرة مثل القصير، رغم التفوق الكبير في الأعداد والطاقة النارية.
أهل دمشق، خصوصاً، كانوا في دواخلهم يعتذرون لمراقبتهم من مسافة بعيدة التدمير الوحشي ونهب حماه وسكانها عام 1982؛ ولأنهم تسامحوا كل هذا الوقت مع الاعتقالات العشوائية، السجن، التعذيب، الإجرام، والاختفاء القسري لأعداد غير معروفة من المواطنين؛ ولأنهم قبلوا تصفية أكثر من ألف روح بشرية في سجن تدمر في حزيران/ يونيو 1980؛ ولكونهم ابتلعوا عار تحويل الجمهورية، في لحظات، إلى حكم وراثي؛ ولأنهم شاهدوا ربيع دمشق– آخر لمحة أمل للسوريين– يحطم بوحشية دون أن تطرف أعينهم.
كما أن إساءة الفهم من قبل السوريين جعلتهم غير قادرين على توقع الانتفاضة، فإن الخطابات العالمية حول الثورة فشلت أيضاً، ربما بشكل مقصود، كي نستطيع أن نفهمها ونرد عليها بشكل مناسب. مسألة واحدة في قلب هذا الغموض: كيف تحوّلت حركة احتجاج سلميّة شابة ومدنية إلى ثورة مسلحة في أقل من سنة واحدة. هذه مسألة ملحّة إذا أخذنا في الاعتبار لغة الرئيس باراك أوباما الاحتقارية التي استخدمها لوصف حركة الاحتجاج الشعبية العامة. في آذار/ مارس 2014 وخلال مقابلة طويلة وصريحة مع جيفري غولدبرغ من “بلومبرغ فيو”، وصف اوباما النزاع السوري باعتباره بين “جيش رسميّ ومسلّح جيداً ومدعوم من قبل دولتين كبيرتين (روسيا وإيران)… يقاتل فلاحاً، ونجاراً، ومهندساً، بدأوا حركتهم كمحتجين وفجأة وجدوا أنفسهم في وسط نزاع أهلي”. هذا التوصيف خاطئ. لم يكن هناك شيء مفاجئ في التحول من الاحتجاجات السلمية إلى “نزاع أهلي” مسلح. كان ذلك نتيجة لترك المحتجين من قبل المجتمع الدولي رغم التصاعد المتزايد في العنف الممارس ضدهم من قبل نظام الأسد، وللتضامن بين الجنود السوريين المنشقين والناس العاديين، ولتدفق المتطرفين المسلحين لملء الفراغ في مناطق يائسة.
عقلية “السياسة الواقعية” Realpolitik (التي تهتم بالوقائع الطارئة لا بالمبادئ أو الأخلاق) في المنظومة الدولية خفضت شأن الأزمة في سوريا لتصبح مجرد سحب الأسلحة الكيميائية من يد الأسد و- عملياً – إعادة تثبيته، رغم الأوصاف التي يقوم اوباما وكيري بوصفه بها: مجرم، قاتل، طاغية، وحتى هتلر جديد.
فهم السوريون هذا. ولا يوجد سوري يؤمن بأن الولايات المتحدة هي بطل صفقة الأسلحة الكيميائية. يعلم السوريون أن ترسانة الأسلحة الكيميائية جعلت القوى الكبرى تتأهب منذ بداية الانتفاضة. روسيا أعطت تأكيدات علنية وضمانات خاصة إلى “شركائها” ان الأسلحة الكيميائية السورية كانت تحت السيطرة الكاملة ولن تقع في الايدي الخطأ. حين قام الأسد باستخدام محدود للعناصر الكيميائية المخففة ضد مراكز المدنيين لامتحان الغرب، قامت روسيا بمضاعفة تأكيداتها. هذا ما ساعد أوباما على وضع خطه الأحمر المشهور بإعلانه أن استخدام هذه الأسلحة “سيغيّر من قواعد اللعبة”، لكن تهديده لم تكن له علاقة بالاتفاق اللاحق حول هذه الأسلحة. في الواقع، كما أقر أوباما في مقابلته مع “بلومبرغ فيو”، فإن سوريا كانت تستجيب للضغط من قبل إيران وروسيا: “خلال 10 أيام أو أسبوعين، قام رعاته، الإيرانيون والروس، بإجبار الأسد على التخلص من أسلحته الكيميائية، وتقديم قائمة بها للمجتمع الدولي، والموافقة على جدول زمني للتخلص منها”. أكثر من ذلك، يتذكر السوريون أن كيري، محاولاً تقوية مبرراته في لوم النظام، ذكر أن الولايات المتحدة عرفت قبل ثلاثة أيام من هجوم الغوطة أن العناصر الكيميائية تم مزجها، وإعدادها، وتم تذخيرها على أسلحة الاستخدام للهجوم. بكلمات أخرى، فإن كيري علم مسبقاً ما هي الجريمة المقبلة لكنه فشل في عمل أي شيء لوقفها.
كل هذا يكشف نمطاً اعتيادياً: حين يواجهون بتهديد جدي، يوافق الطغاة على التراجع. حافظ الأسد، والد بشار الأسد، فعل ذلك حين سلّم رئيس حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) عبد الله أوجلان إلى تركيا عام 1998. بعد سنين من المقاومة والإنكار، أدرك حافظ اقتراب اللحظة الحرجة حين تحوّل الهجوم التركي إلى خطر أكيد. النمط نفسه تكرر عام 2005 حين تراجع بشار الأسد أمام ضغط الرئيس جورج دبليو بوش والاتحاد الأوروبي، خصوصاً فرنسا، وسحب قواته من لبنان.
تنطبق على الأسدين القاعدة التي شرحتها قبل زمن طويل مدرسة فرانكفورت حول الشخصية الفاشية الصغيرة التي تستلم السلطة: قسوة واحتقار للأضعف وخضوع جبان أمام القوي. بعد أن قام الأقوياء بالاستيلاء على الأسلحة الكيميائية، بدأ النظام باستخدام سلاح ليس أقل إبادة: تكتيكات الحصار لإجبار السكان على الخضوع. يدعو النظام هذا “إركع أو مت جوعاً”. رد الفعل العالمي على هذا كان الصمت.
يفهم السوريون أيضاً لماذا تحتاج “السياسة الواقعية” Realpolitik أن تستخدم المجموعة الدولية وضعها المؤثر في سوريا الحالية: “دعهم ينزفون”، كما قال الصحافي كريستوفر ديكي. المتنافسون في هذه الدراما الدموية هم– سوريا، إيران، حزب الله، القاعدة إضافة إلى تشكيلة من الإسلاميين والجهاديين– وكلها أطراف لديها تاريخ طويل ومؤكد من كره الغرب. لماذا الوقوف في وجه هؤلاء الأعداء فيما يقتلون بعضهم البعض؟ أوباما نفسه يقول إن سوريا “تستنزفهم”– إيران، حزب الله، والمتطرفون السنة المتقاتلون في سوريا. الفائدة السياسية للولايات المتحدة لا يمكن تجاهلها. باقي الغرب ابتعد أيضاً لأسباب مشابهة. وهكذا رفع الرئيس أوباما يديه، جزئياً على قاعدة تبرير مريح ولكنه خاطئ حول أطباء الأسنان والمزارعين مظهراً جهله في كيفية تحول الاحتجاجات السلمية إلى ثورة مسلحة، مثبتاً موقفه الخاطئ حول أن القتال كان تحوّلاً “مفاجئاً” في الأحداث.
هناك ثلاثة عناصر على الأقل إضافة إلى قمع النظام ساعدت في تحويل التظاهرات السلمية إلى حرب، كلها كان يمكن لأجهزة الأمن الغربية رؤيتها. الغرب فشل، متقصداً ربما، في فهم الثورة. بداية فإن أغلب القادة المتعلمين والمهنيين الذين أججوا البدايات السلمية للانتفاضة انتهى بهم الأمر في السجون، أو تمّت إعاقتهم بشكل دائم، أو غادروا إلى المنافي، أو قتلوا. وحل في أمكنتهم قادة أقل تعليماً وتقدمية وقناعاتهم بالطابع السلمي للثورة أضعف. ثانياً، أدى تشكيل وتضخم الجيش السوري الحر إلى تشجيع الثورة المسلحة. كان ذلك أيضاً أمراً يمكن رؤيته قادماً– سلسلة من الانشقاقات، من كل الرتب العسكرية، من الجيش الرسمي بعد أن تم استدعاؤهم لقمع الانتفاضة بعنف غير محدود. رغم المخاطر الكبيرة على أرواحهم وحيوات عائلاتهم، رفض هؤلاء الأوامر لقصف القرى والبشر الذين هم مثلهم. وعلى السوريين أن يكونوا شاكرين لأن جيشهم ما زال جيشاً للمجندين غير المتطوعين وليس جيشاً محترفاً. أخيراً، فإن الخسارة بالنسبة لطرفي الصراع عالية بشكل كاف لدرجة أن اللجوء إلى السلاح لا يجب أن يكون مفاجأة. من جهة، فإن العلويين لديهم الكثير مما سيخسرونه بحيث أنهم لن يتوقفوا عن فعل أي شيء للاحتفاظ بالسلطة. من جهة أخرى، فإن الثوار السنة بعد أن دفعوا إلى هذه الوضعية، مصممون على استعادة سوريا بأي ثمن. كل ذلك يبدو وكأننا نصل إلى المفارقة القديمة: ما الذي يحصل عندما تلتقي قوة لا يمكن مقاومتها مع شيء لا يتحرك؟ أي شيء وكل شيء.
إضافة إلى هذه المجموعة من سوء التقديرات حول من يقاتل في سوريا وكيف انحدرت الحركة السلمية إلى العنف، فإن الخطابات العالمية مخطئة أيضاً فيما يخص طبيعة النزاع. سوريا يتم ضمّها بشكل خاطئ إلى نزاعات طائفية أخرى، مثل النزاع في لبنان. في لبنان تقاتل الجماعات، الطوائف، والتنظيمات بعضها البعض بقوة فيما تبقى الدولة دون تدخل. المثال الآخر هو العراق، حيث قامت الولايات المتحدة بإزالة الدولة، الجيش، والحزب الحاكم، تاركة الشيعة، السنة، والأكراد يتحركون ضد بعضهم البعض. في سوريا هناك جهتان متحاربتان: النظام، والدولة، والجيش والحزب الحاكم في طرف، والانتفاضة الشعبية في طرف آخر. ليست هناك إشارات إلى تنافس طائفي. دروز سوريا لن يقوموا بمهاجمة جيرانهم السنة في حوران، كما أن السنة ليسوا في وارد اجتياح المناطق الاسماعيلية والمسيحية، كما أن الاسماعيليين لا يستعدون لإنهاء نزاع عنيف قديم مع العلويين وهكذا دواليك. لا جماعة سورية، أو طائفة، أو إثنية قامت بتحشيد قواتها جماعياً للقتال في طرف النظام أو الدفاع عنه. سوريا ليست في حالة حرب أهلية عمومية. إذا كانت هناك سابقة تاريخية أو تحليل نحتاجه، فلنستدع الثورة الهنغارية المسلحة ضد النظام الستاليني هناك في عام 1956– وهي ثورة تم سحقها من قبل الدبابات الروسية كما حاولت الدبابات السورية أن تسحق الثورة. بعد أن انتهت الثورة الهنغارية، لم يقل أحد إن البلاد كانت متجهة إلى حرب أهلية لأن الهنغار كانوا يقتلون هنغاراً.
ربما يعود الأمر إلى أن المجتمع الدولي ينظر خاطئاً إلى العنف الطائفي خارج سوريا فهناك قلق حول الأقليات فيها– أكراد، مسيحيون، علويون، دروز، اسماعيليون، تركمان، شركس، وهكذا– وحول حقوقهم. يجيء هذا في الوقت الذي تتعرض فيه الأكثرية السنّية إلى ضرب وحشي من القوات الخاصة، الميليشيات، صواريخ سكود من أقلية مسلحة تحتكر سلطة وثروة البلاد. المدن التي تم تدميرها كلها مدن سنية، بينما بقيت جماعات الأقليات في أمان نسبي. الأغلبية الكبرى لأكثر من 200 ألف قتلوا حتى الآن، ومن الجرحى، ومن المعاقين بشكل دائم، ومن الذين اختفوا وتبخروا، ومن المسجونين والمعذبين هم من السنة. أغلب الملايين الذين هجروا خارجياً وداخلياً هم من السنة. لذلك فإن ما يدهس تحت الأقدام في سوريا الآن هي الأكثرية.
ما يختفي تحت هذا الصمت هو افتراض ان الأكثرية السنية تنتظر اللحظة المناسبة للهجوم على الأقليات كي تضطهدهم وتقمعهم. لكن، في هذه اللحظة، كل سوريا، بحاجة إلى حقوق، حماية، واهتمام. هذا الخطاب العالمي حول حماية أقليات سوريا يعود بي إلى أوروبا القرن التاسع عشر، ودبلوماسية السفن الحربية الشهيرة. كل قوة أوروبية معتبرة كانت تبحث عن أقلية في هذا المكان من العالم لترعاها وتحميها: فرنسا، كلّفت نفسها حماية الكاثوليك والعلويين. روسيا، ألحقت بها الروم الأرثوذكس. بريطانيا، القلائل من البروتستانت والأنغليكان إضافة الى الأقلية الدرزية، وهكذا دواليك.
روسيا اليوم تريد أن تحمي كل هذه الأقليات وتحلّ مكان فرنسا باعتبارها حارس الأقليات المسيحية والعلوية، على وجه الخصوص.
كما في الماضي، تريد أوروبا حالياً دفع سوريا إلى المراحل الأثيرية للجغرافيات السياسية الكبرى، بتحويلها إلى بيدق في لعبة الأمم. القليل من الاهتمام يزجى إلى الربيع الداخلي ولديناميات الثورة نفسها، وهو أمر أحاول أن أؤكد عليه. استراتيجيات “الواقعية السياسية” للقوى العظمى ليست وحدها التي تفكر بهذه الطريقة. هناك جزء من اليسار، العربي والعالمي، ابتاع هذا النموذج من التفكير مردداً أن الثورة هي مؤامرة امبريالية ضد النظام الوحيد الذي ما زال واقفا ضد إسرائيل والصامد كعقبة ضد السيطرة الغربية على الشرق الأوسط، وعلى بلدانه ومصادره الطبيعية.
أغلب اليسار العربي يدعم طروحات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، لكن أقلية، تريد أن تستمر في القتال ضد الإمبريالية. يدخل هذا اليسار سوريا وانتفاضتها ضمن النزاعات الاستراتيجية الكبرى، ويتجاهل بذلك، إذا أحسنّا النيّة، حقيقة قمع الشعب؛ وإذا أسأنا النية يصبح قمع الشعب أمراً غير مهمّ. هذا خطأ جسيم لأنه بقدر ما يطول بقاء بشار الأسد ودولته الأمنية في السلطة مع طائرات السوخوي وصواريخ سكود، بقدر ما يزداد خطر المتطرفين.
في كل المجتمعات، وفي حالات الأزمة الشديدة، يلتفت الناس إلى الله. هذا يبعث الطمأنينة والقدرة على التحمل، وفي بعض الأحيان يستحضر اليأس والانتقام الإلهي. إن التوتر العالي للإسلام الذي يندفع عبر سوريا يحشّد الإسلاميين الشباب، والإخوان المسلمين، والجهاديين، والطالبانيين، والانتحاريين، والمتطرفين من كل الأنواع. حين يقوم طغاة بإبادة شعوبهم ويخاطبهم موالوهم بعبارات العبادة والتخليد، هل يفاجئنا أن يقوم المقموعون بمواجهة ذلك برفع رايات الألوهة هم أيضاً؟ وحين يتعرّض نظام وقانون التعسف في دولة البعث الأمنية للازدراء والتحقير فهل من المفاجئ أن الناس يعودون إلى نظمهم وقوانينهم المعتادة، والتي هي، بشكل طبيعي، تحتوي جرعة مكثفة من الشريعة؟ المخرج من هذا الطريق المسدود لا يتعلق فقط ببتر رأس النظام من خلال إزاحة الأسد وترك الدولة الأمنية المجرمة مصانة، وكل ذلك باسم الاستقرار، والاستمرارية، والانتقال المنظم للسلطة. كما أنه ليس “انتظار غودو” مؤتمرات جنيف. الحل يمكن أن يأتي فقط مع إنهاء العلوية السياسية. هذا يشبه إلى حد كبير ما حصل في مؤتمر الطائف، عام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان– من خلال التخلص من المارونية السياسية وسيطرتها على لبنان.
في حالة سوريا، هذا يعني نهاية الحكم الوراثي ونهاية السيطرة العلوية، ونهاية حكم الأقلية، وإعادة ولادة الجمهورية. الغرب لديه دور يقوم به. بدلاً من ترك سوريا تنزف، الغرب بحاجة الى المساعدة في رفع قبضة الأسد عن البلاد ومستقبلها والتفاوض على إعادة موضعة سياسية للعلويين داخل نظام ديمقراطي يكون بالضرورة في صالح الأكثرية السنية. الغرب سيضطر للتدخل لأن القوى العظمى لن تسمح بوقوع سوريا في أيدي الإسلام الجهادي. السؤال هو هل سيقود هذا التدخل إلى فهم صحيح للحرب؟ فيما أكتب الآن، لا أحد يدعي معرفة كيف تسير الأمور في سوريا أو كيف سينتهي هذا الصراع الدموي. مع ذلك، أنا متأكد أن الأسد وسلالته لن تحكم سوريا مرة أخرى.
ترجمة: حسام الدين محمد

صادق جلال العظم… النبيل الحر
26 تشرين الثاني / نوفمبر، 2016
موقع جيرون
دُعي صادق العظم مرة إلى حفل عشاء في مطعم النبلاء بدمشق، يحضره بعضٌ من كبار المسؤولين في الدولة. وعندما حاول الدخول إلى ساحة المطعم بسيارته القديمة (من طراز ستروين دو شوفو مغلقة)، بين سيارات المرسيدس السوداء الفارهة، أوقفه الحارس متسائلًا: إلى أين؟ قال صادق: إلى المطعم. قال الحارس ولكن هذا مطعم النبلاء، والمدعوون هم كبار المسؤولين. أجاب صادق: هل تعلم أنني النبيل الوحيد بين هؤلاء جميعًا؟
كان صادق النبيل الوحيد بين الجميع بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو ابن عائلة العظم الأرستقراطية الدمشقية العريقة. وكان النبيل الوحيد بالمعنى الدقيق أيضًا، بصدق أطروحاته الفكرية ونبل مواقفه السياسية.
انحاز صادق العظم منذ سني شبابه الأولى إلى القضايا التي تهم الشعب، فانخرط في العمل مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وعبر عن خلاصة تجربته في ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، والصراع العربي – الإسرائيلي، في “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، الكتاب الذي عرّى الذات العربية والأنظمة العربية، والذي أعلن فيه صادق رفضه النزعة التآمرية، التي تلقي اللوم على الآخرين وترفض الاعتراف بالمسؤولية عن كارثة 1967، وغيرها من الهزائم والكوارث.
ولم يتراجع صادق -يومًا- عن منهجه النقدي في التحليل، مهما كلفه ذلك من هجمات وملاحقات واتهامات. فهو لم يأبه لتلك الحملة التي أدت إلى ملاحقته قضائيًا بعد صدور كتابه الأشهر “نقد الفكر الديني”، الذي تصدى فيه -بوضوح وصراحة- للبنى الفكرية السائدة في مجتمعاتنا العربية، وللإيديولوجيا الغيبية التي تتحكم بها. الدين عند العظم: “قوة هائلة، تدخل في صميم حياتنا، وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي، وتحدد طرق تفكيرنا”، ولذا؛ لابد من نقده نقدًا علميًا صارمًا.
وتحلّى صادق بجرأة استثنائية في كتابه “ذهنية التحريم”، الذي تجاوز فيه كل الخطوط الحمراء التي بدا أن المجتمعات العربية والإسلامية وضعتها في وجه الكتاب والمفكرين. لقد ركز في كتابه هذا، وفي الكتاب الذي تلاه مباشرة “ما بعد ذهنية التحريم”، على نسق المحرمات السائد في بلادنا، ودافع بحزم عن الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي، الذي أصدر الخميني فتوى تدعو إلى قتله؛ بسبب روايته “آيات شيطانية”. فحرية الفكر عند صادق العظم هي الخط الأحمر الذي لا يقبل تجاوزه.
نعم حرية الفكر! مع أن صادق يعلن دائمًا تبنيه للمنهج الماركسي في التحليل. ففي كتابه الفلسفي العميق “ثلاث محاورات فلسفية: دفاعًا عن المادية والتاريخ”، الذي يعدّ -بحق- من أبرز القراءات النقدية لتاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يخصص للماركسية الحيّز الأكبر، بوصفها “الفلسفة المعاصرة التي لا يمكن تجاوزها”، كما قال جان بول سارتر، وهي ستظل “فلسفة العصر النقدية بامتياز مادامت التشكيلة الرأسمالية هي العصر بامتياز”. وللنقد لدى ماركس أهمية كبرى، بوصفه امتدادًا متطوّرًا وراقيًا لـ “منهج الشك عند ديكارت، في وظيفته الأبستمولوجية وأهميته التاريخية”. وعندما غاب المحتوى النقدي في الفكر الماركسي “في العقود التي سيطرت فيها الدوغمائية على حركته ومحتواه”، فقد حيويته وقوته. الماركسية عند العظم ليست نصًا مقدسًا صنعه ماركس، بل هي استمرار “لتقليد علمي ثوري تحرري طويل عريق، وتتويج له في الوقت ذاته، في حقبتنا الحاضرة”. والماركسية “ليست الموافقة على كل ما قاله ماركس، أو التصديق الآلي لكل تحليل قدمه، أو الاقتناع بصحة كل النتائج التي توّصل إليها”. هذه الرؤية الواسعة الأفق للماركسية التي تبناها، هي التي جعلته، بوصفه مفكرًا ماركسيًا، ينظر إلى حرية الفكر على أنها القيمة الإنسانية الأعلى في عصرنا.
ولم تُثن السنون صادق العظم عن إعلاء شأن الحرية في جميع الأحوال. كان موقفه من ثورات الربيع العربي بوجه عام، والثورة السورية بوجه خاص، تعبيرًا واضحًا عن شغفه بالحرية، ونموذجًا فذًا لما ينبغي على المثقف العربي أن يعبر عنه؛ فقد رأى في الربيع العربي “عودة السياسة إلى الناس، وعودة الناس إلى السياسة، بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد”. ورفض «استقرار القبور» الذي طبّلت له وزمرت أجهزة إعلام الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية.
يقول صادق: “الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو ”تعلمنت”، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي للبديهيات القديمة كلها. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الانظمة الشمولية تفسخًا وعنفًا. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها، ولا يخشى عليها”. وهي تصفية حسابات لسورية على نفسها؛ لأن سورية “تقبّلت -لفترة طويلة- جرائم حكامها في القتل والتعذيب، وارتكاب المذابح، والحبس التعسفي والاختفاء القسري، وعشرات آلاف المفقودين بهدوء، وكأنّ ذلك كله ممارسة عادية ومسألة طبيعية”. وهو (العظم) مع هذه الثورة؛ لأن سورية “بثورتها اليوم تبذل هذا الكم الهائل من الدماء؛ تكفيرًا عن خطاياها هذه كلها ومحوًا لعارها”. هو مع الثورة السورية “بغض النظر عن طبيعة القناعات التي أحملها، إن كانت يسارية أو ماركسية أو وسطية، أو حتى يمينية”.
لكن صادق لا ينسى ماركسيته عند تحليل القوى المحركة للثورة السورية. يجيب عن أحد الأسئلة قائلًا: “نعم، للثورة في سورية بعدها الطبقي الصراعي، دون الاستهتار ببعدها الديني–المذهبي الصراعي أيضًا، لكن علينا ألاّ نأخذ المسألة الطبقية -هنا- بمعناها الماركسي–الأوروبي الكلاسيكي، حيث تتواجه بروليتاريا صناعية وطبقة عاملة عمومًا، من جهة، مع طبقة برجوازية مالكة لوسائل الانتاج ومحتكرة لفضل القيمة، من جهة ثانية. الأقرب إلى واقعنا هو صراع طبقي، كما شخصه وبيّنه فرانز فانون في كتابه الأشهر «معذبو الأرض» (…). فالصراع الطبقي موجود في الثورة السورية بهذا المعنى، حيث يقوم معذبو الأرض السورية بثورة على حكم وحزب وطغمة عسكرية– مالية أمنية متسلطة، وعلى قيادة وزعامة «وطنية» أبديتها من أبدية الآلهة. المفارقة الملفتة -هنا- هي أن عمال وفلاحي وحرفيي وطلبة وصغار كسبة سورية (والجيش الحر منهم وفيهم)، هم الذين يشكلون القاعدة الطبقية للثورة على حزب كان يقدم نفسه -في يوم من الأيام- على أنه حزب العمال والفلاحين، وعلى قيادة «وطنية»، كانت تدعي أنها -بالفعل- منهم وفيهم، وجاءت -أصلًا- لتخلصهم من مظالم إقطاعية وبورجوازية واستعمارية سابقة. هذه الكتلة من معذبي الأرض السورية، لا تتحرك بوعي طبقي-مصلحي واضح وحيد، بل تتحرك -أيضًا- بفعل انتماءاتها الدينية وعواطفها الطائفية وولاءاتها المذهبية، وبنوازع الثأر والانتقام لكرامتها المهدورة وحرياتها المسلوبة، وواقع القهر الشديد الذي عاشته وتعيشه، إضافة إلى تهميشها الدائم وخيباتها المتراكمة والمستمرة”.
انهض، صادق، من فراش مرضك، فنحن اليوم أحوج ما نكون إليك، لتواصل إضاءة الطريق أمامنا في هذا الجو من الظلامية الفكرية، والديماغوجية الإعلامية.

مكتب الاعلام في هيئة التنسيق الوطنية
قنديل آخر ينطفئ
المفكر صادق جلال العظم
لعل سوريا الآن وهي في المرحلة المُتأزمة بحاجة كل الحاجة أن لا تفارقها عقول مثل الفقيد صادق جلال العظم ، ولكن ما كل ما يتمناه المرء يحصل، وها نحن فقدنا مُفكرنا المولود في دمشق سنه 1934 أُثر ورم خبيث، الذي كان من أبرز الأساتذة الجامعيين الذين مروا على تاريخ جامعة دمشق، وأحد أشهر العقلانيين العرب، وقد قدم المفكر صادق جلال العظم إسهامات فكرية كبيرة في ميدان الفلسفة والفكر الاجتماعي ، وبالإضافة لكل ذلك لقد عمل أستاذاً جامعياً في الولايات المتحدة الامركية وفي جامعة الأردن وفي الجامعة الامركية في بيروت، وقد كان عضواً في مجلس الإدارة في المنظمة السورية لحقوق الإنسان ، وقد ألف عدة مؤلفات منها _الاستشراق والاستشراق معكوساً _ما بعد ذهنية التحريم _دفاعاً عن المادية والتاريخ _في الحب والحب العذري.
الرحمة كل الرحمة لفقيدنا
بقلم الأخ محمد أسعد


الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715




للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ