الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايا جدو أبو حيدر -27-

كمال عبود

2016 / 12 / 13
الادب والفن


الفَيصَلان
*****

فيصل الأول -1956-

هو الثرثار الأول ، عنده تُصَبُّ الحكايا ، مستودعُ القيل والقال... صاحبُ الشروال المميّز والقميص الموشّى بلون القصب وحزامٍ جلدي يتمنطقُ بهِ ...
هو الحلاق فيصل .. رجلُ في العقد الرابع من العمر ، نظيف الثياب، مُعطّرٌ .. يحمل حقيبةً أفقدها الزمن لونها البني وكوّرَ شكلها ، لا تحوي ثميناً، ( مِقَصّاً ومشطاً وموسى حلاقةٍ وكأساً معدنياً وقطعة صابون وَاحِدَةٍ فقط) ...
كان يدرو بين الأحياء شتاء وفي كروم التين والزيتون صيفاً ، يُنادي على أَهْلِ البيوت .. باًٍ ابو محمد .. يا مصطفى .. يا خليل .. ألا تحلّقون؟
يستقبله صاحب البيت بترحاب ، ثمّ يبدأُ فيصل عمله ، يُجلِسُ زبونه على كرسي خشبيّةٍ منخفضة أو على صندوقٍ خشبي ، ويعمل بالموسى حلاقةً للرأس ، وكالعادةِ لا يهدأُ له لسان ، يحكي عن فلانٍ وفلان .. عمّا جرى معه ومع آخرين، وعن خفايا القصص وتحليلاته لها ، ثّمّ يُرغي بفرشاتِهِ المبللةِ ماءًعلى الصابون ويُكمِلِ حلاقةَ الذقن والحديثُ جارٍ ولمّا ينتهِ إِلَّا بكلمةِ : نعيماً يا أخي...
يمدُّ الزبون يدهُ يتحسّسُ راْسه التي صارت صلعاء ويعطي بيده الأخرى نقوداً للحلاق الذي يبارك للزبون عطاءهَ ، ويغادر أذا لم يكن ثمّة أولاد يقِصّ لهم ... يُغادر وقد عرف بطريقةٍ ماكرة أحوال الزبون وأضاف ذلك إلى خزينةِ ثرثرتِهِ...

كنّا أولاداً وكان فيصلاً يقول: شعركم طويل روحوا اتحمموا وجيبوا مصاري... كان يُجلسني على حجرٍ رملي كبير حين يأتي دوري ، وكنت أخاف منهِ لحظاتِ ثمّ أميلُ مع كفّه الغليظةِ التي تُدير رأسي كما يشاء ، والموسى الحادة تنزع شعري من جذوره ...
في إحدى المرّاتِ قالت ابنةُ عمي الطفلةُ ذات الخمسةِ أعوام : عمو فيصل قَص لي شعري ..
قال لها : روحي ، أبعدي ، يلعن ابو ...

*****

لم أر فيصلاً يضحكُ أبداً ... كان ثرثاراً فقط ... لا ينتهِ من قصةٍ حتى يبدأ بأُخرى ...
أمّا في ذاك اليوم - وكان قد صارَ لَهُ حانوتاً صغيراً فيه كرسي ومرآة كبيره - رأيتهُ يضحك ويضحك .. تعلو ضحكته حتى ملأت أرجاء المكان وقد خرج من الحانوت ممسكاً خاصرتيه بيديه وهو يتلوى من الضحك وربما هطلت عيناه دموعاً ..

السببُ أن الحاج أباً عوّاد كان يحلقُ شعره ويتحدّث مع فيصل وحين انتهى كان الشقيُّ المراهق ( عنان ) واقفاً خلف النفّاذه وحالمّا رأى صلعةَ الحاج تلمع بعد الحلاقه قال للحاج :
يا ابو عوّاد رأسك صارت ناعمة وعم تلمع متل طي... زي
عندها هبّ ابو عوّاد واقفاً وصارخاً :
الله لا يعينك يا عنان و يلعن ابو اللي ... وجرى كالمجنون خلف الشقي الذي اختفى بين الأزقة...

*****

فيصل الثاني -2016-

هو حفيد فيصل الأول ، ورث المهنة عن جدّهِ ، وورث حكاياته الظريفة ، أضحى له حانوتاً واسعاً وجميلاً ... لقد أصبحنا نحن الذين كنّا أولاداً رجالاً كباراً وما زلنا نألف الحلّاق الحفيد كي يحلِّق لنا شعرنا ، لكنّ حكايا الحلاقُ الحفيدُ لم تعد ممتعة .... فقدت بهجتها وطراوتها ولطافتها .. فقدت حسَّ الدعابة والمرح .. لم تَعُد مّشوّقه بتاتا ..

كنت أجلسُ مّنتظراً دوري لحلاقة الشعر والذقن .. حيثُ دخلتَْ إمرأةً في الخمسين من العمر قَالَتْ مُوجهة كلامها للحلاق فيصل :
ما إجا دوري في الحلاقه؟
قال الحلاق : لا ، تعالي أول الشهر القادم ..
انصرفت المرأةُ دون أن تزيد حرفاً وسط حيرتنا من ما جرى!
قال الحلّاق :
في الأول من كل شهر كان يأتي أبنها الشاب وأخيه الصغير إلى محلي ، يقصون شعرهم ويعودون .. آخر مرةْ ، لم يعودوا إلى أمهم ... كان الموت في انتظارهم ... قُطعت طريقُ عودتهم فجأة ، قطعها مُدجّجوا السلاح .. مات من مات ، ماتا شهيدين ، ووجِدتْ جثّةُ الشّاب ملقيةً على الأرض وهو يحتضنُ شقيقه الصغير ..

قال الحلاقُ : أولُ كل شهرٍ تأتي المرأة وهي تظنُ أن مجيئها وقص شعرها نيابةً عن ولديها قد يُرجعهما إلى الحياةْ .
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد