الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن زيدون

سهر العامري

2016 / 12 / 15
الادب والفن


ابن زيدون سهر العامري

هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي القريشي ، ولد بداية سنة 394هـ ، وفي أواخر سنة 1003م في ضاحية الرصافة من مدينة قرطبة ، وفي أسرة استقراطية عربية ، لا يعرف تاريخ انتقالها الى بلاد الأندلس ، وقد ظل ابن زيدون شديد التذكر لساعات صباه ، ومرابع لهوه بعد أن هجر قرطبة ، فارا من سجنه فيها ، تاركا وراءه ذكريات جميلة ، حملها في القلب منه ، وتمشت تمشي الدم في عروقه ، مثلما حمل ولادة بنت الخليفة المستكفي طيفا معه ، وهي الحبيبة التي هام فيها هياما جما ، طفح في قصيدته النونية شوقا لم يضارعه شوق ، ولوعة لم تدان بلوعة :

أضحى التنائي بديلا عن تلاقينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا

ورغم أن ابن زيدون لم يكن بعيدا كثيرا عن قرطبة ، فمدينة اشبيلية على مسافة ليست بالبعيدة عنها ، ولكنه كان يعيش في دولة أخرى بمقياس ذاك الزمان ، حين تحولت بلاد الأندلس الى دويلات متنافسة فيما بينها ، ومع هذا استطاع الشاعر ، ابن زيدون ، أن يكون في يوم ما على مقربة من ديار الحبيبة ، وذلك حين نزل هو مدينة الزهراء التي لا تبعد عن مدينة قرطبة سوى ثمانية كيلومترات ، ومن هذه الضاحية يكتب ابن زيدون قصيدة رائعة أخرى بعد قصيدته النونية التي طارت شهرتها لا تقل روعة عنها ، وهي القصيدة التي حملتني الى بلاد الأندلس بعد أن علمت أن مدينة الزهراء لازالت شاخصة رغم سنوات النسيان ، وتبدل صروف الزمان ، فحين ينزل الواحد منا ألآن بلاد الأندلس ، ويضع أقدامه عند سفح جبل العروس ، ويمد العيون نحو المرج المنبسط أمامه ، يرى تلك الصورة الساحرة ، التي رسمها

ابن زيدون ، ماثلة تنبض بالحب والحياة ، مشرقة تفيض بالجمال رغم تدفق هذا السيل العرم من السنوات :

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا.........والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله........ ..كأنه رقّ لي فاعتل إشفاقا

ها هي القصيدة التي تملكتني فتى يافعا، وحملتني معها في سماء أمل جميل ، أمل الطواف في ربوع الزهراء ، تلك المدينة الجاثية على سفح جبل متطامن وعلى مسافة قريبة من مدينة قرطبة ، يأخذك إليها طريق ضيق ، مرصوف يزيد قليلا عن ثلاثة كيلومترات ، يشق مروجا غناء على كلا جانبيه ، ويحاذي على امتداده امتداد سور المدينة العصي على عوادي الزمن ، والذي لازال يحتضنها من كل الجهات .
والطريق هذا ، الذي قطعته أنا سيرا على الأقدام ، متفرع عن طريق عام ، رابط بين قرطبة واشبيلية ، تلك المدينة التي فرّ إليها ابن زيدون من سجن ابن جهور ، ملك قرطبة ، بعد أن أمضى فيه أكثر من خمسمئة ليلة ونهار ، وكان هو قد قطعه بيوم واحد ، رغم أن الناس على زمنه تقطعه بثلاثة ، والآن يقطعه القطار بساعة لا غير .
وغب أيام حمله الشوق الى مرابع الصبا ، الى تلك الساعات التي غنته بها ولادة حبها شعرا ، ومتعته من صحن خدها قبلا :

أمتع عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها

وحين كانت أبواب قرطبة موصدة بوجهه نزل مدينة الزهراء ، مثلما ذكرت ذلك من قبل ، تلك المدينة التي أشادها الخليفة الناصر من اجل امرأة ، هي الزهراء حظيته ، والتي أخذت المدينة اسمها ، وها هو معلق في كل تقاطع طرق وشوارع قرطبة ، يلهج به سائح عربي مثلي ، وأخر أعجمي فرنسي ،

وسائق سيارة أجرة لم يدر ما روعة الشعر ، وفتاة شقراء تعلقت بحديث ولادة وابن زيدون ، ورجل ألماني كهل اخذ بلاط الخليفة عبد الرحمن الثالث فيها عيونه ، فهام في فن صنعه ، وروعة هندسته .
لقد انفق الخليفة الناصر على بناء مدينة الزهراء ثلث جباية الدولة ، وكانت تلك الجباية تعد أربعين مليون دينار ، واخذ بنائها عشرات السنين ، وجلب اليها الرخام ، ومهرة الصناع من اسطنبول ، فكانت ساحرة من سواحر المدن في القرون الوسطى .
كانت رحلة ابن زيدون الى الزهراء محفوفة بالمخاطر ، لكنه كان يريد أن يصبح قريبا من قرطبة مهبط رأسه ، ومحط ملاعب أترابه ، قريبا من ولادة وساعات غرام نافسه فيه أكثر من عاشق ومحب لها ، كان في مقدمهم الوزير ابن عبدوس .
حين نزل ابن زيدون رآها مثلما رايتها أنا، أفق طلق يبعث في النفس انشراحا، ومروج سندسية خضراء تمتد منها الى الأفق ، ونسيم عليل ، بليل يداعب صفحات المياه في السواقي ، فيرسم عليها أطواقا على لبات غضة .
حب هذه الصورة الطبيعية الآخاذة تزاوج عند ابن زيدون بحب المرأة ، فاتحدت في قصيدته هذه روعتان : جمال الطبيعة بمروجها وخضرتها ، وجمال المرأة بدلها وغنجها :

نلهو بما يستميل العين من زهر....... جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي....... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا

هذا المنهج الشعري ، الذي يشرك الطبيعة فيما يعتمل بنفس الشاعر من مشاعر وأحاسيس ، والذي اختطه ابن زيدون وآخرون من شعراء الأندلس، تجلى فيما بعد بوضوح عند الشعراء الأوربيين في العصور الحديثة ، وإذا كان لولادة شبوب العاطفة ، ولوعة المشتاق في شعره ، فإن للطبيعة على ذلك الشعر رقة اللفظ ، وجمال الصورة :

والروض عن مائه الفضيّ مبتسم......كما شققت عن اللبات أطواقا
سرى ينافحه نيلوفر عبق......وسنان نبه منه الصبح أحداقا
ورد تألق في ضاحي منابته .....فازداد منه الضحى في العين إشراقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت.... بتنا لها حين نام الدهر سراقا
لو كان وفّى المنى في جمعنا بكم.... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
كلّ يهيج لنا ذكرى تشوقنا.... إليك لم يعدُ عنها الصدر أن ضاقا
لو شاء حملي نسيم الصبح حين سرى.....وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
لا سكّن اللّه قلبا عنّ ذكركم.....فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
يا عالقي ألأخطر الأسنى الحبيب الــى... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجازي بمحض الود مذ زمن....ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم....سلوتم وبقينا نحن عشاقا

في قصيدة ابن زيدون هذه يختلط حب المرأة بحب الطبيعة في أجمل الصور الشعرية وأبدعها ، يأخذ الشاعر صفات ، ومسميات من الإنسان ،هو وولادة هنا ، وينثرها على الطبيعة ، فما اعتل النسيم إلا لأنه عليل بحبها ، وما كان الزهر دامعا إلا لأنه أرق ، مسهد بها ، يرى أطواق ولادة ، التي انتظمت على صدرها ، في دوائر ماء رسمها نسيم رخيّ على صفحته ، ويستاف عطرها من عطر نيلوفر عبق ، ويستشعر وسن أحداقها من وسن أحداقه الغضة .

لقد ظل يحب ولادة رغم تقلبها ، فهو يعلم أنها ما كانت له وحده ، لكنه كان يحس بلذة جمال فجر، مثلما كان يذوب بحرارة قبلة منها ، هناك حين تفرش الطبيعة لهما الأحضان ، وحين ينزل بهما ليل عجل الساعات ، لم يضع هو وقتها ، ولا من بحث في أمرها وأمره من بعدهما ، يدا على سرّ تقلبها لهذا وذاك من الرجال ، قالوا كانت سادية تحب تعذيب عشاقها ، قالوا كانت مثلية تحب بنات جنسها ، لكنّ أيام غرام انصرمت بينهما تدحض هاتين العلتين ، وعلة التقلب هذه عندي تكمن على تقدير من أن ولادة بنت ملك ، هو الخليفة

المستكفي باللـه ، فهي والحالة هذه ، تعد من بنات الأسر الارستقراطية المتحررات اللائي، وبحكم وضعهن الاجتماعي ، قد رمين بالتقليد الاجتماعي
جانبا، ورحن ينشدن حريتهن خارج أسوار هذا السجن .
وفي هذا الصدد لا بد لي أن أشير الى واحدة من أرستقراطيات هذا الزمان وهي فكتوريا بنت كوستاف ، ملك السويد ، وولية عهده التي تعشقت اثنين من الرجال ، كلا اسميهما دانيال ، تتأبطهما في وقت واحد ، وهي تسير مزهوة في شوارع العاصمة استوكهولم. وعليه تكون ولادة من نساء هذا الصنف اللائي مكنهن وضعهن الاجتماعي العيش بعيدا عن التقاليد المتعارف عليها . ورب قال يقول : الغرب غرب ، والشرق شرق . فأقول : لقد عاش ولادة جغرافيا في الغرب ، وكانت ليس بعيدة عن بنات قصور الأسر الأرستقراطية فيه ، رغم أن الشرق قد عرف تعدد الأزواج قبل أن يعرف تعدد الزوجات في حقب زمنية تعارف أهلها على أخلاق وتقاليد ليس كتلك التي نتعارف عليها اليوم .
لقد عبثت حوادث الزمن بمدينة الزهراء ، مثلما عبثت أقلام الرواة بقصيدة ابن زيدون التي قالها فيها ، وذلك حين رفعوا هذه الكلمة منها وحطوا أخرى، وقدموا هذا البيت وأخروا آخر . ولي أن أقول على أساس من هذا : إن القصيدة لم تصل لنا كاملة معافاة ، فقد انهدت منها أبيات لتقادم الزمن ، وللسهو في النقل والرواية ، مثلما انهدت أركان من المدينة ذاتها ، تلك المدينة التي تثابر الدولة الاسبانية القائمة الآن من خلال ما تنفقه من الجهد والمال على ترميمها لتعيدها الى الحياة من جديد بعد أن ربطتها بطريق حديث ، وحولت عتبة بابها الى ساحة فسيحة ، تقف على طرفها لوحة خطت بحرف عربي تشير لعين الماء التي تغذى منها المدينة ، وهي العين التي قد يكون ابن زيدون قد شرب منها ، مثلما شربت منها أنا .
لم يبق من المدينة بناء عامر الآن إلا سورها الحصيف ، وبلاط الخليفة عبد الرحمن الثالث بفخامته التي تعادل فخامة بناء مسجد الحمراء في قرطبة ، وكذلك قصره الذي يقع على يمين البلاط ، ولكن بأضرار بينة ، وأمامه تمتد
حديقة غناء ، أخذت شكل حديقة الخليفة القديمة على ما يبدو ،كما لم يبق من جامعها إلا أسسه ، لكن يد العمران ستصل إليه ، والى بقية الدور والقصور المهدمة ، فقد غدت السياحة للمدن التي شادها المسلمون في الأندلس مصدر دخل كبير للدولة الإسبانية التي صارت تعد هذا التراث العظيم جزءً من تراثها ، ولهذا وقف ابن حزم تمثالا عند أبواب قرطبة القديمة ، وجلس هناك الفيلسوف ابن رشد بتواضع عند أسوارها ، يحرص السائح على أخذ صورة معه.
لقد عملت أنا بحرص على إعادة ترميم القصيدة ، وقد ساعدني في هذا الترميم وقوفي حيث وقف ابن زيدون ، هناك في أعلى سفح جبل العروس ، فنظرت للأفق كما نظر ، وسحرت بالأرض كما سحر ، وهالني ما رأيت من مروج خضراء ، ومن ماء عذب رقراق مثلما رأى هو وهاله ، وعلى هذا الأساس أعدت ترتيب أبيات القصيدة ، مثلما مثبتة هي هنا ، مع أنني أشعر أن القصيدة قد فقدت أبياتا من أبياتها في رحلتها القاسية والطويلة إلينا .

إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا.......والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله.......كأنه رقّ لي فاعتل إشفاقا
نلهو بما يستميل العين من زهر..... جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقـي..... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
والروض عن مائه الفضيّ مبتسم......كما شققت عن اللبات أطواقا
سرى ينافحه نيلوفر عبق.....وسنان نبه منه الصبح أحداقا
ورد تألق في ضاحي منابته.....فازداد منه الضحى في العين إشراقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت.... بتنا لها حين نام الدهر سراقا
لو كان وفّى المنى في جمعنا بكم.... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
كلّ يهيج لنا ذكرى تشوقنا.... إليك لم يعدُ عنها الصدر أن ضاقا
لو شاء حملي نسيم الصبح حين سرى.....وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
لا سكّن اللّه قلبا عنّ ذكركم.....فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
يا عالقي ألأخطر الأسنى الحبيب الى... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجازي بمحض الود مذ زمن...ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم....سلوتمُ وبقينا نحن عشاقا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى