الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الابستمولوجيا

كرار عزالدين ثجيل

2016 / 12 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الابستمولوجيا


الابستمولوجيا هو مصطلح استخدم لأول مره من قبل الفيلسوف الاسكتلندي
جيمس فريدريك فيريير لوصف فرع من فروع الفلسفة المعنية بطبيعة و نطاق المعرفة ركز على تحليل طبيعة المعرفة ومدى ارتباطها بمختلف المفاهيم مثل الحقيقة و الاعتقاد و التبرير

صيغة الابستمولوجيا "علم المعرفة" على غرار الانطلوجيا "علم الوجود"

ملاحظة : هناك من يعتبر الابستمولوجيا نظرية المعرفة وهذا الشيء خطأ فهي ليست نظرية

بين الأبستمولوجيا ونظرية المعرفة :
ونبدأ الإجابة بإيضاح منهجي في غاية الأهمية ، يساعد في إزالة أللبس في الإستعمال المفهومي الغير الدقيق فلسفياً بين إصطلاحي نظرية المعرفة التي جرى تداولها في دوائر تفكير ما بعد النهضة الأوربية وخصوصاً في دوائر التفكير الإنجلوسكسوني وما ترجم منه إلى اللغة العربية . والإصطلاح الفلسفي العتيد الأبستمولوجيا أو المعرفيات .
حقيقة إن ما نريد أن نؤكده هنا هو إن الترادف المتداول في بعض الكتابات الفلسفية الإبداعية التي انتجتها أقلام غير متمرنة فلسفياً سواء كانت أكاديمية أو غير اكاديمية قد جانبها الصواب من زاوية المصطلح الفلسفي الذي يشكل اللغة الفلسفية . وإذا كان الباحث غير الأكاديمي معذوراً ونحمده على جهوده ، فأن الأكاديمي مسؤول والتحري عن الدقة غايته ووسيلته .
على كل إن نظرية المعرفة هي (ثيري أوف نولج) والأبستمولوجيا أو المعرفيات هي (الأبستمولوجيا وهي كلمتين = علم المعرفة). وهناك كما يظهر لك فارق كبير بين العلم وهو إصطلاح واسع وشامل الدائرة والنظرية التي تشكل طابقاً واحداً من طوابق العلم المتنوعة والحقيقة أن هناك تحفظاً على تداول الإصطلاح الأول ” نظرية المعرفة ” في دوائر الفكر الفلسفي العلمي وبين أوساط الفلاسفة الناشطون في طوابقه المختلفة . وذلك لأنه إصطلاح لا يعبر بدقة وغير مستوعب لمجمل فعاليات دائرة المعرفيات وأدواتها ومستوياتها ومن ثم موضوعاتها

ولذلك يفضل العاملون في هذا المضمار من الدراسات الفلسفية العودة إلى إصطلاح ” الأبستمولوجيا ” وتفعيله من جديد وإحلاله محل ” نظرية المعرفة ” . وذلك لأن الأبستمولوجيا (أو علم المعرفة) أو علم المعرفيات جمعاً ، هو الإصطلاح الأكثر دقة وشمولية . والقارئ في الابحاث والدراسات التي تتناول علم المعرفيات ، يجد أن الباحثين يستخدمون إصطلاح الأبستمولوجيا ويضعون بجواره كلمة نظرية المعرفة ويضعوها بين هلالين للإشارة إلى تحفظهم على تداول إصطلاح ” نظرية المعرفة ”.
إن نظرية المعرفة تقتصر إصطلاحاً ودلالة على طابق واحد أو جزئية صغيرة من البناء الأبستمولوجي المتعدد والمتنوع الطوابق لإنها تدل على الجانب النظري من علم المعرفيات . بينما هناك جوانب (طوابق) أخرى تقع خارج مضمار الجانب النظري لا يضمها أو يعبر عنها إصطلاح نظرية المعرفة مثل : موضوع المعرفة ، أدوات المعرفة ، مصادر المعرفة ، المعايير أو ما يسمى ب ” الإستاندرات أو الكريتريات ” ، والموديلات المعرفية ، ومستويات المعرفة ودرجات يقينيتها

ويجري اليوم في دائرة علم المعرفيات ، لا في حقل نظرية المعرفة

أسس الابستمولوجيا
معنية بمعرفة بعض التسأولات وهي الشروط الضرورية و الكافية التي يمكن الحصول عليها من المعرفة وما هي مصادرها وهيكلها وما هي حدود المعرفة
تهدف النظرية الى الإجابة على نمط معين من الأسئلة مثل كيف لنا ان نفهم مفهوم السبب او المبرر ؟ وما الذي يجعل الأمور او الاعمال المبررة لا بأس بها
(نظرية المعرفة تهتم بالقضاية التي لها علاقة بخلق ونشر المعرفة في مجالات معينة)
مثل : لو ان شخص ما أراد ان يعبر جسر ولكنه ليس متأكد بأن الجسر امن بما فيه الكفاية لتحمل وزنه لكنه عبر الجسر على أي حال ثم انهار به فأنه من الخاطئ القول بأنه كان يعتقد ان الجسر كان أمن أي بمعنى انه يعلم الان الجسرغير امن فهو في بادئ الامر كان يعتقد وأما الان فهو جازم بأن الجسر غير امن

تتناول الابستمولوجيا
1-الأسس النظرية لكل علم
2-المبدئ العام لكل علم
3-ضروف تبلور كل علم وتطوره
4-أساليب كل علم

تحاول الابستمولوجيا ان تجيب على سؤال "ما هي المعرفة" كيف يتم الحصول على المعرفة ومع ان طرق الإجابة على هذه الأسئلة يتم استخدام نظريات مترابطة فأنه يمكن عملياً فحص كل من هذه النظريات على حدة.
ان نمتلك معرفة علينا ان نمتلك تبرير لها (تبرير لمعتقداتنا ومعرفتنا هي احدى المسائل الرئيسية في نظرية المعرفة الابستمولوجيا)

مدارس المعرفة مختلفة, فالتجريبيون يردون المعرفة إلى الحواس, والعقليون يؤكدون أن بعض المبادئ مصدرها العقل لا الخبرة الحسية, وعن طبيعة المعرفة, يقول الواقعيون ان موضوعها مستقل عن الذات العارفة, ويؤكد المثاليون أن ذلك الموضوع عقلى في طبيعته لأن الذات لا تدرك الا الأفكار. وكذلك تختلف المذاهب في مدى المعرفة: فمنها ما يقول أن العقل يدرك المعرفة اليقينية, ومنها ما يجعل المعرفة كلها احتمالية, ومنها ما يجعل معرفة العالم مستحيلة.

وتنقسم الابستمولوجي إلى:

* الفلسفة الوضعية (Positivism) وهي فلسفة تعتمد على الارقام لان الارقام لا تكذب بنظرهم.
* الفلسفة التفسيرية (Interpretivism) أو الفينومينولوجيا (Phenomenology) وهي فلسفة تعتمد على الشرح.
* الفلسفة الواقعية (Realism) وهي فلسفة تقع بين الفلسفة الوضعية والتفسيرية

الحديث عن أنواع من المعرفيات :

أولاً – الأبستمولوجيات الفلسفية :

وتشمل صوراً من المعرفات التي ضمها تاريخ الفلسفة اليونانية والفلسفتين الإسلامية
والمسيحية . وهي معرفيات عكست بحدود ما مرحلة التطور العلمي يومذاك ، كما ضمت في داخل أبنيتها الكثير الكثير من المفاهيم والتصورات العلمية وإستثمرت درجات يقيننية النماذج المنطقية والرياضية . إلا أن المعالجة الفلسفية لها كانت من زاوية النفس وقواها أو ملكاتها . وشملت معرفيات غنوصية وصوفية. وقد أنجز الباحث كتابين في هذا المضمار :
الأول- الأبستمولوجيا الفلسفية : تجربة الوافد اليوناني .
الثاني – الأبستمولوجيا الفلسفية : تجربة الرافد العربي

ثانياً – المعرفيات (الأبستمولوجيات) الحديثة

وهي مرحلة التأسيس الحقيقي لمسألة المعرفة ومن ثم نشوء مذاهب ومدارس معرفية لها وهي تضم التقسيمات الكلاسيكية التي كانت متداولة في دوائر المعرفيات وهي :
أ – المعرفيات (الأبستمولوجيات) الحسية :
أو المعرفيات التجريبية وهي نوع من المعرفيات تعتمد ” الحس ” أو ” التجرية ” طريقاً وحيداً لإكتساب المعرفة . وهنا الإستناد جاء على طريق المعرفة وليس على نظرية المعرفة . وقد جاء التأسيس لهذا النوع من الأبستمولوجيات في كتاب ” فرنسيس بيكون ” (1561 – 1626 م) الذي عنوانه ” الأورغانون الجديد ” أي المنطق الجديد . والذي طبع في اللاتينية أولاً في العام 1620 م ، ومن ثم ترجم وطبع بالإنكليزية في العام 1863 م . وإن الأسم فيه إشارة إلى ” أورغانون أرسطو ” . فالأرغانون الجديد عند بيكون هو نظام جديد في المنطق يعتمد الإستقراء بدلاً من الإستدلال . ولهذا كان بيكون يعتقد أن أورغانونه له السلطة العليا على الأورغانون القديم.
وهكذا اختارت الأبستمولوجيات الحسية الإستقراء ، الطريق المنطقي الذي يتجاوب مع هذه التوجهات الحسية التجريبية . كما وإرتبطت هذه المعرفيات بمجموعة من الفلاسفة الإنكليز من أمثال ” توماس هوبز ” الذي قادته نزعته الأبستمولوجية الحسية التجريبية إلى المادية ، والذي يعد رمزاً من رموز مؤسسيها , و” جون لوك ” (1632 – 1704) الذي يعتبر من مؤسسي الأبستمولوجيا الحديثة (وإن ظل مقيداً في حدود نظرية المعرفة إصطلاحاً) والذي بحث في أصل المعرفة وكونها تأتي من خلال الحواس . إن كل ذلك جاء في كتابه ” مقالة تتعلق بالفهم الإنساني ” والذي صدر في العام 1690 ، و” دافيد هيوم ” (1711- 1776) الذي تناول المعرفة الحسية وما إرتبط بها من مشكلات تولدت للإستقراء . درس هيوم ذلك في كتابه المعنون ” بحث يتعلق بالفهم الإنساني ” والذي نشره في العام 1748 . ومن ثم تتوجت بنزعة ” جون ستيوارت ميل ” (1806- 1873) الحسية المتطرفة والتي ظهرت في كتابه المعنون ” نظام علم المنطق ” والذي نشره في العام 1843 (ويتألف من مجلدين) . وقد صاغ فيه المبادئ الخمسة للإستدلال الإستقرائي (والذي عرف بطريقة ستيوارت العلمية) . في حين جاءت نزعته الحسية المتطرفة أكثر وضوحاً في المجلد الثاني ، وذلك عندما أعلن إن "بديهيات الهندسة هي ليست حقائق فرضية ، وإنما هي حقائق تجريبية"

ب – المعرفيات (الأبستمولوجيات) العقلية :
إنه إتجاه معرفي حديث يعتمد ” العقل ” الطريق الوحيد لإكتساب المعرفة . إن هذا الإتجاه إرتبط بنخبة من الفلاسفة العقليين الذين إنتجوا لنا نصوصاً أبستمولوجية في غاية الأهمية في تاريخ الأبستمولوجيا عامة والنزعة العقلية على وجه الخصوص ، كان في طليعتهم الفيلسوف الفرنسي ” ديكارت “(1596- 1650) والذي ركز مشروعه الأبستمولوجي في كتابه المعنون ” تأملات في الفلسفة الأولى ” والذي صدر لأول مرة باللغة الاتينية في العام 1641 ، ومن ثم ظهرت له ترجمة فرنسية في العام 1647 ، وبعد أكثر من قرن ونصف جاءت الترجمة الإنكليزية (التي قام بها جون فيتش في العام 1901) .
ومن ثم جاء ” باروخ إسبينوزا ” (1632- 1677) وهو من أكبر الفلاسفة العقلانيين ، وقد تأثر بكل من ” إقليدس ” (عاش بحدود 300 ق.م وهو صاحب كتاب الأصول في الهندسة) و” ديكارت ” . وفي أبستمولوجياته كان يتطلع إسبينوزا إلى صياغة مكوناتها على صورة موديل هندسي . وفعلاً نجح إسبينوزا في كتابه ” مبادئ الأخلاق ” في بناء الأخلاق على صورة مصفوفات هندسية تبدأ بتعريفات وبديهيات. وفي مضمار عمله في الأبستمولوجيات العقلية ، أعتقد إسبينوزا ” في إمكانيته إمتلاك المعرفة الأولية ” ومن ثم حدد ثلاثة أنواع من المعرفة .
وكان الفيلسوف الألماني ” جوتفريد لايبنز ” (1646- 1716) وهو فيلسوف وعالم رياضيات ومنطق . وتوصل إلى إكتشاف ” حساب التفاضل والتكامل ” في الوقت ذاته الذي أعلن فيه ” إسحاق نيوتن ” (1643- 1727) عن إكتشافه هذا النوع من الحساب . وتصاعدت درجات الصراع بين المانيا وإنكلترا حول الأحقية بالإكتشاف وأقتربت من إعلان الحرب.
ولايبنز سعى بكل جهد إلى تأسيس أبستمولوجياته العقلية على قواعد رياضية ومنطقية ، ومن ثم تطلع إلى صياغة القضايا الأبستمولوجية بلغة الرياضيات الرمزية والملتزمة
بقواعد المنطق الرمزي . وقد أعاد هؤلاء الفلاسفة وخصوصاً لايبنز المكانة للإستدلال ، وخاصة الإستدلال الرياضي ، طريقاً لتأسيس المعرفة اليقينية

ج- الأبستمولوجيات النقدية :
إنها إتجاه أبستمولوجي حديث مارس عملية النقد للإتجاهين المعرفيين السابقين (أي نقد للأبستمولوجيا الحسية والعقلية على حد سواء) . ومثل هذه النزعة الأبستمولوجية في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة ، الفيلسوف الألماني ” عمانوئيل كانط ” (1724- 1804) هو فيلسوف ألماني ، وهو آخر الفلاسفة المحدثين ،الذي كان له تأثيراً واسعاً في عموم البيئات الفلسفية الأوربية عامة والأبستمولوجية خاصة .
حقيقة إن تأثير كانط في المضمار الأبستمولوجي على الأقل ، لم يظل محبوساً في إطاره الجغرافي (قارة أوربا) ، أو سجيناً في معاقل عصر الأنوار ، بل تجاوز ذلك وأصبح كانط فيلسوفاً كونياً ، كما وتحول إلى فيلسوف الأبستمولوجيا المتجدد الذي تجاوز إنتماؤه
الحدود الزمنية ، فطوت حركة الأهتمام في أبستمولوجياته القرنيين التاسع عشر والعشرين ، وأصبح الأهتمام بكانط شغل دوائر البحث الأبستمولوجي في القرن الحادي والعشرين (والباحث شاهد على إهتمام أقسام الفلسفة وكتاب فلسفة العلوم والأبستمولوجيات في أمريكا الشمالية : كندا والولايات المتحدة الأمريكية) .
أشتغل كانط على ثلاثة عشر مشروعاً في البحث والكتابة قبل أن ينشر كتابه ” نقد
العقل النظري الخالص ” ، فقد ظهرت طبعته الأولى باللغة اللاتينية في العام 1781 ، وترجم إلى اللغة الإنكليزية في العام 1838 من قبل ” فرنسيس هايوود ” . وهذا يعني أن عمر كانط يوم صدور الطبعة اللاتينية ، كان سبعة وخمسين عاماً (وهذه هي مرحلة النضوج) . وهو في التقويم الأخير مساهمة كانطية عالية في الأبستمولوجيا.
وفعلاً أن كانط في طرف من كتابه أنتقد الأبستمولوجيا التقليدية : أبستمولوجيا التجريبين والعقليين . وفي طرف آخر القى الضوء على النهج الكانطي في تأسيس أبستمولوجيا نقدية . والحقيقة أن مشروع كانط النقدي سعى في جوهره إلى المصالحة بين الأبستمولوجيا التجريبية والأبستمولوجيا العقلية .
لقد أعتقد التجريبيون أن أكتساب المعرفة يكون عن طريق وحيد هو التجربة (أو الحواس) فقط . في حين رأى العقليون أن مثل هذه المعرفة مفتوحة للشك الديكارتي ، وإن العقل هو الطريق الوحيد الذي يوفر لنا مثل هذه المعرفة . جادل كانط التجريبين والعقليين ، ورأى إن إستعمال العقل وحده دون الأستعانة بالتجربة سيقودنا إلى الوهم . في حين إن الأعتماد على التجربة وحدها ، ستكون تجربة شخصية تماماً دون إخضاعها إلى العقل الخالص . كما تطلع كانط إلى إصلاح الميتافيزيقا من خلال الأبستمولوجيا .
لقد إختار كانط طريقاً أبستمولوجياً ثالثاً ، طريقا يمنح الحس والعقل على حد سواء دوراً في عملية تكوين المعرفة . إلا إنه لا يؤمن كما آمن الحسيون بأن العقل صفحة بيضاء (جون لوك مثلاً) قبل المعرفة . وإنما هناك أطر عقلية ، وإن المعرفة التي تأتي عن طريق الحس تنتظم وفق تلك الأطر العقلية وهي مثل : الزمان والمكان..

ثالثاً- الأبستمولوجيات المعاصرة :
تميز تاريخ الأبستمولوجيات في الحقبة المعاصرة بإستمرار المدارس الفلسفية الناشطة في صياغة إبستمولوجيات تعكس توجهاتها الفلسفية . وفي الوقت ذاته شهدت هذه الحقبة إنبثاق ما يعرف اليوم بدوائر الأبستمولوجيات الناهضة على ما توافر في دوائر العلوم المعاصرة من أساليب تجريبية تمثلت بأنواع معقدة من أجهزة في غاية التعقيد والتطور سواء في رصد الظواهر الكبيرة في الكون ، أم الظواهر الصغيرة التي لا نراها بالعين المجردة ، وإنما بمساعدة أجهزة في غاية الحساسية والدقة ، وبمصادر التنوير والتكبير العالية .
وفي المقابل تطورت أساليب نظرية عالية تمثلت بأنواع من الرياضيات العالية ، التي تجاوزت حساب التفاضل والتكامل ، والتي إنتظمت على صورة مصفوفات رياضية عالية التجريد ، والتي صاحبها تطوير أنواع من المنطق الثلاثي القيم والمتعدد القيم .. وتطوير الإستنباط والإستقراء التقليديين إلى إستدلال تجريبي ونظري. إن ما يميز الأبستمولوجيات المعاصرة ، إنها مشروع تعاون بين العلماء والفلاسفة ، وحصيلة تضافر جهودهما المشتركة والتي إنعكست في شكل المعرفيات العلمية أو الأبستمولوجيات المعاصرة .

1- أبستمولوجيا الوضعية المنطقية : تميزت الأبستمولوجيا المعاصرة في إطارها الفلسفي بطعم خاص عكس تنوع مدارسها الفلسفية المعاصرة . فمثلاً كانت هناك مساهمة أبستمولوجية عالية للوضعية المنطقية ، والتي كانت تعرف بالتجريبية المنطقية كذلك . وقد جاءت نتيجة لجهود أعضاء حلقة فينا والتي ضمت مجموعة من علماء الرياضيات ، والعلماء والفلاسفة ، الذين جمعهم هدف واحد ، وهو مناقشة التطورات الحديثة في علم المنطق ، ومن ضمنها مناقشة كتاب فيتجنشتاين (1889- 1951) المعنون ”رسالة منطقية– فلسفية ” والذي صدر في العام 1922، وكان يقودهم مورتيز شيلك (1882- 1936).
وفيما يتعلق بالأبستمولوجيا المعاصرة ، نود أن نذكر بأن واحداً من أهم مؤلفات شيلك ، كان في مضمار الأبستمولوجيا ، والذي كان بعنوان : ” الأبستمولوجيا والفيزياء الحديثة” والذي صدر في العام 1925. وكذلك كتابه المعنون : ” النظرية العامة للمعرفة” والذي ترجم إلى الأنكليزية في العام 1985 . وبالإضافة إلى شيلك ، ضمت الحلقة كل من كرناب (1891- 1970) ، فيجل (1902- 1988) ، جودل (1906- 1978) ، هان (1879- 1934) ، نيروث (1882- 1945) وويزمان (1896- 1959). وبعد وفاة هان ومن ثم شيلك في العام 1939 ، تفرق أعضاء حلقة فينا ، فرحل بعضهم وأستقر في بريطانيا ، وذهب البعض الآخر إلى الولايات المتحدة الأمريكية .
أن الوضعية المنطقية هي مدرسة فلسفية ، جمعت بين التجريبية (التي تعتمد على الملاحظة في معرفة العالم) والعقلانية التي تشمل البناء اللغوي ذو الطبيعة المنطقية الرياضية والإستدلال الأبستمولوجي . وإعتماداً على الكتيب الصادر عام 1929 والذي كتبه كل من نيروث وهان وكرناب ، فأننا نلحظ إن هذا الكتيب قد لخص مبادئ حلقة فينا عامة في حينها ، والوضعية المنطقية في مضمار الأبستمولوجيا خاصة . أن هذه المبادئ
تتضمن معارضة لكل أنواع الميتافيزيقا ، خصوصاً الأنطولوجيا والقضايا التركيبية الأولية (التي إنشغلت بها الأبستمولوجيا عند كانط) . والحقيقة إن رفض الميتافيزيقا جاء ليس لكونها قضايا خاطئة ، بل لكونها فارغة من المعنى .
وإستندت أبستمولوجيا الوضعية المنطقية إلى معيار المعنى الذي يعود في إصوله إلى الكتابات المبكرة لفيلسوف العلم واللغة لودفيغ فيتجنشتاين (أي كتابه رسالة منطقية – فلسفية) . ولعل مما يؤكد عليه معيار المعنى ، هو إن تتم صياغة المعرفة في لغة العلم الإنموذجية . كما وأن هذا المعيار يتطلع إلى إحلال المفاهيم الدقيقة للغة العلم محل
مفاهيم لغة الحياة اليومية . إذن معيار المعنى يسعى إلى تطهير الفلسفة والعلم من كل اللغو الذي ساد في تاريخهما العتيد ، والذي سبب سوء الفهم والتنازع ، و كان وراءه الجدل الطويل الذي ضاعت فيه جهود وفرص الفلاسفة والعلماء على حد سواء .
كما وتعتمد أبستمولوجيا الوضعية المنطقية على مبدأ التثبت (أو التحقق) والذي تظهر عليه أثار ما كتبه فيتجنشتاين في الرسالة المنطقية – الفلسفية واضحة كذلك . أن مبدأ التحقق هو الطريق الذي يحدد أن هذه القضية أو هذا السؤال لهما معنى . فمثلاً القضية القائلة : ” أن العالم جاء إلى الوجود قبل فترة قصيرة ” . إن مثل هذه القضية ” لا معنى لها ” من زاوية مبدأ التحقق ، وذلك لأن مثل هذه القضية لا توفر لنا طريقاً ” يثبت بأن هذه القضية صادقة أم لا ”.
إتخذ مبدأ التحقق مساراً خاصاً مع الفريد آير ، خصوصاً في كتابه المعنون : ” اللغة : الصدق والمنطق ” والصادر عام 1936. فهو فعلاً مبدأ أو معيار للمعنى ، ولكن ليس عن طريق التحليل اللغوي ، وإنما يكون عن طريق التثبت التجريبي . وحقيقة إن فكرة التحقق ، فكرة قديمة تصعد على الأقل إلى دافيد هيوم والتجريبيين الذين يعتقدون بأن الملاحظة هي الطريق الوحيد الى المعرفة .
واليوم يستعمل مبدأ التحقق بمعنى مبدأ التكذيب الذي ينظر إليه كإمكانية منطقية تسعى إلى تحديد قضية ما بأنها كاذبة ” عن طريق ملاحظة خاصة أو تجربة فيزيائية ” . وإن مبدأ التكذيب لا يعني ” إن شئ ما هو كاذب ، بل إنه يعني إن القضية كاذبة ، وتحتاج
إلى برهان على كذبها ” .
ثم أنبرى كارل بوبر (1902- 1994) فرفض إشتراطات مبدأ التحقق في النظر إلى ” معنى القضية ” ، وبالمقابل رأى أن تكون ” القضية تمتلك قابلية على التكذيب ” . وفي فترة لاحقة
أوضح بوبر بأن غرضه من مبدأ التكذيب ، لا يسعى مطلقاً إلى تكوين ” نظرية في المعنى ” . وإنما أراد له أن يكون ” معيار منهجي للعلوم ” . وفي واقع الحال ينظر إلى كارل بوبر اليوم على إنه واحد من المشايعين لمبدأ التحقق بدلاً من كونه ناقداً له .
كما تبنى عدداً غير قليل من الوضعيين المنطقيين في مضمار الأبستمولوجيا ، ما يعرف ” بنظرية التطابق ” ، وهي النظرية التي دافع عنها فتجنشتاين في رسالته المنطقية الفلسفية . والحق يقال أن بعض الوضعيين المنطقيين من أمثال أوتو نيروث لم يقبلوا بنظرية التطابق ، بل فضلوا نظرية الإتساق (أو ألإنسجام) والتي ” ترى أن صدق القضية هو إتساقها أو إنسجامها مع مجموعة القضايا الأخرى في النظام الذي تنتمي إليه ” والإتساق يعني أن لا تثير القضية أي تناقض في النظام الذي دخلت إليه . والواقع إنه ليست هناك نظرية واحدة في مضمار نظرية الإتساق (أو الإنسجام) ، بل هناك وجهات نظر عديدة في مضمارها .
ونعود إلى نظرية التطابق في مضمارها الأبستمولوجي من زاوية الوضعيين المنطقيين المشايعين لها . فهذه النظرية ترى إن صدق قضية ما أو كذبها يتقرر من خلال علاقتها بالعالم الخارجي أو مدى نجاحها في وصف العالم الخارجي (أو تطابقها معه). ونظرية التطابق تتعارض مع نظرية الإتساق ، والتي ترى إن صدق قضية ما أو كذبها يعتمد على علاقتها مع القضايا الأخرى بدلاً من علاقتها مع العالم الخارجي .
وتزعم نظريات التطابق في مضمارها الأبستمولوجي ، إلى أن الإعتقاد يكون صادقاً أو القضية تكون صادقة بمقدار تطابقهما على الموضوعات والأشياء الواقعية . وهذا النمط من النظريات يفترض وجود علاقات بين الأفكار والقضايا من طرف ، وبين الأشياء والوقائع من طرف آخر . ويصعد الشكل الإبستمولوجي لنظرية التطابق ، على الأقل ، إلى فلاسفة اليونان الكلاسيكيون سقراط ، إفلاطون وارسطو ( والثلاثة يشكلون طرفاً من مكونات كتابنا المعنون : تجربة الوافد في مضمار الأبستمولوجيا الفلسفية). وتعتقد هذه النظريات إن الصدق أو الكذب يتقرران من خلال إرتباطهما(أو عدم إرتباطهما) بالحقيقة أو وصفهما (أو عدم وصفهما) للحقيقة بدقة . وهناك أنواع من
نظريات التطابق :
أولاً- التطابق بالمعية (أي أن شيئان يحدثان معاً) . يرى الفيلسوف البريطاني برتراند رسل (1872 – 1970) ، لكي تكون القضية صادقة ، ينبغي أن تتماثل في بنيتها وبنية موضوعات العالم الخارجي ، والتي تجعل منها قضية صادقة . والمثال الذي قدمه رسل
هو المثال القائل : ” القطة (توجد) على البساط ” هي صادقة ، إذا وفقط إذا كان هناك في العالم الخارجي ؛ قطة وبساط ، وإن القطة مرتبطة بالبساط من خلال وجودها على البساط . وإذا غاب أي من هذه المكونات الثلاث ( القطة ، البساط ، والعلاقة بينهما والتي تطابق بالتتابع الموضوع والمحمول وفعل القضية) فأن القضية تكون كاذبة.
ثانياً- التطابق بالترابط العلاقي ؛ يعد فيلسوف اللغة البريطاني جون لانكشو أوستن (1911- 1960) هو المنظر لهذا النوع من التطابق (وله كتابان صدرا بعد وفاته ، الأول – أوراق فلسفية والذي ظهر بنشرة اكسفورد عام 1961 . والثاني – كيف تعمل الأشياء بالكلمات والذي صدر من أكسفورد في العام 1962) ، فقد ذهب إلى إننا لا نحتاج إلى تركيب فيه توازي بين صدق القضية وموضوعات العالم الخارجي التي تمنحها الصدق . وإنما كل ما في الأمر ، هو البعد السيمانطيقي (بعد المعنى) للغة التي نستخدمها في التعبير عن القضية ، وهذا البعد السيمانطيقي هو الذي يركز على العلاقات الترابطية الكلية للقضية التي ترتبط بموضوعات العالم الخارجي . وإن كذب القضية حسب رأي أوستن ، عندما لا تكون واحدة من هذه القضايا موجودة .

2- أبستمولوجيا البراجماتية : إنبثقت البراجماتية ، موجة فلسفية تحمل إعلاناً أبستمولوجياً تجريبياً (حسياً) في نهايات القرن التاسع عشر ، وبالتحديد في النادي الميتافيزيقي ، فيما بين عامي 1872 و 1874 ، وهو النادي الذي كان كل من “تشارلز ساندروز بيرس” (1839- 1914) و”وليم جيمس” (1842- 1910) يمثلان من بين أعضائه الأتجاه الأبستمولوجي التجريبي في الفلسفة في مقابل الأتجاه الأبستمولوجي الميتافيزيقي المثالي الذي كان يمثله أغلب أعضاء النادي .
وقد قدم بيرس في النادي بحثاً أبستمولوجياً متفرداً ، نشر فيما بعد في مقالين :
الأول – بعنوان ” تثبيت الإعتقاد ” الذي ظهر في العام 1877
الثاني – بعنوان ” كيف نوضح أفكارنا ” الذي صدر في العام 1878
وهما المقالان الأبستمولوجيان ، اللذان أعلنا عن ظهور حركة فلسفية أبستمولوجية جديدة هي ” البراجماتزم ” .
أن إختيار بيرس للإصطلاح براجماتزم ، لم يكن أختياراً عفوياً ، بل جاء إنتخاباً مدروساً من الزاوية الأبستمولوجية . وذلك من حيث إن كلمة براجماتزم ، جاءت جواباً أبستمولوجياً على السؤال الأبستمولوجي الذي رفعه بيرس بداية وإستهلالاً . فقد تساءل بيرس : ما معنى الفكرة ؟ وما معنى العبارة ؟ ومتى يكون للفكرة معنى ؟ ومتى تكون العبارة صادقة ؟ ومتى يجوز لنا أن نتكلم عن العبارة بوصفها معبرة عن فكرة ما ؟ ومتى لا يجوز ؟
جاء جواب بيرس واضحاً ومباشراً ، مؤكداً على إن ” الفكرة هي ما تعمله ” ، وهذا يعني أن معنى الفكرة مرتبط بقوة بالنتائج والآثار العملية المترتبة عليها . ولهذا التوجه الأبستمولوجي الناهض على العمل والنتائج العملية التي تفضي إليها الفكرة ، إنتخب بيرس لطريقه الفلسفي كلمة براجماتزم ، وهي في حقيقتها مشتقة من لفظة براكتس التي تدل على الممارسة والفعل ، وهي في أصلها مشتقة من اللفظ اليوناني ” براجما ” الذي يدل على الفعل أو العمل.
ونحسب أن كل هذا الكلام ، يحملنا على القول بإن براجماتية بيرس على الأقل ، هي أبستمولوجيا الفعل أو أبستمولوجيا العمل . وفي مضمار تقويم إنجاز بيرس ، وقف الفيلسوف الأمريكي بول ويس (1901- 2002) مراجعاً ما أنجزه بيرس في مضماري الفلسفة والمنطق الأمريكيين ، فقال : ” إن بيرس هو الأكثر أصالة بين الفلاسفة الأمريكان ، وهو في الوقت ذاته من أعظم علماء المنطق الأمريكان ” . هذا صحيح كل الصحة إذا راجعنا ما كتبه بيرس في مجالي الأبستمولوجيا العملية ، والأبستمولوجيا الرياضية والمنطقية.. وصحيح جداً إن كل ماتركه بيرس من أعمال مكتوبة هي مقالات ومحاضرات . وإن الكتاب الوحيد الذي حمل إسمه ، هو ” دراسات في علم المنطق ” (1883) ، فقد كان هو الناشر والمؤلف لفصول بنفسه ، في حين كتب طلبته فصولاً أخرى . وترك مخطوطات لم تنشر تجاوزت صفحاتها (100000) صفحة ، ما عدا ما نشره هوسر تحت عنوان ” أوراق بيرس ” .
كتب بيرس في مضمار الأبستمولوجيا العملية ، مقاليه سابقي الذكر :” تثبيت الأعتقاد” و”كيف نوضح أفكارنا” واللذان حملا الإعلان الأبستمولوجي للبراجماتية . ولكن والحق يقال إن بيرس نشر مقالاً أبستمولوجياً في غاية الأهمية ، قبل هذين المقالين وبالتحديد في العام 1868. وكان بعنوان ” أسئلة متعلقة بملكات الإنسان ” ، وهو بتقديرنا المقال الأبستمولوجي المفتاح لعمل بيرس عامة والأبستمولوجيا البراجماتية خاصة . ومن ثم تلاه في السنة ذاتها صدور مقاله الرافض للأبستمولوجيا الديكارتية والذي كان بعنوان “بعض نتائج العجز ” والذي جادل فيه طبيعة أن ” العام حقيقي ” .
وبعد عشر سنوات وبالتحديد في العام 1878 نشر مقالاً بعنوان ” نظام الطبيعة ” . ومن ثم نشر سلسلة مقالات تدور في مضمار أبستمولوجيا البراجماتية ، منها : مقال بعنوان “إختلافات صغيرة حول الحواس ” في العام 1884 ، ومقاليه : ” عمارة النظريات ” الذي نشره في العام 1891 و ” مبادئ الضرورة ” الذي ظهر في العام 1892 .
وفي عام 1903 جاءت محاضراته في جامعة هارفارد حول البراجماتية والتي دافع فيها عن الأساس الأبستمولوجي للبراجماتية . وتبعها ثلاث مقالات راجعت الأساس الأبستمولوجي للبراجماتية وعرضت تفاصيل إضافية كما ودافعت عن الإطار البراجماتي للأبستمولوجيا ، وهي : ” ما هي البراجماتية ” في العام 1905 و ” قضايا البراجماتية ” في العام 1905 ومن ثم ” دفاع عن البراجماتية ” في العام 1906 .
أما في مضمار الأبستمولوجيا الرياضية ، فقد تفردت كتاباته بالأصالة والإبتكار وذلك لكون بيرس واحداً من علماء الرياضيات ، ومن هنا تأتي أهمية أبحاثه في هذا الميدان . كان أول عمل نشر له بعنوان ” منطق التناسب ” والذي ظهر إلى النور في العام 1870 ، ودرس فيه نظرية العلاقات . ومن ثم جاءت محاضراته ومقالاته التي حملت عنوان “إيضاحات حول منطق العلم” في الفترة (1877- 1878) والتي ركز فيها على البراجماتية والإحصاءات .
وتوجت جهوده في مضمار الرياضيات بظهور عمله المعنون ” الرياضيات المبسطة ” في العام 1902 . وأشتغل في الرياضيات البحتة ، وفي الأسس المنطقية للرياضيات ، وفي الجبر الخطي وموضوعات هندسية متنوعة . وترك بيرس مخطوطة مهمة في ميدان الرياضيات بعنوان ” مبادئ جديدة للرياضيات من وجهة نظر أصيلة ” . وفي العام 1976 صدرت بعنوان “مبادئ جديدة للرياضيات” .
وفي حقل الأبستمولوجيا المنطقية ، فقد درس موضوعات رائدة شكلت مضمار التحديث في علم المنطق والتجديد في نظام إشاراته (العلامات أو الرموز) . في الحقيقة بدأ بيرس بحثه في علم المنطق وأبستمولوجياته ، في وقت مبكر ، فأولى محاضراته ومقالاته تصعد إلى العام 1869 . والتي جاءت بعنوان ” أسس سلامة القوانين المنطقية” ومن ثم تلتها سلسلة محاضراته في هارفارد حول ” علماء المنطق البريطانيون ” وكانت للفترة من 1869 وإلى 1870 . وفي هذه السنة ذاتها ظهرت رائعته المعنونة ” وصف لنظام الإشارات (العلامات) الخاصة بمنطق العلاقات ” والتي هي جزء مما يعرف بنظرية السيموطيقا عند بيرس .
وتحول بحثه نحو جرف آخر من الإهتمام المنطقي . فظهرت في العام 1878 مقالته المتميزة ، بعنوان ” إحتمالية الإستقراء ” . وتلتها في السنة ذاتها ، مقالته في ” الإستنباط ، الإستقراء والفرضيات ” . ومن ثم جاءت محاضراته في المنطق في جونز هوبكنس للفترة من 1879 وإلى 1884 . وفي العام 1880 صدرت رائعته الرائدة في “جبر المنطق” . ومن ثم أخذت مقالاته المنطقية بالرواج بين المختصين والقراء ، منها : ” نظرية الإستنتاج الإحتمالي ” في العام 1883 ، و” حول جبر المنطق : مساهمة في فلسفة الإشارات ” في العام 1884 ، و” قانون العقل ” في العام 1892 ، و ” محاضرات في الإستدلال ومنطق الأشياء ” في العام 1898 بدعوة من وليم جيمس في كيمبريدج . ومن ثم جاءت ” القاعدة الأولى للمنطق ” في العام 1899 والتي كانت ضد معوقات البحث . وفي العام 1903 قدم ” محاضرات لول ومفردات علم المنطق” .
ولعل خير ما نختتم هذا المضمار الأبستمولوجي ، الإشارة إلى إن الأبحاث المنطقية قادت بيرس إلى تطوير نظرية في الإشارات (السيموطيقا) والتي تتألف من جهاز واسع من مفاهيم الإشارات وعمليات إستنتاجها .
كما و نحسب إن البراجماتية من الزاوية الأبستمولوجية ، هي نظرية في الصدق، والتي هي في مجملها مجموعة ” تفسيرات ” و ” تعريفات ” و ” نظريات ” لمفهوم الصدق . وحقيقة إن هناك إجماعاً براجماتياً بين بيرس وجيمس و جون ديوي (1859- 1952) على إن البرجماتية في سماتها العامة( كنظرية في الصدق) هي :
أولاً- أن البراجماتية هي مجموعة وسائل تهدف إلى توضيح معاني المفاهيم المتشاكلة ، ومنها بشكل خاص مفهوم الصدق ذاته .
ثانياً- إن الحقيقة بالمنظار البراجماتي ، هي ” منتوج ” ذات طبيعة متنوعة ، والذي يكون على شكل : إعتقاد ، يقين ، معرفة أو صدق . وإن كل هذا حاصل نتيجة لعملية البحث
(الذي يهدف إلى توسيع المعرفة ، وحل مسألة الشك ، وفي الوقت ذاته إيجاد حل للمشكلة موضوع البحث).
بعد هذا نسعى إلى تحديد معيار الصدق البراجماتي عند البراجماتيين الثلاثة . فمثلاً لفهم معيار الصدق عند بيرس ، يتطلب منا الإشارة إلى إن تفكير بيرس لا يمكن فهمه دون معرفة رأيه في ” طبيعة التفكير والأفكار ” . إنه يرى إن ” كل الأفكار هي إشارات” . ماذا يعني هذا الكلام ؟ إنه يعني بصورة واضحة إن تفكير بيرس ” لا يمكن فهمه خارج إطار علاقات الإشارات ” . وإن علاقات الإشارات في حقيقتها هي موضوع نظرية الإشارات . وإن نظرية بيرس في السيموطيقا ، هي نظريته في علاقات الإشارات ، والتي هي المفتاح الأساس لفهم فلسفته البراجماتية .
لقد حدد بيرس الصدق ، في مقال له يصعد إلى العام 1901 وكان بعنوان: ” الصدق والكذب والخطأ ” وبالشكل الآتي :
الصدق هو إتفاق (أو إنسجام) القضية المجردة مع الحدود المثالية للبحث العلمي المستمر والهادف إلى توفير الإعتقاد العلمي . وإتفاق القضية المجردة ربما يتم الوصول إليه عن طريق الإعتراف بأن عدم دقتها من بعض الأوجه ، هو المكون الأساس للصدق .
بينت هذه العبارة وجهة نظر بيرس التي تؤكد على إن ” أفكار المقاربة ” و ” عدم الكمال ” و” الجزئية ” والتي عبر عنها في مكان أخر ” بإمكانية الخطأ ” و ” الإحالة إلى المستقبل ” هي أساسيات مفهومه للصدق . كما وأستخدم في مناسبات مختلفة كلمات من مثل : الإنسجام والتطابق وذلك لوصف وجه من وجوه براجماتية ” العلاقة بين الإشارات ” . ومن طرف أخر فقد قال بيرس : ” أن تعريفات الصدق تقوم على التطابق الذي ليس هو أكثر من التعريف الإسمي ” ، وبيرس في هذا المجال تابع التقليد الفلسفي الطويل الذي يرد التعريف الإسمي إلى مستوى ليس أكثر من التعريفات الحقيقية . ولنقف نستمع إلى ما يقوله بيرس :
إن ذلك الصدق هو تطابق الصورة مع موضوعها ، وهو كما قال كانط ، مجرد التعريف الأسمي لها . والصدق يرتبط بالقضايا فقط . والقضية تتألف من موضوع (أو مجموعة موضوعات) ومن محمول . ولما كان الموضوع هو إشارة ، والمحمول هو بدوره إشارة . فالجملة هي إشارة تتألف من ذلك المحمول الذي هو إشارة ومن المحمول الذي هو إشارة كذلك . وإذا كانت الجملة بهذا الشكل فهي صادقة . ولكن : ماذا يعمل هذا التطابق والإحالة إلى الإشارة ؟ إنه الإنسجام في القضية (إنسجام إشارة المحمول مع إشارة الموضوع وهما مكونات القضية : بين قوسين توضيح من الباحث) .
وخلاصة الموقف عند بيرس ومن خلال عبارته السابقة ، هو إنه كشف عن العلاقة بين التعريف البراجماتي للصدق وواحدة من نظريات الصدق العتيدة ، والتي ترى ” إن الصدق بشكل وحيد وبسيط ، هو تطابق الصور مع موضوعاتها ” . والحقيقة إن بيرس هنا حاله حال كانط ، فقد إعترف بالتمييز الذي وضعه أرسطو ” بين التعريف الإسمي والتعريف الحقيقي ” . والتعريف الإسمي في حقيقته كشف عن ” وظيفة المفهوم ، ودور العقل في الإدراك ، كما إنه يدل على جوهر الموضوع ” . إن هذا الموقف يحملنا على القول : ” أن بيرس كان مولعاً جداً بنظرية التطابق في الصدق ” .
وأما الفيلسوف البراجماتي وليم جيمس ، فقد تميز بمفهومه الخاص لمعيار الصدق البراجماتي . ونحسب أن تكون البداية الإشارة إلى تراث جيمس الفلسفي ، وخصوصاً تراثه الذي درس فيه المعيار البراجماتي للصدق . أولاً أن جيمس جاء من ميدان الطب والفيزيولوجيا والبايولوجيا إلى مضمار علم النفس ومن ثم إستقر في مرابض الفلسفة . كان أول فصل درسه في جامعة هارفارد ، هو علم النفس التجريبي للسنة الأكاديمية (1875- 1876) . وخلال عمله في هارفارد أنضم إلى بيرس في العام 1872 في المناقشات الفلسفية التي جرت تحت مظلة النادي الميتافيزيقي . كان أول عمل نشره
جيمس ، هو كتابه المعنون ” مبادئ علم النفس ” والذي صدر في العام 1890 (ويتألف من مجلدين .
أما أهم مؤلفاته الفلسفية فهي : إرادة الإعتقاد (1897) ، الخبرة الدينية : دراسة في الطبيعة البشرية (1902) ، عالم الخبرة (1904) ، البراجماتية (1907) ، الكون المتعدد 019099 ، بعض مشكلات الفلسفة (1911 توفي ولم يكمله) ، مقالات في التجريبية الراديكالية (1912) ومؤلفات أخرى . وفي مضمار معيار الصدق البراجماتي ، فقد نشر جيمس في العام 1907 فصلاً بعنوان : المفهوم البراجماتي للصدق ، ضمه إلى كتابه البراجماتية ، وفي العام 1909 نشر كتابه المعنون : معنى الصدق .
أخذت أبستمولوجيا نظرية الصدق البراجماتية عند جيمس ، بعداً جديداً ، فيه طعم جديد مختلف بالتأكيد عما هو عليه عند مؤسس البراجماتية بيرس . فمثلاً وليم جيمس في محاولته تحديد العقائد الصادقة ، أكد على إنها ” تلك العقائد التي ثبتت إنها نافعة للمؤمن بها ” هذا طرف . والطرف الثاني إن نظريته البراجماتية للصدق ، هي نظرية تركيبية ، جمعت بين نظرية التطابق ونظرية الإتساق (أو الإنسجام) مع بعد إضافي ، وهو ” إن الصدق ممكن التحقق منه خلال الأفكار والقضايا التي تطابق الأشياء الواقعية ” إضافة إلى ربطها سوية ” بحيث تتسق معاً ، كما هو الحال في أجزاء لغز متفرقة ، ينبغي أن تنسجم سوية” وإن هذه الأفكار ممكن التحقق منها عن طريق النتائج الملاحظة إثناء تطبيقات الفكرة في مضمار التجريب الواقعي . ونلحظ في كتابات جيمس الأبستمولوجية صدى لمبدأ الوضعية المنطقية في التحقق أو التثبت .
أما جون ديوي فقد فضل تعريف بيرس للصدق ، ففي كتابه المعنون : المنطق : نظرية البحث ، والصادر في العام 1938 ، جاء خال من أي مناقشة للمعيار البرجماتي للصدق . إلا إنه في هامش واحد قال : إنه ” يفضل تعريف الصدق من الزاوية المنطقية ، الذي قدمه بيرس ” .

القطيعة الايستمولوجية

إن مفهوم القطيعة الابستمولوجية ، هو المفهوم الذي يعبر في نظر باشلار عن القفزات الكيفية في تطور العلوم ويكون من نتائجها تجاوز العوائق الابستمولوجية القائمة . ولكن كما يقول محمد الوقيدي" ليست هناك قطيعة ابستمولوجية حاسمة ونهائية ، فكل فترة من تاريخ المعرفة العلمية عوائقها وعندما تحدث قطيعة ابستمولوجية داخل فكر علمي لكي تسمح بفصل ذلك قيام فكر علمي جديد. " فمثلا عند الانتقال من فيزياء النيوتنية إلى النظرية النسبية هذا لا يكون مانعا نهائيا لظهور عوائق ابستمولوجية جديدة داخل الفكر العلمي الجديد ذاته ، وهذا مايعنية باشلار عندما يقول " بان تاريخ العلوم جدل بين العوائق الابستمولوجية والقطيعات الابستمولوجية " وهذا التطور الجدلي عند باشلار يأتي ردا على النظرية الاستمرارية على مستويين .
الأول : الاستمرار من التفكير العامي إلى التفكير العلمي . إما المستوى الثاني : الاستمرار بين الفكر العلمي الجديد وبين الفكر العلمي القديم له . إن الجدل هنا لا يعني القطيعة بل التفتح أي " الفلسفة الجدلية هي الفلسفة المتفتحة التي تقبل إن تعيد النظر باستمرار في حقائقها ومبادئها " وهذا الجدل الذي يتحدث عنه باشلار خاص بالتاريخ العلمي يعني أمرين : اولهما انه لا نهاية لتاريخ العلوم ، وان ليس هنالك حقيقة علمية ما تعتبر نهائية أي إن العلم يتطور بإخضاع حقائقه ومبادئه للجدل ومبادئ للجدل ( المراجعة ) وثانيهما : يتعلق بالعلاقة ضمن ذلك التاريخ بين القديم والجديد . أي إن في تاريخ العلوم قفزات كيفية تحقق قطيعة بين الفكر العلمي والمعرفة العامة بحيث لم يعد من الممكن النظر إلى النظريات المعاصرة من وجهة نظر المعرفة العامة ، فان باشلار يتحدث في كتاباته عن مفهوم القطيعة الابستمولوجية على مستويين هما :
1- قطيعة ابستمولوجية بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية . 2- قطيعة ابستمولوجية تتحقق مع النظريات العلمية المعاصرة في الرياضيات والعلوم الفيزيائية بين العلم في الماضي والفكر العلمي الجديد الذي ظهر مع هذه النظريات . أولا : القطيعة الابستمولوجية بين المعرفة العامة والعلمية :-
يرد باشلار هنا على دعاة الاستمرارية أمثال" ( مايرسون) الذي يرى إن العقل الإنساني يظل هو ذاته عبر كل مراحل تاريخ الفكر ، فالفكر العلمي استمرار للفكر العامي والفكر العلمي المعاصر استمرار للفكر العلمي السابق له " وكذلك"( ليون برانشفيك ) الذي يرى التاريخ يمثل تطورا مستمرا للشعور ويقضي نحو تفتح هائل للعقل الذي يعد العلم الرياضي مثله الأعلى . لان التاريخ يكشف النقاب عن المتحرك وعن الديناميكي الذي لا تتوقف حركته ابد " إما " (بركسون ) فيرفض لدية باشلار مفهوم الحدس لان الحدس يقود إلى إثبات إن الحقيقة برمتها الصيرورة وليست مجرد الحياة والوعي ، والوجود في جوهرة صيرورة " ما " ( كانط) يرى الشئ في ذاته في العلم ليس مجرد جوهر بل مظهر لتقدم العلم ، كما سوف نتحدث لاحقا . فهولاء دعاة الاستمرارية يرد عليهم باشلار ببعض الأمثلة منذ اكتشاف الحقائق العلمية المعاصرة لكي يبين إن فهمها يتم انطلاقا من المعرفة العامة ، ومن أهم مظاهر هذه القطيعة ما يلي :-
المظهر الأول : هو إن دعاة الاستمرارية يرجعون إلى إثارة مسالة الاستمرارية في التاريخ بصفة عامة ، لأنهم يروا تاريخ العلوم هو جزء من التاريخ العام باعتبار إن التاريخ سلسلة مترابطة من الإحداث ، فان تاريخ العلوم كذلك يسير على هذا النحو . فيقول هيجل " إن كل دولة تجسد مرحلة جزئية من الفكرة الكلية والفكرة تفرض نفسها في التاريخ في مراحل في مراحل مختلفة من الزمان والمرحلة السائدة في حقبة من الحقب يجسدها شعب معين وهذه المراحل المتتالية تشكل تاريخ العالم " كما يقرر ابن خلدون " إن التاريخ يدور حول نفسه ، وان الدول التي تتداول الحكم ، والتي لا تتعدى فيه حكم كل منها عمر الإنسان . أنها تنطلق الواحدة منها من أساس الذي انطلقت منه الدولة السابقة " بمعنى إن الدولة الظاهرة تقضي على الدولة المنهزمة وتبدد معالمها ، وبالتالي تصبح مرغمة على إعادة البناء من جديد ، وبذلك يدور التاريخ في حلقة مفرغة ولا يسير إلى الإمام وعلى خط متصاعد وعلى هذا الأساس التاريخ . " هو تواصل وتكامل الماضي بالحاضر حيث تشكل الأعمال السابقة الأسس والأصول التي تقام عليها وتنطلق منها الأعمال الحاضرة . " ولهذا فان الاستمرار يبين غير القادرين لهذا الفهم ، وتاريخ العلوم على فهم الجدل الخاص لهذا التاريخ ، فالاستمرار يبين إن المعرفة العلمية مهما وصلت إلى درجة من التجريد والعمومية ، فهي استمرار وتطور للمعرفة العامة ، ولكن هذا الرأي لا يطابق واقع المعرفة العلمية المعاصرة في نظر باشلار . لان الاستمرارية تدعوا دائما إلى العودة بالعلم المعاصر إلى أصول قديمة . لأنهم يرون إن العلم الحاضر جاء من تلك الأصول القديمة بصورة بطيئة . ويرد باشلار على ذلك بقوله " إن ما يميز العلم الحديث هو الموضوعية وليس الشمولية الكلية ، فلا مناص للفكر من إن يكون موضوعيا ، ولن يكون شموليا إلا إذا استطاع ذلك و إلا إذا كان الواقع يسمح بذلك " أي إن الموضوعية تتعين في الدقة والتناسق بين المحمولات وليس في تجميع موضوعات متناظرة نسبيا ، فالمعرفة التي تفتقر إلى الوضوح والدقة . أي بتعبير أخر إن المعرفة التي لا تعطي مع شروط تعيينها الدقيق ليست معرفة علمية . ويقدم لنا باشلار مثال على عدم استمرار المعرفة العامة إلى المعرفة العلمية، فهو يفرق بين المصباح الكهربائي والمصباح العادي ، ويرى ليست هناك علاقة تكوينية بينهما ، ولكن يماثلان بعضهم من حيث أنهما يضيئان عند سقوط الظلام . أي إن هدفهم واحد وصورتها التركيبية مختلفة وعندما تفكر في المصباح الكهربائي من حيث انه عمل تقني علمي ، فلا يمكن أم يقول هذا العمل انطلاقا من التفكير في المصباح العادي ، بل انطلاقا من دراسة علمية تقوم بدراسة العلاقات بين مجموعة من الظواهر . إذن المعرفة العامة ليست استمرار للمعرفة العلمية كما يعتقد دعاة الاستمرارية .
المظهر الثاني : في هذا المظهر يحاولون دعاة الاستمرارية تقديم دليل على إن الاكتشافات العلمية الجديدة جاءت نتيجة لتهيئ سابق . " فتراهم في هذه الحالة يتحدثون عن التأثيرات ، غير إن هذا المفهوم للتأثير وهو محبب على الفلاسفة لا يفسر في نظر باشلار السير الخاص لتاريخ المعرفة العلمية ولا يعطي الدلالات الحقيقة للاكتشافات العلمية الجديدة . إن هذا التفسير لا يقوم في نظر باشلار إلا بقدر ما نكون بعيدين عن الوقائع العلمية . انه ليس إلا نقد للطريقة التي تفكر بها في تاريخ الفلسفة إلى تاريخ العلوم".
المظهر الثالث : يتمثل في نظرة دعاة الاستمرارية إلى اللغة العلمية بصفة عامة سواء كانت لغة الرياضيات . أو الهندسة أوغيرها . فهم يريدون التوصل إلى اللغة العلمية انطلاقا من اللغة العامة . ويرى باشلار إن اللغة العلمية تدهش دعاة الاستمرارية ، إلا أنها تمثل قطيعة مع اللغة العادية . ومن هنا " فان العلماء لا يقبل لا من يتحدث اللغة العلمية التي تعبر بصورة لا علاقة لها بالتعبير العادي ، وان اللغة العلمية تخدعهم من جهة أخرى لان العلماء في حالة استخدامهم لكلمات أو اللغة العامة يتحدثون لتلك الصورة أو الكلمات معاني دقيقة في الميدان العلمي . " فمثلا مفهوم ( الحرارة ) فان المعنى الذي يفهم منه في المعرفة العامة يختلف عن معنى مفهومة عند حديث العلماء في مجال الذرة عن الحرارة التي تتعلق بنواة الذرة .
المظهر الرابع : هو إن هناك ميزة تتميز بها المعرفة العلمية عن المعرفة العامة . وهي طبيعة موضوعها فموضوع المعرفة العلمية ليس معطى فحسب بل موضوع للفكر أيضا ، ولكن في نظر باشلار" المعرفة العلمية تفصل بينهما بالرجوع المستمر إلى التركيب العقلي " أي" المحاولة المستمرة لإضفاء العقلانية على التجربة وباستخدام اللغة الكانطية نستطيع إن نقول إن موضوع المعرفة العلمية في الفكر العلمي المعاصر يمكن إن يدعي ظاهرة وشيئا في ذاته في نفس الوقت وغير إن باشلار يميز بين الشئ في ذاته في المعرفة العلمية وبينه في المعرفة العامة" إذن المعرفة عند كانط لا تتم إلا باتحاد عمل مصدرين هما الحساسية التي هي قابليتنا لتلقي تأثير الموضوعات المحسوسة الخارجية والفهم الذي هو قدرتنا على إنتاج التصورات القبلية الخالصة التي تفكر بها الانطباعات الحسية التي نتلقاها عن الموضوعات ونركب بينها في موضوع واحد للمعرفة . فان كانط يدعونا إلى التميز بين الموضوعات التي تأتينا عن طريق الحساسية ، وبين تلك الموضوعات في ذاتها . إذن" هناك ضرورة في نظر كانط للتميز بين الظاهرة وبين الشي في ذاته ، فالظاهرة هي ما تستطيع معرفتنا بلوغه ، وهو الموضوع الذي تبدأ معرفته لدينا بالإحساس إما الشئ في ذاته (النومين – Noumene ) * هو ما يمثل الحد الذي تقف عنده تلك المعرفة . وهذا التفرقة التي يقيمها كانط بين ( الظاهر ) و(الشئ في ذاته ) تستند إلى تمييز جوهري بين الطريقة التي تبدو لنا على نحوها الأشياء وطبيعة هذه الأشياء في ذاتها . وعلى الرغم من إن هذه الطبيعة في ذاتها هي بمعنى ما من معاني موضوع للتفكير " أي" إن يميز في هذا الصدد بين الموضوع الذي يمكن إن تفكر فيه فقط ، وبين الموضوع الذي نعرفه . فالشئ في ذاته يمكن تبعا لطبيعتنا إن نفكر فيه كموضوع ممكن ولكننا لا يمكن إن نعرفه كموضوع واقعي " إذن الشي في ذاته في العلم ليس مجرد جوهر ولكنة مظهر لتقدم العلم . وعلى هذا الأساس مظاهر القطعية الابستمولوجية بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية ، تثبت كلها المكان للبحث عن أي نوع من الاستمرار ، انطلاقا من المعرفة العامة إلى المعرفة العلمية .
ثانيا : القطيعة الابستمولوجية التي تحققت بقيام النظريات العلمية المعاصرة :- لقد تحققت قطيعة ابستمولوجية مع النظريات العلمية المعاصرة في الرياضيات والعلوم الفيزيائية وهذه النظريات الجديدة حققت قفزة في الفكر العلمي ، ولا يمكن فهمها كاستمرار أو تطوير للعلم السابق وهذا الأمر أدى بباشلار إلى إن يقسم تاريخ العلم إلى ما قبل هذه النظريات وما بعدها لكي يجعل فلسفته تعكس هذا التقدم الحاصل في العلم . فالعلم المعاصر يسير بسرعة في التطور لم يسبق له مثيل ، فهنا باشلار يؤكد على " إن عقدا من زماننا في هذا المجال يساوي قرونا بأكملها من الأزمنة الماضية " وهذه النظريات التي تحدث عنها باشلار ، تمثلت في الهندسات اللااقيدية في العلوم الرياضية والميكانيكية النسبية وميكانيكا الكوانتا في العلوم الفيزيائية . ومن القيم الجديدة التي تحققت بقيام هذه النظريات كمايلي :-
1- قيام فكر علمي أكثر شمولا : تمثل في الهندسات اللااقليدية : وهي تعتبر ثورة في علم الهندسة ولأنه يختلف عن كل الإضافات السابقة التي جاء بها علماء الهندسة سابقا .لقد هيمن النسق الهندسي الاقليدي قرون طويلة الذي كان يقوم على العديد من المصادرات ومن هذه المصادرات ما يلي :-
أ- بين نقطتين لا يمكن إن يمر إلا خط مستقيم واحد .
ب- الخط المستقيم هو اقصر مسافة من نقطة إلى أخرى .
ج- لا يمكن من نقطة خارج مستقيم إن نرسم إلا مستقيم واحدا موازيا له . " فالهندسات اللااقليدية ** تعلن عن قيام فكر علمي جديد أكثر شمولا ولا يمكن إن يفهم انطلاقا من علم الهندسة اللاقليدية الذي كان سابقا عليه ما لأنه ليس تطوير لهذا العلم تدقيقا فيه وهو ليس بالتالي استمرار له . إن هذه الهندسات تقوم على أساس من مصادرات جديدة وإذا لم يكن من الممكن فهم الهندسات اللااقليدية انطلاقا من الهندسات اللاقليدية بالنظر إليها من حيث هي حالة خاصة ضمن هذه الانسياق الجديدة " لقد قامت محاولات في عصور مختلفة للبرهنة بصفة خاصة على المصادرة القائلة لا يمكن من نقطة خارج مستقيم إن ترسم إلا مستقيما واحدا موازيا له . إلا إن هذه المحاولات قد أدت جميعها إلى الاستجابة عندما حاولت إن تطبق على تلك المصادرة البرهان المباشر . وقد ظلت هذه المحاولات مستمرة إلى إن تبين بعض العلماء امثال (لوبا تشيفسكي ) * و(ريمان) إن البرهنة مستحيلة لقد انطلق لوبا تشيفسكي من مصادرة جديدة هي القائلة : بأنه من نقطة واحد خارج مستقيم يمكن إن نرسم عددا لا متناهيا من المستقيمات الموازنة له ومضى في استنتاج النتائج من مصادرته الجديدة هذه دون إن يقع في التناقض الذي كان يريد إن يستند إليه لا ثبات خطاها ليثبت عبر ذلك صدق مصادرة اقليد " إن ما يميز هذا النسق الهندسي الجديد عن النسق الاقليدي ، وبناء على تمايزه عنه بمصادرته هو تمايزه عنه بنتائجه .أي لا تختلف عنها إلا بالمصادرة الأساسية التي تنطلق منها وبالنتائج التي تصل إليها ." فالنتائج هنا ليست تلك التي اعتدناها في
النسق الاقليدي . وابرز نتيجة هي التي تتعلق بمجموع زوايا المثلث . فهذا المجموع مساوي زاويتين قائمتين في النسق الاقليدي إما في النسق لوبا تشفسكي فان مجموع زوايا المثلث يكون دائما اصغر من مجموع الزاويتين القائمتين ، وهذا الأمر يتناسب مع مساحة المثلث ." إما (ريمان ) فانه انطلق من مصادرة جديدة أخرى هي القائلة :" بأنه من نقطة واحدة خارج مستقيم لا يمكن إن نرسم أي مستقيم أخر موازي له . وقد مضي في استنتاج النتائج اللازمة عن مصادرته دون إن يقع في تناقض يثبت خطاها وصدق مصادرة ( اقليد ) ، فأوجد نسقا هندسيا أخر لا يختلف إلا في مصادرته الأساسية والنتائج اللازمة عنها . وهكذا لا يكون مجموع زوايا المثلث في هذا النسق مساويا لزاويتين قائمتين ، بل يكون دائما اكبر من هذا المجموع " إما بالنسبة للعلوم الفيزيائية : فان الثورة العلمية المعاصرة تمثلت في النظرية( النسبية الانشتينية وميكانيكا الكوانتا )**، لقد قامت النظرية النسبية انطلاقا من إعادة النظر في مسالة السرعة . فالنظرية النيوتونية ترى ليس هناك حد أقصى لسرعة الأجسام فسرعة هذه الأجسام يمكن إن تزيد إلى مد لا نهاية أذ ما خضعت هذه السرعة لتأثير جسم أخر يدفعها في نفس الاتجاه ، إما السرعة النسبية فقد كانت هي الفرق بين السرع بحيث إن تحديد سرعة جسم ما يختلف تبعا لاتجاه حركته فيما آذا كان في نفس اتجاه النقطة التي نعتمد عليها لتحديد تلك السرعة وفي الاتجاه المعارض غير إن هنالك سرعة ناقضت هذا المبدأ لأنها تضل ثابتة مهما يكن اتجاهها هي سرعة انتشار الضؤ وقد أصبحت هذه الحقيقة معروفة لدى العلماء بعد التجارب في فترة من تطور الأفكار العلمية وقائع جديدة حيث يحاولون دائما في البداية إن يفسدوا هذه الوقائع وفقا للقوانين والمبادئ السائدة . ودامت هذه المحاولات بصدد ظاهرة انتشار الضؤ من سنة 1887 إلى 1905 . وهو تاريخ كتاب انشتين * لكتابه حول النسبية بعنوان ( الديناميكا الكهربية للأجسام المتحركة ) " حيث أعلن انشتين إن ما تعنيه تجربة (مايكلسون) هو إن سرعة الضؤ سرعة قصوى بالنسبة لسرعة الأجسام المادية ، وهذا يعني عدم خضوعها لقانون السرع الذي كان بعرفة النسق الفيزيائي النيوتوني ولما اراد انتشين تفسير نتيجة هذه التجربة اقترح تصور المكان الذي ينتشر فيه الضؤ باعتباره وسط يفرض على الضؤ نوعا من الانحراف الذي يمكن حسابه مقدما . وبتأثير هذا الوسط الذي يمكن تخيله وحساب انحرافه ، أدرك علماء الفلك الدين يتأملون السماء من كواكب أو نجوم يتغير موقع كل منها بالنسبة إلى الباقيين . فكل منهم حينئذ يدرك سماء مختلفة وأيضا يتحكم تأثير المكان في ساعاتهم بحيث إن الوقت الذي يقراه كل منهم يختلف في اللحظة الواحدة ، وليس هذا فحسب بل إن كلا منهم يقدرون مرور الزمن تبعا لسرعة مختلفة أيضا .بهذا تظهر النظرية النسبية قطيعة ابستمولوجية مع الفكر العلمي السابق في الفيزياء والنيوتونية . وكذلك الأمر بالنسبة للنظرية ( الكوانتية ) التي تدعوا إلى إعادة النظر في بعض من المفاهيم العلمية . وبهذا الصدد يرى ( بلانك ) ** كما يقول عبد القادر ماهر " إن كل شعاع بما فيه الضؤ يسير وفقا للإعداد الصحيحة لوحدات أولية من الطاقة ، وهي ما أطلق عليها (الكوانتم Quantum ) والكوانتم ليس سوى ذرة الطاقة المتوقعة على طول موجة الشعاع الذي ينتقل مع الكوانتم "
2- قيام فكر علمي أكثر تفتحا :- هذا ينطبق بصفة خاصة على الهندسات اللااقليدية لأنها تعتبر ثورة في علم الهندسة ، تعلن عن قيام فكر علمي جديد أكثر شمولا وتقوم على مصادرات جديدة " فللحكم على الأنساق الهندسية لا ينبغي لنا إن نحكم عليها في المجال المجرد فحسب لان الأمر لا يتعلق بلغتين أو بصورتين أو بواقعين ، بل يتعلق كما يقول باشلار بفكرتين مجردين أو بنظامين مختلفين من العقلانية ما بمنهجين للبحث "ولقد كان قبل قيام الهندسات اللااقليدية إمام عقلانية مطلقة قطيعة ذات نسق واحد للعقلانية فهي العقلانيات التقليدية ، تكون لها وجهة نظر واحدة تفهم من خلالها كل نتائج واكتشافات ومشاكل المعرفة العلمية . وصبحنا بفضل قيام الهندسات اللااقليدية إمام عقلانية متفتحة . وهي العقلانية المطبقة القادرة على إن تعيد النظر في مبادئها وهذا يكسبها خاصية جديدة هي التفتح . " والعقلانية الباشلارية متفتحة بالنسبة للعلم من ناحية لأنها تخضع مبادئها لجدل المعرفة العلمية ، ومتفتحة بالنسبة للانساق الفلسفة من ناحية أخرى . لان الموقف العقلاني الجديد لا يرى داعيا للتردد في إن تاخد الفلسفات الأخرى بعض مفاهيمها ومقولاتها حيث تكون هذه المقولات قادرة على إن تفهمنا علميا جديدا " ويمكننا القول أخيرا إن باشلار يريد لمفهوم القطيعة الابستمولوجية إن يكون المفهوم المعبر عن تاريخ الفكر العلمي . وهو يقدم هذا المفهوم من جهة أخرى لكي يعبر به عن حقيقة أخرى يتوصل إليها بالنظر في الفكر العلمي المعاصر . وهي إن تاريخ العلوم يفهم انطلاقا من حاضرة لا من ماضية ذلك لان الحاضر وان كان الماضي ينفى الماضي من جهة فانه يحتويه من جهة أخرى . الشي في ذاته Noumene في اليونانية: يعني ذلك الذي يتم تصوره أو التفكير فيه ، اصطلاحا : يدل على الجوهر الذي لا يتصور بغير العقل . وتناول كانط الشئ في ذاته من جانبين من حيث كونه مفهوما سلبيا مشكلا في كتابة ( نقد العقل الخالص ) موضوع للعقل . كما يشير كانط إلى أمكان وجود مفهوم ايجابي للشي في ذاته كموضوع للحدس أللاحسي في كتابة ( نقد العقل العملي )
الهندسات اللاقليدية :Euclidean Geometries . بالمعنى الحرفي هي كل الأنظمة الهندسية التي تختلف عن النظام الهندسي الاقليدي ، فالمقصود بالهندسات اللاقليدية هندستا لوبا تشفسيكي ، وريمان . إما الهندسة الااقليدية هي هندسة اقليدسelude رياضي يوناني مؤلف كتاب (المبادئ) الذي صيغت فيه بطريقة منهجية الهندسة القديمة والمصادرة الشهيرة لاقليدس هي المعادل المنطقي للقضية القائلة : لا يمكن من نقطة خارج مستقيم إن نرسم إلا مستقيم واحد موازيا له .
لوبا تشفسكي ( 1972- 1856 ) هو عالم رياضي روسي كان رائدا الهندسة جديدة عرفت باسم هندسة لوبا تشفسكي ، وكان له لمؤلفات الرئيسيان هما ( مبادئ الهندسة 1829 ) و( مبادئ جديدة للهندسة مع نظرية كاملة في المتوازيات 1835- 1838 )
النظرية النسبية Theoruof Relativity : هي نظرية فيزيقية تقول بان العمليات الفيزيقية تحدد بشكل موحد في جميع الأنساق التي تتحرك في خط مستقيم وبطريقة موحدة نسبيا من واحدة إلى أخرى ( نظرية النسبية الخاصة ) وكذلك مع المسرعات ( نظرية النسبية العامة ) إما النظرية الكوانتية Quantum Mechanics : هي قسم من علم الطبيعة الذي يدرس حركات جزئيان الصغيرة وقد وضعت أسس ميكانيكا الكم عام 1924 على يد ( لويس دي بروجلي ) الذي اكتشف الطبيعة الجسيمية الموجية للعمليات الفيزيقية
البرت اينشتين Apart Einstein : ولد في مدينة ( أولم ) 1879- 1955 بألمانيا وأكمل دراسته في سويسرا وتجنس بالجنسية السويسرية وبعد اعلان نظرته الأولى في النسبية انتقل إلى ألمانيا وعمل في جامعتها تم مديرا لمعهد الامبرطور الفلكي حتى حصل على جائزة نوبل في الفيزياء تم ذهب إلى الولايات المتحدة ولقد أعلن نظريتين( النسبية الخاصة 1905 والنسبية العامة 1915 .
ماركس بلانك عالم فيزيائي ومنظر ألماني وعضوا أكاديمية برلين للعلوم بدا عام 1894 عندما كان يطور نظرية الديناميكا الحرارية للاسعاع الحراري وأصبح بلانك مؤسس للنظرية الكم

يجري الكلام ايضا عن " القطيعة الابستمولوجية" نرى ذلك في" شرعنة الايديولوجي المقدس" للكاتب حمد حمود. منهج القطيعة الاستمولوجية يقصد به دراسة الفكرة تجريديا بعيدا عن تماسها التاريخي والاجتماعي، مقطوعة عن محيطها. غاستون باشلار يقول بثلاث أشكال للقطيعة الإبستمولوجية:
1- القطع الإبستمولوجي التام والذي يقوم على الفصل بين الفكرة والمحيط.
2- القطع الإبستمولوجي القائم على الاحتواء: فالجديد يحتوي ما تجاوزه دون أن يلغيه.
3- القطع الإبستمولوجي بالتتام، وهو الذي يقول بوجود منظومتين مختلفتين في الحقل نفسه، لكل منها اتجاه. يشير احمد حرشاني في مقاله الحدود الابستمولوجية للنمذجة العلمية من خلال مفهوم الحقيقة: يشار الى وجود قطيعة ابستمولوجية بين العلم والرأي، ان الحقيقة العلمية في نظر بشلار تتعارض مع الراي الذي يعتبره عائقا ابستمولوجيا امام المعرفة الصحيحة ، فاذا كان الراي لا يمكن ان يبرر نظريا او علميا فان معارف العقل العلمي ، على العكس من ذلك ، تبنى
بشكل نظري وعقلي ، واذا كان الفكر العلمي لا يطرح سوى الاسئلة التي يمكنه الاجابة عنها فان الراي يقوم على الاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل لذلك يتحدث بشلار عن قطيعة ابستمولوجية بين الراي والحقيقة العلمية . ان الحقيقة العلمية نسبية ذلك ان تاريخ العلم لا يقوم على وجود حقيقة واحدة ثابتة ونهائية وهو ما يجعل من العقلانية العلمية ليست عقلانية وثوقية ومنغلقة ونهائية وانما عقلانية منفتحة تقوم على النفي والاثبات ، انها عقلانية ديالكتيكية في بحث مستمر عن الحقيقة لذلك اعتبر بشلار العلم في حالة ندم مستمر . ان هذا الطابع النسبي للحقيقة العلمية يبرز خاصة في العلم الفزيائي المعاصر الذي يتعلق الميكروفيزيائي فالحقيقة في اطار هذا العلم لم تعد تقوم على البداهة كماهو الشان لديكارت مثلا او التطابق كما هو الشان في الفيزياء الكلاسيكية وانما الحقيقة اصبحت احتمالية احصائية تقريبية انشائية . ان هذه السمة للحقيقة بماهي تقريبية او احتمالية لا تشكك في علمية العلم وانما هو تعبير عن انتقال من براديغم الى اخر ، الانتقال من براديغم الحتمية والموضوعية والواقعية الى براديغم الاحتمال والتداخل بين الذاتية والموضوعية والرياضوية اي انه لا يمكن القول " لا علم حيث لاحتمية " كما هو الشان للعلم الكلاسيكي بل يمكن ان يكون العلم دون القول بالحتمية ، يمكن ان يكون العلم مع الاحتمال و البينذاتية والتقريبي وهي لحظة اخرى من لحظات تاريخ العلم . وكما يقول هلبار : " ان المنطق يمكن ان يتطور خارج حدود المنطق الاقليدي " وهوما يعني القطع مع الحقيقة الواحدة والمطلقة ، القطع مع منطق الوحدة والانتقال الى منطق الكثرة والتعدد على الصعيد العلمي ( الحقيقة العلمية بين الوحدة والكثرة ) ، انها لحظة انهيار المطلق وانبجاس النسبي من خلال تحطيم الكسموس الاغريقي ونشاة الكون المفتوح و القطع مع قناعة راسخة دامت حوالي 2000 سنة مفادها ان الهندسة الاقليدية لها الصلوحية القصوى وتجاوز البداهة الاقليدية التي اصبحت " لاشعورا هندسيا " بتعبير باشلار . يمكن اعتماد علاقات الارتياب لهيزنبارغ لابراز هذه التحولات العلمية وانعكاساتها على الحقيقة العلمية وطبيعتها ومفادها انه لا يمكن ان نحدد موقع الالكترون وسرعته في ان واحد لان تسليط شعاع ضوئي على الالكترون لتحديده يؤثر في سرعته وموقعه لان طاقة الفوتون ( الشعاع الضوئي ) تنضاف الى طاقة الالكترون وبالتالي فان العلاقات بين الموقع والسرعة تقوم على الارتياب واللاتحدد والاحتمال . ان علاقات الارتياب تدل على تجاوز المفاهيم الكلاسيكية التي اصبحت عاجزة على التعامل مع هذا الواقع الجديد ومن هذه المفاهيم الحقيقة القائمة على التطابق والموضوعية والحتمية . يقول بور : " ان مسلمة الكوانتا تمنعنا من تفسير الظواهر الذرية تفسيرا يعتمد في ان واحد السببية والعلاقات الزمنية ـ المكانية ، ذلك لاننا عندما نفسر الظواهر العادية نفترض مسبقا ان ملاحظة الظواهر ، اي قياسها التجريبي ، لا تؤثر في الظاهرة موضوع الملاحظة ، هذا في حين ان المسلمة الكوانتية تتطلب منا الاقتناع بان كل ملاحظة للظواهر الذرية تؤدي الى تدخل الة القياس في الظاهرة نفسها تدخلا يؤثر تاثيرا واضحا . وبالتالي لا يمكن ان نعطي لا للالة ، ولا للظاهرة واقعا فيزيائيا مستقلا بذاته ." ان هذه التحولات التي شهدها العلم المعاصر اعادت النظر في العديد من المفاهيم والعلاقات بينها مثل مفهوم الخطا وعلاقته بالحقيقة ، فاذا كان العلم تمشيا او مسارا اليس الخطا شرط امكان هذه الحركة ؟ الا يمكن ان تنتفي هذه الحركة بانتفاء الخطا ؟ هل يعد الخطا غريبا عن حركة العلم ؟ هل يمكن الحديث عن حركة وبحث وطلب وسعي لو لم يكن هناك خطا ؟ ليس الخطا غريبا عن الفكر العلمي انه العنصر المحرك للفكر بل ان الحقيقة لا تبرز الا في علاقة بالخطا وهو ما يعني انه من الخطا عدم تقدير اهمية الخطا لانه شرط هذا المسار التاريخي للعلم لذلك يعتبر اغار موران : " الخطا في عدم تقدير اهمية الخطا " وبالتالي هناك علاقة جدلية بين الحقيقة والخطا وفي هذا المعنى يقول ادغار موران : " اكبر منبع للخطا هو فكرة الحقيقة نفسها " ان تاريخ الفكر العلمي لا يمكن ان يتاسس الا على هذه الحركة الجدلية : خطا يفترض وجود حقيقة وحقيقة تفترض وجود خطا ، خطا ينبع من الحقيقة وحقيقة تنبع من الخطا فلا وجود لحقيقة مطلقة ولا وجود لخطا مطلق . بناء على هذا الفهم الذي يقيم ترابطا ضروريا بين الحقيقة والخطا يتم تجاوز القول بالحقيقة الواحدة من خلال الالتزام بما يقوله علم من العلوم مثل الالتزام بالهندسة الاقليدية واعتبارها الحقيقة المطلقة او الالتزام بالفيزياء النيتونية واعتبارها الحقيقة المطلقة . ان هذه الوثوقية في المعرفة العلمية والاعلاء من شان الحقيقة وتنزيهها تنتهي الى جعل الخطا لامعقولا وتخرجه من مجال العقلانية العلمية لكن التحولات التي طرات على العلم المعاصر من خلال ظهور الهندسات اللااقليدية والثورة الكوانطية ادت الى مراجعة الحقيقة المطلقة لتفتح العقلانية العلمية المعاصرة على المتغير والتاريخي واللايقيني والاحتمالي والارتياب والذاتي وفي كلمة الانفتاح على ما اعتبر لامعقولا في اطار عقلانية علمية وضعية . بناء على هذه التحولات العلمية الكبرى , ايّ موقف يمكن ان نتخذه من الحقيقة العلمية ؟ هل نيأس منها ونقر بعجز العقل العلمي ام نثق فيها وننسى هذه التغيرات والازمات التي مر بها الفكر العلمي ونعتبر ذلك لم يرتقي الى مرتبة العلمية بتعلة الموضوعية والحتمية والتطابق ؟ ام ان الامر يتعلق بنشاة شكل اخر من العلم والعقل والعقلانية والحقيقة والابستمولوجيا ؟ ان هذه الاسئلة تدعونا الى التمييز بين ثلاثة مواقف من العلم : الموقف الريبي الذي فقد الثقة في العلم والموقف الوثوقي الذي يثق ثقة مطلقة في العلم والموقف النسبي الذي يتجاوز الموقفين ليقر بنسبية المعرفة العلمية من خلال الانتقال من الحقيقة الى الحقائق واعتبارا الخطا شرطا في مسار المعرفة العلمية بل شرط علمية العلم ( كارل بوبر : مبدا قابلية التكذيب او الدحض ) يقول ادغار موران : " ان هذا الطرح لمشكل الخطا يدخل تعديلا على مشكل الحقيقة ، لكنه لا يقضي عليه ، فالحقيقة غير منفية هنا ، لكن طريق الحقيقة عبارة عن بحث لا نهاية له ، فطرق الحقيقة تمر عبر المحاولة والخطا ، والبحث عن الحقيقة لا يمكن ان يتم لا عبر التيه والترحل . فالترحل يقتضي ويتضمن ان من الخطا البحث عن الحقيقة بدون البحث عن الخطا . ان من الصعب نقل تجربة معيشة ، وطرق البحث عن الحقيقة تمر عبر التجربة وربما عبر تجربة الخطا القاتلة " ( دفاتر فلسفية : الحقيقة ، سبيلا وعبد العالي ص 24 ) . ان هذه التحولات العلمية المعاصرة انشات جهازا مفاهيميا مختلفا عن الجهاز المفاهيمي السابق وجعلت من صلاحية وملاءمة هذه المفاهيم غير ممكنة الا في انساقها الاكسيومية مثال ان اعتبار مجموع زوايا المثلث قائم الزاوية يساوي
180 درجة فهذه الحقيقة ليست مطلقة وانما نسبية لانها ترتبط اساسا بالاكسيوماتيك الاقليدي . ان تعدد اشكال الاكسيوماتيك او الانظمة الفرضية الاستنتاجية يعبر عن تصور مختلف للمعرفة العلمية التي لم تعد تتاسس على ما هو فطري / بديهي / يقيني / ضروري نظرا للمبادئ التي يقوم عليها العقل مثل مبدا الهوية وصيغته : الشئ هو ما هو( ا هي ا ) وهو اساس ضروري لكل تفكير وبدونه لا تكون اي فكرة ممكنة ، الى جانب مبدا الهوية نجد كذلك مبدا عدم التناقض وهو متولد عن مبدا الهوية وصيغته : انه من المحال ان نصف شيئا بصفة ثم بنقيضها فلا استطيع ان اقول مثلا ان هذا الحبر الذي اكتب به ازرق وليس ازرقا في ان واحد . الى جانب ذلك ، نجد مبدا الثالث المرفوع وهو يتفرع عن مبدا الهوية وصيغته الايجابية : ان الشئ اما كذا او غير كذا ولا يمكن ان يكون شيئا اخر . ولقد اضاف ليبنتز مبدا رابعا الى هذه الثلاثة وهو مبدا السببية او السبب الكافي وصيغته كما جاءت في كتابه : " كل موجود له سبب كاف يجعله على ما هو عليه لا على نحو اخر " . اذا كانت المعرفة لم تعد فطرية ، في اطار الابستمولوجيا المعاصرة فهذا لا يعني انها اصبحت تجريبية حيث تكون النفس صفحة بيضاء تكتب فيها التجربة ما تشاء كما لا يعني ان المعرفة تقوم على الوفاق بين العقل والتجريبي حيث تكون " التجربة بدون مقولات عمياء والمقولات بدون تجربة جوفاء " ( كانط ) وانما المعرفة اصبحت بنيوية وهو ما يجعلنا نتحرك في فضاء معرفي اخر او براديغم اخر وهو البنيوية . يمكن ان نعتمد هذا النص لابراز الحدود الابستمولوجية للنمذجة العلمية من خلال هذا النقد الابستمولوجي للحقيقة والاعلان عن نهاية الحقيقة المطلقة في العلم : " تعرض تصور الحقيقة لتحول جذري خلال القرون الثلاثة الخيرة ، فقد كان القرن التاسع ما يزال خاضعا لفكرة الحقيقة المطلقة ، التي يتوصل اليها الفكر عندما يلتحق بالواقع : تطابق الاشياء والعقل . وهذا الخضوع تبرزه جملة الرياضي الكبير غوس وهو يتامل حول امكانية الهندسة الاقليدية : " انا منجر بالاحرى نحو الشك في حقيقة الهندسة " . فقد قاده التامل الى الطريق الذي سيقود الى تحرير الحقيقة من طابعها الدغمائي ، كعلامة على تلاق غريب بين واقع وفكر يبدو كل منهما غريبا عن الاخر . لكنه لم يكن قادرا على التخلص من هذه الفكرة المتوارثة والشائعة ، وهكذا بدا له ان الحقيقة تتبخر في نفس الوقت الذي يتبخر فيه الطابع المطلق الذي كان منسوبا اليها تقليديا... ان مفهوم الحقيقة المطلقة يتعين بالضرورة ان يرتكز على مطلق سابق على كل تجربة بل على كل فكر انساني . وهذا هو الحال بالنسبة لمثل افلاطون والحقائق الالهية عند ديكارت . اما المنهج العلمي الذي لا يعرف الا العلاقة ويود تجاهل المطلق ، فيتعين عليه ان يتخطى نقطة الارتكاز هذه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن