الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصص قصيرة

هدى توفيق

2016 / 12 / 17
الادب والفن


مسابقة أكتوبر 1998 " اليوبيل الفضى للإنتصار "
فازت الكاتبة هدى توفيق بإحدى جوائز أدب الحرب
( فى ذكرى مرور 25 سنة على أنتصارات أكتوبر )
مجلة النصر أغسطس 1998 م

درع التفوق والامتياز من أخبار اليوم [1 ] أغسطس 1999 م
للقصاصة هدى حسن توفيق
كتب عبد المنعم عبد التواب
فازت القصاصة هدى حسن توفيق عضو نادي الأدب بقصر الثقافة ومدرسة اللغة الانجليزية بالجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة التي نظمتها جريدة أخبار الآدب بدار أخبار اليوم وكانت القصة تحت عنوان " أنا تصير رجلا " يشرف علي المسابقة الأديب الكبير جمال الغيطاني رئيس التحرير ويقوم رئيس مجلس ادارة أخبار اليوم أبراهيم سعده والقصاص جمال الغيطاني بتسليم درع التفوق والامتياز للقصاصة جمال الغيطاني بتسليم درع التفوق والامتياز للقصاصة هدي حسن توفيق في احتفال كبير والجائزة المالية وقدرها 3000 جنية .


أخبار الأدب ( ساحة الإبداع ) 18 يوليو 1999 م )
المركز الثانى
أنا تصير رجلاً
إهداء إلى ح . ع الإكتشاف المتجدد فى الحضور والغياب حبيبى
هدى توفيق
بنى سويف
جاء حاملاً فى يدة كوباً من النسكافيه وفى يده الأخرى أقراص الحموضة التى يدمنها وضعها جميعها فوق مكتبه وأخذ يتأملها بإعزاز ، ثم زاغ بصره وبدا سراً عظيماً يشغله تسمر فى نظراته أطل برقبته الزرافية النحيلة وقال :
هل كان الله يعلم أن روحى ستتلف هكذا ؟ بينما القرن الذى خيرت أن أعيش فيه قد حملنى بالمزيد أن قرناً قادماً أخر كنت أتصوره يحتضننى ويدعونى أجلس فى وسط مائدته العامرة وإن كان يعلم فهل ضلت ملائكته الطريق إلى ؟
بماذا يفيدها ان أغرق فى العبوس والتذمر – لقد ظننت أن تقية مسممة لعينة لن تلتفت لناحيتى – أنا – الأن قرن بأكمله يمضى وقد تدحرج بسلام وكاد ان يلامس سريره العتيق .
لم أكن أعبا كثيراً بتفسيرك الدرامى لذاتك لكى ما شغلنى هو أن أفقد رؤية أبتسامة نادرة فوق عيون تشع حناناً غير محدود وقد تبدلت دهشتها البريئة فيما مضى حزناً ، لا أراها إلا فى وجهك وقد تضاعفت تجاعيد الجزء الأسفل كانت إبتسامتك الحاضرة تزيدها حتى لتشعر أنك امام أمرئ انهكته عقيدة روحية وغاب عنه نور الشمس فأنمحى الضوء قبل ان يذهب القرن ... كما تتصور ....أنت .
تريد أن تخاصم الحياه ، تعانق أجواء الموت ترقد فوق فراسة الأسير نظراتك الشقية القديمة غير محددة الإتجاه صورتك أشبه بضمادة ملت البلل على جبين مشتعل السخونة هانج من الحمى اللاسعة ، تتألم ألم الشكوى البائسة ، لا تطلب الحب الشفقة التعاطف ، تريد أن تغوص فى حقن المخدر المنومة ، تلتقط أنفاس الطيور هسهسات أوراق الشجر وهمهمات الحزانى والجوع والمجزوبين والمرضى.
تقول وتفرط فى صوتك المكسور المبحوح من ثقل الكلمات عليك ، تلمع الأفكار ، التفاصيل ترعى داخل رأسك كأغنبات بلهاء تصم نجاويف أذنك جيدة الإنصات ، يتنقل عمى يفتك بنور عينيك السوداوين تنعتق منها رموشك كتعريشة تسدل ستائر مظلمة ينطفى بها عقلك وبريق عينيك الوهاج بكلمات أمتزحت بأفعال وأسماء وظروف وصفات وصوتان يتهدجان بداخلك كأمواج صبيانية تعترف بأنه لم يعد هناك حدود تنصاع لها بصبر وشجاعة ، يقول عقلك أن ما حدث إثم مستحيل تخطيه إلا بدماء تشملك تغوص فيها غرقاً يقول نبضك أن شرارات نبضك تدور دوراناً عنيفاً يحمل تكهنات بإتجاه أخر تضبط به إيقاع خطواتك عن مدى حاجتك فى أن تفجر السلاسل الحديدية داخل شجن عقلك الذى لا يتكيف أبداً أصوات العشق تتسرب إلى مسامعك تتحول إلى فراشات مبهجة على جناحيها شقاوة يبتسم قلبك الدامى كرحيق زهرة جائعة لإلتهام فراشه أمسكت بالأمل كاملاً ، تسقط صريعاً كالفراشه وتبقى الزهرة القناصية حينئذ يتملكك خوف مرعب .
أنت سلة مليئة بالرغبات الأحلام المزعجة ، الهواجس المخيفة وعرق الرغبات المشهى ودموع كثيفة ، يؤرقك يقظة أحشائك التى بها رجل وإمرأة يتعانقان ، يتحابات يتباغضان يكافحان تستراً لإتمام قبلة العام الجديد ، تجلس ، تحاول أن تكون قادراً على هز رأسك البلد ، تنظر بتؤدة ترسل بالتحيات غير الودودة لكل الأشياء ، تتقيا توتراً ، أنفاساً خائنة .
المعاناه تشتد داخلك لا تحمل سوى نار مستعره ن تكافح لينتصب الحيوان الذى باخلك داخل رأسك الرخو ككرة مطاطية حبيبى ........حدق فى أحزن من أجلى من أجل النساء التى لم تترك أبوب مخالبهن الفاتنة من أجل الخراب الذى يبدو كسور تجلله وريقات سلام هزيلة ، وأصل العدو لتنقذنا جميعاً ، أوقد المصباح الذى يضىء وجوهنا ، فإذا إنطفئ زحمت الشوارع بأضرحة تنعق من فوقها الغربان والبوم .
حدق أيضاً فى عرض وطول السرير الساكن ، تأتيك زوبعة همجية تبعثر بها الوسادات ، الملاءة " بكل خجل " تلقى بالمرتبة لأقرب ناحية تكتمل حالة صرعك تشق الواح السرير كلاهما نصفين الدهشه الحزينة فى عينيك تدرك أنهما محض أمرأة ورجل لم يعودا يلتحما كما كانا من قبل أهذا يكفى أن تفصل الحدث وتكون عاجزاً عن نفيه ؟
كل ما يهمك أن حبيبتك لم تعد تقبع فى قلبك الترابى ، إنما صارت أشباحاً ، أفكاراً وأحاسيس تحدد مشيئتك وسلوكك الجديد الصراخ لا يصدر عن حاستك الثرثارة ، إنما من أشلائك التى تحاول أن تفلح فى أن تحيا ( الظاهرة والمسكوته عنه ) من رجولتك المفتوك بها ظلك على الأرض تحت وهج الشمس يفصح عن رجل اخر مفعماً شباباً وحيوية وإبتسامة هفهافة كالنسيم تخدش حياء الشمس ، أنت بدون الظل المتبعثر كتلات من القش الهش عليل مهمل .
أنت لست حراً .... جموع من التفاصيل تقبض على ىقدميك وتتحرك بها كالربوت ... مدوناً فيه ماضيك ، وحاضرك ومستقبلك هى فقط من نفت حسابات الأزمان الثلاثة تقول أنت .
إن جسدى رخيص ، جسدك ثمين لا يمنح إلا لى .
تقول هى
- أنا دون جوان تم مثلك .
أقول لك .
أنظر بصمت ستجد أن أمامك أمرأة شرهة مشربة بحنكة مستترة وأنت مروضها الثمرى تريد مخالبك أن تنهش فى لحمها الوافر .
أنت سجين فى منفى بلا عوذة أشبه بجزيرة القردة ، تسير فيها رجلاً بدائياً عارى الجسد ساتراً عضوك بورقة شجر تتسلق الأشجار لتأكل الثمار العفنة ، ترافق أبناء سلالتك تركض مثلهم ، وتحت كهوف الظلمة ينفتح قبرين ى مرأتك ورجلها المشتهى ، يتلعثم الغضب يرغى ويزيد عبر فمك دماء تسكبها كؤوساً تنهض داعيا رفقائك أن يشربوا نخبك ، يصيحوا فرحين بأصوات وتزعق ساخراً عليهم .
- لا تتركوا عظمة وحيداً .
وها أنت تدعى أنك لم تتقن بل ربما تستطيع أن تضاجع أمرأة فقد أحببتهن جميعاً فى واحدة الأحادى حطم حياتك بل تقسم أنك لم تتمكن من مضاجعة النساء اللاتى رغبنك ودون قسم أقول أن يكفى أن تشعر بهن يتدافعن أمام عتبة قلبك فيكتمل أنتصابك المفقود ، أنهن جميعاً يريدن أن ينسجن خيوط قلبك مرة أخرى لا تحزن من أجلهن لأنك لا تحبهن ، أجلس ساهراً على مائدة العضلة الأخيرة لقلبك ، ثم أختر وكن متواضعاً ، متهجماً ، ربما يعود وميض وجهك المعتم بإبتسامة جديدة لحيوان كاسر ، كشر عن أنيابك وكن ضاخك بإيقاع رغبة فكرة وحزن جديد أتياً من عمق جذور القبور .
نهر الأحداث يجرى وبنفذ إليك كسهم عرف طريق قلبك .
حين تسمع صدى خوفك ، وأنت جالس على مكتبك فجأة أنصت جيداً وأعلم أنه صدىة يتمتع به الأسوياء. لا يعنيك ألأمر برمته ، لا يحط من قيمتك حينئذ قم بعمل شجاع وهب روحك من جديد للحياه أصرخ بإستبسال وتوتر تقاوم به دوائر الخوف المتناثرة على جدران حجرتك وقل زاعقاً
- أنا لست حبيباً – أنا لست عاشقاً – أنا لست جسداً ضعيفاً بائساً – أن عواطفى وأفكارى مالزالت تقيم خلف قناعى المتحرك منذ ألاف السنين .
- أنت جرو صغير ملا وفرغ ثم ملا ولم يفرغ بعد – أنت جرذ صغير ميت اللون يقرض بأسنانه من صورتك أنت أسم أطلقه عليك وأنتعش ضحكاً ... أنت ( ... )
حبيبى أنظر ، أسمعنى ، ألتفت إلى .
هيا قبلنى دخانية نملآ بها جوفنا بإهتلاف أنواع السجائر لحديثنا الممتد .
لقد تحولت إلى حصان طائش ، ترتجل فى خطواتك تتسلق للصعود على جسد أخر ، أرجلك عاجزة عن اللحاق بأنهيارات ذاتك هناك قوة أعلى منك تمر قاطعة يديك ، تسقط على ألأرض – تتطقطق فقرات ظهرك من الألم المبرح ، ثم يناديك الخطر والعبث من كل الإتجاهات .
هل تعرفنى – أنا إلهك – تتجاوزنى لكى تخرج ! لكى تنفصل عن جسدك ! لكى تتبخر منى ! لا تسل ....، تحاول حتى عليك فقط أن تنتظر عفوى عنك أنت قدرتى ومعجزتى .
كلانا يبحث عن الحقيقة دوماً من الخائن ؟ من المخون ؟ ساعتك الحاضرة غير التى مضت فى عمر كل البشر ، ساعة ملتبسة يحدث فيها الطهر ، العهر ، الموت ، الحياه ، كلهم ينتهوا فى مساء واحد ثم يتلاقوا فى صباح واحد أين الحقيقة ؟ فحينما أحببت الزيتونة السوداء ثن نظرت للخضراء عشقتها أكثر ، وانتميت إليها بإخلاص مكلف لم تكن لتتصوره .
زوجتك تنظر إليك بإستعطاف ورجاء ،، تنظر أنت إلى أبنتكما رفيق الخطيئة الأولى ، قررت بثبات أن تسير إلى الأمام ، تشعر بإرتباك فرفيق الخطيئة يلتصق بك بشدة ويأمرك أن تدخل مدفوعاً إلى الإغتسال فى مياه المشقة الجاثمة بقوة هائلة ومرعوبة .
- ماهو مرادك؟
- أن تجتث الجذر أم الفرع سواء فعلت أو لم تفعل هل ستتحرك ؟ هل ستتجدد ؟ هل ستتنفس الصعداء وأنت تحفر للبذرة الجديدة ولكن لحظة كيق ستمهد الأرض السماء وروحك مرة ثانية ، هل هى ثمرة شريرة أخرى أم طيبة ؟ عقيمة أم خصيبة ؟
- لا عليك لا تعتد بكلام بلهاء مثلى
- ماهى السعادة ياسيدى
- هو أن تعيش ماتجترة ألأن كنازحين الوحل بإسترخاء حكيم وأنت تحتسى مشروبك المفضل فى كل مساءاتك المريرة .
- مامعنى الرجولة ياسيدى الفاضل ؟
أنت نصف المجتمع ، والنصف الأخر إمرآة تبحث عنك فى دهاليزها لتدخل أتون مغامرتك أستحوزها ، أقفز على الدقائق لتلتهمها بعنف شديد ، يبهجها لذروة لا تطاق ، حقق التحام تفتق به ذاكرتك المشحونة وتعاساتك الضئيلة حالات عشقك المفرد الذى أرضعه عقلك أطحنه كحبوب القمح والذرة أستمتع بقشعريرة فكى الكاكينة التقيلين
حبيبى ... ما رأيك فى حل أخر
مرن عينيك على مشاهدة العنف الدمار ، الجنس ، القتل ، أفترض نفسك شخصاً يابانياً عائداً إلى منزله يستقبل شمس القنبلة الذرية والإبتسامة ماوزالت تبسط شظاياها المتفجرة ، أو كن أكثر غروراً ، قائداً دفعها بقيضة قوية من يده متبهجاً أبتهاج إله شيطانى ألا يروقك فيلماً جنسياً .
حبيبى فى كل الحالات ستجد أن كل شىء يباع ويوهب ويخرب دون معادل موضوعى إذا فلنتصارع فى العطاء الإبتذال حتى نحصل على الراحة .
أستغرق فى المشاهدة بصبر وحب دون أدنى أشمئزاز أشحن قلبك بكل أنواع الرعب أعد تراكيب التفاصيل فعليك أن تقفل الدائرة المفتوحة فى عقلك دائرة لا تشبه دائرتى غير القابلة للإغلاق حتى تتنفس العالم بأسره بداخلك شيئاً فشيئاً أنجز خلودا لوجودك الغامض بأن تمجد ضروراتك اليومية البسيطة أختطف لحظات نشوتك كصياد ماهر التقط البق من لف رقبتك وأمضغه بشراسة أسعد بمداق لنوم جديد وملمس جديد . أفتح حصون عقلك الصغير الملىء بالتساؤلات ، والحيرة سر طاووساً وكن محارباً على الدوام .
نخب الدائرة المستديرة
كم هو قاس عشقنا من نحبهم ويدعوا حبنا ونحن نجلس حول المائدة هى نفس الجلسة نعاقر ترياق الجنون ، الخبل ، الهبل ، تقسم الأدوار بالتساوى كأنها أرغفة خبز ملحمة الجوعى – نستنشق مشاعر الشفقة ، أحاسيس الجراح الأثمة ، نتجاذب أطراف الحديث شاحبين ، مبهوتين عنيدين ، متلصصين بما فى صقرية تزدحم أنفسنا بحسابات دنيئة مصرين على الأفصاح البشع ، معبئين كبراميل القطران والزفت مرصوفة بحالات عالية من الكراهية ، العشق ورغبة الإنتقام .
أهمس فى أذنك المتأكلة فى ......... زمن مضى ياحبيبى مارست روح الإله احببت كل المخاطر ، راهنت بحياة بشر أخرين معاقين من وجهة نظرك لهوت بمشاعر من أحببنك تأمرت على هذه ، تلك أقتسمت اللذة مع أصدقائك ، صاحبت وحوش الدخان الأسود ،كان يطبق عليك الرجل الذى لا يتألم فى نهاية الأكلشيه المزيف ( عاشقة وحيدة ) أنا أسطورة الأستهتار أنا ، أنا من لايعلم من أنا ولا تدرى تماماً العيون من أخرك .
نرصد صاحب الدور الأتى سريعاً إلى جوفنا المتحمس ، على مضض نمرره كدواء مر لابد منه ، نرتب الأحكام ، ننمق الكلام بإستعارات وكتابات تشاركها حركات أيادينا العاجزة ، قسمات وجوهنا المثخنة بنتوءات الهلاك تسعى إلى البغض تلفه ، ورق سلوفان ذى ألوان براقة تسحقك بلمعان عيون قطة أفزعتك ظهورها فى عتمة الليل تظل تتجذب بإنبهار مأخوذ ولا تدرك أنك على شفى الهاوية سماد أجسادنا وعقولنا الخبيثة يطرح فقط من يخرج بأقل خسارة .
كفاك زهواً ... كفاك تباهياً ... لا تنكر فسقك . لا تنكر مثاليتك ليست كائنات الحياه مفردات لعادات تمارسها ياحطمها . ليست ألعاباً سحرية ليست حاوياً يتعفف كما يشاء أنظر إلى المرآة وقل أنا لست المثالى الكامل أنا مدان أذا الكل برىء .... من الأفضل ياحبيبى أن تلوذ بصمت حقيقى دون زيف دون البحث عن أن تحظى بإحترام أحد .
مقلتى عيناك المتقاعسة تهذى .
- أنا اليأس وأنت كمن تنادين فى الجبال على العدم .
- أنظر إليك بحب دفين وأقول
- عليك أن تعيش هذه الهوة بعمق .
- تقول
- لم يبق الكثير من دمى بدون أن يصله سم زعاف .
- حبيبى نحن لانرى لا نسمع ، لا نلمس ، لا نشم ، لانفكر ، لا نحب ولا نكره كما كنا هكذا تتعدد لغة الرحمة ، فكرة التسامح ، عبث عالمنا ، نحصد مذاقاً جديداً لمغامرات عذراء .
- عسكرت التفاصيل عند تلافيف عقلك أمتزجت تحولت لنسيج هلامى متفرع بأياد وأرجل كالأخطبوط .
- أنت محتاج لقارب نجاة فضائى ، تتلآلآ فيه عيناك المنطفئة بوهج البرق ترقص طارداً دوامة عشقك لوصلك الباخوسى – حينئذ يغدو تعبيرك المأسوى أكثر سكوناً .
.......... أنت عابر ......... عابر ...........عابر .
أنتظر ......... هل فانتك رؤية المسيح بالأمس وهو معلق كفرخة واهنة مساقة للصلب ومن جوارة اللصان الشهيران !!!
كان المشهد غريباً ولإن شئت صاعقاً ، لكنه ما عاد ليدهشنا أكثر من لحظة وبعدها يمضى ........ ويعبر ...............
العصور الجديدة ( ديسمبر 1999 م )
تحت نفس الشمس
هدى توفيق
" بقد أختفت حشيشة القنطريون من التلال ولم يبق لى سوى الشمس الحارقة " و . ب ييتس
جلست على "كنبة " الأستوديو رافعة ساقها اليمنى كطفل تحفضه أمه ، شابكة بها ساقها اليسرى ، فأبان ذلك عن بياض تائه ملبد بعرق أفرزه خروجها غير المعتاد نهاراً ، أدى إلى نوم مضمخ بألم الحر اللافح الذى عانته طوال الساعات الثلاثة التى قضتها بتأفف مع صديقتها غير المحببة ، الشمس فى هذا الوقت من الصيف . لم تشعر بأصدقائها وسط إغماءة النوم البائسة ، تجربة رعديدة ماكرة ، تقتلع زهرة فتتنها ، وتقطع أنيل تعبيراتها بشكل أخرق.
- كيف لها هذا ؟
كل شىء فى شقة صديقها .. الجدران الوسائد ، الماء ، وملمس الأثاث المتواضع كأصابع شموع ملتهبة . كأن الشمس قابعة وسط الشقة كغراب فاتحاً فاه للإنقضاض عليك ونهش ملامحك الإنسانية بتوحش بالغ أكلت سمك القرش الذى رغبته منذ فترة أزادته البيرة نصف المثلحة طعماً ماسخاً . تلقم لحم السمكة الهائلة المفروشه على السرفيس ، متلألئة مستحوذة بشكل مخروطى على كل الطبق الصينى ، مستسلمة كبنت جديدة فى العشق تثقب من كل الجهات . تنافر يعانقه تنافرات أخرى تجعل اللقمة تثبت فى حلقها .
تناولا الغداء بسرعة غير مقصودة لمأدبة حافلة بإجتماع الأصدقاء الأربعة ، شعرت بوعكة فى جسدها جعلتها تسير مترنحة بليد دون أى تعبير أو إيماءات محددة عما تسعى إليه بالضبط ، عقلها يتدرج فى الإشتعال كورقة تحترق ، العرق يتفصد من أعضائها كتغلغل نباتات طفيلية يجب بترها لكيلا تعوق نمو النبات الواضح الخير الطيب رأت أنها قد وضعت حداً باتاً قاطعاً لأية علاقة بنفسها ، أية ثقة بجسدها فقدت شعورها بالألفة تجاه العالم .
دلفت للإستكانة فى نفس المكان ، بنفس الجلسة الغريبة الموحية بلقطة جنسية واضحة ، قفزن بخفة ضاحكة ، ساخرة من زوج صديقتها الوحيدة ، فهو يمارس حياته الأن بألية مفرطة ، أخذت تتكلم بهذيان محلله سلوكه .
- لابد أن ترساً من تروس عقله قد خرب أمام إصلاح بقسة الصواميل ، تخريب ما أدى إلى إصلاح ما دفعه إلى الإعتناء بعمله ، فبدأ كأرستقراطى القسمات ، منتشياً حاد الإستجابات تجاه الأفعال ، الأحاديث ، التى كانت تُضحك وتُجلجل ، تعرف شرب الخمر ، وكل أنواع المخدرات المتاحة اليوم ، والمنتشرة بين عامة الناس .
رماها بنظرة باردة ملؤها الإمتعاض ..
ضحكت أكثر وأستأنفت بقوة أكبر سخريتها ، غلفته هذه النظرة تأكيداً ، كان صديقها لا يسقط نظرة عنها ضاحكاً بإستمتاع ومأخوذاً إليها تماماً كأنه يتفحص تحفة نادرة على شفا شرائها وأقتنائها كاملة فى داخله الأجوف . عرض عليها الزواج أكثر من مرة ، رفضت ونظرت بتعال مبالغ فيه مقتحمة عرضه كما يشق بطن الذبيحة لأستئصال الضار منها .
- أنا أريد أن أكون حبيبتك ، أريد نصيبى الكامل من المتعة ، لا إذن من الأوراق دون قرار غير قرارى ، أريد أن أمسك زمام الأمور بيدى هاتين .
لم يعط جواباً ، ووجه نحوها عينين صقريتين ، ثم نظر إلى قبضة يدها المرفوعة فى الهواء كعلم طليق ، تلبس وجهها برهة تعبير عميق الجدية به شعيرات دقيقة جداً ينتظر من ينقرها نقرة صغيرة فينساب هدير الدم الحى ، ليتوهج جنس لا مثيل له يفتح الشهية لامتصاص ينهش حتى النخاع .
جاء متسللاً وهى لا تزال منهمكة فى قراءة " الغريب " لألبير كامو ، ترقد نفس رقدتها الأولى كمولود رضيع . رجل أصدقاؤها دون أن تبالى ، أو تشعر بحرارة الفراق ، منعها كسل الحرارة الساكن فى جسدها كحفاش يقظ لا يهمد أبداً ، حبيبها متورم ومنتفخ من جراء وطأة الشمس ، فكل هذه الحرارة تنيخ فوقها وتقف فى وجه إقدامها على أى فعل أو ربما من ألأفضل لها أن تنظم المكان الذى فقد أتزانه فى تعاملنا معه بفوضى .
جلس قبالتها ، لمس جبد ساقها المشوه رغم بياضه الناصع ، المرفوعه بإثارة ما داخلته فجأة همس ، وقد وصلت يده إلى أخر ساقها عند سروالها البنى غامق اللون ذى المقابض البلاستيكية على هيئة فراشه يكسوه عند منطقة الفرج وردة ستانية ، يلمحه غير مكترث ، ممتنع عن أى حوار معه .
هتف بحبور :
- يبدو أنك متعبة ؟
- أعقب كلامه يقول :
- العرق مازال ينزل منك كأنه غزو لا يقهر .
- بادرته بتململ :
- يأنهض للإستحمام .
- نظر للحظة صامتاً وصرخ مبتهجاً .
- لقد أخذت بيد صديقنا إلى قاع مدينة موحلة بأقوالك الساخرة .
- ضحكت مجاملة .
- لم أقصد غير الضحك وملء الوقت لقد صبت الشمس فى عقلى شواظ من نارها ، كأنه طهو يطهى على نار متأججة منهوراً منوكاً لا أستطيع أن أفرق أهو حى أم ميت .
- علقت بذهنها كلمة ميت فأرتجفت .
أردف بود :
- تعبيراتك مخيفة ، هيا أنهض للإستحمام ، فصباح اليوم أت علينا أيتها المزعجة ، وأن كانت قد اقتنعت أن الحل هو الإستحمام ، دلفت إلى حجرة النوم ، ودون مقاومة ألقت بجسدها على السرير بخفة ودلع . يقابل نظرها دولاب بني صغير على شكل مستطيل .
- لا شك أن هذا هو ما يطلق عليه دولاب العزاب ، ذو دلفتين بأنغلاقهما يشهد ماهو أشبه بلوحة كبيرة لجمع من الصور مصنوعة من الورق المقوى لبيكاسو ، قد ألصقها حبيبها ، كم فتنتها هذه الفعلة عاليه الذوق بالفن الأبدى والإحساس الكامل بالوجود الحياتى المميز وسط الأخرين اللاهين .
- تطلعت إلى الرسومات ، غاصت داخلها تفكر وتحلم أحلاماً ذكية ، تنظر إليها بالساعات تتملى كل صورة بألوانها رسمت أمس أو قبل أمس فقط . ياله من عبقرى !!
- أخرجت قميصاً من ملابسها الداخلية التى تحتفظ بها بجانب ملابسه القليلة المهندمة ، وأن كانت تتسم بنكهة خاصة ، فهو يهوى البنطال القماش والقميص المقلم والسادة ، تشاركهما عادة ربطة عنق لونها بعيد تماماً عما يرتديه ، فيحدث فى نظرك لفتة مدهشة كأنها فرقعة سقطت عليك من حيث لا تعلم .
تلكأت فى سيرها قاصدة باب الحمام ، نزعت جلبابها بإزاحة الحمالتين عن كتفيها النحيلتين كجسدها ، رغم أن صديقها اخبرها وهو يقبلها خلسه عند حافة الحوض فى المطبخ أنها سمنت قليلاً عندما لامس بكلتها يدية مؤخرتها ، ترنحت سائرة فى الحمام غير أنها لم تتمكن من فك مغاليقه البدائية ، فهى تخشى الماء ، وبالتالى لا تستعمل " الدش " مطلقاً ، أعتقاداً منها أن مياهه تسحبها إلى الغرق .
سألها صديقها متوقعاً إجابتها :
- إذن أنت لا تحبين البحر ؟
- أجابته صارخة بالرفض .
- كيف .. إننى أتمنى لو سافرت إلى أية مدينة فى شفينة بعدة أدوار ، أرى البحر أعاشره ، ألمس وجهه الضخم ، وأقف على أعلى حافة فى السفينة وأجمع هواء العالم فى فمى .. ليتنى أفعل هذا .
نسى سؤاله وأنساب مع حلمها واعداً .
- سيحدث ياحبيبتى قريباً .
حاولت ذات مرة بنصيحة من صديقها أن تخوض تجربة " الدش " أرتعبت وكاد يغمى عليها ، صديقها يجذبها برفق مرة وبعنف مرة ، إلى حد ما تناست والقبلات الرفيق المتوحد مع قطرات المياه المنسدله بهديل الرغبة ، تفنى الحدث الكبير . فى النهاية لم تتكرر وهى بمفردها الجرأة لتفعلها مرة ثانية . وعندما يئس صديقها لم يسألها .
بدأت طقوس أستحمامهما ، أقتعدت على كرسى الحمام الخشبى ، أفردت شعرها البنى بدأت تغتسل باللوفة فاتحة الصنبور المتجه إلى الدلو ، أنزعجت لخرير القريب إلى أذنيها ، فاجأتها مياه شديدة اللهب ، فأصابت أصابعها لسعة حارقة ، صرخت وتأوهت ، فالسخونة كغمة جثمت على قلبها النازف من ألم الحر المفجع ، أحست بها كالجراد يحيطها من كل جانب ، باشرتها الدموع .. أتكأت بذراعيها على ساقها العارية ، منكسة رأسها كمريض نفسى ، نعم بجلسته المفضلة .
أخذت تغمر جسدها البض بمياه فاترة ، ناعسه الجريات على الجسد الساخن ، حكت جسدها بعناد حتى تذهب قطرات العرق . صادفها شعر خشن أسفل فرجها ، فأبتعدت عنه بتقزز كمن يطأ قدمه سهواً خراء فى الطريق إلى حيوان ضال . كثافته ولنه الأسود كطعنة نجلاء ، أربكت – مصادفة – قلبها الشاحب .
هتفت بإجفال تشنجى .
- لا .. لا بل سيقوم بعمله على أكمل وجه .. حتى لو عج الشعر أعضائى ذاتها فأنا مشتهاة له فى أقذر حالاتى .
تضاربت الأفكار ، الكلمات ، الأحاسيس ، المشاعر داخلها . ملأت عقلها أصوات " حلة " نحاسية ، قررت اللفرار من هذا الحمام المتأمر بعد أن سمعت خرخشة فى مقعد الحمام فأحست بأنه فأر يستعد للظهور ، بهتت لحظات متذكرة يوم كانت تغط فى النوم ببراءة طفولية وإذا به فأر هرعت مذعورة إلى خارج المنزل بقميصها المصفر الشفاف حينئذ كانت أمها أمام البيت ، تشترى من بائع البرسيم الذى يمر كل صباح ، لتسليم وجبة الطيور ، ما أجمل هؤلاء الناس المستيقظين مبكراً فى الشوارع والبيوت مهللين بالشمس الجديدة والنهار العاجى المرمرى ، أستعداداً لتقصى بواكير النهارات الغائبة عن أذهان النائمين المفلطحين .
صرخت أمها بشكل عادى غير معهود عليها :
-ماذا تفعلين أيتها السافلة ؟!
بينما تسمر بائع البرسيم فى مكانه الذى لم تلمح غير عينيه الحولاوين الضيقتين ، تلعثمت والخجل يملؤها ولا يمنعها من الهرب ، والإحتماء بأمها بعيداً عن الفأر ، حتى لو كانت عارية .
هتفت تبكى :
فأر ياأمى .. الحقينى كان نائماً بجانبى .. يالهوى .. يالهوى .
جذبتها أمها بغضب وأشمئزاز أهدر معه كل هدوء الصباح المرتسم على وجهها المعبق برضا عال بعد صلاة الفجر الطاهرة ، طار الخبر كحمام زاجل بين أهل الحى بمداعية ساخرة ذات مغزى .
- ألم ترى " إغما لادوس" صباحاً هاها .. هاها ؟!!
هرعت من الحمام مرتدية قميصها ودون أن ترتدى سروالها ، فكل ما فى الحمام يهدف إلى مناورة متقنة التدبير .
أنطلقت بأقصى سرعة إلى الشرفة نظرت إلى السماء نظرة ثاقبة تريد بها أن تمخر عباب السماء بجراة أفعوانية إلى أقصى حد ، فرغم عريها الداخلى الكامل لا تستسطيع أن تتنفس الصعداء ، الغيوم الملبدة تملآ سماءها نسمات الهواء مخنوقة كان هناك من يحجزها عن المرور ، من خلف المساكن كانت تلمح نور النهار الحاد القادم بقوة ليفترش صباحاً ثقيلاً على النفوس ينزلق العالم مبتعداً ، تبتئس كل الكائنات عاجزة عن إقامة علاقة ، فهو وقت لا تنتفع فى مكافحته ، إرادة أو أشتياق ، واللهب الشهير المنبعث من عيون الشمس ، ينتشر بوحشيته والجو صامت سمت العجائز .
أرسلت تنهيدتها العميقة إلى الشمس التى ذكت على النفوس ، وتشبثت بسياج الشرفة ، شددت أعصابها كلها كى تنتصر على الشمس بخمارها الثقيل الذى تصبه فوقها ، رافعة وجهها محدقة إلى السماء ، وقد تلبس وجهها تعبير مشئوم الإنفعال ، تأقت نفسها إلى الفرار من الشمس ، ومن الجهد وصبت إلى الخطوة بالظل ، إلى الراحة .
لم تعد تشعر إلا بدقات صنج الشمس المنهالة على جبينها ، هذا الحسام المحرق سينهش أهدابها ويفقأ عينيها المتوجعتين ، إنها نفس الشمس ، نفس الضوء ، يتفقان لحرق خدى وجبينى ، وقطرات العرق سوف تتراكم فى حاجبى ، أنها بعينيها تلك الشمس التى أصلتنى نارها اليوم ، وعروقى تنبض تحت جلدى بإبتئاس لتلك الحرارة المحروقة وقد غشتها بغلاله سميكة على جفونها ذلك النقاب الحارس الأمين بدأ التنفس شاقاً عليها ، جمعت شتات جأشها وضحكت تهذى :
- لن أسأل نفسى أبداً . ذلك السؤال الساذج من يبعث الشر ناحيتى ؟ الوجوه المتكبرة المرتعشه ذات التصرفات المتعجرفة تضرب بأعينها الميته ، فتغمر السماء بالريق الأسود ، فيرتفع عالياً فى السماء عبر السحابات ، وعبر الهواء الساكن الترابى الملامح ، فالشمس اللافحة زبائنها ، ينسلخون مكممين بفوهات الداء اللعين ، ينظروف إلى لا شىء ، أجساد ملتصقة وإحساس وحيد .
- الإنتظار
- الإنتظار













سطور ( مارس 1999 م )
الرقص علي البحر
هدى توفيق
لا أعرف جيداً أن أكتب إلا علي ورق مُسطر ، أميلُ عن السطور كطفل بدأ يتعلم أن يكتب وبجانبه معلمته تدفعه إلي الأمام كلما نزل بخطه إلي أسفل ، كأنه يشرع للاستحمام في الترعة . تجن الأبلة وهي ترفع يده إلي السطور الواضحة كغبائه .. علاوة علي ذلك اهزأ من بعض الحروف فى أعرها الاهتمام الكافي ، أتقن حفظ أية أغنية من المرة الأولي ، أظنك تدركين هذا يا حبيبتي ، فكثيرا ما طلبت مني أن أغني ما يحلوا لك في أية لحظة ... عندما شرعت في الذهاب إليك حتي لا يفوتني ميعاد القطار المسافر إلي الأسكندرية ، منحتني الحياة صدفة اللقاء بك ، كان النهار لا يزال عفيا لم يأكله البشر بعد . وكنت اخشي ألا نتقابل لأن كلينا سيأتي من اتجاه آخر ، حتي رأيتك بجانب كبير تضعين كيسا من البلاستيك الأسود ثم نزلت علي الأرض ثانية ركبتيك تقذفين بقططك الصغيرة فينكمش جميعا كبوتقة تنصهر بصرخاتهن الصغيرة نداء علي القطة الأم وظهر كامل جسدك أمام عيني فرأيتني في أسود عينيك ، وجمت وأسرعت تقولين :
- ماما مش عايزة القطط علشان أمهم ولدتهم في دولابها وأفسدت ملابسها – لاشك أنك توقعت أن أؤذيك لكنني أحببت أن بك ولو قليلاً من البشعة والقسوة كما أن في وجهك لغة تحاكي عصفوراً بريا . ما لفت نظري أيضا هو رائحة إبطك وجسدك من الحر الشديد الذي فاح مع رحلتنا الشاقة التي حملنا رآياتها معاً لنسافر للإسكندرية . أردت أن ادخل جسدك لتملأني كامل رائحته التي أعرف أنها ستزول عبثا باستحمامك ..
أشد ما جذبني إلي العالم للحظة هو أن أراك وأكون معك ، وأنت تعاينين لغة اكتشافك الأولي للبحر ، خشيت أن أعضاءك قد تتحطم كلما نظرت ، رقصت ، رقصت وأزدت كلما تفجر الموج بزبده الرائع ناحيتك ، اندفعت كجنية البحر تنادي الحب ، عشاق أفيينون أن يستلهموا لي ولك روح الزمن ، تتجمع ملائكته ، عبيده ، ورسله أن يحرسوا لحظاتنا .
يجذبني ماء البحر العنيد ، قلبك الذي ألمحه مرسوما في كف يديك وكفك العصفور في براج كفي .. جالسين كنا ننتظر موعد إقلاع قطار الرحيل ، كحبات الرمل لا زال البلل فيها ، كلما التقت عيوننا أعرف أنها تضحك وتحلم حلما أخر ، بل وتتخيل أقاصيص أعظم ستحدث إذا ركبنا قطار النوم معا ، كان القطار كأنة بيت سنسكن في أمانة إلي الأبد . نحتسي الخمر لنطفئ برد الشتاء المحبوب ونشتهي لذة الحب ، نتحدث بألفة وبصوت لا نعرف مدي انخفاضه حاضنين زجاجة الخمر الملفوفة بإيشارب ذي لون اخضر ولامع .. ساحر اشتريته لك ، أسكب طعم الخمر اللاذع بهدوء .. أحب الحياة أكثر وأكثر وكلما غاص القطار آكلاً الحياة امتد هدوء .. أحب الحياة أكثر وأكثر وكلما غاص القطار آكلاً الحياة امتد الأمل .
عندما انفتح باب القطار الفولاذي يعلن أننا وصلنا ، ألقينا بأنفسنا علي المحطة ، أحسست بأنني رجل آخر وأنك امرأة أخري غير اللذين كانا هنا قبلاً .. جلسنا علي مقهي محطة القطار ، نلتقط أنفاسنا استعداد للفراق ، نحتسي الكركدية الدموي وننظر إلي العالم فتتعمق بؤرة السخرية والمرح في جوفنا السكران .
لمحت وجهك ساخناً مليئاً بالحيوية ، وملامحك مأخوذة بذهول ودهشة مألوفة لدي ترددين – ماذا جري ؟ القطار أتي بنا إلي هنا .









الثقافة الجديدة ( الهيئة العامة لقصور الثقافة – مارس 1998 م ) العدد 114
حلم كوميدي
هدى توفيق
1
" تحت تأثير المخدر الفتاك المصاحب لخيالات العقل الباطنة يظهر المحظور كاملاً "
أحلم أنني اجاذب رجلا من الذين اعتدت أن أقابلهم في حياتي ليومية ولا ينشغل عقلي بكثير مما يقولونه أو يفعلونه ، فهذا يحدث لي ولغيري كثيرا ، يتجسد الحلم في أني أعيش حالة حب معه خارجة عن مقياس كيف ؟ ولماذا حدث هذا ؟ أخذتني اللحظة .. احتضنت كل الأشياء في حلمي حتي ذاب جسدي العاشق فجأة هكذا ، وغاصت نفسي بجرأة فيحضنه ، لمحت نظرته تخترق قلبي ، فيمنعني بلمسة من يده أن أكمل أي تبرير ، أي تحليل يفسد هذا الطقس الذي يجب ألا يفسد مهما كانت حسابات العالم الخارجي ، أفقت مندهشة – شاعرة بظمأ شديد إلي الماء ، متخلية أني أسمع أصوات تحول أن تخيفني فاعتقدت أنها أرواح شريرة تبعث بداخلي روح الشر ليصل إلي أعمق حلمي المستحيل .. نظرت إلي السماء فلم أجد سيدها الليلي القمر ولا حراسها .. فزعت من هذه العتمة التي تغمر السماء .. وقلت لنفسي ان روحا شيطانية هبطت أثناء سيرها وأحبتني .. اخترقتني دون أن أعي .
2
كنت مليئة بالنعس الشهواني ، ولم أستطيع الصمود أمام تيارات عقلي المكبوتة .. يعتلج صدري بكلام له صبغة شوق يفتك بي كندف السحاب ، لا أعرف كيف أمسك بها ..
نمت ولم أستعذ فالحلم كان متجسدا بداخلي من رأسي إلي إخمص قدمي ، وتكرر الحلم .. أحببته هذه المرة أكثر .. اتسع ابتهاجي به .
3
هذا الرجل الذي أعرفه من سنوات ، بل أراه كثيرا في العمل ، بيننا مودة وألفة وخوف .. خوف كل منا علي مشاعر الآخر ، واكتساب حق أنه زميلي وصديقي ولا يجوز أن لا يخاف عليّ ، أو يهمل أي حدث في حياتي دون أن يهتم ، رغم ذلك فهو ، يحمل تجاهي بذرة العلاقات البريئة إلا أنني ضبطت نفسي في لحظة متلبسة ، انظر إليه بشدة ، وتكاد عيني أن تلتهم عينيه ، روحي هائمة تريد أن تدخل إلي عمق أعماق جسده ، بل أريد أن أندفع نحوه ولو سهوا ، فيحضنني حضنا كبيرا طويلا أعترف فيه له أنني لا أعلم كيف لم أحبه من قبل ، وأن ما بي الآن ما يجعلني ألتذ لذة مرة تعاند بها طعم الخمر في فمك ، بل أروع . انا دفؤك في ليالي شتائك ، ولطف في جفاف حياتك .. التي تشمل أمرين العمل الذي لا تؤمن به وتمارسه بقدر عال من الاستخفاف ، وجلوسك علي القهوة . تفني وقتك كما يفني القمر الشمس ويصنع الغروب . احبك ولا أجد ملاذاً . أقولها ببساطة مستحيل أن أفعلها في حياتي العادية ، وعندما أبحث عن مميزاتك أجد أن أهمها في نظري .. أنك مسكون بمعرفة العوالم الجديدة .
4
يتقلص الحلم الثاني المتكرر عند مشهد واحد وأنا نائمة في حضنه ، لا أفيق من إغماءة الحب العظيمة . يتكرر الحلم ، وكأن عقلي بشكل لا إرادي يعيش حالته الواقعية ، لا يقدر علي استكمال حالة مملوء بها جسدي ، وبشكل لا إرادي أيضا يمارس عقلي الحرج الواقعي ، نفس مشبوبة كجمرة نار ملتهبة تحاول أن تدفعه ، فيقف المشهد عند هذا الحد علي غير خاطري . يدور الحلم في دائرة مغلقة ، لا أعرف كيف افتحها طوال الليلة الملعونة ، استسلم ، أحاول أن أعلل لنفسي ما أفعله ، أنني أقترف إثم اللحظة المحظورة ، وأنها مختلفة عن لحظات الحب التي تباع برخص . لست ممن يقال عنهن إنني ملوثة بطعم الحب المبتذل ، تارخي يعبر عن إنسانه ملتزمة ، لا أفقه في صنع علاقات اليوم والساعة ، وإن كانت لي صديقات ممن تربطي بينهن علاقة قوية قد حكين لي عما أشبه بذلك . واحدة منهن أخبرتني أنها حلمت وهي نائمة مع آلن ديلون ، استمتعت كثيراً . تمنت لو تحلم به كل يوم رغم أنها لم تصرح به إلا لي . أخري حلمت أنها تعيش حالة خيانة دون معرفة زوجها ، تحاول أن تطرد هذه الفعلة الأثيمة بوابل من المشاعر ، والإخلاص تجاه زوجها ليسامحها .
5
عندما اقترب النهار علي الاختفاء ، ظننت أن طيفه سيتركني ، ويذهب . الليلة الثانية آتية وعذابي يشتد ، وجسدي توجع ، إلا أنني كنت مملوءة بالرغبة فيه ، كلما همست همسة أو نظرت خلفي رأيته يناديني إلي أن جاء الليل فكنت كمصاصي الدماء الذين يهربون من النهار ، ليعيشوا حالتهم الحقيقية ليلاً – كما سمعنا هكذا أنا ... مارست الليلة الأخرى .. أستمتع بالحلم ، بمشهده الواقف عند حدود ، بخيل في أن يعطيني أكثر وأكثر كما أرغب أنا .
6
لم ينلني أي إحساس بالذنب كما حدث لصديقاتي ، قررت في صباح اليوم الثالث أن أذهب إليه في مكتبه الجديد ، بل ذلك كان يعمل بجواري في نفس العمل لسنوات ، من الألفة ، الانسجام والضحك المتبادل إلي أن نقل كترقية لمكتب آخر بمفرده .
دخلت مباشرة دون أن اطرق حتي الباب ، نظرت إليه نظرة قائلة له هيا قل ما عندك ، واجذبني إلي الحلم الجميل ، كان مشغولا برسم دور جدير يليق مع الحجرة متوسطة الاتساع ، قابلني بترحاب ، طلب لي قهوتي المعتادة ، صمت عن الكلام ، ظل يتكلم عن مشاكل الوظيفة الجديدة .
7
تركزت في بؤرة عقلي : هل لو فعلت هذا ماذا سيحدث ، أحسست أن الكلام سيمحى كل ما حدث ، تمنيت لو كان باستطاعتي أن أكون صماء بكماء .... لكنت هلاً للعيش حتى المائة من عمري .
8
إنني لا أثق في الطرف الآخر ، فأنا أخشي العشق إلي حد الامتلاك ، والوصاية المملة . إنني في النهاية لن أعيش فعلي الحر كما أريده ، ما حدث كان حلما وإلي النهاية أريده حلما ينتهي بمجرد أن أعيشه . يبدو أنني سأصل إلي نصف الحدث ، وعلي أن أكتفي بهذا ... لا .. لا .. بل سأقول فأنا أحبه ، تأهبت لأفتت النفس المعلقة كيمامة .. استيقظت علي استمراره في نفس الحديث يتشدق بالكلام ، يفعل حركات مضحكة ، يسخر بشدة دون أن يضحك ، ضحكت ثم ضحكت ، سألني :
- فيه إيه ؟
- أبداً .
- أصلك تشبه ممثل كوميدي قديم بحبه قوي يا أخي .

حالات سوء تفاهم ( أخبار الأدب 9/3/2008 م)
أنا تصير رجلاً فى الورشة الإبداعية بالزيتون :
أقيمت فى الورشة الإبداعية للزيتون ندوة لمنقشة المجموعة القصصية للكاتبة هدى توفيق بعنوان " أنا تصير رجلاً " حيث ناقشها الناقد حسن سرور والكاتبان سيد الوكيل وجمال زكريا مقار وأدارها الناقد حسن بدار .
بدأ الوكيل حديثة بالإشارة إلى الزخم الحكائى الذى تتسم به المجموعة حيث لا قصة تشبه الأخرى على الرغم من تكرار بعض الأفكار والشخصيات مثل شخصية زينب وشخصية جوهر كما أشار إلى أنه فى المجموعة ليس هناك وعى بقصدية ما وإنما هناك فيضان من الحكايات والتفاصيل وكل لحظة فى الحكى تشكل بداية جديدة ، " عندما تكون الذات محنشدة ووراءها زخم من الخبرات والعلاقات يصبح يصبح الكاتب مقيما داخل عمله ، ولذا فالشخصيات تتكرر أحياناً " والنغمة النشاز في هذه المجموعة هي القصة الأولي والتي تمني لو أن الكاتبة قد حذفتها .
جمال زكي مقار تحدث عن التفاوت الفني في مستوي القصص فهناك منها ما هو عال فنيا جداً وهناك ما هو ضعيف ، وأشار التحديد إلي قصة " فاعل خير " التي تحوي بناء مترهلا وارتكبت فيها الكاتبة كل " الموبقات " القصصية من المماطله اللغوية والركاكة حتي النهايات غير المبررة ، بخلاف قصة " زينب والبحار " مثلاً التي تتسم بسرعة الايقاع وجمال اللغة ويصعب تصديق أن من كتبت هذه هي من كتبت تلك ، وهناك قصة " عفاريت الحكي " التي يقوم بناؤها علي السيولة ولا يمكنك الإمساك بالقصة حيث تستخدم الكاتبة ما يشبه الشعر فيختفي القص تماماً .
بدورة تحدث حسن سرور عن حالات سوء التفاهم داخل المجموعة ، الذي يقوم في الأصل بين أفراد كاملين لكل منهم داخل مختلف عن الآخر ، أما هنا فيحث لأسباب خارجية اجتماعية . فسوء التفاهم بين السكير وامرأته في قصة " اسكتش من الجحيم " منبعه أن الأول يعيش في عالم الخمر وزوجته تعيش في عالم الأحلام .
وفي قصة " زينب والبحار " تختلف صورة البحار عن الصورة التي تخيلتها زينب وهو ما يخلق الصدمة . واختتم سرور كلامه بالقول أنه يري فارقا كبيراً بين هذه المجموعة ومجموعة الكاتبة السابقة .
أما الكاتبة هدى توفيق فقد اختتمت الندوة قائلة أنها تعترف أن تعدد مستويات السرد في مجموعتها أحياناً ما يسبب لبسا لدي القارئ غير أنها تري أنه من حق الفنان الخروج عن الأساليب التقليدية للحكي ، وأضافت : " أنا تعمدت هذا الأسلوب لأنني أري أنه علي القراءة أن تكون شاقة بالنسبة للقارئ " .

حكايات هدى توفيق عن العاقر والاحوال
( القاهرة الثلاثاء 1مايو 2007 م )
هدي توفيق صدر لها عن مركز الحضارة العربية مجموعة قصصية جديدة تشتمل المجموعة على تسع عشرة قصة منها : " رسوم متحركة ، تحت نفس الشمس ، النملة وأثار فتافيت الرجل البدين ، مدرب النمور ، عصا الشيخ مصطفى ، الإصغاء للتعفن " . يذكر أن هذه المجموعة القصصية هي الثانية لهدي توفيق بعد مجموعتها الأولي " أن تصير رجلا " الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة .









كوابيس العاقر والأحوال
( أخبار الأدب 6 مايو 2007 م )
بين أجواء الحلم والكابوس تدور أجواء مجموعة الكاتبة هدى توفيق والصادرة عن مركز الحضارة العربية بعنوان " عن عاقر وأحول " . الكابوس في المجموعة مختلط بالموت والجريمة . بحس بوليسي دقيق تصف الكاتبة ، في القصة التي تحمل المجموعة اسمها ، جريمة قتل قام بها الأحوال ضد ابنه تكشف لنا في أثناء سير مجري التحقيق عن علاقة شاذة بابنته . أحيانا ما يضيع هذا الحس البوليسي ليصبح الموت هو محض كابوس مثلما في قصة " المسافر الأخير يموت ببطء " حيث حادثة واحدة علي الطريق يموت علي إثرها كل راكبي السيارة باستثناء مسافر واحد كان هو الدافع للحادثة ، من وجهة نظر القصة علي الأقل . يقول المسافر : " إن وجودي الثقيل الوطأة يبعث في أي مكان يذهب إلي قبضات الموت . من منكم يزيح بأظافره المعدنية الحادة وجودي الثقيل ؟ "
تبدأ الكاتبة قصتها " عصا الشيخ مصطفي " بنداء غريب إلي القارئ . تقول : " أيها القارئ المغمور واللا قارئ المقهور هل تقرأ قصتي؟ هل تعتقد في حقيقتها ؟ هل لديك ظنون في بأنني معتوهة ؟ مجنونة ، بأنني كائن غير موجود ، أرتدي ميكروسكوب الحياة ..... لا تنكر أن الناموس قد امتص دماءك كما يريد في أثناء حياتك المتسربلة بالعار ، المستسلمة لعالم البعوض وعالم سنواتك المضطربة . بينما أنت تغدو وتروح بلا استقرار بين الشوارع والحارات والبيوت مثل أفعي لا تمل من تغيير جلدها ، تبحث عن حاجاتك بمخلب وحش أناني ، صريحة ، جارحة بقلبك الشاكي دائماً . "
المجموعة تنتهي بدراسة نقدية للناقد مجدي أحمد توفيق بعنوان " الكاتبة حتي يكون الوجود محتملاً " يتناول فيها قصص المجوعة وينهيها بـ : " هذه كتابة ازمة . تسأل عن عالم بغير معني . مغترب مهمش خرافي . الكتابة إعادة ترتيب للمفردات حتي يتولد عنها معني . حتي يكون وجودنا محتملا . "
.








هدى توفيق مؤلفة صعيدية تنضم لموكب المبدعات لمصريات
" عن عاقر وأحول " .. قصص لكاتبة موهوبة ينقصها الاهتمام باللغة
الكتابة عن الكتابة شئ صعب . لكن الهدف منها ينبغي أن يكون دائما هو فتح الطريق أمام الكاتب ليري إمكانية تطوير عمله بعين الآخرين التي يجب أن تكون موضوعية ، وأن تظل في الوقت ذاته عاطفة تتوخي في الأساس دفع ما هو إيجابي لدي الكاتب إلي الأمام ، خاصة إن كان في مطلع حياته الإبداعية . وهدي توفيق اسم جديد من بني سويف ينضم إلي عالم الكاتبات أكثر نضجاً وتمرساً مثل سلوى بكر وسحر الموجى وعزة رشاد ونعمات البحيري وسمية رمضان وميرال الطحاوي ونورا أمين ونجوى شعبان ، وغيرهن ممن رسمن بدرجات وألوان متفاوتة مشهد " الكاتبة النسائية " في العقد الأخير . ومع أن عدد الكاتبات في ازدياد ، إلي إننا نادر ما نري كاتبة من صعيد مصر تحمل علي كتفيها عبئاً مزدوجاً من التفاعل بين مشاكلها كامرأة وبين الضغوط الاجتماعية الواقعة عليها من مجتمع شبه مغلقاً وصف قسوته من قبل طه حسين ويحيي حقي وآخرون .
فهل استطاعت هدى توفيق أن تقدم لنا صوت بيئتها الخاصة وأن ترتقي به ليغدو صوت الهم العام ؟ في قصص مجموعتها " عن عاقر وأحول " الصادرة عن دار الحضارة العربية لن تجد انعكاساً محدداً للبيئة الصعيدية ، كما قدمها لنا مثلاً بهاء طاهر في " خالتي صفية والدير " فالكاتبة تقدم نفسها وقصصها إلي حد كبير خارج البيئة . في الوقت ذاته تقدم هدي توفيق نفسها خارج إطار الكاتبة الأنثوية التي احترفت ما تتصوره إدهاشاً للقارئ بتفاصيل الجسد والجنس ، فتلك التفاصيل قلما تشغل حيزاً لديها ، إلا عند الضرورة الفنية كمشهد استحمام البنت في قصة " تحت نفس الشمس " . إذن فإننا لسنا بإزاء كاتبة أنثوية تحفل قصصها بوصف الجسد باعتباره كما يدعون ممراً لاكتشاف العالم ، ولسنا أيضاً إزاء كاتبة تقدم لنا موضوعها عبر أو بواسطة بيئة مصرية ذات مذاق خاص .
نحن أمام كاتبة موهوبة ، تخيرت أداة صعبة هي القصة القصيرة التي لم تعد تلقي عناية من الكاتب وأول ما يصدم القارئ علاقة هدى توفيق باللغة ، إحدى أدوات الكاتبة الأساسية ، إذ يتصور الكثيرون أن اللغة لا تحدد شيئاً في بناء القصة أو مغزاها ، المهم أن تكون مفهومة ! إلا أن قدرة الكاتب علي التعبير الدقيق مرتبطة بحجم وثراء قاموسه اللغوي ، ولم يعرف تاريخ الأدب في مصر والخارج عملاً أدبياً عظيماً مكتوباً بلغة رديئة ، كما أن كل الكتاب الكبار هم لغويون عظام ، ويكفي أن تتذكر في هذا المجال نجيب محفوظ فاللغة الرديئة تعني في واع الأمر صوراً أدبية رديئة ، وفكرة غير دقيقة . وإليك مثال مما تكتبه هدي توفيق : " أفردت شعرها " وتقول : " العارف لكل الأمور " بدلاً من " العارف بكل الأمور " وقولها " النملة متشبثة علي قدمه " بدلاً من " متشبثة بقدمه " ، وهناك أمثلة لا تنتهي ، بعضها لا يمس اللغة ، بل مجرد تسرع كقولها : " كمن كان جندياً في الحرب البلشفية الروسية " ، مع انه ليست هناك حرب تسمي بذلك الاسم ، ومع هذا فلا بأس بأن نستعيد ما سجله يحيى حقي ذات مرة وهو يصف معاناته مع اللغة قائلاً : " قد اكتب الجملة الوحدة ثلاثين أو أربعين مرة حتى أصل إلي اللفظ المناسب " ، أو عبارة أوسكار وايلد الشهيرة : " كنت متعباً بالأمس فقد قضيت طيلة النهار لأضع فاصلة ، وطيلة الليل لأحذفها " ! ومع ذلك فإن ثمة نفساً موهوباً وحاراً يتخلل ما تكتبه هدي توفيق ، لكنه يحتاج منها إلي عكوف صادق علي قضايا كثيرة فنية ولغوية وفكرية . وفي قصص المجموعة تتردد الكاتبة بين عالمين : عالم القصة القصيرة المبنية علي أساس وجود العالم الموضوعي الخاضع للفهم وللزمن المتسلسل كما في قصتها الجملية " النملة وفتافيت الرجل البدين " ، أو " المسافر الخير يموت ببطء " ، وعالم يتشظى فيه الزمن والموضوع بحيث تصبح الكتابة مجرد تنقل سريع وحاد للخواطر والانفعالات لتصوير لحظة بحد ذاتها مثلما هو والحال في قصتها " منشورات منتصف الليل " التي تظل نقطة مشتتة بين الكثير من الأفكار والمشاعر ، وإن كان أسم القصة يوحي بعكس ذلك . وقد يتخيل البعض أن القصة القصيرة شكل أدبي سهل ، لكن كاتبة كبيرة معاصرة ومعترف بها هي إيزابيل اللندى تقول : " إنني اكتب الرواية لأنها أسهل كثيراً من القصة القصيرة " ! وهذا الشكل الأدبي القصير ، العصي الآن علي تعريف دقيق ، بحاجة إلي قراءة واستيعاب لكل إنجازات القصة القصيرة ، بل أن يشرع الكاتب في خوض مغامرة تجديد ذلك الشكل ، أو قبل أن ينزلق إلي الكتابة وفق ما هو شائع . وفي النهاية ، فإننا ننتظر الكثير من كاتبة موهوبة مازالت سانحة أمامها كل فرص الإبداع والنجاح . أحمد الخميسى
( اسم الكتاب " عن عاقر وأحول " قصص قصيرة – تأليف : هدي توفيق )
( الناشر : دار الحضارة العربية)
جريدة المساء الأسبوعية ( السبت 16 من يونيه 2007 م )
يقدمها : محمد جبريل
المكتبة . عن عاقر وأحول
مجموعة قصصية لهدى توفيق . يقدم لها الدكتور مجدى توفيق بأن الكاتبة تمارس فيضاً متعاقب الأمواج من العبارات الغنائية لكتها تعى أن هذه الكتابة – مهما أسرفت فى غنائيتها – فهى تنهض على هامش عالم من العمر ملىء بالأحداث والشخصيات ، وهذا معناه أنها على وعى تام بأن الخطاب الغنائى ، المسترسل فى غنائيته ، سوف ينتهى عند لحظة يعود فيها إلى عالم الأحداث ، فليس من الممكن أن يظل الخطاب منفصلاً عن العالم إلى غير نهاية ما لم ترغب الكاتبة فى أن تتحول إلى شعر محض والشعر يحتمل – فى أهم صوره – أن يكون غناء للذات خالياً من الأشارة المباشرة إلى حدث أو واقع .الناشر : مركز الحضارة العربية.
الجمهورية العدد الأسبوعى الخميس 10 مايو 2007 م
كتاب وكلمة نقد
هموم الشباب .. واغترابه عن العالم في عاقر وأحول
من نفس زاوية النظر – تقريباً – تشارك هدى توفيق في مجموعتها القصصية الأولي " عن عار وأحول " معظم كتاب جيلها في رؤية الذات والعالم تلك الثنائية التي ستظل هم كل مبدع حقيقي ، ومحكاً رئيساً لكل إبداع .
تضمنت المجموعة ثماني عشرة قصة قصيرة . شاع في جميعها هم فضح العالم وكشف أدق تفاصيله سواء أمام الذات الراوية كمحور من محاور السرد أو أمام المتلقي باعتباره مرآة للعمل في لغة بسيطة موحية متوترة في أغلب أجزائها .
تأرجحت المجموعة بين كتابتين : كتابة تتكى علي مفهوم تقليدي للقصة القصيرة حيث يصبح هم القصة الأول هو بناء هيكل متماسك من الحكي " حدوتة " قد يكون الراوي جزءاً منه أو قد يكتفي بتحليله – من الخارج – والوقوف عليه وعلي هذا المنوال جاءت معظم قصص المجموعة .
فنري مثلاً في قصة " ثلاثي أضواء المسرح " وعشقهم له والعقبات التي واجهتهم حتي انتهي بهم الأمر إلي الضياع في زحام القاهرة ، وبه إلي هذا السرفيس لا شك أن الكاتبة تضع أمامنا هيكل حكاية تقف هي منه موقف المتأمل ، قاطعة هذا التأمل بعبارة أظنها تحمل قدراً من المعاناة الموازية – لازم تيجي المسرح يا محمد ....
أما الكتابة الأخري التي طرحتها المجموعة هي كتابة مغايرة ، تطرح مفهوما آخر للقصة القصيرة باعتبارها فناً تجاوز رؤية البناء المتكامل إلي بناء مجموعة من الثقوب إن لم نقل إلي الهدم الذي لا ينظر للغة باعتبارها مجرد وسيلة لطرح فكرة او مجموعة لأفكار رجل باعتبارها دالاً هاماً وفعالاً من دوال العمل السردي .
يظهر هذا المفهوم في ستة منشورات جاءت تحت عنوان " منشورات منتصف الليل حيث تجلي هذا المفهوم بشكل جلي في المنشور رقم "2" المعنون بـ " العجز " وفيه لا نجد هيكلاً للحكي بل مجرد رصد محاولة – أظنها فاشلة – وهو متشكل بصيغ وتراكيب وفراغ " .
هكذا تصبح الكتابة هماً لذاتها وتتلخص معاناة الكاتب في عجزه عن القيام بهذا الفعل هذا العجز الذي نعانقه بنشوة " يائسة " في نهاية المنشور حيث تقول : " عزيزي الورق .. النصر لك " .
لعل أهم ما يميز المجموعة قدرتها علي كشف عوالم النفس البشرية ، ورصد معاناتها ، وصراعاتها في جمل قصيرة " مشحونة " بمجموعة من التوترات التي إن دلت إنما تدل علي رهافة حسن الكاتبة ، ومدي وعيها ، وقدرتها علي سبر أغوار ذاتها . خالد حسان ناقد وباحث بكلية آداب
الدستور ( الأحد 5 اغسطس 2007 م )
الكاتبة : هدى توفيق
الكتاب : مجموعة قصصية ( عن عاقر وأحول )
الناشر : مركز الحضارة العربية
عدد الصفحات : 112 صفحة
أستطاعت الكاتبة أن تلم بين دفتى مجموعتها القصصية عوالم متعددة مليئة بالأحداث والشخوص التى تنبت كلما أنتقلت إلى قصة تالية .
[ ترانيم الحزن والسحر الأسود " عاقر وأخول " .... ياللهول ]
كتب سامح قاسم
" كان اللقاء مبهوتاً بوحشة الليل وشوق باعة أطول وأطول من لقاءات التوجس والفزع الذى يحولنا إلى قطع صامته ، شعيرات بيضاء وأنت تنظر داخل جسدك وقلبك وتسأل : هل سريعاً هكذا تستجيب للمشيب داخل مفردات حواسك الحافرة مع زمن الطغيان ".
هذا مقطع من القصة الأولى فى مجموعة هدى توفيق الصادرة عن مركز الحضارة العربية والتى تتميز بالغنائية إلا أنها غنائية واعية وغير مفرطة بشكل لا يخل بالكتابة القصصية .
عند القراءة الأولى للمجموعة تستشف رائحة وعبق السواحل وروعة وإختلاف الألوان التى تراها هى ككاتبة ليس كما نراها نحن " كانت تبحث عن أوراق ملونة بألوان الأحمر والأزرق والأسود والأبيض . فقد قررت أن ترسم أشكالاً مختلفة من هذه الأوراق الملونة . جلست متكئة على جدار الحائط . عيناها زائفتان لا يحملان أى دهشة أو حماس لعمل شىء . تعجبت وأندهشت عن ماذا تبحث بالضبط لتشكل هذه الأوراق الملونة ".
عندما تنتقل بين قصص المجموعة تقرأ إحداها والمعنونةبـ " تحت نفس الشمس " وكأنك تستمتع لموسيقى حالمة تنبعث من غرفة أحد الموسيقيين وليكن غرفة بيكاسو .
" خرجت من غرفة بيكاسو وذهبت تجلس عند نفس الجدار ساقاها فى جلستها وقد حسمت قرارها داخل نفس أطمأنت أخيراً : سأفعل أشكالاً موسيقية على شكل الأورج بأصابعه السوداء والبيضاء تحاكى بها الحياة بكاملها وداخلها العميق . أستلهم بها روح الحياة بكاملها ودافعها العميق .
فى بعض قصص المجموعة ترى الحزن ليس كما نعرف وإنما له ترانيم ولون أبيض . " إن مثلى ياعلى يجب أن يحبس فى قمقم مختوم . فاجأها صمت الحلم المتكرر الملعون الذى يعصر بحياتها ويحولها فى لحظات كبيرة إلى حبل حزن ناصع البياض . مثقوب بعينين خضراوى اللون ، يلمع محجريها ببرق لعنه ما تؤرق منامها وتجعل الأبرياء قتلة .
لا تنس الكاتبة هدى توفيق أن تسرد قصة ضمن مجموعتها عن السحر الأسود الذى لا يتأتى إلا برضا الشيطان . وعنونت قصتها بـ " عاقر وأحول " وهى نفس القصة التى تحمل المجموعة أسمها .
" إنه عقد برمه الأحول مع الشيطان . توضأ بالبن وربط المصحف على قدمه اليسرى والتقى فى مكان مهجور كلما فعل فعلة شريرة أزداد قوة ورضا عنه شيطان السحر الأسود ".
فى إحدى قصص المجموعة تحاول الكاتبة مخاطبة القارىء ربما بمباشرة تبعدها عن فن القصة إلا أن مضمونها ربما ينأى بها عن المباشرة .
" أيها القارىء المغمور واللاقارىء المقهور هل تقرأ قصتى ؟ هل تعتقد فى حقيقتها ؟ هل لديك ظنون فى بأننى معتوهة ، مجنونة ، بأننى كائن غير موجود ، أرتدى " ميكروسكوب " الحياة . أدخل منظاراً فى أمعائك الدقيقة ، ستدرك أنك غائب ومغيب ، تعيش فقاعة هائلة شفافة بالتفاهة ، تشاهد التليفزيون تقتل عقلك ، تسمع أقوالاً ليست أقوال الحياة هيا أنتبه وأعرف أن الناموس وأنت تغط فى لغز العقل الباطن بإرادة نائم يامغفل ، قد أسبح جبينك بحبوب حمراء لا تبث الألم أو الشعور بالكحة .
دراسه شاملة لبعض قصص هدى توفيق للمجموعات الثلاث
مجدى أحمد توفيق
الأحزان المختلطة لا تقتل البسمة
" عصا الشيخ مصطفي " ،
و" ترانيم الحزن الأبيض " ،
و" عفاريت الخكى "
ثلاثة نصوص أراها تمثل قسماً متميزاً من سائر القصص في مجموعة هدى توفيق .
لا أقصد بالتميز أنها أفضل القصص ، فأن أفضل أن يكون حكم التفضيل متروكاً للقارئ يحسم كما يشاء ، له أن يختار النمط الذي تمثله القصص الثلاث ، وله أن يختار النمط الآخر الذي تمثله أية قصة من بقية قصص المجموعة .
ولكني أقصد فحسب الإشارة الي وجود نمطين من أنماط كتابة القصة في المجموعة يختلف كل نمط منهما عن الآخر اختلافاً لا يؤدي بحال الي أن تفقد المجموعة وحدة الشخصية ، أو تعجز عن أن تصور روحاً واحدة لكاتبة واحدة تبسط روحها علي قصص المجموعة كلها .
أما النمط الأول فهو يقوم علي إدخال بعض التقنيات التي تفجر القصصية ، وتولد منها عالماً غريباً ، تدخلها علي موقف إنساني درامي بسيط يحتفظ للقصة بالقصصية ، ولا يخرج بها الي نسق من الكتابة عبر النوعية يتعذر معه التصنيف بين الأنواع الأدبية ، تعذراً تاماً ، وإن بقيت مواضع ، أو عناصر ، من التقنيات السردية ، تربك التصنيف بعض الشيء .
وأما النمط الآخر فهو يعول ، في المحل الأول ، علي المشهد الإنساني ، يطوع له التقنيات ، ويحكيه ببساطة ، ولا يشغل القارئ عنه .
أتصور أن الفارق بين النمطين واضح بهذه الصورة ، ولكني أتصور ، كذلك ، أن التقنيات التي أشير إليها لن تتضح إلا بوقفة بسيطة مع القصص الثلاث ، ومع قصة من القصص الأخري في المجموعة . لنبدأ مع القصة الأولي .
اقرأ هذا المطلع :
" أيها القارئ المغمور ، واللاقارئ المقهور ، هل تقرأ قصتي ؟
هل تعتقد في حقيقتها ؟ هل لديك ظنون في أنني معتوهة ، مجنونة ، بأنني كائن غير موجود ، أرتدي " ميكروسكوب " الحياة ،
أدخل منظاراً في أمعائك الدقيقة . ستدرك انك غائب ومغيب ، تعيش فقاعة هائلة شفاقة بالتفاهة ، تشاهد التليفزيون تقتل عقلك ، تسمع أقوالاً ليست هي بأقوال الحياة . هيا انتبه .........."
هناك فوائد كثيرة في هذه الفقرة . أولاها انها تشير من خلال " القارئ المغمور ، واللاقارئ المقهور " الي تصورها للقارئ ، وهو تصور يري أن مجتمع القراء – وبخاصة قراء القصة – مجتمع صغير محدود ، إن لم نقل إنه نادر . وتشير عبارة " اللاقارئ المقهور " الي سبب قوي من أسباب القلة ، وهو انتشار الأمية – اللاقراءة – في بلادنا . ولا يخلو الفريقان : القراء ، والعاجزون عن القراءة ، من مصير مؤسف ، فالفريق الأول مغمور ، بمقدار ما يعجز الأدب في بلادنا عن أن يكون باباً لسعة الدخل ، أو للمكانة الاجتماعية ، المهمشين ، لذين تقهرهم ظروف الحياة ، وألوان السلطة قهرا غير رحيم . ونستطيع أن نقول إن التهميش – بمعني وقوف المرء خارج دائر الضوء ، وخارج مدي الرعاية والكسب ، ناهيك عن السلطة أو القوة – كلمة مناسبة لوصف الفريقين جميعاً ، فكلاهما مهمش ، وكلاهما عاجز .
وفي مقابل بيان الفقرة لتصورها للقارئ ، نجني منها فائدة ثانية ، هي بيان تصورها للذات أمام نفسها ، وأمام الآخرين . وهذا البيان هوما نستفيده من أحكام العته والجنون ، والغياب عن الوجود ، في الفقرة . تشعر الذات بانها غريبة ، او مغتربة . وتشعر بأنها محاصرة بأحكام للقيمة تمثل وسائل للنفي ، والتغريب ، وأشكالاً من العزل ، والتغييب .
وفيما بين الفائدتين نجني فائدة ثالثة ، يمكن أن نري فيها محصلة للفائدتين السابقتين او نتيجة منطقية للمقدمتين السابقتين . هذه هي وظيفة الكتابة .
تكاد تتخلص هذه الوظيفة في عبارة : " هيا انتبه " .
وظيفة الكتابة ، ههنا ، تنبيه ، وإثارة ، واستفزاز ، وتحريض ، وإيقاظ .
تري الفقرة أن حياة الناس ضرب من الغياب والتغيب ، وتتخذ علي هذا التصور مثالاً وبرهاناً مشهد الجلوس الي التلفاز ، وتلقي مواده تلقياً سلبياً لا يقوم علي التفاعل الإيجابي ، ولا ينشط في المشاهد العقل النقدي ، بل يجعله " يقتل عقله " ، ويصير " فقاعة هائلة شفافة ( ممتلئة ) بالتفاهة " ، ويمتلئ بأقوال مصنوعة صنعاً في ضوء قوانين إعلامية لا تخلو من تزييف متعمد للحقائق المرة . وبمقدار ما يصغي المرء لأقوال التلفاز ، ينفصل انفصالاً كبيراً عن أقوال الحياة نفسها ، وأصواتها ، وحقائقها ، او نبضها . ويصير " الناموس " الذي يحكم حياة المتلقي هو ناموس التغييب الدؤوب اليومي ، الذي يألفه المتقي ، وتجرفة دواماته ، فيقبل عله ، ويصير التغييب غياباً إرادياً محضاً ، لا يستمرئه فحسب ، بل يسلتذ به ، ولا يشعر معه بنزيف العقل والدم المستمر طوال الوقت .
والطريقة التي تنهجها الكتابة – حسب الفقرة الحالية – لتنبيه الغافل ، هي أن ترتدي ميكروسكوب الحياة " فتفتش فيها عن حقائقها ، وعن آلام لمهمشين فيها ، لكي تكون فيها صورة " أدبية " مناقضة للصورة " الإعلامية " او تكون صورة إعلامية يصنعها الأدب تناقض الصورة الإعلامية التي يصنعها الإعلام . وإذا كانت الصورة التي يصنعها الإعلام تخاطب الحواس لتحذرها ، فإن الصورة التي يصنعها الأدب تخاطب العقل تطالبه بالانتباه ، والتحليل ، وعمليات الاستنباط ، ليدرك حقائق الحياة التي ينشغل عنها طوال الوقت . وبعد مخاطبة القارئ ، ههنا وسيلة من وسائل إثارة عقله ، وحثه علي التفكير النقدي والاستنباطي ، وحثه ، كذلك ، علي التحول عن صورة الإعلام المصنوعة ، الي صور الحياة الحقيقية .
وعلي هذا النحو تفهم لماذا نري الذات نفسها محاصرة بأحكام العته ، والجنون ، والغياب ، فهذه الحكام جزء من وسائل التغييب العامة التي تتناول المهمشين جميعاً في جنبات المجتمع قاطبة .
وفي ضوء هذه الأخطار تمضي " عصا الشيخ مصطفي " من مخاطبة القارئ ، الي شخصيتها الرئيسية شخصية مطر ، ومن الخطاب بضمير المتكلم الذي يعود الي المؤلفة عوداً واضحاً ، الي الخطاب بضمير الراوي الغائب العليم الذي يحضر بداية من قوله : " الواقع أن مطراً كان في تلك الآونة عكس ذلك ، إنه رجل في أواخر الثلاثين من عمره ، فياض بالعافية ، شديد العذوبة ، مشغول البال دائماً بشئ ما ، ويتطلع الي بلوغ هدف لعله رفيع جداً أو صعب جداً " ، ثم تمضي القصة من خطاب الراوي الغائب ، الي خطاب الراوي المتكلم الذي يعود ضميره بوضوح الي مطر نفسه ، لا إلي المؤلفة ، ولا إلي الراوي الغائب :
" من يوم مولدي وامي تشعر بأنني كائن غير متكيف تجاه عالم الأسرة المجيد ، إنني بذرة شؤم او ذرة نجاح ، نعتتني باسم من أسماء الطبيعة كانها تريد أن تخلدني بعنوان الشتاء المرادف الحبيب لنا ... "
وفي اللحظة التي يظهر فيها صوته يواجهنا بمشكلة الأسم التي نفهمها من الفقرة لأسبق في مخاطبة القارئ ، فهذا شاب " غير متكيف تجاه عالم الأسرة المجيد " ، وعدم التكيف معناه التحرر من نواميس التغييب العامة الي عرفنا أن الكتابة تحاول مقاومتها لجل الألتفات الي الحياة الحقيقية ، وأصواتها غير المزيفة ، والالتفات ، ههنا ، إلي الطبيعة يمثل هذه الفكرة . لا غرو ، إذن ، يحتاج الراوي الغائب الي أن يتفق فقرة طويلة في وصف وجه مطر ، اقتطفنا منها مطلعها فحسب ، فالراوي يريد أن يؤكد علي الطبيعة الاستثنائية لمطر بوصفه واحداً من الخارجين علي الناموس ( = قوانين التغييب ) ، وهو لهذا يمثل وعياً مختلفاً يوصف بأنه " غير متكيف " كما توصف الكاتبة ، في الفقرة الأسبق ، بالعته ، والجنون ، والغياب .
وتؤهل هذه الصفات مطراً لأن يدرك ما في الحياة حوله من دواع قوية للإكتئاب ، ولكن الناس حولة لن تفهم منطقه ، وتتصور أنه ليس مريضاً نفسيًا بل هو ممسوس ، قد تلبسه الجن . من ثم يظهر الشيخ مصطفي بوصفه الرجل الذي يفترض فيه عندهم القدرة علي إخراج الجن من الأجساد بعصاه الرهيبة التي لا يحتمل الجن ضرباتها .
ولن تكون مخطئاً إذا ذكرتك عصا مصطفي بعصا موسي ، يساعدك علي هذا أن الأسمين مقصوران . ولكن التشابة ههنا قائم علي التناقض في الحقيقة ، ذلك أن عصا موسي كان هدفها أن تكشف زيف السحر وخرافته ، في حين تسعي عصا مصطفى إلي أن تصنع له سحراً ، وتنع الناس به .
وفي مقابل شخصية مطر : المثقف اليساري المعماري ، الحزبي ، المتابع لحفلات الشيخ إمام ، وللسينما الحديثة ، تأتي شخصية الشيخ مصطفي التي اضطرت معها القصة إلي التحول ، من جديد ، عن ضمير المتكلم العائد لي مطر ، إلي ضمير الغائب المحيط بأبعاد مصطفي ، وكما بذلت القصة جهداً غير قليل في بناء صورة خاصة لمطر ، فهي تبذل جهداً مماثلاً بناء صورة خاصة لمصطفي . ولن يفوتك الالتفات إلي " حسناء " الزوجة البوسنية لمصطفي التي تشير إلي ظاهرة عرفتها مصر إبان أزمة البوسنة والهرسك ، وهي ظاهرة انتقال كثيرين من فتياتها المسلمات إلي مصر لإقامة يها والزواج من أبنائها . وقد سمحت هذه الشخصية مع شخصيات أخري مثل شيخ النحاتين للقصة باستطرادات وتحولات في بؤرة السرد وسعت من عالمها ، واتاحت الفرصة لإنشاء جو تغريبي لا يخلو من ابتسام مع " الكيمو " ، الجني المدعي لمطر ، والوعي يتواثب من اطراف من الثقافة الشعبية ، مثالها أبو زيد الهلالي ، إلي أطراف أخري من التاريخ ، والسياسة ، في لمحات سريعة غير مستوفاه ، حتي انتهت القصة عند مشهد رعب مطر في مواجهة عصا الشيخ مصطفي رعباً لا يخلو من دواعي الابتسام كذلك .
والإشارة لي دواعي الابتسام في القصة تؤكد أن تصور الكتابة لوظيفتها ليس تصوراً مغرقاً في الكآبة بحال . وتعد شخصية الأب لطيف في " ترانيم الحزن الأبيض " صورة ثانية من الشيخ مصطفي ، والشخصيتان كلتاهما بريئتان من الدين ، أو لنقل الدين برئ منهما ، فهما يصوران جوانب من الغيبوبة السارية في الحياة ، قبل أن يصورا أية مكانة دينية متوهمة . وفي مقابل الأسم الغريب لمطر ، نجد أسماً آخر غريباً للشخصية الرئيسية في " ترانيم .. " وهي شخصية السيدة " كفاح " . والانتقالات النشطة من ضمير من ضمائ السرد إلي آخر ، ومن بؤرة من بؤر الحكى إلي بؤرة أخري ، وجه ثالث من وجوه الشبه بين القصتين . ولكن مخاطبة القارئ ليس لها حضور ماحوظ الثانية ، والشخصية العسكرية الممثلة في اللواء عصمت شكري عبد الرحيم الوصي ، الظاهر في القصة الثانية ، ليس لها نظير في الأولي . كذلك تمتز الثانية ظاهرة مناجاة الراوية لنفسها التي لم تظهر في الأولي :
" تقسمين يا كفاح ، والله ما كنت نائمة ، ولم اكن مستيقظة أيضاً ولم يكن حلماً عابراً ، بل كان روحك الممسوسة ، تحلق في الأفق ، وتدخل الدائرة السوداء في عقلك ، ترين نفسك تتدحرجين ككرة جولف صغيرة علي ربوة عالية حجرية ليس بها أي استواء او خضار تسقطين سقطة الموت المفاجئ ويحدث اللبس بينه وبين خيالات بالية عن الحياة التي ستصبح بعد لحظات قديمة ......"
ولا شك أن هذه الرؤية المصورة في الفقرة تشبه إلي حد كبير رؤية مطر للعالم ، وانبثاق فكرة المس الروحاني من الدائرة السوداء في العقل ، ومن العجز عن قراءة " الحياة " في وجهها الصحيح ، والوقوع في إطار " خيالات بالية عن لحياة " . ولن يكون علامة المس الاكتئاب الظاهر علي مطر ، حادثاً بدت فيه كانها تحاول الانتحار من آلام عشق تعجز عن التحرر منه أو تحقيقه . ولما كانت الشرطة لا تستطيع علاج هذه الآلام ، فإن اللجوء إلي عالم السحر امر طبيعي في المجتمع فيه " تمارين الحياة أقاويل وأحاديث عن اقتحام العالم الأخر " تفرغ عقلك بالتدرج كلما زادت ساعات مشاهدتك TV " . ولا شك أن العبارة المقتبسة الأخيرة ستذكر بقوة بما سبق في القصة الولي من إشارة إلي أثر التلفاز علي تغييب وعي الناس ، والدفع بهم إلي وهدة السحر والخرافة .
ومثلما انطوت القصة الأولي عي دواعي السخرية والابتسام أبت القصة الثانية إلا أن تنتهي بنكتة صريحة من النكات الشهيرة في الشارع المصري : " مرة واحد خان الخليلي قتله " ، وهي النكتة اللغوية التي تلعب علي أسم المنطقة المشهورة خان الخليلي ، والجملة الفعلية خان الخليلي . ومن الطريف أن ترد كفاح علي نكتة حبيبها قائلة : " هاها ....... يستاهل يا علي " .
بقيت قصة " عفاريت الحكى " ، وهي تشهد انتقالاً من العالم الشعبي ، الحافل بالخرافة ، الذي تواجهه شخصية غير متكيفة ، إلي عالم غير المتكيفين انفسهم . وإذا كن قد لاحظت أن هذا العالم قاد القصة إلي أن تتشابه مع نصوص أدب العبث – مع " ثرثرة فوق النيل " علي الأقل – تشابهاً يقف عند تجمع شخصيات مثقفة ، رافضة للانسياق للوعي السائد ، مصرة على بقائها في حمي عالمها الخاص ، منخرطة ، من ثم ، في ثرثرات ، وألعاب لغوية ، لا تفضي إلي فعل حقيقي قادر علي تغيير العالم ، فإن هذه الملحوظة ستكون صائبة منك ، وإن تكن لا تعني ، بأي حال من الأحوال ، أن القصة تعيد إنتاج نصاً محدداً من نصوص هذا النوع ، بقدر ما تعيد إنتاج هذا العالم نفسه ، لأن رؤية العالم المعلنة منذ السطور الأولي التي تخاطب القارئ علي صدر المجموعة كلها ، تقتضي بأن يري المثقفون انفسهم كائنات مهمشة ، مهددة بالاتهام بالجنون او المس ، او ضروب من العجز عن التكيف ، أو فقدان المنطق ، وهذا ما أدي بالمجموعة إلي هذا الشكل الأدبي .
ولقد تميز هذا الشكل بامرين مهمين : الأول هو الألعاب اللغوية التي ادع لك ملاحظتها داخل النص ، والتي تنخرط شخصيات القصة في لعبها معاً ، كأنها تستشف فراغ اللغة ، وعجزها على إبلاغ راسائل حقيقية فعالة ، تستشف فراغ اللغة ، تتحسسها ، تجس طراوتها وفقدانها للصلابة ، وهي تمارس صوراً شتي من ألعاب الكلمات ، او لنقل ألعاب التواصل بوجه عام .
الأمر الأخر هو تصور الحياة ضرباً من السيرك ، فيه بهلوانات تؤدي ألعباً رائعة مهمة :
" بهلوانات سيرك الحياة ، سيرك يتجاوز الواقع والخيال ، هو حد فاصل بين هذا وذلك ، إنهم بهلوانات الحقيقة المرعبة ، العقل ، القلب ، الروح ... الحب . لا نملك غير أن نبتسم بسخرية ، إنهم بهلوانات الصراحة التي لا يصرح بها أبداً ، لأن الأشياء دائماً ترفض أن تقال . " .
وبطبيعة الحال لا تعد الحياة هي السلوك اليومي التكراري ، ولا هي الحضور الإعلامي ، ولا هي أشكال السلطة ، ولا هي قوالب اللغة الساكنة ، ولكن الحياة الحقة خارج إطار نواميس التغييب كلها ، في اللحظات التي يصير فيها السلوك الحي حركة بهلوانية بارعة مبدعة للتعبير عن حقائق الروح ، وللوعي بكوامن العقل والقلب ، لا للاتساق ، والتكيف ، والخضوع للأنماط المقبولة اجتماعياً خضوعاً محضاً يخلو من الروح .
ومن ثم نفهم أن مشاهد الحياة التي تلتقط قصص النمط الثاني هي ضروب من الحركات البهلوانية تبتكرها ، او ترتجلها ، شخصيات مهمشة ، لتطلق كوامن الروح من خلالها ، وتقاوم إحساسها المريع بالقوالب ، والأنماط ، وصور التكيف .
ولا تخلو قصص النمط الأول الثلاث من هذه المشاهد ، فحالة مطر ، وحالة كفاح ، وحالة جوهر ورفقة ، هي صور من التعبير السلوكي العميق والمرتجل إنسانياً ، عن الحقائق المريعة . كذلك قصص هذا النمط تضيف أمرين : الأول إدارة القصة حول وعي متميز مثقف علي نحو ما ، والآخر إضافة تقنيات ملحوظة ، من مخاطبة القارئ ، ومن تغيير الضمائر ، وتغيير بؤر السرد ، واستبقاء السخرية – المشار إليها مجدداً في الفقرة الحالية – في مواضع بارزة من النص .
ولك أن تستقرئ في بقية القصص هذه المشاهد الكثيرة .
هناك مدرس الرسم بسوطة الرهيب في " مدرب النمور " الذي رأته الراوية عد سنوات طويلة ، جالساً علي المقهي – بعد التقاعد – ببدلته نفسها ، جلسة الزائفة ، يدعي فيها بطولات يرويها علي زملائه ، فقلدت ضحكته المبحوحة ، كأنها تنتقم بالسخرية من نموذج السلطة الرهيب الذى كان يجسده .
وفي " المستقر الأخير " تخزن الراوية لوفاة الجدة حزناً ينتهي إلي إدراكها أن المستقر الخير لجدتها سيكون في قلبها ، لا في لحدها . وستضحك في " ثلاثي أضواء المسرح " مع هؤلاء الذين يبحثون عن وظيفة في مسرح ، دون أن يكونوا فنانين موهوبين ، وسط عشرات من المتقدمين ، ضحكاً يتوقف علي إدراكك للسخرية التي تستبطن الموقف كله ، والتي لا تخلو ، في الحقيقة ، من ألم .
وإذا كنت أباً او اماً ، ستبتسم في " اسكتش من الجحيم " مع الم التي تعجز عن شراء الشيكولاتة لطفلتها ، وتخفي ابتسامها من غضب الطفلة ، فإذا بعينيها تقع علي المرأة ، تقرأ في صورتها علامات الكهولة وسنجد علاقة الأبنة بالأم تلوح ثانية في " الرقص علي البحر " ولكن من وجهة نظر الأبنة المحبة لأمها التي تصحب امها في رحلة بالقطار إلي الإسكندرية . وحين تصلان إلي الإسكندرية ، وتجد الم تسأل : ماذا جري ؟ القطار أتي بنا إلي هنا ، فستدرك أن الأم ، طوال الوقت ، كانت ترتحل مع وعيها الداخلي ، وانها أقرب ما تكون إلي الم السابقة الواقفة امام المرآة ترقب كهولتها ، وهي تراجع سعادات العمر الضائعة في رحلة بالقطار توازي رحلة الوعي في العمر المعين نفسه
لا أريد أن ألحص النصوص .
يكفي أن ادلك علي ما أريد .
هي مشاهد من لحظات تثوب فيها الشخصية إلي الوعي بمعان عميقة في روحها ، مثل شوارع كادت تنسانا – لا ننساها - ، او مثل طفل عاجز شفاؤه في محاورة صديق له محاورة مستمرة ، او مثل بطل من أبطال العبور صار ساعياً للبريد طلباً للرزق ، ويدفن زميله : قائده .
هذه المشاهد كلها مصورة بلغة حريصة علي لغة المناجاة ، اكثر من حرصها علي الرصد المشهدي المتأني المستعصى للتفصيلات ، وحده ، إلي درجة تصورها قصة " انا تصير رجلاً " تصويراً واضحاً ، فقد تجردت القصة من تفصيلات الواقع ، إلي حد ملحوظ ، واكتفت صورة ذهنية للحيب الذي تناجيه في صورة الطاووس المزهو أولاً ، ثم في صورة الضعف المنهار المحتاج إلي راوية ثانياً ، كما نقلب مدرس الرسم الرهيب من الصورة الطاووسية أول الأمر ، إلي صورة من يبدد وقته ، مقاوماً الاغتراب ، آخر الأمر .
وأنا ، كالمؤلفة ، اكتفي بتقرير هذه الأفطار التي أريدها عن وجود نمطين : الأول يصدر عن وعي بأزمة المثقف ، أو بأزمة الوعي المدرك الحاد ، والآخر يصدر عن وعي بلحظات الحياة المفعمة بالشعور ، المفعمة بالحقائق المريرة الباسمة . ويبدو لي أن هذا الوعي هو ما يعطي هذه القصص جدراتها بالقراءة والتعاطف .
مجدي أحمد توفيق






أخبار الأدب 11/1/2009 م
كهف هدى واختيارها
عن دار " الدار" صدرت مؤخراً مجموعة " كهف البطء " لهدى توفيق . القصة الرئيسية في المجموعة بعنوان " أصوات " وتعرفها الكاتبة باعتبارها " مليودراما للإختيار " ، وتقدم فيها معالجة لفيلم " الاختيار " ليوسف شاهين ، والشخصيات هي كمال ، نور ، محمود و " الحقيقة المطلقة " . والمعالجة تستعيد فيها الكاتبة تقنيات السيناريو ، مثل القطع بين مشهد وآخر ، والحوار وغيرها . وبرغم مركزية النص في المجموعة ، فالمجموعة لا تحمل اسمها وانما اسم قصة اخري يتم تصديرها بأبيات صلاح جاهين " ما سمعتش يا غايب / حدوتة حتتنا / عن قلب كان هايب / من حلوة حتتنا " ، في القصة نبرة ذاتية للغاية ، تكتبها القاصة علي هيئة ر سالة لصديقتها العزيزة ، تبدأ بـ " أربعين عاما من الأمل الزائف ، تتلصصين مثل القطط تلعقين جسدك يومياً لتنظيف بقايا الغبار والاحلام والآمال التي كانت تنخر بقايا الغبار والاعلام والآمال التي كانت تنحر في عظامك ، مثل السوس محفور في قلبك الآمن " .


أخبار الأدب 11/1/2009 م
قصتان : هدى توفيق
النار
حريق في الحارة ... نسوة حافيات يحملن الحطب ، وفي أفواههن لسان من غضب .. يصرخن .. يعوين .. يشتمن .. يشققن الصدور ، ويشددن الشعر ، وينهرن أطفالهن ألا يذرفوا دمعة واحدة .. هتفت أغلظهن صوتا :
- لمن البقاء الآن ؟
- للا ..........
كادت امرأة أخري أن ترد ، لكنها وقعت داخل الحصار .
تراص المتفرجون أمام المشهد .. يتزاحمون ويندفعون ويتسابقون علي الرؤية والتعليق .. تصدر الكبار .. وذهب الصغار إلي المؤخرة .. يبكون ، لأنهم خرجوا من دائرة النظر .
حضرت سيارة الإسعاف .. حملت جثة أخري .. تصاعد اللهب إلي عنان السماء .. هرب الكبار .. اختفوا خلف الجدران .. فرح الصغار بمساحة الفراغ الممتدة أمامهم .. دخلوا وسط النار .. حاولوا إطفاءها .. لكن أجسادهم الصغيرة لم تسلم منها .. شعر الفارون بغيابهم فانزعجوا وأخذوا يبحثون عنهم .. حتي سمعوا بكاءهم و ...........
سكان المدن الثلجية
يا نسوة الحواديت العابثات
كيف أخذتن سري ، وكسيتن وجوهكن بصمتي ؟
فلتبعدن عني .. لاتابعكم يشبه تابعي .. ولا أنا قريبة العهد منكن فأنتن الخائنات الكاسيات العاريات الغولات انتن تعرفن سر قهر الرجال ، وأنا لا أعرف سوي الخوف والندم .
نحن سكان الجليد المخلصون :
أمي تضعنا في الصندوق ثم تدير الشراع في اتجاه الشمس .
- أي شمس ستبعث في وقتنا هذا ؟
وأبي يشعل في الجليد جمرا كي نسير ، وعندما نتعثر تنادينا اختنا الكبيرة كي نسمع حكايتها مع زوجها الذي ليس بزوج .. وأبنائها الذين تيتموا من دون أطفال العالم .. وتظل تحكي حتي تجهش أختنا الصغيرة بالبكاء ، وتسأل أمنا :
- لماذا أتيت بنا إلي هنا ؟
الأم تغوص في نقطة عميقة من بحر الأسئلة وهي تردد :
- مازلنا نتنفس حتي تلك اللحظة !!
وانا هادئة جداً .. أكتم جرحي .. أخفيه تحت دموع عيني المتجمدة .. أذكر من الحواديت واحدة لطفلة صغيرة وحيدة تزهد اللعب ، وتلهو بصمت جدرانها ، وأي قدر هذا يأتي بالأخ التوأم طفلا شقيا منكسراً بقسوة الزمن ، وأخا كبيرا يسكن بعيدا في نقطة هامشية من ذاته ، ويصطاد بسنارته ما صغر من السمك والقواقع .. صار الليل علينا طويلاً يحملنا بلا أجنحة حاملين في بطوننا أجنة الجوع ، فنمنا جميعاً تحت ظل التعب .. لكني لم انعس كعادتي فجلست احدث النجوم وأخبرتها أن الجليد يبتلعنا واحدا وراء الآخر ، وأن، الانفجار أصبح وشيكا
2-
في إحدي المدن الثلجية ، رست سفينة أمي .. أعطتنا نظرة من عينيها .. فانطلقنا وتفرقت بنا الطرق ، لم نودع بعضنا ولم نعرف إلي أين تحملنا أقدامنا ، فقد فاض الألم وجاء طوفان الحزن .
سرت بخطوات ثقيلة ، ولأول مرة أري اللون الأخضر في هيئة أشجار ، وراودني اللون الفضي عن نفسه فناديت السحب كي تحملني وتخبأني عن أعينهم ، بعدها أخذا أحث عن ذلك الغريب الذي رأيته في أحد أسفاري ، ذهبت إلي سوق المدينة ، فرأيت أجساد النساء تباع هناك ، وليس معي سوي خاتم جدتي ، فسلبتني إياه امرأة سوداء ، كي تتركني أمر من بوابة المدينة .. وهناك وجدت الورود تنتحر من شرفات الحوانيت والحوانيت خالية من التجار .. وفي فضاء شاسع ، وجدته ينتظرني محملا بجرحين عميقين في أعلي الصدر .
طلبت منه أن يأخذني بعيداً عن الجليد ، وأن يبني لي بيتا صغيرا علي شاطئ البحر فى فصل الربيع .

( أخبار الأدب 4/5/2008 م )
ذبابة القيظ
لم يكن بالحجرة سواي .. وحقيبة هلاويسي وأحلامي تستميحني .. افترشتها بنشيج أعضائي الملح .. هنا لا شئ سوي اصطكاك صمتي بالصمت .. حملتها ثقيلة .. تبدو غير ما أعتادت أن تحمله بطيش الحلم فيتخثر بغيمة فراغ الكلمة مع وهج امتلاء عالم صغير تمددته ، هكذا كانت خيالاتي وهلاوس مع الحر الشديد الذي أشعر به .
الحر في الصعيد ، حر يشعل فتيل البطء ، والانحراف ، والآلم ، والأحزان ، إنه حر يختلف عن حر المحافظات الكبري كالقاهرة ، والجيزة وانا لا أقصد الموقع الجغرافي باعتبار الجنوب عادة أشد حرا وإنما معني الحياة بكاملها في كل تلك المدن المختلفة عن معني الحياة في مدينتنا الفقيرة فهذا ينطبق علي جميع مجالات التعامل في مدينتنا المكونة من موظفين ، شبه تجار او محدثين نعمة كالقدمين من بلاد الخليج ، هنا الحر هو ما يفرض قانون التكيف مع لعناته المستمرة واعتبار أسلوب المناورة أحيانا والتجاهل أحيانا أخري أسلحة للمقاومة ونقول :
- يا صبر أيوب .. علي الحر دا ، ولا جهنم الحمرا .
حلمت أن الشمس دخلت علي لأرض . احرقتها ، وانا هربت لكوكب آخر استيقظت وانا في حالة كدر وهاجس انني ربما لا أستطيع لهروب وسأموت تحت ظلال الشمس الحارقة وأدركت الخطر الذي يحدق بي فلا شئ أشرس من شمس شديدة الحرارة ، وامتعضت بشدة لذلك الهاجس فقمت بيأس بدون سبب أقص أظافري كنوع من السلام مع النفس . ظهرت صديقة القيظ الذبابة التي أحاول أن أقتلها بدفتر طفلي الصغير الأزرق الذي به الحروف الهجائية رفيق الخمس السنوات ، دون جدوي في التقاطها .
- أحسست انه مر دهر من القيظ فوقي ، والتهاب أصاب باطن قدمي ، وبدأت أشعر بالعطش يشتعل في حلقي ، كررت محاولات بين الفشل والنجاح لقتل الذبابة التي أصبحت أخريات ، فابتهجت وتمنيت لو أن ساسة العالم كله ذبابا أستطيع قتله بذات الدفتر الذي يقترب لونه من موج البحر الجميل .
هذا الذباب الذي يرقد بطنينه المعتاد ويأكل في هدوء التورتة المكرزة المخفية عن أعين الحيوانات والبشر أجمعين .
إن بعض الذبابات يغطسن داخل التورتة ، ولا يجد نجاة غير الطنين والموت ، بينما رفقاء نشيطون أكثر وقادرون علي أن يأكلوا فقط دونما أن يلاحظهم الموت .
أيتها الذبابة صديقة القيظ ، التورتة في وسط الصالة ، علي السجادة القرمزية تنتظر حضورك الدائم في كل مكان .
أحساس مروع ومفزع أن يموت شخص عزيز عليك في الحر الشديد ، تذكرت جدتي وهي تموت في عز الحر وكنت راكبة سيارة ( ميكروباص ) أضع علي قدمي " هارد الكمبيوتر الخاص بي " ذاهبة به إلي مهندس الصيانة ، بكيت بحرارة مباشرة بعد أن أخبرتني أمي من خلال SMS الخاص بي حتي احضر سريعا . هكذا ماتت جدتي العزيزة فجأة في هذا القيظ الذي دفعني إلي البكاء مرتين ، موت جدتي والعرق الذي يملأ جنبات وثنايا جسدي من شدة الحر إلا أنني بعد عشر دقائق تقريبا كففت البكاء وكأن شيئا لم يكن .
كانت الشمس قد مالت عند كبد السماء منذ فترة ، وبدأت تتجه صوب الهضاب .. يبدو أن الأمور تبدلت ، وأصبحت بلا مراد أو أمل ، هكذا انتهت كل الأشياء والحاجات والآمال أليس هكذا تتبخر الأحلام مع شدة القيظ لتبقي الآلام تعبث بنا !
وعدت إلي الغرفة الوحيدة أعيش جدران سجني ، أتمني لو أستعيد تلك الحقيبة التي مزقها الحر وقيظه .
جريدة البديل 14 / مارس 2009 م
عمل هدى توفيق فى ورشة الزيتون
" كهف البطء " .... خصخصة وهيمنة وقليل من السرد
كتب شاهر عياد :
أجمع النقاد الذين أستضافتهم ورشة الزيتون مساء الأثنين الماضى لمناقشة المجموعة القصصية " كهف البطء " للكاتبة هدى نوفيق على أن المجموعة تنقصها الكثير من الأشياء لتكون قصصية وأستعرضوها بإعتبارها نصوصاً حرة تأتى فى إطار الكتابة الذاتية أو " سرد البوح "
وناقش " كهف البطء " وهى العمل الثالث لهدى توفيق كل من الناقد شريف الجيار والناقد عمر شهريار بالإضافة إلى الشاعر شعبان يوسف .
وبدأ الناقد شريف الجيار حديثه بالتعبير عن سعادته بمناقشة عمل لهدى توفيق رغم الملاحظات الكثيرة خاصة فيما يتعلق بالسياق السردى لديها وأوضح أن هناك نقوصات كثيرة داخل هذه المجموعة فكتابة القصة القصيرة تعتمد على التكثيف ، والتكثيف هنا يعنى أنه لا مجال المفضفضة أو الوصف الطويل فى حين أن هدى تستخدم جملاً طويلة لا علاقة لها بالقصة اقصيرة بالإضافة إلى أن هناك بعض القصص داخل المجموعة ، مثل " لماذا اكره التفاهة " تبدو كمقال فلسفى أكثر من قصة قصيرة وأضاف " المجموعة كانت لحاجة إلى حذف ماهو زائد "
ونوه الجيار بأن صورة الكهف كما هى مستمدة من النص الدينى ( القرآن ) مكان للإحتماء من الخارج وبالتالى فإن الكهف لدى هدى يعبر عما يعرف بسرد البوح ، تلك الثرثرة السردية التى تفضح الذوات المتحدثات داخل المجموعة القصصية .
وعبر الجيار عن حيرته فى تصنيف نص أصوات ، وهو نص فى نهاية المجموعة القصصية لكنه لا ينتمى إلى فن القصة القصيرة وأشار إلى انه نص يتأرجح بين المسرح والسيناريو والعبث.
وأستعرض الجيار القضايا التى أهتمت بها هدى فى قصصها المتعددة ملاحظة أنها فى معظمها قضايا متعلقة بالهم العام كالخصخصة والهيمنة الأمريكية وكادر المعلمين والتمييز ضد المرأة والصراع الطبقى ، بالإضافة إلى قصص أخرى يغلب عليها طابع الذاتية.
وأتفق الناقد عمر شهريار مع الجيار فيما أتى به ، مشيراً إلى أنه كان يفضل أن ينشر " اصوات " كنص منفصل عن " كهف البطء" بإعتباره غريباً عن باقى القصص الأخرى ، وأوضح شهريار أن هناك تشويشا فى الرؤية لدى هدى أنعكس تشوشاً على كتابتها ، لا أعنى هنا الوضوح ، ولكن أعنى الشفرات التى يفك بها القارىء مغاليق النص ، هناك تعقيدة فى هذه الشفرة ، خاصة أن عدداً كبيراً من القصص مكتوب فى صيغة وسائل رساله إلى حبيبها أو إلى صديقتها ومن المؤكد أن هناك ذكريات مشتركة وكلمات مفتاحية ( سيم ) لا أحد يفهمها إلى الصديقان أو الحبيبان والقارىء بعيد عن كل هذا وختم بقوله أن القصص كانت تحتاج إلى بعض المراجعة والتدقيق والتركيز والتكثيف .
أما الشاعر شعبان يوسف فأوضح أن هدى تقدمت فى أكثر من منحنى فقد كان تطور كبير فى اللغة ولكنه فى النهائية عبر عن حيرته فى تصنيف نص " اصوات " واضاف شعبان هناك خروج على التجنيس القصص المتعارف عليه هذه الكتابة لا تعرف الإقتصار أو التكثيف ولكنها تريد أن تقول كل شئ فى القصة .
إلا أنه عبر عن إعتقاده أن نص أصوات قادر على خلق جنس أدبى جديد بإعتباره بعيداً عن كل التصنيفات الموجودة حالياً ولكن شعبان أتفق مع كل من الجيار وشهريار على أن الرؤية لدى هدى كانت مشوشة ن مضيفاً أنها لم تكن قادرة على ضبط النص كقصة قصيرة ، وفى النهاية عقبت هدى توفيق تحديداً ، هو نص مفتوحة لنا لم أقصد أن أكتب قصة قصيرة ولكن هناك حالة من البوح سواء كانت المنتج النهائى قصة أو فلسفة أو مسرحاً هناك تشويش فى المجتمع الذى نعيش فيه لم أكتب قصة ولم أكن اقصد كتابة قصة لو كنت أريد كتابة قصة لكتبت لأننى قمت بذلك من قبل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا