الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرباً صوب جنينة الله الصغيرة

محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد

2016 / 12 / 19
الادب والفن


توطئة
(ديرفول هي أكبر القرى الداغستانية في سوريا تقع في وسط المسافة ما بين مدن حمص وحماه والسليمة وتضم من 3500 - 4000 نسمة ، وأهلها معروفون بالإقدام والكرم وقد سكنوها عام 1870 م بمرسوم من السلطان العثماني . هذه المقالة تأتي إجلالا لذكرى السيدة المبجلة سكينة كامل داغستاني أم الشهيد نعمان خان والتي رحلت الى مثواها الاخير في التاسع من تشرين أول / اكتوبر/ 2014 ) .

كوجك إسطنبول
عندما يعبّر برهان خان (أبو يوسف) في نصه الجميل (عظيمة هي ديرفول) على موقع (داغستان سوريا) عن عشقه لضيعته وهو الذي يقترب من خريف عمره المديد ، كأني به وهو في ريعان شبابه تتلبسه الحيرة في بحثه عن أجمل وأرق المفردات التي تليق بحبيبته القوقازية الملهمة ، أو كأن الشوق يضنيه الى مرابع الصبا كما الرضيع يهفو الى ضمة صدر حنونة من والدته الرؤوم أم نعمان .. تلك المرأة المعمرة الآسرة ، ذات الذاكرة المتوهجة التي إفترشت ُ وإياها باحة دارة أهل أبو يوسف ، السيدة المضيافة والمعروفة بمهارتها الفائقة في مطبخها الداغستاني وذلك في ليلة من ليالي آب الندية تحت قمر ونجوم سماء ديرفول الصافية كالمرآة المصقولة ، حيث حفّت بنا النسمات الباردة العابقة بطيوب الماضي التليد ، الآتية من مخارج الوادي العميق الممتد طويلا ً ، وحيث كنتُ أجتهد ُ كثيراً كي أضاهي قدرة أم برهان الفذة في الحديث بلغة القمق إحدى أعرق لغات قبائل شمال القفقاس في داغستان ، أمام دهشة وفضول الصبايا والشباب المتحلقين حولنا ، هؤلاء الذين فقدوا لغات أجدادهم فتاهوا في حواري الإنتماءات الهجينة !
وتسترسل أمنا الحكيمة في سرد حكايا وحوادث الرجال الذين كانت تلال وسهول وضفاف النهر تكتظ بهم وهم يعتلون بخيلاء الفرسان ظهور أحصنتهم الأصيلة ، ذكريات طريفة عن أبي نعمان وجيرانه وأصدقائه وأحبائه من القوقاز ، الذين أدركت الأمصار والقرى البعيدة والقريبة مدى تمسكهم بنبلهم وشجاعتهم وإستماتتهم في حماية ضيعتهم والذود عن أراضيهم وخيراتها وتجنيبها أطماع الغرباء والحساد من حولهم ، وكذلك عن نوادرهم ودسائس البعض منهم التي كانوا يحيكونها لرجال الدرك المتزمتين للإيقاع من خلالهم بغرامائهم .!
لم يتوقف القلب عن الخفقان بقوة كخفق أجنحة الفراشات الملونة الهائمة .. كنتُ أشعر به تماماً ، هنا في ديرفول حيث كانت الينابيع والآبار والجداول الصغيرة التي كانت تصب في نهر الوادي الكبير ، فتضجّ الأجواء بموسيقى خرير مساقط المياه الرائقة .. هنا حيث كانت الأشجار الباسقة تتباهى بأثمارها اليانعة اللذيذة قبل أن تنالها يد المناخ المتقلب ، وحيث كان الداغستانيون ومن معهم يتحدثون بلهجات قوقازية مختلفة ومدهشة لكنها مفهومة من قبل الجميع ، فيما كانت سحابات التبغ تتلون وتلتف في فضاءات الغرف الدافئة ... حديث شيق عن البيادر والمدينة والأعياد وحلقات رقصات القوقاز الشهيرة ... كل ذلك أحال ديرفول الى جنينة داغستان الصغيرة التي زرعها الله في هذه البقعة من الأرض .. لهذا إنتفضت أم نعمان قائلة : إن الضيعة كانت تقارع بجمالها أروع البلدان وأجمل المدن ، فإستحقت بجدارة إسمها التركي الذي أطلقه القوقاز عليها آنذاك ( كوجك إسطنبول ) أي إسطنبول الصغيرة !
أين أنت يا ديرفول من تلك الأيام المجيدة ؟ أين ولّت البساتين والمساحات الخضراء التي كانت تكسو البراري وسفوح التلال المحيطة بالضيعة ؟ أين الينابيع والآبار التي كانت زاخرة ببركات الأولياء والقديسين ؟ كيف إنقضت تلك الليالي الملاح عندما كان السهر يحلو حول الموائد العامرة ؟ إنها أسئلة تستفز الذاكرة المطوية ، وتحفر عميقاً أخاديد الحزن على أديم ديرفول الرابضة والمشرفة على الوادي والمتألقة بضفائرها المدلاة برشاقة الغزلان ، والجميلة لا تزال رغم عاديات الزمن الخوّان !

ليلة المبدع عماد داغستاني
في العاشرة ليلاً كنا في دار المبدع عازف الأكورديون عماد داغستاني ( أبوقاسم ) .. كانت تلك زيارتنا الأولى له ولأسرته الكريمة ، وكأننا نعرف بعضنا البعض الاخر مذ أجيال ، إجتمعنا معاً كأسرة واحدة حول مائدة طويلة زاخرة بكل أنواع الطعام والفواكه .. صحون السيدة الفريدة أم قاسم وإبنتها (سنوه) لم تتوقف لحظة حتى ساعات الفجر الأولى .. أية محبة ندية ونقية تصل أفئدة القوقاز أينما كانوا وحيثما إلتقوا ... وأي وداد ؟
كانت عواطف وكلمات فرسان موقع داغستان سوريا وبعض كتّابه وكاتباته ... إدريس خان ، قاسم بدرخان دامشلي ، محمد نبأ الدين ، أيهم بك ، سرمد خان ، سينا خان ، مها الداغستاني ، ميس الريم الداغستاني .. في سجال مشحون مع المفردات السخية في تلك الجلسة المترعة عن القوقاز في العراق والأردن وسوريا وتركيا وحيث هم في أي مكان وتحت أيي شمسِ أو قمر ، عن العشق لداغستان ولأوطان الغالية في الشتات ، وعن آمال وتطلعات شبابنا في تعميق الصلة بين أحفاد أولئك الفرسان ، وجمع أفئدتهم في سلة ٍ واحدة !
وتتقاطر الكلمات المنتقاة من فم أبو يوسف كمزنة ربيعية : اخي أبو قاسم ألا ّ تُسمعنا بعض أنغام أهلنا ؟ فيمد عماد يده الى آلته الاثيرة على نفوس القوقاز الأكورديون ، ويشرع بالعزف الشجي ، وتتوالى الألحان الساحرة .. هذه رقصة القافة من الأديغة .. وهذا لحنٌ من رقصة للشيشان .. وهذه أنغام حكايا الفرح والحزن في موسيقى القصص والاساطير الداغستانية .. ويطبق علينا الصمت التام ، نتطلع مشدوهين الى الأنامل الساحرة التي تتنقل برشاقة متناهية فوق مفاتيح الآلة التي فجّرت الأحاسيس والمشاعر ، وألهبت السماوات ، وكنّـا كمن يشارك على الأرض في حلقات الرقص القوقازية في قرى مايكوب (1) المحلقّة فوق قمم الجبال السامقة كما النسور ، أو في غونيب (2) حيث تضم بين جوانحها حكايا عن الرجل المستحيل الإمام شامل الداغستاني ، أو في غروزني (3) حيث ينسج الفرسان ملاحم الرجولة الأبدية ، ويتوقف عماد بين آونة وأخرى لكي يتحول من لحن إلى آخر فتصيبنا الصدمة حال توقف العزف وفي أعماقنا نداء سري .. أليس من مزيد ؟

وداعاً ديرفول
في طريقنا الى حمص لم ألتفتُ الى الوراء لألقي نظرة الودراع على ديرفول ، كانت مع ناسها الطيبين قد تكورت في مكان ما في القلب ، فهي إذن معي أينما ححلت كزهرة برّية في غاية الجمال ، تستقيم بإصرار فوق فوهة بركان !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عاصمة جمهورية الأديغي الشركسية
(2) مدينة في جمهورية داغستان
(3) عاصمة جمهورية الشيشان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد