الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لورد بايرون: نهاية العالم

أنطونيوس نبيل

2016 / 12 / 20
الادب والفن


باغتني حُلمٌ،
لا يَملكُ رائحةَ الحُلم:
الشَّمسُ الوَهيجةُ قد خمدتْ،
والنُّجومُ قد طافتْ
في دياجي الفضاءِ السَّرمديّ
تترنحُ هامدةً
لا يبينُ لها سبيل،
والأرضُ قد هامتْ
على وجهِها
مُصفَّدةً بالصَّقيع،
ضريرةً تنوسُ في تيهٍ
مِن أثيرٍ بلا قمر؛
جاءَ الصباحُ ومَضَى
ثُمَّ عاودَ المَجيء،
وما مِن نهارٍ في جعبتِهِ،
جَزَعًا مِن كُلِّ هذي
ذَهَلَ البَشرُ عمَّا في صدورِهم
مِن هوًى واشتهاء،
فَزَعًا مِن الدَّمارِ الوَشيك
اقشعَّرتِ القُلوبُ جميعُها
في ابتهالٍ أنانيٍّ
لا يلتمسُ ضارِعًا إلا الضِّياء.

حيثُ كانتْ النَّارُ تتأوَّد،
كانَ للبَشرِ مُستَقَرٌّ؛
عروشُ الملوكِ المُتوَّجين
وقصورُهم
صارت حطبًا للهيب،
أكواخُ المُعدمينَ
وكًلُّ مَثوًى يَصلُحُ للسُّكنى
صارَ طُعمةً للنَّار،
المَدائنُ كافتُها أفناها السَّعِير،
واحتشدَ البَشرُ
حولَ بيوتِهم المُتأجِّجةِ؛
ليُحدِّقوا مَرَّةً أخرى
في وجوهِ بعضهم بعضًا.

سعداءُ هم الذينَ
تسنَّموا قُنَنَ الجِبالِ،
وأحاقوا بعيونِ البراكين
جاعلينَ مِنها سراجًا لهم:
الأملُ الرَّهيب
الذي لم يبقَ للعالمِ سواه.

الغَاباتُ الشاسعةُ
أُضْرِمَتْ فيها النيران،
ساعةً فساعة
ذَوَتْ واضمحلتْ،
والجذوعُ المُتوِّقدةُ
انطفأتْ
في سقوطٍ صاخبٍ،
سَادَ في أعقابِهِ
صمتُ الظَّلام.

كانَ الضوءُ القَنوطُ
يَصفعُ في التماعاتٍ مُتقطِّعةٍ
وجوهَ البَشرِ؛
فيكسوها بسِحنةٍ حُوشِيَّةٍ مقيتة:
مِنهم مَن رقدَ على الأرضِ
وأخفى عينيه وبكى،
ومِنهم مَن أسندَ ذقنَهُ
على قبضتِهِ المُطبَقةِ
وابتسم،
وآخرون هُرِعوا
إدبارًا وإيابًا؛
ليعلفوا محارقَهم المأتميَّةَ
بالهَشيم:
بنظراتٍ مُترَعةٍ بغضبٍ مُهتاج
كانوا يرشقونَ السَّماءَ البليدة
التي بَدَتْ لهم
كفنًا لعالمٍ يُحتَضَر،
ثُمَّ يَغُضُّون أبصارَهم
وهم يَلعنون
يَصِرُّون بأسنانهم
ويزمجرون بحَنَقٍ رتيبٍ
مَكظوظٍ بالخِزي.

الطيورُ البريَّة صاحتْ
هَلَعًا ورفرفتْ نحوَ الأرضِ
تُصفِّقُ بأجنحةٍ عقيمة،
أشرسُ البهائم ألجمها الرُّعبُ
فأقبلتْ تدنو داجنةً وديعة،
والأفاعي زحفتْ حثيثًا
وأوغلتْ في الحشودِ
جدائلَ مِن فحيحٍ مأنوسٍ لا يَلدغ؛
فذبحها البَشرُ
وجعلوها قوتًا لهم.

الحَربُ
وقد احتجبتْ هُنَيْهَةً
عادتْ وقد احتدمَ نَهمُها:
كُلُّ وجبةٍ
كانَ الدَّمُ ثمنًا لها،
وكلُّ امرئٍ
كانَ يَنتبذُ عابِسًا؛
ليُتخِمَ جَوْفَهُ على عَجَلٍ،
مُلتهمًا وجبتَهُ الدَّاميةَ
خَضْمًا في غمٍّ مرير.

صارَ الحبُّ طريدًا؛
فاعتزلَ العالمَ،
وألحَّ على كلِّ الأرضِ
هاجسٌ وحيد:
موتٌ عاجلٌ ذميم،
وأنشَبَتِ المَسغبةُ مخالبَها
في كلِّ الأحشاء.

هلكَ البَشرُ:
انتثروا عِظامًا أعوزها دفءُ القبرِ
وجِيَفًا ليسَ لها كرامة؛
فالأعجفُ يبتلعُ المُدنِفَ
والمُدنِفُ يزدردُ المَيْتَ.

حتَّى الكلابُ
انقَضَّتْ على سادتِها،
ما خلا كلبًا واحدًا:
ظلَّ بارًّا بجُثَّةِ صاحبِه،
يَزجرُ عنها
خِمَاصَ الطَّيرِ والحَيوانِ والبَشرِ
بنُبَاحِهِ البَاسِلِ الدَّءوب؛
ريثما يُضني الجُوعُ قِواهم
أو تُغري الجُثَثُ الطَّازَجَةُ
أشداقَهم الفاغرة،
أما هو فلم يَسْعَ وراءَ القُوت،
بأنينٍ مَكروبٍ وصرخةٍ يائسة
ظلَّ يَلعَقُ اليَدَ الساكنة؛
مُتَشَوِّفًا أن تُداعبَهُ بحُنُوِّها المُعتّاد،
إلى أن مات.

رويدًا رويدًا استحكَمَتْ
قبضةُ الفَناءِ على أعناقِ البَشر،
فلم توفِّر مِنهم أحدًا
إلا شخصين:
عدوين لدودين مِن مدينةٍ عظيمة،
تقابلا في حَرَمٍ قُدسِيٍّ
بجوارِ جَذْواتٍ في رَمَقِها الأخير،
حيثُ الآثارُ المُقدَّسةُ
تَكدَّستْ في كومةٍ جليلة
لتخدمَ غرضًا دنيئًا،
وانكفآ على الرَّمادِ الكَليل
يَنبُشَانَهُ ويَفرُكَانَهُ
بأيادٍ راجفةٍ نحيلة
ويُنعِشَانَهُ بأنفاسِهما الوانية؛
ليَنفُخَا فيه نسمةَ حياةٍ وجيزة،
وبَعْدَ طولِ مشقَّةٍ
أسفرَ الرَّمادُ عن لهبٍ ضئيل
لا يَجدُرُ إلا بالسُّخريةِ ؛
رفعا أعينَهما
المُخَضَّبةَ بالبَريق،
ولمحَ كلٌّ منهما مُحَيَّا الآخر؛
فصرخا على الفورِ
وسقطا صريعين،
كانا في البشاعةِ نظيرين
فماتا ولم يعلما:
مَن مِنهما رأى الجوعَ
يصنعُ مِن ملامحِ الآخر
وجهًا للشيطان.

العالمُ الذي كانَ عتيًّا مزدحمًا
أمسى خاملًا قاحلًا،
لا فصولَ فيه ولا أعشاب
لا أشجارَ فيه ولا بشر
لا حياةَ فيه:
ما هو إلا كتلةٌ مِن موتٍ جسيم
وهباءٌ مِن حمإٍ مسنون.

الأنهارُ والبحيراتُ والمحيطاتُ
جميعُها
أصابَها الرُّكودُ بالخَرس،
وما مِن شيءٍ
في الأعماقِ القصيَّةِ يختلج.

السَّفائنُ وقد هجرَها ملَّاحوها
أمستْ نُهبةً للعَفَنِ:
صواريها تتهاوى قطعةً فقطعة،
تنحدرُ إلى الهاويةِ السحيقة،
وتحسو راضخةً سُباتَها المُؤبَّد
دونما أوهى ضجيج.

الموجُ قد ماتَ
والمدُّ قد عانقَ رَمْسَهُ،
والقمرُ الذي يسوسُهما
قد سبقَهما إلى الزَّوال،
الرِّيحُ قد قنصتها
أشراكُ الهواءِ الآسنِ،
والسَّحائبُ قد تبدَّدت إرْبًا إرْبًا:
فالظُّلمةُ قد زهدتْ فيهم،
ما سألتْ عونًا مِن أحدٍ؛
سُلطتُها حصادُ ذراعيها
كانتْ ألِفَ العالمِ أزلًا
بطشتْ صارتْ ياءَهُ أبدًا،
الظُّلمةُ صارتْ هي الكون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81