الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سائق الحافلة

احمد الباسوسي

2016 / 12 / 22
الادب والفن


نهار صعب، ينز صهدا وسخونة، وشوارع مكتظة بالسيارات والفوضى، وسائقين نضحت عيونهم بالغضب وانفلتت عقائرهم بكل أنواع الردح والسُباب. بصعوبة تمكنت من الوصول الى مكان الحافلة، غبار وعادم سيارات كثيف وأصوات متداخلة مزعجة، وسيارات كثيرة تطبق على الحافلة من مختلف الإتجاهات يتربص سائقوها الغاضبون فرصة قنص مسافة سنتيمترات للانفلات وعبور تلك المنطقة المخنوقة. صعدت الى الحافلة المتعثرة في الميدان غارقا في عرقي واحباطي الذي لازمني منذ أول ذلك النهار. استلقيت على مقعد خلف السائق مباشرة بعد ان استفسرت منه عن وجهتي. اومأ برأسه موافقا وكان منشغلا بحوار غاضب، خشن مع سائق حافلة اخرى يجاوره بخصوص أولوية المرور. أدركت حينها إنني سوف امضي نهاري حبيس تلك البقعة المدهشة من الأرض، سيارات ملاكي وحافلات نقل جماعي بمختلف انواعها، ودراجات نارية صينية الصنع مفشوخ فوقها رجال ونساء وصبية واطفال، ودراجات هوائية قديمة، وعربة كارو يجرها حمار مرهق يمسك لجامه شخص نحيل، ممصوص، يتدثر في جلباب قديم مهترئ من الأجناب، رأسه لايكاد يبين مع أغبرة عوادم السيارات، وكلاب وقطط ضالة تسعى على غير هدى تبحث عن ثغرة للمروق للفضاء الواسع البعيد، وعشرات من المارة المترجلين رجال ونساء بمختلف الأسمال والألون، تشي عيونهم التي تدور في مختلف الإتجاهات بالحيرة والتعب.كل هؤلاء يتصارعون في بقعة الميدان التي ضاقت بهم حتى ارتفع صوت أنينها طالبا نجدة السماء. التفت السائق الى الخلف نحوي، غرق وجهه الضئيل في ابتسامة أثارت انتباهي الذي أجهده عمق التحديق في لوحة الميدان العبثية، أخبرني إنني سوف اضطر الى المشي مسافة محطة اتوبيس للوصول الى مبتغاي، اومأت بالموافقة الاضطرارية والتعجب من تلك الابتسامة التي انبجست فجأة في ظل هذا الظرف المشحون بالتوتر وانفلات الأعصاب وذلك الصوت الحاني الملفت الذي خرج توا من رحم الصوت الجهوري الغاضب الذي سمعته آتيا من الخلف منذ لحظات ينفث هلعه واحتجاجه على سائق السيارة الملاصقة الذي كاد أن يطيح بمرآة الجانب الأيمن لحافلته. الآن تحول كل شيء، خرجت ابتسامة مريحة رائعة في فضاء الحافلة وشى عنها وجهه الخمري المخروطي الضئيل، وعيناه الضيقتان اللتين ميزهما اللون اللبني الصارخ، وصوته الحاني الذي خلا فجأة من توترات الميدان الصاخب. حركة الحافلة العرجاء وكذلك امتلاء الشوارع بالبشر زاد من ايقاع تواتر الركاب داخلها وكان أغلبهم من السيدات العاملات، وكن في منتصف العمر كما تشي بذلك ملامحهم وجوههن المرهقة الخالية من الماكياج تقريبا، وأيضا أسمالهن البسيطة. بعضهن كُن يحملن حقائب يد من المقاس الكبير، تبدو متخمة وثقيلة. شغلتني قليلا تلك الحركة المتواترة لصعود الركاب داخل الحافلة واحتلال المقاعد الفارغة، والاسئلة التي لاتنتهي والمكررة للسائق الشاب عن وجهة الحافلة ومساراتها، واجاباته التي تفاعلت مع وجوه النسوة حيث تباينت مع مستويات نضارة الوجوه، وجمال الأصوات ونعومتها، ورشاقة البدن وامتلائه. وكان يحاول في جميع الأحوال أن يكون ودودا مع الجميع حتى لو تأزم الأمر في طريقه المزدحم. صعد صبي من رحم الشارع، ضئيل الجسد، تظهر على ملامحه آثار وسامة، وعيونه زرقاء. يرتدي بنطال زهري متسخ، وتي شيرت باهت مطبوع عليه جميع الوان الشارع الفوضوي القاسي، يبدو إن لونه كان ابيضا. وكان يحمل كيسا متوسط الحجم، ممتلئ بمناديل الورق يبيعها ويتسول بها. طفق يعلن عن بضاعته في الحافلة، ولما لم يستجب أحدا لنداءاته استلقى على الأرضية خلف السائق يحملق في الركاب تارة، ويفكر في خطوته القادمة تارة أخرى. سأله السائق عن قيمة التذكرة، أخبره إنه يبيع مناديل، التفت اليه، طلب منه معاينة بضاعته، أشار له الصبي بعلبة مناديل الجيب. الطفل طرق أبواب المراهقة منذ عام أو عامين، اصابع السائق نبشت داخل تابلوه الحافلة، ظهرت ورقة بخمسون جنيها، دسها في كف الصبي الصغيرة. استفاقني هذا الأمر من شرودي مع نافذة الحافلة وما يدور خلفها من اشتباكات بين البشر والحديد الذي يتحرك، وصراع الفقراء، وبطء الحركة، والملامح والوجوه، والقرارات. رجعت مضطرا الى ذلك الشاب سائق الحافلة الذي يعطي للصبي معظم ما تحصل عليه من قيمة التذاكر التي حصل عليها من الركاب في هذا اليوم الذي بدا صعبا في كل شيء، في الحركة، والحر، والعراك وانفلات الأعصاب. وربما ينهي ورديته محبوسا في الطريق بالغ الازدحام من دون مدخولات مالية اضافية. قررت متابعته واصاخة السمع لكل ما يدور بين السائق والصبي. الطريق لايزال طويلا. زحام الشوارع في الخارج يخنق كل شيء. سائق الحافلة يبادل الصبي حديثا وديا، يخبره إنه وسيم، يبتسم الصبي وتظهر عليه أمارات الخجل، يسأله عما اذا كان يعيش وحده، أم يسكن مع آخرين، اجابه الصبي، أعيش مع آخرين. عند هذا الأمر تشككت في نوايا السائق الشاب صاحب العيون اللبنية مع الصبي، ولماذا نقده ورقة الخمسون جنبها من دون مقابل. قررت اصاخة السمع والاهتمام أكثر بما سوف يفعله السائق مع الصبي، هل يطلب رقم هاتفه؟ هل يتعرف على عنوانه ويذهب اليه لاحقا من أجل قضاء لحظات جنسية معه؟. لكن الذي حدث ان الصبي ظل صامتا، وسائق الحافلة ظل منشغلا بالطريق وحديث ودي مع راكب صعد فجأة بالمقعد جواره، اتضح إنهم معرفة طريق قديمة، ذكُره الراكب بنفسه، وانه ركب معه كثيرا حينما كان يذهب لعمله في شيفت الصباح المبكر منذ شهرين. طفق السائق يثرثر حتى صعد شاب ثلاثيني يحمل كيسا كبيرا، أخرج مناديل من الورق ايضا، لكن هذه المرة عبارة عن رزم، كل رزمة تحتوي على اثنتي عشر علبة، ظل يعلن عن بضاعته وسعرها المتدني مقارنة بالمحلات، ولما لم يستجب احد استلقى جوار الصبي، التفت اليه السائق يناشده تخفيض السعر، أقسم له إن هذا آخر شيء وبعدها الخسارة، طلب منه كيسين من علب المناديل، ثم كيسين آخرين، وبائع المناديل يناوله، والسائق يكوم البضاعة امامه فوق تابلوه الحافلة، ثم طلب منه ان يتم العشرين رزمة، اخرجهما البائع الشاب من كيسه ووطفق يناول والسائق يكوم أمامه فوق التابلوه، ازدحم المكان بالأكياس، فرغ البائع واستلم منه ورقة فئة المائة جنيه قيمة الصفقة. حملقت في المشهد غير مصدق، تحولت الحافلة كأنها متجر لبيع المناديل الورقية، فكرت، نهشت الأسئلة رأسي، ربما كان السائق مهوسا بتجميع المناديل الورقية من باعة الشارع!. أو ربما يكون مهووسا بصرف نقوده على أشياء غير ضرورية على شاكلة بعضهم ممن ابتلوا بنوع من الاضطرابات النفسية حيث يصبح صرف النقود على أشياء غير ضرورية أو تافهة أو حتى منحها لآخرين من ضمن أعراض الاضطراب. ياله من رجل غريب الأطوار، السيارة ما تزال تتعثر في الطريق، ومنظر أكياس مناديل الورق المكومة امامه يثير دهشة وعجب الركاب المنضمين حديثا للحافلة. بائع المناديل غادر بعد صفقته الناجحة، وصبي الشارع يراقب الموقف باهتمام، أخبره إن البائع خدعه، وإنه يشتري الرزمة بقيمة أقل من التي ابلغه بها. أخبره بسرعة ومن دون مبالاة إن هذا الصنف أفضل من الصنف الذي يبيعه. انصرف الى انشغاله بالثرثرة مع الراكب المعرفة القديمة الذي يجاوره. الطريق تتعقد مساراته مع دوران عقرب الساعة والمنحنيات التي تتوقف عندها حركة السيارات، وحركة الحياة. هنا تصبح الفوضى والغوغائية سمة سائدة، تفجر الشوارع، والميدان الذي يتوسطها، ومنحنياته، وتصيب القلوب والعقول بالشلل والجمود. قبل أن اعود الى شرودي واستسلامي لقدري في الاحتباس داخل الحافلة لاحظت توقفها تماما على طرف الشارع الأيمن واختفاء السائق، دارت عيوني في مختلف الاتجاهات بحثا عنه، أخيرا صادته عيناي ملتصق بأحد الجدران القديمة من بعيد، يعطي ظهره للحافلة وللركاب، ولجميع المارة في الطريق العام، فاتحا ساقيه قليلا في وضعيه أفراغ مثانته، طفق يبول على الحائط باسترخاء شديد. لم يدهشني المنظر بقدر ما أدهشتني استلقائه بأريحية على مقعد القيادة وامتناعه عن تحريك السيارة، أخبر الراكب الذي يجلس على المقعد بجواره المعرفة القديمة إنه بينما كان يبول تلقى تعليمات بالعودة بالركاب الى موقف الحافلات حيث بداية الرحلة، صُعِق الشاب، حاول الاستفسار عن كيفية تلقيه هذه التعليمات ومن المسئول، والهدف منها،؟. انشغل السائق من دون اهتمام بتحريك الحافلة والدوران بها للخلف، أغلق بابيها الأمامي والخلفي لمنع نزول أو صعود الركاب، درات جلبة وصخب داخل الحافلة، غضب الكثيرون، ومع ذلك ظلت الحافلة العرجاء تسير في شوارع القاهرة مرتدة الى الميدان الذي لم نكن قد ابتعدنا عنه كثيرا. عدت لشرودي وانشغالي بحركة الناس والأشياء من خلال النافذة بعد ان تيقنت إن السائق استعاد حيويته ونشاطه وقدرته الفائقة على الثرثرة مع جاره الراكب المعرفة القديمة المحتقن بالغضب والغيظ.
د. احمد الباسوسي
ديسمبر2016-12-20








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا