الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فى محراب فلسفة الفن الروحية لفيلم The Perfume ومسلسل ونوس

إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة

(Ereiny Samir Hakim)

2016 / 12 / 26
الادب والفن


شخصان متشابهان فى التلصص والاستحواذ، السرقة وجنون الامتلاك، الخداع وحرفية غدر النتائج بالمعطيات، هما شخصيتا "جرونوى" فى فيلم "العطر" و"ونوس" فى المسلسل الذى يحمل اسمه، وهما شخصيتان دراميتان استطاعتا الربط بين عملين مختلفين فى الهوية الفنية، فهما مشتقتان من روح أدبية ألمانية الموهبة فى الاساس، حيث يجمعهما الميلاد القصصى على الارض الالمانية فى عصور مختلفة، ووجودهما يوطد علاقة العملان ببعضهما برابط رمزى، وذلك فى طبيعة التكوين الشخصى لكل منهما، وبالتالى القصص المنسوجة حولهما، فالادب الالمانى يتميز بحرص أدباءه وشعراءه بسعيهم إلى تصوير علاقة الإنسان بخالقه وبالطبيعة التي تحيط به، وبظمئهم إلى المعرفة.

وحيث أن الفن هو طاقة ابداعية تَعبُر بأذهان انسانيتنا عَبر حقول من الاستنارات النفسية والروحية، ومخاطبته لعقولنا ومحاكاته لمشاعرنا، ابعد بكثير من محدودية ما يقدمه لنا فى صورته المباشرة، فمن هذا المنطلق اقدمت على تدوين ما تذوقته فكريا فى محراب فلسفة هذين العملين فى هذا المقال البحثى.

ولا اتحدث هنا عن تطابق بين العملين، أو عن ارتباط مباشر للمسلسل بالفيلم، انما اشرح رابط رمزى لاَزَم ذهنى الروحى وأنا أشاهد العمل الأخير لأربطه فلسفيا بالعمل الأول.

وقبل التطرق لطرح المقارنة بينهما وسرد المرادفات الفلسفية لهما، سأستعرض ملخصا لقصتىّ العملين، مع توضيح بضع ملامح من جذورهما الفنية لمساعدة القارئ على الإلمام بحيثيات الطرح المقصود.

عن فيلم العطر
*********

فيلم العطر "قصة قاتل" هو فيلم إثارة ألمانى صدر سنة 2006م, من إخراج توم تايكور ومن بطولة بن ويشا، آلان ريكمان، ريتشيل هيرد وود، وداستن هوفمان، الفيلم مقتبس من رواية العطر للروائى الالمانى باتريك زوسكيند التى صدرت سنة 1985م، وقد تُرجِمَت إلى حوالي 46 لغة من ضمنهم اللغة العربية، وبيع منها ما يقرب من 15 مليون نسخة حول العالم، وقد اشترى الفنان داستن هوفمان حقوق الراوية لتحويلها إلى فيلم سينمائي بعشرة ملايين يورو، ولقد شارك تمثيليا فيه.

تدور أحداث الفيلم حول جان باتيست جرونوى الذى لديه قدرة غير عادية فى حاسة الشم وعن سعيه لإيجاد العطر الكامل الذى يسيطر به على العالم.

حيث يبدأ بولادة بطل الفيلم جرونوى، في أحد أسواق السمك الباريسية، وقد حاولت أمه التخلص منه إلا أن المارة التفتوا لصراخه وقادوها إلى الإعدام، عاش فى دار أيتام مكروها من زملائه الذين أدركوا انه ليس كبقيتهم، فلقد كان لديه قوة شم خارقة تجعله غريب الأطوار طوال الوقت، فلقد كان يدرك العالم من حوله ويتعامل معه بتلك الحاسة العجيبة، إلى أن اشتغل فى مدبغة للجلود، وأثناء تجواله الشارع في إحدى الليالى، انجذب جرونوى لرائحة فتاة شابة جميلة، كانت رائحتها شديدة التأثير السحرى عليه، فلاحقها متتبعاً رائحتها، ولكن عندما صرخت خوفاً منه أغلق فمها بيده حتى لا تجذب انتباه المارة من الطريق، وعندما أزال يده عن فمها وجد بأنها ماتت دون أن يقصد قتلها.

ومن هنا يتولد لديه رغبة جنونية فى امتلاك العطور التى يشتمها، حتى يحافظ عليها فى حوزته دون نفاذ، ثم يغتنم جرونوى لقائه بالعطار "بالديني" العجوز ذو الخبرة الكبيرة فى عالم العطور ليعلمه بمقابل أن يعيد أمجاده الزائلة فى هذا المجال، ووافق بالدينى واستمر الحال رائعا لكلا الطرفين حتى صُدِم جرونوى بعدم قابلية تطبيق نفس التقنيات التى تعلمها لاستخلاص روائح أشياء أخرى كالحيوانات والبشر، ودخل فى حالة احتضار حيث وجد أن حلمه بالسيطرة على العالم يتلاشى، ولكن ساعده بالدينى للرحيل إلى مدينة كراس، للتعرف على تقنيات أفضل من التقطير كالإستشراب مقابل أن يعطيه عشرات المركبات العطرية الجديدة قبل رحيله، وإعطاءه شهادة خبرة منه، وتم هذا وهو لا يعلم ما هو مطمع جرونوى الحقيقي وما تسعى إليه أحلامه، ولكن فى صباح هذا اليوم خرج جرونوى أما بالدينى فقد انهارت معطرته فوق رأسه هو وزوجته.

خلال رحلته يعتكف جرونوى في إحدى مغارات أحد جبال كانتال استفاق على حقيقة صادمة وهو انه بلا رائحة وأدرك انه كـ اللا موجود، وهذا ما جعله يتقصد أحلامه بعنف ضد العالم الذى وجد فيه انه مجرد نكرة، وسعى بجنون ليُعرِّفهم بالعطور التى سيصنعها منهم مباشرة، وسيريهم كم هو خارق للطبيعة ليس فقط لمحاولة إثبات انه موجود.

في مدينة كراس، عاصمة صناعة العطور في فرنسا عمل جرونوى بفضل شهادة بالديني في معطرة السيدة أرنولفي، حيث يعمق معارفه التقنية خصوصاً فى الاستشراب، أثناء مقامه في هذه المدينة يكتشف جرونوى وجود فتاة ذات عطر مختلف وخاص جدا، وهى لورا ريتشي ابنة أحد أعيان المدينة فلا يزيده هذا الاكتشاف إلا مثابرة في التعلم، لإيجاد طريقة تمكنه من استخلاص روائح الكائنات الحية.

حينها يبدأ جرونوى في تنفيذ جرائم قتل متتالية بغرض استخلاص العطور الطبيعية لأجساد أجمل عَذراوات المدينة، وهكذا تغرق كراس في دوامة من الرعب حيث تستفيق المدينة بصفة دورية على جثث حليقات الرؤوس, وتنغمس في محاولة معرفة هوية القاتل المجهول، يختتم جرونوى جرائمه بقتل لورا ريتشى، التي لم ينفع حدس والدها أنطوان، والحماية الصارمة التي كان أحاطها بها فى تفادى نفس مصير الفتيات التى سبقنها.

وبهذا يكون قد تمكن جرونوى من تركيب أكثر العطور كمالاً بتوليف العطر المستخلص من جسد لورا بالعطور الـ 12 المستخلصة من أجساد باقي الضحايا، بعد افتضاح أمره ويُلقى القبض عليه ليحكم عليه بالإعدام، وقبيل اقتياده لساحة المدينة لتنفيذ الحكم تحت أنظار الآلاف من سكان المدينة، فيتعطر جرونوى بعطره السحرى ليفقد آلاف الحاضرين صوابهم ويدخلوا في مجون وعربدة جماعيين تحت أنظار جرونوى, وبفضل عطره العجيب يصبح هذا المجرم بريئا في أعين جلاديه ويُطلَق سراحه، فيغادر كراس ويعود إلى باريس حاملاً ما يكفى من العطر ليحكم العالم، ولكنه يكتشف بأن عطره لن يجعله محبوبا، أو يمحى خطيئة قتله للفتاة الأولى التى أحبها وقتلها.

عاد إلى مكان ولادته حيث سوق السمك، وهناك أفرغ قارورة عطره السحرى فوق جسده، مما يحوله إلى ملاك في أعين العشرات من الأشخاص المتواجدين في نفس المكان، والذين أغلبهم من العاهرات والسكارى والمتشردين، ينجذب اليه هؤلاء لدرجة نهشهم لجسده, أُكِل جرونوى وهو على قيد الحياة، وفي الصباح التالى لم يبق لجان باتيست جرونوى أثرا لوجوده، عدا ملابسه وقارورة عطره الفارغة التى بقى منها آخر قطرة دون قطرة واحدة من دمه.

عن مسلسل ونوس
***********

ونوس هو مسلسل مصرى تم إصداره عام 2016م، من تأليف الكاتب عبد الرحيم كمال وإخراج شادى الفخرانى، ومن بطولة المبدعين: يحى الفخرانى، نبيل الحلفاوى، هالة صدقى، حنان مطاوع، محمد شاهين، نقولا معوض، محمد كيلانى ومجموعة كبيرة من الفنانين، وهذا العمل هو إحدى التجسيدات الدرامية لعلاقة الإنسان بالشيطان، ويضم أفكارا فلسفية ودينية من مجموعة أساطير وقصص روحية تناقش حالة غواية الشيطان للإنسان، بهدف تسليم روحه له، وقصة هذا العمل مأخوذة بشكل كبير عن مُعالََجة القصة المُقدَّمة فى العمل الشهير "مأساة دكتور فاوست" للأديب الانجليزى كريستوفر مارلو.

اما عن جذوره فى الادب الالمانى:
فنجد أن فاوست أو فاوستوس باللاتينية:Faustus هو فى الاساس الشخصية الرئيسية في الحكايات الألمانية الشعبية عن أستاذ اللاهوت والطب الألمانى الدكتور يوهان جورج فاوست، والتى تعود لكاتب مجهول، وقام بنشرها الناشر الالمانى Johnann Spies فى فرانكفورت عام 1587م، والكتاب عبارة عن مجموعة قصصية عن حياة هذا العالِم، وفيه فاوست يحقق نجاحاً كبيراً، ولكنه غير راضٍ عن حياته فيأتيه الشيطان والذى يمثله "مفستوفيليس"، ليبرم معه عقداً يقتضى بأن يقوم بخدمته طوال حياته فى مقابل استيلائه على روحه بعد مماته، لكن الاستيلاء على روح فاوست مشروط ببلوغه قمة السعادة الإنسانية، وأصبحت هذه القصة أساساً لأعمالا أدبية مختلفة لكتاب مختلفين حول العالم لعل أشهر هذه الأعمال هى مسرحية فاوست لـ جوتة.

ومفستوفيليس هو اسم يُعطى غالباً للشخصية التي تُمثل الشيطان، حيث أنه اسم الشيطان فى الأسطورة الفاوستية، وعلى العكس من الشيطان الذي يُمثل عادةً في المخيلة الغربية في هيئة شبه حيوانية بحوافر وقرون، فإن مفستوفيليس أكثر إنسانية حيث أنه يظهر في هيئة رجلٍ طويلٍ مسربلٍ بالسواد عادة، ويحمل في الصور كتاباً أحمر يوقع فيه الأشخاص الذين يبيعون أرواحهم له، وغالباً ما يظهر مفستوفيليس في هيئة راهب فرانسسكانى، حيث يظهر بهذه الهيئة في نصيّ مارلو 1616م وجوته 1725م.

أما عن ياقوت (آدم المصرى) فجاء شيطانه ونوس مقدما بمعالجة مصرية خالصة، تُعبِّر عن حياتنا الروتينية المُعَاشَة فى ظل عالم روحى خفى، وتُخاطِب نفسيتنا البيئية مباشرة.

حيث تدور الأحداث حول أسرة مصرية يختفي منها الأب لمدة 20 عامًا، تاركاً خلفه زوجة وأربعة أبناء، فتتولى زوجته المسئولية كاملة بينما الأب لا يعرف طريقه أحد، وذلك بعد أن ظهر له الشيطان فى صورة "ونوس"، وأغواه حتى يصل إلى قمة السعادة البشرية ممتزجة بأوج ملذات العالم شهوة وغموضا، وتستمر رحلة الأب مع الشيطان لمدة 20 عامًا إلى أن تتطور الأحداث، ويبدأ فى الشعور بالندم ويقرر أن يتوب إلى الله، وبعدها يظهر ونوس لأسرته كأحد أصدقاء الوالد فيُخبرهم أن لوالدهم إرثاً ضخماً، وعليهم إيجاد والدهم من أجل إقناعه بإمضاء الأوراق الرسمية المطلوبة لآخذ تلك الأموال، لأنه يرفض وبإصرار الحصول على الورث!.

ويجتهد ونوس فى تضليل أبناءه الذين يمثلون نوعيات البشر باختلاف شخصياتهم ونزواتهم، بينما الأم تظل حماية لهم ومحاولة لإنقاذهم من اغواءات ونوس، ذلك الإنسان غريب الأطوار وغامض الأهداف فى وجهة نظرها، فى حين استخدام ونوس لتلك العائلة لتهديد الأب حتى يرجع إلى عهده معه، ويظل الصراع بين الأب وونوس على الأولاد، محاولا الأب الحفاظ عليهم وعلى قرار توبته فى نفس الوقت، لكن تحت الضغط المستمر من ونوس وفى حالة ضعف انسانى وخوف بشرى يقرر الأب عودته إلى وعد ونوس، بالإمضاء على عقد بيع روحه مقابل إمهاله ثلاثة أيام من السعادة والنفوذ، حتى يتثنى له فيهم إرجاع أولاده ويسلم نفسه للشيطان فداءا لهم فى المقابل، ويستطيع إنقاذ الجميع ماعدا واحدا، وحينها يأخذه الشيطان ليوقع العقد تحت الترهيب والتهديد، ولكن فى النهاية يأخذ الله وديعته حيث روح الأب، بينما هو يحاول إرجاع الابن الأخير والذى نجح فى ذلك فى النهاية بمساعدة زوجته.

الغواية ما بين "جرونوي" و"ونوس"
*********************
• ما بين شبحية وإنسانية
***************

هنا نحن أمام عنصري مقارنة متشابهين جزئيا فى طبيعتهما، وهما جرونوى وونوس، حيث إنسان له طبيعة شبحية وشبح له طبيعة إنسانية.

حيث نجد دراميا أن ونوس وهو الشيطان فى صورة إنسانية، وجرونوى هو الإنسان فى صورة شيطانية، يجمعهما امتلاك قوىَ تفوق القوىَ الإنسانية العادية، فى حالة فريدة من اختطاف الأسرار والدخول إلى الأعماق بتلصص كئيب، إلى اعماق من يواجهانه ويحاولان امتلاكه، أما عن حقيقة وجودهما بالنسبة للمعنى فى ظلال الآدمية، فهما الخسارة بلا رجعة، واللا موجود بين قيمة البشرية المُكرَّمة من قِبَل الله، بالوجود بالحب والرغبة فيه ومزاولته، فنجد أن جرونوى ذلك الإنسان المتأبلس فى مواجهة صادمة لحقيقة عنه قد روعته، وذلك بأنه لا رائحة له .. كما قال الراوى عنه فى الفيلم:

"كانت هناك آلاف الروائح تعبق فى ملابسه، رائحة الرمل، الحجارة، طحالب المستنقعات، حتى رائحة النقائق التى أكلها قبل أسابيع، فقط رائحة واحدة لم تكن هناك، رائحته، للمرة الأولى فى حياته أدرك جرونوى أنه لم يكن لديه رائحة خاصة به، أدرك انه على مدار حياته كان نكرة فى نظر كل شخص، ما يحسه الان الخوف من سلوانه الخاص، وبرغم ذلك لم يكن موجودا!، ومن ثم قرر أن يستكمل رحلته وانه سيعلم العالم ليس فقط انه موجود، ليس لأنه شخص، لكن لأنه كان خارقا للعادة".

وهكذا وجد من يدرك العالم بروائحه أن لا رائحة له، وهكذا ونوس فهو حى بلا أنفاس، يحيا فى دنيا البشر بلا حياة.

لذا فما كان عليهما سوى التواجد بين البشر بإستخدام العطر الذى من البشر فى الأساس، لإبهارهم بما يملكون ولا يعرفون، وما يحملون بدواخلهم ولا يدركون، موَُظفين قواهما الخارقة فى استخدام ما يعرفونه عن البشر من احتياج وقدرات تقبع فى أبعاد أعماقهم، لنسجها سويا أمامهم لإبهارهم، حتى يثبتا وجودهما ويبرهنا على قدرتهما التى إن عرف البشر حقيقة مرارة أمجادها لتركوها هاربين.

إذن، فماذا كان بإمكانهما أن يفعلا حيال تلك المواهب والقدرات غير العادية التى يمتلكاها للإمتاع فى الدنيا، وليس بإمكانهما الاستفادة منها لأجل أنفسهما، ولن تُحقق لهما هدف رحمة أو متعة واحدة؟!، سوى توظيف المستمتعين فى خدمة غير المستفيدين، فى محاولة لإثبات وجود وجودة قدرات، لم تفى أمجاد قوتها متطلبات تحقيق وجود!.

• عطر جرونوى وونوس من البشر إلى البشر
****************************

لقد اشتم ونوس الإنسان عبر العصور، تعرَّف على تفاصيل إحساسه، تفكيره، شهواته، أدرك غرائزه تفحصها واستنشق طرقها جيدا، والعطر الذى يستخلصه منهم بإمكانه أن يكون أكثر عبير متع الدنيا تأثيرا وحيوية، فتأثيره حافلا بالمتعة الحسية التى تدغدغ ثغرات الغريزة الإنسانية جمعاء، وهذا لأن ذلك العبير يخرج من رحم أرواحهم هم، وحين يشتموه بمعالجة ونوس ذات الإبهار الخاص المُحاكى للبصمة النفسية لكل فريسة، يعود عليهم بتأثر فظ ذهنيا، عاصفا بمنطقه وترتيباته، فهو تأثير يواجه الروح باشتياقاتها، فمن ثغرات الروح المُضاجِعَة لضعفها، تسربت عطورها الخاصة إلى ونوس، ومن ثَم عادت اليها مرة اخرى متوغلة إلى احشائها، لكن مُصاحَبَة برحيق ونوس.

فعطر ونوس هو صياغة روائح تلك الأرواح فى عطر جديد، يُشبع احتياج مستنشقه وهميا، حيث يأتيه بما يشتهيه شعوره من نشوة نفسية حسية يعلمها ونوس جيدا عنه، بحسب خبرته القديمة فى البشر!، والذى يستطيع بقدراته الخارقة أن يجمعها له حسب اشتياقه، طالما تلك الاشتياقات دنيوية!.

ولقد فعل ذلك جرونوى ، حيث جمّع عطور من البشر لها تأثيرها السحرى عليهم، هذا الذى كان له رؤيته الخاصة فيهم وعنهم، وكان على يقين كما ذُكِر عن اعتقاده بـ "أن روح الكائنات تكمن فى رائحتهم"، فراح يلملم من أرواحهم أجمل ما لديهم، ليصنع لهم فخا جميلا من القبح، حتى يستعبدهم فى مذلة حسية له هو الذى لا يحس، فيشبع بتملكه للذتهم عِوضا عن استمتاعه بلذته المفقودة، وهكذا ونوس الفاقد الحياة والحب والرحمة دنيا وأبدية، ذاك الذى يمشط الأرض ذهابا وإيابا، وهو لا يكل ولا يهدأ، باحثا فى جميع عصور المسكونة ليحصد أرواح تَحبِس لذتها فى معطياته، فيصبح هو سلطان لذتهم ومتعتهم، حابسا إياهم فى سجن حرمانه إلى الأبد محرومين معه وله.

وكما ذكر الراوى عن جرونوى "لقد كان جشعا للغاية، الغاية عنده هى امتلاك كل شئ يقدمه العالم فى طريق الروائح، شرطه الوحيد بدأ بأن تلك الروائح كانت جديدة بذاتها آلاف على آلاف من الروائح تؤلف ثريدا مخفيا تحلل إلى أكثر الأجزاء ضآلة وبعدا"، وهكذا اشتم حقائق تسكنهم وعرف دواخلهم بروائح أرواحهم، وكم كان ونوس طماعا متلصصا على مزايا البشر منذ البداية، ولكم يسعى بمثابرة هائلة لاستخلاص تلك المزايا من أرواحهم فى حوزته، ليُقابلها بسلطان على أرواحهم بخدعة آبهة ابهاراته المؤقتة.

• ملاهى العطر وعربدته
***************

كم يتشابه مفعول عطريّ جرونوى وونوس، فكلاهما لذة وخبل عربدة وعبث ملاهى، تمرح بأنفس مستنشقيه، فحين سكب جرونوى المُذنب عطره أثناء محاكمة القضاء والشعب له، سُبى الحضور فى مَجون عامر غمر المكان كله، وسكبوا حبهم الحسي فى أجساد بعضهم يعضا، مُفرغين كل طاقة اشتموها بحاسة واحدة سيطرت على باقى حواسهم، ومن بعدها سقطت المدينة فى عار كئيب، هذا كما العطر الذى لونوس والذى مفعوله مفعم بملذات الملاهى وحدائق البهجة، يمرح فيها الخائنون للعهد الارضى الابدى، الباحثين عن زجاجة عطر غالية من ونوس ثمنها يكلف أمان أعمارهم وأبديتهم، وتلك الملاهى المبهجة إلى حد الهلع كانت أشبة بتلك التى رآها فى مشاعره صانع العطور الايطالى الذى ذهب إليه جرونوى للتلمذة على يديه، والذى استنشق أول عطر لجرونوى فكان تأثيره هو هزيان مشاعره وهلوستها، بتصوره وهو يمرح نفسيا فى حديقة مزهرة، تغازله بروائح عطرت عليه ببهجة شهوانية حسية عزيزة المنال، فتأثير هذا العطر خطير، مرتبط بالسيطرة على المنطق والضمير ونتائجه مكلفة للمصير.

• حواء لإستخلاص العطر
*****************

وحيث أن ونوس لكى يستطيع صناعة عطره الخاص لجذب البشر، كان لابد من أن يصنع عطورا تنبعث من تكوين البشر أنفسهم!، فيفاجئهم بعطايا هى منبعثة من قدراتهم الحقيقية فى الاساس، وذلك من مقدرتهم على العمل وتكوين ملذات متعهم الإنسانية الخاصة بدنياهم، هذا بالطبع يُقدَّم اليهم بالإضافة إلى قدراته الساحرة، وكذلك جرونوى فكان استخلاصه للعطر من البشر حتى يكوٍّنه بقواه الخاصة، فيحقق انجذابهم وطاعتهم له.

ولكن هناك شئ غاية فى الخصوصية فى ذاك الامر، اى فى خطة ونوس وجرونوى، حيث كان هناك مقصد اساسى لاستخلاص العطر، وهو حــواء، فلقد اكتشف جرونوى أن العطر الذى يسعى له وسيمكنه من امتلاك العالم، هو ذاك الذى يستخلصه من حواء ممثلا فى جمال العَذراوات النادر، وونوس حتى يكمل قصته فى استدراج "ياقوت" الأب، كان عليه أن يستخلص العطر من حــواء، زوجته، "انشراح"، فيتتبع رحيق ثمارها حيث "أولادها"، ليصل برحيق هذا العطر إلى اجتذاب العالم المتمثل فى آدم نبتة البشرية الأولى.

فحواء هى دَهَش الطبيعة، وأمها، ورحمها هو مبعث ولادات آدم لاستمرار الحياة، وعطرها يَملك ويُملِّك الكثير من الامتلاكات.

• حكمة البشر وحكمة الحيَّة
*****************

وبعيدا عن التصنيف بعنصرىّ البشرية آدم وحواء، سأتحدث فى هذه النقطة من منطلق واحد وهو رعوية الأبناء.

حيث مسئولية من يوجد من الوالدين يقوم بقيادة الرعاية المخلصة لثمرة أحشائه، وتلك المشابهة هنا بين انشراح الأم فى ونوس وبين أنطوان والد لاورا الضحية الأخيرة لجرونوى، حيث كانا بإخلاص شديد بحب لثمار كيان كل منهما، على وعى حتى وقت شديد التأخر بخطورة كل من ونوس وجرونوى على صغارهما، ولكن حينما اشتد عطر الغواية الممتزج بالألم الذى ألقاه كل من ونوس وجرونوى على ضحاياهم الصغار، قد نثر أخيرا تأثيره على حكمة وثبات شجاعة هذا الجانب الرعوى أيضا، وانتصرت حيَّل الحيَّة إلى حين محدود المفعول على حكمة جذور تلك الثمار وخبرتها ضد مكر الشرير، فبالرغم من كل شئ الأم انشراح والأب أنطوان لم ينصاعا للتأثير المسموم لهذا العطر كما الباقين، ففطرة المحبة المتأصلة فى كيانهما المعتني اعتناء صادق بحبهم المتجسد فى أبنائهما، كانت اشد فاعلية من اى تأثير عطرى مشبوه جاء يشوِّه تلك الكيانات الإنسانية، المؤسَسَة على الجدية فى الصدق والحب فى الأساس.

فالحب المُخلِص والصادق، والذى يشمل الوجه الابوى والامومى منه، هو مصل حقيقى ضد فخاخ الكُره التى يزرعها كاره الحب منذ أول العصور.

• عطايا جرونوى وهبات ونوس
********************

كانت هبات جرونوى لغيره ومساعداته لهم سبب تعاسة لجميعهم، بدءا من أمه التى أعطاها أمومته وأُعدِمَت بسببه، ومديرة دار الأيتام التى سُرقَت وقُتِلَت بعد أن قبضت أموال بيعه كعبد لصاحب المصبغة، وقَتل صاحب المصبغة على يد لصوص أيضا بعد استلام أموال صانع العطور بالدينى التى أعطاه إياها لشرائه منه، وبالدينى أيضا الذى مات بوقوع سقف منزله عليه هو وزوجته، صباح خروج جرونوى من منزله ليتقصد التعليم فى مدينة كراس، بعد أن وهبة مائة تركيبة عطرية جديدة يصنع بها مستقبلا جديدا من المجد، واعدام صاحب المصبغة فى كراس بدلا منه، بعد أن ألصقت له اتهامات قتل الفتيات لوجود أدلة القضية فى ارض مصبغته، وبالطبع الفتيات اللواتى نالن إعجابه بتميز جمالهن.

لقد كان جرونوى لعنة متنقلة، وكان مقابل عطاياه ثمنا باهظا يكلف الإنسان مصيره، فكانت هباته لمن حوله أشبه بلعنات تعطيهم سعادة لحظية تليها مصائر مفجعة.

وهذا هو حال عطايا ونوس (الشيطان)، فهباته وعطاياه لمن يطلبها منه، ومن يأخذها، هى عبارة عن لعنات موقوتة، فهى مجرد عطايا لها متعتها الوقتية، المنتهية بموت روحى ونفسي وجسدى.

• روحانية من محراب فلسفة إبداعية
***********************

ومن محراب الفلسفة الفنية لإبداع هذين العملين، ومن قبلهما إبداعات جذورهما الأدبية، من روايات وأيضا أعمال فنية أخرى جسدت المعانى الدرامية لكل منهما، نخرج بفلسفة روحية نجدها بصورة ما فى التشابه القائم بين طبيعتهما الرمزية التى تشير إلى الاستحواذ والغواية ليس فقط فى الأدب الالمانى، انما ايضا فى نطاق طبيعتنا الانسانية بحقيقتها الواسعة، وبالتالى فإن هذه الفلسفة تنير لنا خصائص أكثر شيوعا فى تلك الطبيعة المخيفة التى تتحقق شبحيتها بجشعها الجامع للخصائص الشيطانية والإنسانية معا، فلا نجاح لها فى عالمنا البشرى كتجارة عطور انسانية رابحة، إلا إذا كان لها وجهين لكيان واحد، إحداهما انسانى والثانى إبليسي، فالعطر تأثيره مادى وغير مادى.

لذا نجد أن مصير الطبيعة البشرية فى أن يكون آدم ((حواء )): (ياقوت – فاوستوس – وغيرهم)، وجرونوى أو ونوس (مفستوفيليس – والأشكال الأخرى له)، فى صراع دائم فى جوف معصرة الحياة، ويدور هذا الصراع قدريا داخل بوتقة العمر لكل منا، وإما أن ينطلق فيه العطر البشرى للإنسان حرا، ممتزجا فقط بحكمة عقله وقلبه اللذان وهبهما الله إياه، ليعطياه بصمة الحكمة الخاصة به، حتى يتمكن بها من عيش أيامه، عابراً دنياه من خلالها إلى أبديته بآمان، فيفوح عطره الحى فى موته، ويقوده إلى السلام فى العالم الأخر، أو أن يتملكه إغواء حكمة ابليس فيُسلِمُه بصمة عطره الإنسانية بوعى ارادته، أو يسمح له بالتسلل إلى نفسه بجهل غفلته الروحية، فيُلطِّخ عبير روحه بإمكانيات روح إبليس الشريرة الهالكة، فيتحول عطره الانسانى إلى إدانة تقود نفسه إلى جحيم مصير، مَن هو عطوره عاهرة بالوعود الزائفة للإنسانيات.

وأخيرا وجدت أنه لمن الممكن أن نكون ضحايا غافلة كعََذروات مدينة كراس، أو متملقون للسعادة فى البداية، ومستفيقون على التوبة مثل فاوستوس وياقوت فيما قبل النهاية، لكن مَن مِنا بإمكانه أن يضمن مواقيت الحكاية؟!، لذا فالأضمن إدراك انه بإمكاننا أن نكون متيقظين ومنتبهين كإنشراح وأنطوان، حيث القلب والعقل يعملا بجدية المثابرة على الحفاظ على توازن الثبات، فحتى فى السقوط يكون للتعلم لا للهلاك.















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | 200 فنان يتضامنون لإنقاذ العالم من موسيقى الذكاء ا


.. أبرزهم شقو وعالماشي واحدهم وصل 38 مليون .. 4 أفلام تتنافس ف




.. شبيه عادل ا?مام يظهر فى عزاء الفنانة شيرين سيف النصر


.. وصول نقيب الفنانين أشرف زكي لأداء واجب العزاء في الراحلة شير




.. عزاء الفنانة شيرين سيف النصر تجهيزات واستعدادات استقبال نجوم