الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الخوف

محمد علي عبد الجليل

2016 / 12 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الـخوفُ هو مَصدرُ الاختلالِ والعنفِ وهو نتيجةُ الجهلِ وعدمِ الرؤية. الـخوفُ يعطِّلُ مَلَكاتِ النفسِ وقوى الجسد. فبالخوفِ يتدجَّنُ الإنسانُ ويُصبحُ حيوانًا مستنعجًا يستسيغُ الذُلَّ فتَــقِــلُّ إنتاجيَّــتُه ويغذِّي استذآبَ أخيه الإنسانِ أو يُصبحُ حيوانًا مستذئبًا يستسيغُ الإذلالَ ويزيد عنفَه فيغذّي حلقةَ التبعيةِ العمياء. وبالتالي يَخْلقُ الخوفُ تـجَـمُّـعًا حيوانيًا مـمسوخًا أكثرَ مِنهُ مُجتمَــعًا إنسانيًا متوازِنًا. إن كلَّ أيديولوجيا أو عقيدةٍ مرتكزةٍ على الخوف هي إذًا عنيفةٌ وضارةٌ بالبشرية.
وبـِما أنَّ الأديانَ والإيديولوجياتِ القوميَّةَ تَـقومُ على بَـثِّ الـخوفِ فإنها مسؤولةٌ عن تَـرَدِّي الوعيِ البَشَريّ، لأنها تَخْــلُقُ تَـجَـمُّـعًا من الـمُؤْمنينَ والقوميّين الـمشلولين نفسيًا والـمُغَـيَّـبينَ الذين يظنُّون أنَّ أديانَهم وإيديولوجيَّاتِهم بريئةٌ وأنَّ الـمُـشْـكِلةَ في نظرِهم تَـكْـمُنُ فقط في تطبيق الدِّين والإيديولوجيا وبالتالي في مُــطَــبِّــقِـيْــهِما.
صحيحٌ أنَّ الـمسؤول الأوَّلَ هو الإنسانُ الـمُطَـبِّـقُ للدِّينِ أو الإيديولوجيا، ولكنَّه في الواقعِ هو ضَحيَّةُ بَرمجةِ هذا الدِّينِ وتلكَ الإيديولوجيا. وبالتالي فإنه ينبغي الوقوفُ إلى جانبِهِ ومساعدتُه على الـمشيِ على رِجْـلَيهِ دُونَ الـحاجةِ إلى التَّـوَكُّؤِ على عُـكَّازِ الدِّينِ والإيديولوجيا. ولذلك فإنَّه لـَمِنَ الضَّروريِّ بيانُ مساوئِ عُـكَّازِ الدِّين والإيديولوجيا دُونَ إهانةِ حاملِهِ.
ولكنَّ الـمشكلةَ هي أنَّ الـمُـتَّـكِئَ على هذا النوعِ مِنَ العَكاكيزِ يتماهى معَ عُكَّازِهِ نظرًا لِشِدَّةِ التصاقِ العُكَّاز بـجسدِهِ فيَـتَـوهَّـمُ أنَّ فَـضْـحَ العُـكَّازِ هو فَــضْـحٌ لصاحبِهِ.
صحيحٌ أنَّ عُكَّازَ الدِّينِ والإيديولوجيا قد يُريحُ قليلًا وقد يكونُ مُـفيدًا في حالاتٍ خاصَّةٍ ولفترة قصيرةٍ أو لذَوِي الاحتياجاتِ الـخاصَّةِ، ولكنه يَكُونُ في حالاتٍ كثيرةٍ سببًا للنزاعِ وأداةً للتفرقة ومُسبِّبًا للخوفِ ومقوّيًا له، مِـمَّا يُـبَـدِّدُ طاقاتِ الـمُجتمَعِ فيُوقِفُه عن الـمشي حتَّى بالتَّوكُّؤ على العكاكيزِ وبالتَّوكُّلِ على الله.
إنَّ الـخوفَ كلَّما زادَ في مجتمَعٍ زادت أمراضُه النفسيةُ والـجسديةُ وقلَّ فيه الإنتاجُ؛ بل ربـَّما أوصلَ الـخوفُ الـمجتمعَ إلى الـموت. ونحن نرى نتائجَ الـخوف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي أصبحَ فيها رَجُلُ الأمنِ الـخائفُ ورَجُلُ السياسةِ ورَجلُ الدين الأكثرُ خوفًا أكبرَ صانِعينَ للخوف وأصبحَتِ الثقافةُ والتربيةُ تقومان أساسًا على تكريس الـخوف إذْ قامتا بتفعيل العصا وتعطيل الـجَزَرة، لا بل جعلَتا الـجَزرةَ على شكل عصا. وإذا أراد الـحُـكَّـامُ الـخائفون أنْ يُقدِّموا الـجزرةَ مِنحةً ومَكرُمةً فإنهم يقدِّمونها لِـمَن كان أكثرَ خوفًا وأكثرَ طاعةً وتذلُّلًا أو لِـمَن كان أكثرَ تخويفًا لعوامِّ الشعب. فمنذُ الطفولةِ الأولى يخيفون الطِّفلَ مِن العفاريت والأشباح والـجِنّ الأزرق، وما إنْ يَكبُرْ قليلًا حتى يخيفوه مِن اللهِ والـجحيم وعذابِ القبر وثعابينِه وظُلْمِ الـحكومة وأفاعيها وخطرِ الأمن ورجالِه. إنَّ بلدًا يخافُ فيه الـمُواطِنُ ليس وطنًا بل سجنٌ للتعذيب أو في أحسن الأحوال حظيرةُ حيواناتٍ أو غابةُ ضِباعٍ.
الخوفُ مُدمِّر للفرد وللمجتمَع. وللخائفين قوةٌ تدميريةٌ لا تعميريةٌ هائلة. والسياسةُ العربيةُ والإسلاميةُ ليست في جوهرِها سوى ترويضِ الخائفين وتوجيهِ طاقاتِهم لـخدمةِ الساسة. فمِن الـمعروف أن الفعل "ساسَ" في العربية يحملُ في حقلِه الدلالي معنى "الاعتناء بالدوابِّ"، ويُظْهِرُ العلاقةَ بين الإنسان والحيوانِ، وقد كان يُستخدَمُ للخيول بـمعنى: "روَّضَها واعتنى بها". ومِن أضدادِ الفعلِ "ساسَ" نـَجِدُ: "أَذعَنَ" و"ذَلَّ" و"استكانَ" و"اتَّضَعَ" و"انقادَ". فالعلاقةُ بين السياسيِّ أو الـحاكمِ العربيِّ وبين الـمواطنين تُشْبِهُ في الثقافة العربية العلاقةَ بين سائس الخيول وخيوله. فهو يعتني بها منتظرًا منها أن تُذعِنَ له وتخدمَه. فإذا رفضَت وتـَمرَّدَت فليس أمامه من خيارٍ سوى ضربِها وحتى قتْلِها.
هناك إذًا علاقةٌ وطيدةٌ بين السياسةِ العربية الإسلامية وبين الإذلال، وبالتالي فإنَّ هناك علاقةً بين السياسة والـخوف الذي هو أداةُ إذلالٍ وإخضاع. فالسياسةُ والـخوفُ وجهانِ لعملةٍ واحدة. كما أنَّ العلاقةَ بين الـمُسْلِم وإِخْوَتِهِ من البَشَرِ هي عمومًا علاقةُ إخافةٍ. لقد صَرَّحَ القرآنُ بأنَّ الهدفَ مِن أنْ يصبحَ المسلمون أقوياءَ هو إرهابُ الآخَـر ِالـمُصَنَّفِ تـحتَ بندِ "عدو الله وعدوكم" (8: 60).
وقد يتبادر لذهن القارئ ردًا على ما سبقَ حديثٌ يقول: "الـمُـسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الـناسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". ولكنَّ الـحديثَ الأرجح بحسب لفظ البخاري هو: "الـمُـسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الـمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". وإذا أوردَ الرواةُ لفظَ "الناس" بدلًا من "الـمُسْلِمُون" فإنَّ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني قد فسَّرَ في فتح الباري في شرح صحيح البخاري الـمقصودَ بـ"الناس" قائلاً: "الـمُرادُ بالناس هنا‏:‏ الـمُسْلِمون كما في الحديث الـموصول، فهُمْ الناسُ حقيقةً عند الإطلاق، لأنَّ الإطلاق يُحْمَلُ على الكامل، ولا كمالَ في غير المسلمين‏".‏ (فتح الباري، ج 1، باب "الـمُـسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الـناسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، ص 108).
إنَّ الأديان هي أحد أهمِّ مولِّدات الخوف ولذلك يستخدِمُها الساسةُ لِلَجْمِ الشعوب. ولذلك فإنَّ ضررَ الأديانِ في هذا العصرِ أكبرُ بكثيرٍ من نَفعها. فإذا كانت الأديانُ تُشجِّع الأخلاقَ فإنَّ الأخلاق توجد من دونها، وإذا كانت تواسي وتقوِّي المتعبين نفسيًا فإنَّ التأمُّـلَ والطِّبَّ الجسديَّ والنفسيَّ والعلاقاتِ الإنسانيةَ تقوم بذلك. وإنْ كانت الأديانُ تفيد بعض الأفراد فإنَّ ضررَها على الجماعات لا حصرَ له. يكفي أنها تجعل من الجماعة قطيعًا وتُـجرِّد أفرادَه من التفكير السليم.
وبالتالي فإن جهود بعض البُسطاء أو الـخُبثاء الذين يُـفَـتِّشون عن قراءة جديدة للأديان أو لمولِّداتِ الخوف ليست سوى اجترارٍ وتكرار. وإنَّ مشاريعَ هؤلاء البسطاءِ المتمثِّلةَ في تقديم قراءة جديدة أو معاصِرة للقرآن أو في تقديم قراءة تُسلِّطُ الضوءَ على ما يُسمَّى بـ"الإعجاز العِلميِّ" في القرآن ليست سوى عَجْزٍ عن القراءة. فهي لا تقدِّم شيئًا سوى الثرثرةِ التي قد تفيد البعضَ مؤقتًا على الصعيد الشخصي حصرًا كتفريغٍ للكبت أو كتأكيدٍ للذات.
بالإضافة إلى الأديان، تبثُّ ثقافةُ الاستهلاك العالميةُ حاليًا الخوفَ في العالَم من خلال سياسات الدول العسكرية والاقتصادية والتجارية والمالية. كارميًا، إنَّ الخوفَ الذي نولِّده ينتشر حوْلَنا ثم يرتدُّ أضعافًا علينا. فأين ستذهب إذًا الـمخاوفُ المتراكمةُ من جَرَّاء الجشع وثقافة الاستهلاك والاتِّـجار بلحوم الحيوانات التي تُشرِّعُها الأديانُ؟ كلُّ حربٍ تَـجُـرُّ أخرى.
*** *** ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-


.. #shorts - 14-Al-Baqarah




.. #shorts -15- AL-Baqarah


.. #shorts -2- Al-Baqarah




.. #shorts -20-Al-Baqarah