الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيكار … ريشةٌ ملونة طمسها الظلام

فاطمة ناعوت

2017 / 1 / 4
بوابة التمدن


أيها المواطن المصري الكريم، هل تعرف بيكار؟ إن كنتَ تعرفه؛ فأنت على ما يرام وصحتّك النفسية ومذاقك الفنّي بألف خير، وطوبى لك مقامًا في كوكب الراقين المتحضرين الذوّاقين. إن كنت لا تعرفه فأنت ضحية التطرف الديني المقيت، وتعيير الفنّ بميزان الطائفية والمذهبية، وقد خسرت الكثير.
أيها المواطن العربي الكريم، هل تعرف بيكار؟ إن كنت تعرفه فأنت على تواصل محترم مع الفن والجمال، ولا خوفٌ عليك من البوار الذهني والخمول الفنيّ وطاب مقامُك في كوكب الفن الرفيع. وإن كنت لا تعرفه فأنت ضحية الإعلام المصري الأحادي العنصريّ المُسيّس، الذي تحكمه عصاباتُ الاتّجار بالدين والقوى الظلامية الرابطة عقلَ مصر بعُصبة سوداء.
أيها المواطن العالمي في أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها، هل تعرف بيكار؟ أغلب الظن أنك تعرفه لأنك تدرك أن الفنَّ الرفيع هو قاطرةُ الإشراق والحضارة والتقدم. وأن الفنّ نشاطٌ إنساني لا عَقَديّ. فنحن نعشق بيكاسو دون أن نعرف عقيدته، وندين بالشكر والامتنان كل يوم لمخترع "البنج" في عيادة الأسنان، دون أن نسأله عن إيمانه. إن كنت تعرفه فأغلب الظن أنك تحتفظ على حاسوبك بقطع من فنّة المدهش، إن لم تكن هناك لوحة أو لوحتان من لوحاته، معلّقتين على جدران بيتك، تنظر إليها وأنت تدمدم بهمس: "يا مصرُ العريقة، شكرًا لكِ لقاء ما أهديتِ العالم من عظماء!” وإن كنت لم تسمع به أبدًا، فأنت للأسف تبحث عن إشراقاتنا المصرية والعربية عبر نوافذ وهابية مريضة مُسيّسة، تمنح الشهرةَ لمن لا يستحقّ، وتحجب النورَ عن صنّاع النور.
أما بيكار، حسين بيكار، فهو واحدة من أهم أيقونات الفنّ الرفيع لدينا نحن الشعراء والأدباء من المشغوفين بالتشكيل والموسيقى والفنون الراقية التي نستلهم منها جملتَنا الشعرية وطاقتنا الإبداعية. وأما "جوجل"، أداة البحث الشهيرة، فشكرًا واحترامًا له، لأنه احتفل يوم الأمس، 2 ديسمبر، بعيد ميلاد الفنان المصري العالمي حسين بيكار، في ذكرى ميلاده رقم 104، وجعلته أيقونة اليوم المُهداة من مصر الطيبة إلى العالم. وأما مصرُ، فقد نسيت كعادتها أن تحتفل به، شأنها المعتاد مع كل الرموز الأدبية والفنية والعلمية الشاهقة، التي أجلَّها العالمُ بأسره، بينما يجهد الظلاميون بمصر في طمسها بسبب المعتقد الديني المغاير، فقد كان ذلك الفنان الأسطوري "بهائيًا".
ولِد حسين بيكار في 1913 بمدينة الأسكندرية الساحرة، قبل أن يغزوها الظلام، في عهد راق متحضّر كانت تُصدّر فيه للعالم أيقونات الفنّ والنحت والآداب. وقف الطفلُ أمام والدته، السيدة البسيطة ذات الأصول التركية، وهي جالسة تُطرّز بالإبرة على قطع القماش ورودًا وفراشاتٍ وعصافيرَ رسمتها بالقلم الرصاص قبل أن تُعمِل فيها إبرتَها وخيوطَها الملونة. وقف مشدوهًا تتأملُ عيناه الطفلتان كيف تتحوّل قطعة القماش البيضاء إلى حديقة ملوّنة حاشدة بالزهر والشجر، فاعتبر ما تقوم به والدتُه الفنّانة لونًا من ألوان السحر والخلق الإلهي. هنا وقع الطفلُ الموهوب في عشق الرسم. نظر حوله فوجد "عودًا"، كان أبوه قد اشتراه لتتعلّم عليه شقيقته فنون العزف وأسرار الموسيقى. هنا اكتشف الطفلُ حسين بيكار ضربًا آخر من ضروب السحر حين يُحيل صمتَ الغرفة إلى نغماتٍ تطير كما تطيرُ الفراشات من تطريزات أمّه على القماش. فبدأ يدندن على العود حتى أتقن العزف. أنصتت الجارةُ فطلبت منه أن يُعلّمها العزفَ على العود مقابل "ريال" مصريّ في الشهر. وقد كان رقمًا هائلا آنذاك في بدايات القرن الماضي. وكان ذاك الريالُ أولَ مبلغ مالي يتقاضاه، فجعله ثمنًا لأول علبة ألوان زيتيه صنعت مستقبل الطفل الذي سيصير أحد أهم أساطين التشكيل في العالم في مقبل السنين. بدأت محاولاته الطفولية برسم بيوت أوروبية بسقوف مائلة تُطلّ على بحيرات تحوطها أشجارٌ وزهورٌ تفترشُ بساطًا أخضر من العشب والحشائش. وبعد حيازته الشهادة الابتدائية ووفاة والده، سافر إلى القاهرة مع والدته وشقيقته ليلتحق بمدرسة الفنون العليا، كلية الفنون الجميلة الآن، ولم يتجاوز الخامسة عشر من عمره بعد، ليبدأ مشوار الفن الشاق الشيّق.
فنانٌ موسوعيّ شامل له باعٌ في الموسيقى، وباعٌ في الغناء، وباعٌ في الكتابة الزجلية، وباعٌ في رسوم الأطفال التعليمية، لكن باعَه في الفن التشكيلي ملك عليه حياتَه وملك على العالم إنصاتَه وقلبَه. تعلّم على يد فنانين أوروبيين، وعلى يد الفنان أحمد صبري تعلّم أسرار فن البورتريه بالزيت على التوال. تخرّج من مدرسة الفنون العليا عام 1933 ليبدأ مشواره الموسيقى الذي لم يهجره أبدًا، فلا نسي العودَ، صديقه القديم، ولا نسي الأدوار القديمة التي كان يجيد غناءها طفلا وشابًّا يافعًا. وتعددت المناصب الرفيعة التي شغلها بدءًا بالتدريس بكلية الفنون الجميلة ثم في القسم الفني بجريدة الأخبار، وفي مجال تصميم أغلفة الكتب، وفي رسم كتب القراءة للصفوف الأربعة الأولى بالمدارس الابتدائية، ومجلات الأطفال التعليمية، حيث أجاد تحويل "الكلمات" إلى "صور" تنطق بالحياة والصخب.
انتهى الجزءُ المشرقُ من المقال وحان أن أُنهي مقالي دون أن أستلب من القارئ تلك الطاقة الإيجابية التي منحتها له الكلماتُ السابقة، وأدعوه للبحث عن لوحات بيكار لتكتمل متعته. ولكن المرارة داخلي تدفعني لأختم مقالي بما يُحزن.
زُجّ بذلك الفنان الرهيف العذب إلى ظلمات السجن عام 1985 بتهمة الرشوة! هي يرشو الفنانون أو يرتشون؟! مهلا أيها الزمن، فكم وراء القضبان من طيبين وعظماء لم يرتكبوا جرائم ولم يعرفوا الدنس! الحكاية أن ذلك الفنان الاستثنائي قد اعتنق البهائية، وهي أسلوب في الإيمان التوحيدي يؤمن بوحدانية الله الذي أرسل كافة الرسالات السماوية، ومن ثَم يتصالح البهائيون مع الأديان السماوية الثلاثة، فيؤمنون باليهودية والمسيحية والإسلام الإيمانَ الكامل الحقّ، سوى أنهم يعتقدون بأن الله يُرسل كل ألف عام إنسانًا طوباويًّا نقيًّا يُذكّرُ الناس بوحدانية الله وعدله ورحمته. ذهب بطلُ مقالنا، الفنان العالمي حسين بيكار، إلى مكتب السجلّ المدني ليستخرج بطاقة شخصية، وحاول إقناع الموظف أن يكتب في خانة الديانة "بهائي"، لكن الموظف رفض واتهمه بمحاولة إرشائه، فزُجّ به في السجن برهة من الزمن، أُفرِج عنه بعدها. لكن استرداده حريته لم يكن نهاية معاناته بل بدايتها. بدأ التاريخُ المصريّ الانتقائي الكذوب في طمس إنجازاته وتعرّض بيكار بسبب عقيدته للعسف والظلم والتشويه والاغتيال المعنوي حتى رحل عن دنيانا عام 2002. انتهى ذلك الجور بوقف مشروع انتاج فيلم سينمائي عن حياته الغنية بالإنجازات الفنية المدهشة. لن نتحضّر ولن نتقدّم طالما لا نؤمن بحقيقة بسيطة تقول: "الدينُ لله، والفنُّ والوطنُ والعلمُ للجميع.”
تحية احترام لك أيها الفنان الجميل حسين بيكار، وفي عيد ميلادك أقول لك: كل عام وأنت أيقونة مصرية فريدة نزهو بكَ، وتزهو بك مصرُ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ