الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التربية والتعليم-1- مقدمة

طوني سماحة

2017 / 1 / 6
التربية والتعليم والبحث العلمي


كان جدي لأمي يخبرنا عن المدرسة تحت الشجرة في أيامه أو عن "المدرسة الغرفة" حيث يجتمع الطلاب من مختلف الاعمار في غرفة واحدة يشرف عليهم مدرّس واحد. كانت المدرسة تشبه هذا الواقع في بدايات القرن المنصرم في الكثير من البلدان الغربية والشرقية على حد سواء. في مدرسة جدي، كان على كل طالب أن يذهب صباحا الى المدرسة حاملا عودا من الحطب لاستعمالها وقودا في أيام البرد. أما والدي فلم يكن محظوظا بالقدر ذاته، إذ كان أبوه يأخذه الى المدرسة صباح كل يوم، لربع ساعة، ليتلو الدرس ومن ثم يقتاده جدي الى الحقل ليرعى الماعز والأغنام والأبقار طوال النهار. وبطبيعة الحال، بما أن والدي كان يداوم على رعاية الحيوانات بدل الدراسة، كان غالبا ما يفشل في تلاوة الدرس، وكانت النتيجة واحدة: عصا تنهال على يديه ورجليه ومؤخرته فيما المدرس يصفه بعبارات شعرية مثل "يا كسلان ويا حمار ويا غبي..." طبعا لم يزعج كل ذلك جدي الذي كان كل ما يبتغيه هو أن يكون لديه ولد يهتم برعاية الماشية.

ما بين ستينات القرن الماضي وثمانينياته تدرجت على مقاعد المدرسة الخاصة والرسمية، الابتدائية والثانوية والجامعية في لبنان. كانت القفزة نوعية بين مدرستي ومدرسة والدي وجدي. كانت المدرسة في زمني قد تم تنظيمها وانتقلت من الغرفة الواحدة التي تضم طلابا من مختلف الاعمار الى المبنى الكبير الذي يحوي فصولا مخصصة لتلاميذ يتقاربون سنا. كانت العصى ما زالت تعمل عملها في أيامنا إن نحن خالفنا تعليمات الأستاذ او المعلمة، أو إن كنا لم نتقن "تسميع الدرس". في زمني (وحتى في الكثير من بلدان العالم الثالث حتى اليوم)، كانت التربية تعتمد نظاما واحدا: طلاب يجلسون مثل التماثيل على مقاعدهم وأستاذ(ة) يطيل في الكلام. أذكر أني كنت ضحية هذا النظام، إذ كنت من النوع الحالم الذي يطير في خياله الى كواكب ومجرات بعيدة فيما الأستاذ يلقي علينا محاضرات أقل ما يقال فيها أنها رتيبة ومملة. صحيح أني كنت لا أستوعب كل ما يقوله المدرس، لكن شطحاتي تلك غالبا ما نجتني من عصاه إذ وأنا في عالمي الخيالي قليلا ما كنت أتململ و"أتشيطن" كما كان الحال مع رفاقي المشاغبين. فقط مرة واحدة امتدت عليّ يد الأستاذ ظلما. كان الأستاذ يلقي محاضرته المعهودة وكان رفاقي يتكلمون غير آبهين بالدرس. عجز الأستاذ عن اسكاتهم مرة واثنتين وثلاثة، وفيما أنا في عالمي انتقل بين مجرة وأخرى، لم أشعر إلا وبيد الأستاذ تصفعني. استفقت من ذهولي لأدرك أن الأستاذ كان يعاقبنا. لماذا أنا؟ لست أدري، فالسؤال ممنوع. ربما أن الأستاذ ظن أني واحد من مطلقي الضجيج والثرثرة أو ربما أنه رأى في عيني الغائرتين قلة احترام له.

انتقلت الى الغرب في بداية تسعينات القرن الماضي وعملت في التدريس. كان النظام مختلفا كليا عمّا اعتدنا عليه في الشرق. ترتيب المقاعد ليس عاموديا وأفقيا بالضرورة. التلاميذ يعملون في مجموعات صغيرة. كنت ترى في غرفة الدراسة محفزات مثل اللوحات التي رسمها الطلاب أو ألعاب ونماذج هندسية وبيولوجية قاموا ببنائها. كان مستوى الضجيج في الصف مرتفعا نسبيا لما اعتدنا عليه في بلادنا. التلاميذ لا يعتمدون أسلوب الحفظ لإظهار ما تعلموه، بل كانت كل الفرص متاحة أمامهم مثل الرسم والكتابة والمحاضرة وبناء نماذج كرتونية او خشبية وغيرها. أحببت نظام الغرب لقلة رتابته، لكن بعض أصدقائي ومعارفي لم يخفوا امتعاضهم من هذا الواقع. أصيب صديقي السوري بالذهول عندما ذهب لزيارة ابنه في المرحلة الابتدائية في المدرسة، فرأى الطلاب يتنقلون ويتكلمون ويرسمون ويلعبون. قال لي آنذاك " المدرسة هنا ليست جدية كما في بلادنا، بل كل ما في الأمر أن الطلاب هنا يمضون معظم الوقت في اللعب". لم تخرج قريبتي عن هذه القاعدة عندما قالت لي ذات مرة " وماذا يعمل المدرسون؟ تراهم يتركون الطلاب يلعبون، فيما هم جالسون على كراسيهم يشربون كوبا من القهوة ويقرأون الجريدة".

ليت كان العمل في التدريس كوب قهوة وقراءة جريدة كما ظنت قريبتي. فالتلميذ الغربي يختلف عن قرينه الشرقي. الطالب في الغرب ينشط في الدراسة من خلال اللعب. فهو عندما يبني مجمّعا كرتونيا أو خشبيا، غالبا ما يكون يهدف الى إبراز خصائص هذا البناء الهندسية والرياضية. وهو عندما يتلو ما تعلمه عن تأثير التلوث على الصحة العامة، قد يرسم لوحة تبرز أضرار التلوث وسبل إصلاحه. وهو عندما يريد إظهار معارفه عن أنظمة الحكم في فصل التاريخ، قد يلجأ الى قطعة مسرحية يظهر من خلالها طريقة عمل الديمقراطية في المجتمعات الحديثة. نعم، يستخدم الغرب عامل اللهو في التعليم، ليس بهدف إضاعة الوقت بل لإضفاء مسحة من التشويق والترغيب للتلميذ الذي بطبعه وفطرته يهوى اللهو والحركة والمرح.

طرحت التحدي التالي أمام تلامذة الصف الخامس، الشهر الماضي، وأنا أدرسهم عن مفهوم القوة والقوة المضادة في العلوم: "عليكم أن تبنوا جسرا ورقيا أو كرتونيا. يمنع عليكم استعمال المواد الصلبة مثل الحديد او الخشب. من الممكن استعمال الصمغ (Glue) أو الورق اللاصق (Tap) أو الخيط. لا يتعدى طول الجسر المتر الواحد. لكي تنجحوا في الامتحان، يفترض أن يتمكن الجسر من حمل شخص واحد على الأقل دون أن ينهار تحت تأثير الوزن الذي يمثل القوة الدافعة". أصيب التلامذة بالذهول: "كيف لجسر كرتوني أن يحمل جسم إنسان دون أن ينهار؟ طلبت منهم أن يتوقعوا عدد الأشخاص الذين يمكن ان يحتمل الجسر اوزانهم. أجمعوا أن العدد لن يتجاوز الشخص الواحد. طلبت منهم البدء بالعمل. كانوا كثيري الحماس لبناء الجسر. أتموا العمل. حانت ساعة الصفر حيث كان عليهم إظهار ما عملوه. ابتدأت المجموعة الأولى بشرح خصائص الجسر. تقدم الطالب الأول وسط انقطاع أنفاس الطلاب وهو يستعد للوقوف على الجسر. توقعوا ان ينهار الجسر سريعا. لكن لدهشتهم بقي جامدا. صعد الثاني والثالث والرابع والخامس حتى ما عاد الجسر يتسع لآخرين وهو ما يزال قائما ثابتا. كان عامل الإثارة واضحا في بناء الجسر، إثارة لم أحصل عليها وأنا طفل في الصف الخامس إذ كان معظم ما أتمناه آنذاك أن يخفض المدرس صوته وأن يقلل من كلامه وأن يفجر فينا الطاقات المكبوتة على المقعد الخشبي.

إذا ما هو تعريف التربية؟ سؤال سوف نجيب عليه في المقال القادم إن شاء الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو العسكرية شمال محافظة بابل ج


.. وسائل إعلام عراقية: انفجار قوي يهزّ قاعدة كالسو في بابل وسط




.. رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بابل: قصف مواقع الحشد كان


.. انفجار ضخم بقاعدة عسكرية تابعة للحشد الشعبي في العراق




.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي