الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صوت اللسان

عبدالكريم الساعدي

2017 / 1 / 9
الادب والفن


صوت اللسان
يتشبّث بجذع نخلة، عشقها منذ زمن طويل، كلّ صباح يخرج محتمياً بالولاء، يتردّد إلى دكان له في السوق، بقالاً يبيع التمر فيه، يولّي بصره نحوها، يشير إليها، يكاد لا يبصر سواها، يسقيها، يطوف حولها، يصلّي عندها، يفتضّ سرّه وسرّها، يحدّثها:
- بوركت من نخلة، لك خُلقتُ، ولي غُذِّيتِ.
يهزّ جذعها؛ لعلّها تساقط موته الجميل الذي ينتظره، مذ بشر به صاحبه الأمين:
- ستصلب على جذع هذه النخلة، ولن تموت حتى يُقطع لسانك.
يحمل خشبته على ظهره، وكفن مكتظّ برائحة النخيل، وبالحنين لرفاق الأمس؛ وجوه تستظلّ بعتمة الليل، تطارد خطاه، تراود رأسه، تبغي لسانه، تطلق صيحة استنكار كلّما مرّ بهم:
- هذا هو الكذّاب، مدّعي الغيب.
يخرج صوته المخبوء تحت طي لسانه، تستيقظ النهايات على جبين الناظرين إليه، يفرّ الآخرون خوفاً من لسانه، يطارد خيولهم الهزيلة:
- انتظروا كي لا تموتوا، لا تهجروا مقام الراحلين، ستضيق بكم الأمكنة إذا ما انفصل رأسي.
يمعن في الظلمة، يعاود صورة موته، يشعل قنديله، يرسم ما بين الحرائق والخرائب أطياف العاشقين، يتسلّق سلالم الاستغراب:
- كيف تمدّ المدينة جسراً نحو الجوع والخوف، نحو الجحيم؟!
يمازحه صوت في السوق، يقطع حبل خلوته:
- أيّها التمّار، أ لم تهيّء رأسك؟ لقد طال الانتظار.
يدلق شهقة، يلتفت نحو النخلة، تبتسم المسافة الممتدّة بينهما، تفوح برائحة نشيج بقّعهُ الأنين، يثمله شوق اللقاء، يتلمّس رقبته:
- سيطرقون الباب.
في الصباح يقف على دكة السوق، يلوي عنان الخوف، يصدح بالسرّ:
- ألم تزكم أنوفكم رائحة الجثث المتعفنة، رائحة القمامة التي ملأت أرجاء السوق؟ أتخشون رجالاً ممتلئين شبقاً وشهوة؟ سأريح ضميري، افتحوا كتابكم ولا تبارحوا نوره.
يتحصّن بحجته:
- ستعرفون الطريق حين أُصلَب على تلك النخلة، حين يقطع رأسي ولساني.
جدران القصر، أبوابه، يصفعها الصوت، تهتزّ؛ سدنة الليل المخمورون بالترف، يستعينون بمخاوفهم:
- مولاي، لسان التمّار اعتقل الجميع، يجلدهم بسوط نبوءاته الكاذبة.
- اسجنوه.
أسوار السجن تضيق ذعراً به، يخنقها صوته المجلجل بين السجناء، يشحذ هممهم، ينبثق من لسانه ضوء يلهج بالحياة، يعشق إشراقة الصباح:
- أنت ، وأنت، وأنت, و... ستلحقون بنا؛ أما أنت ستنجو، وتدرك ثأرنا، أمّا أنا سأرتدي ثوب الحكاية.
عند سعال الليل يطلق سراحه، يمشي حافياً، السوق خالٍ من الباعة، الطرقات مكتظّة بالوحشة، تتراص على أطرافها مخالب تقطر دماً، رغبة جامحة تكبح خطواته، يختلس النظر إلى نخلته، يمرّ بها سريعاً، يمسح ما تيسر من كربها، يتدلّى السعف، يدنو منه، يتساقط، تصفق الحمائم بأجنحتها حائرة، تلوذ فاختة بالفرار، يتلوّى الجذع حوله عارياً، الصورة تقترب من الاكتمال.
عند الفجر يعتقل مرة أخرى، لم يكن بوسعه غير أن يجدل ضفائر اللقاء، الحضور يتجدّد، يهتك ستر الخوف، يفقؤ عين العتمة:
- اقتربوا منّي أكثر، ها أنا رجعت إليكم ثانية، لكنّي مفارقكم؛ فاجعلوا من غيبتي جسراً يمتدّ إلى القادمين من مساكن النور, ولا تخبّئوا رؤوسكم في الطمي.
جذع النخلة يتشكّل خشبة، يُرفع عليها عند باب جار النخلة، يلتفت إليه باسماً:
- لماذا تبسّمَ في وجهك؟ قال أحدهم.
- كان والله يقول لي إنّي مجاورك، فاحسن جواري.
تُقطع يداه ورجلاه، وقبل أن يقطعوا رأسه تركوه جانباً؛ ليحتفلوا بزهوهم، بانكساره، ينادي خلفهم:
- مهلاً، ألا تقطعون لساني؟.
ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتي السيّاف:
- حتى يعرف الحاضرون، من الكذّاب.
تخزه العبارة، تدمع عيناه، يطلق في الحضور صوته:
- من أراد الحديث المكتوم، فليستمع لآخر كلماتي.
اللسان يلهث بين الفكين، تفتح الشفتان، يفرّ الصوت، يفتح نافذة للطرقات، يكشف الستر، يلهج بفضائل صاحبه الأمين... ينتصب اللسان جيشاً، المكان يتّسع، الحضور يتناسلون خوفاً، يغتنمون ودّ اللحظة، لحظة ضجيج الحرف " الشهداء يتجددون، الشهداء قادمون..."؛ فيفرون إلى أنفسهم، تاركين ظلّهم غارقاً بالدموع.
- أيّها الأمير، لقد فضحكم هذا العبد.
يقطب جبينه، يعبس، يرتعد غيظاً:
- وماذا تنتظرون؟ الجموه.
ينخره الوجع، يتلظّى بنار الانتظار، ضباب كثيف يغشى عينيه، لا يكاد يرى سوى رجلٍ مهتاج، أكثر الطعن فيه:
- افتح فمك.
- عجيب أمركم! تطلبون أمراً لم ترجوه بالأمس.
- سنقطع لسانك؛ كي تسكت إلى الأبد.
يبتسم على رغم الجراح:
- آن لي أن أرحل، لقد صدقت النبوءة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن